کتاب الصلاه

اشارة

سرشناسه : اراکی، محمدعلی، 1373 - 1273

عنوان و نام پديدآور : کتاب الصلاه/ الاراکی

مشخصات نشر : قم: مکتب آیه الله العظمی الشیخ محمدعلی الاراکی (ره)، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 2 ج.نمونه

شابک : 964-6677-07-x15000ریال

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : نماز

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : نماز -- رساله عملیه

رده بندی کنگره : BP186/الف37ک2 1379

رده بندی دیویی : 297/353

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4866

الجزء الأول

[مقدمة المحقق]

باسمه تعالى اكنون كه در آستانۀ هفتمين سالگرد ارتحال فقيه وارسته، اسوه زهد و تقوا شيخ الفقهاء و استاد المجتهدين آية اللّٰه العظمى اراكى قدّس سرّه، يكى ديگر از آثار گرانقدر و ارزشمند ايشان به زيور طبع آراسته شد، يادآورى چند مطلب را لازم مى دانيم:

1- بحمد اللّٰه تعالى با چاپ كتاب الصلاة، چاپ مجموعه آثار فقهى و اصولى آن مرحوم در شانزده مجلّد به پايان رسيد و چون اين كتابها در طول چند سال چاپ شده و نحوۀ توزيع آنها مطلوب نبوده و ممكن است برخى از كسانى كه علاقه مند به استفاده از اين آثار هستند نتوانسته باشند آنها را تهيه كنند، فهرست اين آثار تقديم مى شود تا در صورت نياز به همه يا برخى از آنها، با صندوق پستى 558/ 37185 مكاتبه و يا با تلفن 734533 و فاكس 735733 تماس گرفته و تهيه كنند:

1- رسالتان في الإرث و نفقة الزوجة.

2- المكاسب المحرّمة و رسالة الخمس.

3 و 4- كتاب البيع. رسالة اجتهاد و تقليد ضميمة جلد دوم بيع است.

5- كتاب الخيارات.

6 و 7- كتاب الطهارة.

8 و 9 و 10- أصول الفقه.

11- الحاشية على درر الأصول. رساله ديگر در اجتهاد و تقليد ضميمه اين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 4

حاشيه است.

12- كتاب النكاح.

13 و 14- كتاب الصلاة.

15- حاشيۀ عروة الوثقى.

16- استفتاءات.

2- در اين مجموعه آثار، مطالب نغزى كه تلفيق نظرات و مبانى اصحاب مكتب علمى نجف و سامراء است با كمال دقّت و تأمل، با قلمى شيرين و روان، با رعايت امانت در نقل و پرهيز از اطناب مملّ و ايجاز مخلّ، نگاشته شده است كه براى اهل فن بسيار مغتنم است.

البتة آية اللّٰه العظمى اراكى رحمه اللّٰه مكرر مى فرمودند كه اين نوشته ها با استفاده از بيانات مرحوم آية اللّٰه العظمى حائرى نگاشته شده گر چه عنوان «تقريرات» ندارد.

3- از آية اللّٰه حاج شيخ رضا استادى و حجة الإسلام و المسلمين شيخ مرتضى واعظى اراكى و حجة الإسلام حاج شيخ احمد مصلحى و ديگر عزيزانى كه در احياء و چاپ اين آثار زحماتى كشيده اند تشكر و قدردانى مى شود.

4- چون نوشته هاى آية اللّٰه العظمى اراكى در عين خوش خط بودن، بى نقطه نوشته شده، لذا با همۀ كوششى كه انجام گرفته، باز هيچ كدام خالى از اغلاط چاپى نيست از اين رو براى برخى از جلدها غلط نامه تهيه و چاپ شده و در آينده غلط نامۀ بقيه مجلّدات هم چاپ خواهد شد.

لازم است اساتيد و فضلاى گرامى، نسخه هاى خود را با اين غلط نامه ها تصحيح كنند.

ابو الحسن مصلحى 1421 ق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 5

حياة المؤلف رحمه اللّٰه

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 7

حياة المؤلف رحمه اللّٰه «1» بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

ولادته:

ولد رحمه اللّٰه في 24 جمادى الآخرة سنة 1312 ه ق في بلدة سلطان آباد (العراق الأراك).

كتب بخطّه الشريف في مختتم كتاب «گلستان» مصلح الدين السعدي الشيرازي:

«تولد اين عاصى خاطى محمّد على چهار ساعت تخمينا از روز يكشنبه

______________________________

(1) من أراد من القرّاء الكرام أن يقف على مفصّل ترجمة المؤلف رحمة اللّٰه عليه فليراجع إلى هذه الكتب:

أ- شرح حال آية اللّٰه العظمى الأراكي تأليف السيّد أبي الحسن المطّلبي طبع قم في 80 صفحة.

ب- آية اللّٰه الأراكي (يك قرن وارستگى) تأليف الشيخ علي صدرائي الخوئي. طبع في 160 صفحة.

ج- شرح أحوال آية اللّٰه العظمى الأراكي تأليف الحقير (رضا الأستادي) طبع قم في 840 صفحة. و هذه الكتب فارسيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 8

بيست و چهارم جمادى الأخرى سال يك هزار و سيصد و دوازده هجري قمرى در سلطان آباد عراق واقع شده» و هذه النسخة الثمينة الجليلة من «گلستان» التي هي بخطّه و كتبها في سنة 1324 محفوظة في مكتبته و بيته.

اسمه و نسبه:

محمّد علي بن الميرزا آقا بن الميرزا فتح اللّٰه بن أحمد بيك بن محمّد حسين خان المصلحي بن الحاجّ رضي بن الحاج حاتم.

و بيت محمّد حسين خان بيت علم و أدب و دراية، و فيهم علماء و شعراء و رجال السياسة كما ذكر في محلّه.

قيل: إنّ محمّد حسين خان كان شاعرا و لشدّة إرادته بالشيخ مصلح الدين السعدي الشيرازي جعل تخلّصه في إشعاره: «المصلحي». و لعلّ قرية «مصلح آباد» من قرى أراك، و أيضا قرية حاتم آباد بقرب «مصلح آباد»، و قرية «رضي آباد» في جوار «حاتم آباد»، سمّيت بهذه الأسماء تكريما لمحمّد حسين خان المصلحي و أبيه الحاجّ رضي و جدّه الحاج حاتم. و لعلّها أسّست هذه القرى باهتمام

محمّد حسين خان و أبنائه و سمّيت بهذه الأسماء.

أبوه:

أبوه حجّة الإسلام الحاج الميرزا آقا الفراهاني العراقي (1254- 1355) رحمه اللّٰه.

كان لشدّة تقواه و درايته معتمدا لأكابر علماء البلد: آيات اللّٰه: الحاج آقا محسن العراقي و آقا نور الدين العراقي و ملّا محمّد الكبير والد الشيخ ضياء الدين العراقي و الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائري رضوان اللّٰه تعالى عليهم و لذلك كانوا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 9

يرجعون إليه مستشيرين في حلّ بعض المشاكل و الحوادث الواقعة.

و كان رحمه اللّٰه شديد المحبّة و المودّة لأهل بيت العصمة عليّ و أولاده المعصومين عليهم السّلام و من شعره مخاطبا لمولى الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام:

شاها تو مع اللّٰهي و اللّٰه معك حبّ تو به ايمان و به كفر است محك

چون نام تو و نمك يكى شد به عدد حق را نشناخت آن كه نشناخت نمك

و فيه مضمون الحديثين: من كان للّٰه كان اللّٰه له. و عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ. و (ع ل ي 110) و (ن م ك 110).

امّه:

بنت السيّد عقيل من أحفاد السيّد حسن الواقف (786- 857) الذي قبره مزار في بلدة نطنز و هو من أحفاد علي أصغر بن الإمام زين العابدين عليه السّلام. ماتت رحمة اللّٰه عليها سنة 1349 ه ق.

و كتب شيخنا المؤلّف رضوان اللّٰه تعالى عليه في خاتمة بعض مكتوباته: «كتبه محمّد علي الشريف» و الشريف يطلق على من كان امّه من السادات العلويّات.

مشايخه و أساتيذه:

1- الشيخ جعفر الشيثي (الشيث اسم قرية بأراك) كان من أفاضل تلاميذ الشيخ عبد الكريم الحائري بأراك في (1316- 1324) أي في هجرة الشيخ الحائري الاولى. و كانت هجرته الثانية من سنة 1332 إلى 1340 ثمّ هاجر إلى قم المشرّفة.

استفاد شيخنا المؤلّف من الشيخ الشيثي في قراءة سطح المكاسب و الرسائل للشيخ الأنصاري رضوان اللّٰه تعالى عليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 10

2- الحاجّ شيخ عبّاس الإدريس آبادي، كان رحمه اللّٰه من مشاهير أساتذة الحوزة العلميّة بأراك في مدرسة الآقا ضياء الدين.

3- الحاجّ شيخ محمّد سلطان العلماء (1296- 1382) كان من أجلّة تلاميذ صاحب كفاية الأصول و الشيخ الميرزا محمّد تقي الشيرازي، له تعليقة قيّمة مفصّلة على كفاية أستاذه طبع في مجلّدات.

و شيخنا المؤلّف رحمة اللّٰه عليه كتب من تقريرات درسه بعنوان التعليقة على كفاية الأصول قسما من مباحث الألفاظ.

4- السيّد المجاهد آقا نور الدين العراقي (1278- 1341) كان من تلامذة الميرزا حبيب اللّٰه الرشتي صاحب الإجارة و الغصب، و الخراساني صاحب الكفاية، و الملّا علي النهاوندي صاحب تشريح الأصول و غيرهم. له كتاب القرآن و العقل طبع بأمر آية اللّٰه الأراكي رحمه اللّٰه مع مقدّمة بقلمه حول شخصيّة المؤلّف في ثلاث مجلّدات.

5- آية اللّٰه العظمى الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائري (م 1355) مؤسّس الحوزة

العلميّة بقم و صاحب الدرر و الصلاة.

كان مدّة تتلمذ شيخنا عليه 23 سنة و كتب تقريرات أكثر دروسه. و كانا رحمهما اللّٰه كالوالد و الولد و صار شيخنا رحمه اللّٰه- كما قيل- نسخة ثانية لاستاذه في الفقه و الأصول.

شركاء بحثه:

1- آية الهّٰع العظمى السيّد محمّد تقي الخوانساري (1305- 1371) رحمة اللّٰه عليه و كان شيخنا رحمه اللّٰه لشدّة إرادته بالسيّد يحضر مجلس درسه و كتب قسما من تقريرات بحثه مع أنّه كان شريك بحثه لا أستاذه. رضوان اللّٰه تعالى عليهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 11

2- آية اللّٰه العظمى السيّد أحمد الخوانساري (1309- 1405) صاحب جامع المدارك طبع في مجلّدات.

3- الحاجّ الشيخ إسماعيل الجابلقي (حدود 1305- 1313) كان من أفاضل تلاميذ الشيخ محمّد سلطان العلماء و الشيخ الحائري في أراك و قم.

بعض تلامذته:

تلامذته و المستفيدون من إفاداته القيّمة كثيرة جدّا إذ هو رحمه اللّٰه كان من المدرّسين طول خمسين سنة أو أكثر، و هم من العلماء و الفضلاء و المدرّسين، منهم:

1- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ محمّد الشاه آبادي بن العارف الحكيم الفقيه الشيخ محمّد علي الشاه آبادي. و هو سلّمه اللّٰه من أكابر أساتذة الحوزة المباركة و له تأليفات.

2- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ محمّد تقي ستوده، من مشاهير أساتذة الحوزة في تدريس السطوح العالية.

3- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ محسن الحرم پناهي. له تأليفات و هو من أكابر العلماء و المدرّسين بالحوزة العلميّة.

4- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ علي پناه الاشتهاردي صاحب شرح العروة الوثقى المطبوع في مجلّدات و هو من مشايخ الحوزة المباركة.

5- آية اللّٰه الحاجّ السيّد محسن الخرّازي صاحب التأليفات الكثيرة منها عمدة الأصول طبع مجلّد منها أخيرا.

6- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ أبو الحسن المصلحي ابن شيخنا المؤلّف و لعلّه سلّمه اللّٰه استفاد من والده المرحوم أكثر من غيره في طول سنين متمادية.

و غيرهم و غيرهم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 12

تأليفاته:

من مختصّات هذه الآثار كونها حاوية لمباني أستاذه الحائري و آرائه ببيان صحيح و تحرير واضح.

1- رسالة في الإرث. طبعت في سنة 1413.

2- رسالة في نفقة الزوجة. طبعت ضميمة الرسالة الاولى في سنة 1413.

3- المكاسب المحرّمة. طبع في مجلّد في سنة 1413.

4- البيع. طبع في مجلّدين في سنة 1415.

5- الخيارات. طبع في مجلّد في سنة 1414.

6- رسالة في الخمس. طبعت ضميمة المكاسب المحرّمة في سنة 1413.

7- الطهارة. هي شرح العروة الوثقى للسيّد الطباطبائي. ألّفت في حياة السيّد و لعلّها كانت أوّل شرح كتب لها. طبعت في مجلّدين في سنة 1415.

8- رسالة في الدماء الثلاثة و أحكام الأموات و

التيمّم. هي تقريرات بحث الآية العظمى السيّد محمّد تقي الخوانساري. طبعت ضميمة المجلّد الثاني من الطهارة في سنة 1415.

9- النكاح. طبع في مجلّد في سنة 1419.

10- الصلاة. و هو الكتاب الذي بين يديك في مجلّدين.

11- الحاشية على العروة الوثقى. طبعت في سنة 1409 و هي التي علّقها عليها مع مشاركة آية اللّٰه السيّد محمّد تقي الخوانساري رحمه اللّٰه و كان فتواهما متوافقين إلّا في مسألتين: البقاء على تقليد الميّت و صلاة الجمعة، و في سائر الموارد عند اختلاف الفتوى روعي نظرهما بالحكم بالاحتياط.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 13

12- أصول الفقه. طبع في مجلّدين (الدورة الأولى التي كتبها).

13- تعليقة على الكتاب السابق. طبعت معه (الدورة الثانية).

14- أصول الفقه أيضا طبع في مجلّد (و هي الدورة الثالثة التي كتبها رحمه اللّٰه).

15- رسالة في الاجتهاد و التقليد. طبعت ضميمة تعليقته على درر الفوائد لاستاذه في سنة 1408.

16- تعليقة على درر الفوائد لاستاذه الحائري رحمه اللّٰه طبع مع الدرر في سنة 1408.

17- رسالة ثانية في الاجتهاد و التقليد. طبعت ضميمة المجلّد الثاني من البيع في سنة 1415.

18- رسالة في إثبات ولاية مولانا أمير المؤمنين. طبعت ضميمة كتاب القرآن و العقل لاستاذه آقا نور الدين العراقي و أيضا طبعت في كتاب «شرح أحوال آية اللّٰه العظمى الأراكي» و ستطبع ترجمته بالفارسيّة.

19- رسالة في 20- تقريرات بحث أستاذه سلطان العلماء (قسم من مباحث ألفاظ الأصول) لم تطبع.

الثناء عليه:

كان له المنزلة العالية عند العلماء و أهل الفضل و اعترف بفضله و تقاه و ورعه و زهده فطاحل الأعلام و إليه انتهت المرجعيّة العامّة بعد وفاة آية اللّٰه العظمى السيّد روح اللّٰه الخميني و آية اللّٰه العظمى السيّد محمّد رضا الگلپايگاني.

و كان

رحمه اللّٰه مدافعا عن الإسلام و المسلمين و ولاية الأئمة المعصومين و مكتبهم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 14

و حاميا للنهضة الإسلاميّة و قائدها الإمام الخميني رحمة اللّٰه عليه و له سهم وافر في تقوية النظام الإسلامي خصوصا بعد وفاة مؤسّسه رحمة اللّٰه عليه.

كان رحمه اللّٰه يقيم صلاة المغرب و العشاء بالجماعة في المدرسة الفيضيّة و صلاة الظهر و العصر في حرم سيّدتنا فاطمة المعصومة سلام اللّٰه عليها في طول قريب من خمسين سنة، و يقتدي به جمع كثير من العلماء و الفضلاء و المجتهدين و أهل التقوى و الديانة.

و كذا كان رحمه اللّٰه يقيم صلاة الجمعة قريبا من أربعين سنة و مواعظه في خطب الجمعات كانت تدخل في القلوب المستعدّة لأنّها كانت تخرج من القلب السليم و اللسان الطيّب.

و كان مجلسه رحمه اللّٰه مجلس علم و موعظة و إفادة و من مجالس إحياء أمر أهل البيت عليهم السّلام و الدعوة إلى المعرفة و المحبّة و الديانة، و من مواهب البارئ تعالى عليه رحمه اللّٰه اللسان الطلق و البيان الحلو و استعمال العبارات الحسنة البليغة الوضيحة بحيث يستفيد من محفلة كلّ الناس خاصّهم و عامّهم.

توفّي رحمه اللّٰه في 25 جمادى الأخرى سنة 1415 و استقبل جثمانه بتشييع حافل بالعلماء و الوجوه العلميّة و سائر الطبقات. و كان يوم وفاته و تشييعه محفوفا بالحزن و العزاء و كأنّه نادى مناد:

اليوم أعولت الملائك في السماء و المسلمون تضجّ و الإسلام

و صلّى عليه آلاف من العلماء و المؤمنين بإمامة آية اللّٰه العظمى العارف الكامل البهجة دامت بركاته، ثمّ دفن بتكريم و تبجيل في جوار حرم كريمة أهل البيت فاطمة المعصومة سلام اللّٰه عليها بقرب قبري أستاذه

الحائري و صديقه و مراده السيّد الخوانساري رضوان اللّٰه تعالى عليهما و عليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 15

و أقيمت له رحمه اللّٰه و لتكريمه و تعظيمه مآتم و محافل كثيرة في مختلف البلاد و في الحوزة العلميّة بقم، و رثاه الراثون بالنظم و النثر من شتّى الطبقات.

و من أحسن مراثيه قصيدة قيّمة بليغة قالها أحد الفضلاء الشعراء سلّمه اللّٰه و كأنّه نطق بلسانه روح القدس، و هي هذه:

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

ورقاء ذات تعزّز و تمنّع طارت إلى أسنى المكان الأرفع

ضاقت عليها الأرض مع رحب لها فاستبدلتها بالمكان الأوسع

إذ جاءها يا نفس يا مأمونة من كلّ خوف فارجعي لا تفزعي

قد كنت في سجن البلايا كلّها حان النجاة اليوم منها فاسرعي

يا آية ل «اللّٰه» كنت عظيمة نحن افتقدناك بفقد مفجع

يا نور يا ضوء القلوب أضأتنا فاخترت للنفس الخفاء بمضجع

كان الفضائل كلّها فيك انطوت صارت بمرأى كلّهم و المسمع

من ذا لأيتام النبيّ و آله عن حفظهم في دينهم لم يجزعي

عمّرت قرنا بالطهارة و التقى نور الهدى في الوجه منك بساطع

من فقدك المهديّ محزونا أتى من حزنه يا عين جودي و ادمعي

يا حجّة الإسلام في ما قد أتى بالفعل و القول الرضيّ النافع

خمسين عاما قد جلست بمسند بالحقّ للفتوى و ما للمرجع

قد كنت فينا ملجأ و معاضدا في المعضلات الحادثات بمفزع

أنموذجا أعلى لكلّ كريمة حتّى بأدنى بعضها لم تقنع

صار البلاد و ما لها من مرتع لو لا الفقاهة و الفقيه كبلقع

قد كنت كشّاف الغوامض فائقا من كان في هذا الطريق بمولع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 16

منّ الإله على الورى إذ ما

أتى فيهم بمثلك من فقيه بارع

لمّا ارتحلت إلى النبيّ أتيته بالخير و الوجه المضي ء الناصع

جاهدت في الإسلام حقّ جهاده بالذبّ أعداء الشريعة أجمع

يا صاحب العصر (عج) الذي هو غائب كالشمس إذ صارت لنا بمبرقع

إنّا نعزّيك العزاء بثلمة في ديننا الإسلام ثمّ تشيّع

بعد الأراكيّ العظيم مصابه قد جدّد الأحزان فينا أكتع

ثمّ السلام عليه في يوم الجزاء من كلّ ما فيه و كلّ مواضع

أقول و أنا من أقلّ تلامذته و محبّيه: كتبت هذه الوجيزة إظهارا لحبّي له و أداء لشكر بعض حقوقه رحمه اللّٰه:

أحبّ الصالحين و لست منهم لعلّ اللّٰه يرزقني صلاحا

قم المشرّفة- رضا الاستاذي 1420 ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 17

صورة بعض الصفحات من نسخة خطّ المؤلّف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 23

كتاب الصلاة لشيخ الفقهاء و المجتهدين آية اللّٰه العظمى الأراكي (ره) الجزء الأوّل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 25

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّى اللّٰه على محمّد و آله الطاهرين، و اللعن على أعدائهم أبد الآبدين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 27

كتاب الصلاة و فيه مقاصد:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 29

المقصد الأوّل في مقدّماتها و فيها أبحاث:

فالأوّل يشتمل على فصول:

[الفصل] الأوّل في أعداد الصلوات اليومية و نوافلها و فيه ثلاث مسائل:
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 31

الاولى لا إشكال في ثبوت النوافل النهاريّة و الليليّة في حقّ الحاضر

و سقوط النهاريّة منها في حقّ المسافر، إنّما الكلام في المواطن الأربع التي يتخيّر المسافر فيها بين القصر و الإتمام، فهل نافلتا الظهرين فيها أيضا ساقطة مطلقا، أو ثابتة كذلك، أو ساقطة مع اختيار القصر و ثابتة مع اختيار التمام؟

و الكلام تارة حسب مقتضى الأخبار العامّة، و اخرى مع النظر إلى الأخبار الخاصّة.

أمّا الأوّل: فاعلم أنّ الأخبار المتضمّنة لتعداد الفرائض و النوافل دالّة على أنّ الفريضة سبع عشرة ركعة، و سنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله النوافل أربعا و ثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فمجموع الفريضة و النافلة إحدى و خمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعدّ بركعة مكان الوتر.

و في حديث العيون و العلل تعليل ذلك بقوله عليه السّلام: «و إنّما جعلت السنّة أربعا و ثلاثين ركعة، لأنّ الفريضة سبع عشرة، فجعلت السنّة مثلي الفريضة كمالا للفريضة» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 22.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 32

و المستفاد من هذا أنّ الموضوع المجعول في حقّه صلاة الأربع و الثلاثين هو الذي جعل في حقّه فريضة السبع عشرة، و ظاهره كون ذلك بنحو التعيين، أو هو الحاضر، فإنّه الذي فرضه التعييني هو السبع عشرة.

و أمّا المسافر في المواطن الأربع فليس المجعول التعييني في حقّه ذلك، نعم يشرع له ذلك، و ظاهر الأخبار المذكورة هو الجعل التعييني.

ألا ترى أنّه لو قيل: فرضك سبع عشرة، كان ظاهرا في التعيين؟ فكذلك لو قيل: جعلت صلاة أربع و ثلاثين تكميلا لفرض سبع عشرة ركعة، كان ظاهرا في التعيين، فلا يكون الكلام شاملا لمطلق الجعل الأعمّ من التخيير الثابت في المواطن الأربعة، هذا

حال الأدلّة الحاكية لأصل جعل النوافل.

و أمّا الحاكية لإسقاطها عن المسافر فالمذكور فيها أيضا قولهم عليهم السّلام بعد السؤال عن الصلاة تطوّعا في السفر: «لا تصلّ قبل الركعتين و لا بعدهما شيئا نهارا» «1».

و في آخر: «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شي ء» «2».

و ظاهرهما أيضا هو صورة تعيينيّة الركعتين.

فيكون المسافر في المواطن الأربع خارجا عنها، كما كان خارجا عن الأخبار الأول، فيبقى المرجع فيه الأصل، و يكفي في العدم الشكّ في الثبوت و عدم الدليل على المشروعيّة، هذا.

و لكن يمكن استفادة المشروعيّة أو الاستيناس لها ببعض الشواهد.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 33

منها: قوله عليه السّلام في بعض أخبار سقوط النافلة في السفر بعد سؤال أبي يحيى الحنّاط عن صلاة النافلة بالنهار في السفر، قال: «يا بنيّ لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة» «1».

فإنّ المستفاد منه أنّ السفر لا يناسبه كثرة الصلاة و إلّا لشرعت فيه الصلاة التامّة فريضة، فيستفاد منه أنّه إذا ناسبه لأجل عروض بعض العوارض كثرة الصلاة- مثل المصادفة للمواطن الأربع- تصلح النافلة حينئذ.

و الظاهر الأولى من قوله عليه السّلام: تمّت الفريضة أيضا و إن كان التمام التعييني، إلّا أنّ مناسبة المقام يشهد بإرادة ما ذكرنا.

و منها: ما في بعض أخبار التخيير في المواطن من تعليل ذلك بأنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يحبّ إكثار الصلاة في الحرمين «2». هذا هو الكلام مع قطع النظر عن الأخبار الخاصّة.

و أمّا مع النظر إليها فاعلم أنّه قد عقد في الوسائل في آخر كتاب الصلاة بابا

لاستحباب تطوّع المسافر و غيره في الأماكن الأربعة ليلا و نهارا، و كثرة الصلاة و إن قصّر في الفريضة «3»، فراجع أخبار ذلك الباب، فإنّ بعضها في غاية الظهور في مشروعيّة النوافل في تلك الأماكن و لو في حال اختيار التقصير في الفريضة.

و نحن نذكر واحدا منها تيمّنا و تبرّكا، و هو ما عن ابن أبي عمير و إبراهيم ابن عبد الحميد بعدّة طرق عن أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن التطوّع عند قبر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 18.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة المسافر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 34

الحسين عليه السّلام و بمكّة و المدينة و أنا مقصّر؟ فقال عليه السّلام: «تطوّع عنده و أنت مقصّر ما شئت و في المسجد الحرام و في مسجد الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و في مشاهد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، فإنّه خير» «1».

فإنّ ظاهر السؤال أنّه راجع إلى النوافل النهاريّة التي تكون ساقطة في السفر، و خصوصا بقرينة قوله: و أنا مقصّر. فأجاب الإمام عليه السّلام بالعموم الذي يشملها و غيرها، و لكن القدر المتيقّن منه هو النوافل النهاريّة، نظير قولك لمن قال: أخاف زيدا: لا تخف من أحد، فإنّ الزيد قدر متيقّن من هذا الكلام.

و لا يعارضها خبر عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في الحائر، قال عليه السّلام: «ليس الصلاة إلّا الفرض بالتقصير، و لا تصلّ النوافل» «2»، لأنّ هذا الخبر ناف للتخيير في الحائر الذي هو أحد الأماكن الأربع، و قد حكم في أخبار

كثيرة بأنّ التخيير فيها من مخزون علم اللّٰه، فمن المحتمل قويّا صدور الخبر تقيّة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 35

المسألة الثانية المشهور، بل عن الحلّي دعوى الإجماع على سقوط الوتيرة في السفر،

و هو المستفاد أيضا من العمومات الواردة في أنّ «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شي ء» «1» إذا انضمّت إلى الأخبار الواردة في تعداد النوافل و أنّها «أربع و ثلاثون ركعة، ثمان ركعات قبل فريضة الظهر، و ثمان ركعات قبل فريضة العصر، و أربع ركعات بعد المغرب، و ركعتان من جلوس بعد العتمة تعدّان بركعة» «2» إلخ.

فإنّ الظاهر بحسب هذا التقسيم أنّ الركعتين عن جلوس حالهما بالنسبة إلى العتمة حال الثمان ركعات بالنسبة إلى الظهر و العصر، فتدخلان تحت العمومات المذكورة.

و لا ينافيه التقييد بالنهار في بعض تلك العمومات، إذ هو في بعضها مذكور في كلام السائل، و في بعض آخر منها و إن كان مذكورا في كلام الإمام عليه السّلام و هو رواية محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن الصلاة تطوّعا في السفر؟

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 23.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 36

قال عليه السّلام: «لا تصلّ قبل الركعتين و لا بعدهما شيئا نهارا» «1» إلّا أنّه من المحتمل أن يكون المراد أنّ الليل ليس حكمه هكذا، بل فيه تفصيل، فالمغرب ثلاث ركعات، و نوافله ثابتة، و العشاء ركعتان ليس له نافلة، و الصبح ركعتان و نافلته باقية، و يكفي هذا الاختلاف في ذكر قيد النهار.

و بالجملة،

لا ريب في أنّ مقتضى هذا الأخبار العامّة هو الحكم بالسقوط، إلّا أنّ هنا رواية خاصّة واردة في خصوص الوتيرة في السفر ناصّة بعدم السقوط، و علّله بقوله عليه السّلام: و إنّما صارت العتمة مقصورة و ليس تترك ركعتاها، لأنّ الركعتين ليستا من الخمسين، و إنّما هي زيادة في الخمسين تطوّعا ليتمّ بهما بدل كلّ ركعة من الفريضة ركعتين من التطوّع.

و أنت خبير بأنّ هذه الرواية علاوة على صراحتها و خصوصيّتها حاكمة و شارحة بالنسبة إلى الأخبار المتقدّمة.

أمّا الأخبار الدالّة على أنّ الصلاة في السفر ركعتان إلخ فهذه تدلّ على أنّ الأمر كذلك، و لكنّ العشاء ليس لها ركعتان حتّى تسقطا بواسطة مقصوريّته في السفر و صيرورته ركعتين، فيصدق في حقّه أنّه ركعتان ليس قبله و لا بعده شي ء، إذ ليس المراد مطلق عدم الكون، بل الكون المختصّ به، و إلّا لنافاه وجود الأربع ركعات للمغرب، فكما أنّها لا تنافي تلك الكلّية لأجل أنّها ليست للعشاء بل للمغرب، فكذلك هاتان الركعتان لا ينافي ثبوتهما تلك الكلّية، لأنّهما لا تحسبان أيضا نافلة للعشاء، كما لا تحسبان من نافلة الليل أيضا، بل هما نافلتان مستقلّتان شرّعتا لمحض تكميل عدد الواحد و الخمسين، غاية الأمر قد عيّن محلّهما بعد العشاء،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 37

لا أنّهما جعلتا نافلة له.

و بهذا البيان يحصل الشرح للأخبار الثانية الظاهرة في كون الركعتين بعد العتمة حالهما حال الثمان ركعات بالنسبة إلى الظهر و العصر، فإنّه ظهر ببيان هذه الرواية أنّ بعديّة العتمة صرف تعيين المحلّ للركعتين من دون إضافة لهما إلى العتمة، كإضافة الثمان إلى الظهر و العصر.

و يؤيّد هذه

الرواية أيضا ما نقل من اشتمال رواية رجاء بن أبي الضحّاك «1» أيضا على فعل الرضا صلوات اللّٰه عليه هاتين الركعتين في السفر و إن أنكر صاحب الجواهر قدّس سرّه وجوده في نسخة كانت عنده من العيون.

و يؤيّده أيضا رواية الفقه الرضوي «2».

و يؤيّده أيضا جملة روايات واردة بمضمون أنّ: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يبيتنّ إلّا بوتر» «3».

و حيث صعب هذا التشديد على بعض احتمل أن يكون المراد بالوتر هو العشاء، لأنّه خامس الصلوات.

و لكن في رواية أبي بصير بعد نقل هذا المضمون عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

قلت: يعنى الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال: نعم، إنّهما بركعة، فمن صلّاهما ثمّ حدّث به حدث مات على وتر، فإن لم يحدث به حدث الموت يصلّي الوتر في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 8.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب أعداد الفرائض.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 38

آخر الليل» «1» الحديث.

و هذه و إن كانت مشتملة على لفظة «يعنى» بصيغة المغايب و غير متعارف ذكرها بالنسبة إلى المخاطب، إلّا أنّ الكلام البعد شاهد على أنّ قائل «قلت» أبو بصير، و قائل «نعم إلى آخره» هو الإمام عليه السّلام، و على هذا فيصير هذا الحديث مبيّنا للمرام من تلك الجملة.

و هذه الأخبار و إن كان نسبتها مع الأخبار العامّة المتقدّمة الواردة بالسقوط عموما من وجه- لأعمّية هذه من السفر و الحضر و تلك من العشاء و غيره، فيجتمعان في العشاء في السفر- إلّا أنّ هذه الأخبار أظهر، بملاحظة هذا التشديد الموجود فيها

الآبي عن التقييد بحال الحضر، و بملاحظة كون صلاة الوتر ثابتة في حالتي السفر و الحضر، و قد جعلت هاتان الركعتان بدلا عنه لو حدث الموت.

هذا كلّه بحسب الدلالة، و أمّا الكلام في سند الرواية المتقدّمة- التي قلنا إنّها شارحة للمراد من أخبار السقوط و أخبار تعدّد النوافل- فقد طعنوا فيه بوجود عبد الواحد بن عبدوس، و عليّ بن محمد القتيبي النيشابوري، و وجهه خلوّ كتب الرجال عن توثيق الرجلين.

و لكن عبد الواحد- على ما يوجد من الرجال- من مشايخ الصدوق الذي قد أكثر من أخذ الحديث عنه، و العلّامة في التحرير قد حكم بصحّة الرواية الواردة في الإفطار بالمحرّم بوجوب الكفّارات الثلاث «2»، و في سندها عبد الواحد و عليّ.

و أمّا عليّ بن محمّد فالمذكور في الرجال أنّه تلمّذ على فضل بن شاذان و أنّه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصوم، الباب 10 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 39

من مشايخ الكشّي الذين أكثر النقل عنهم، و صاحب الحاوي مع ما عرف من طريقته- حيث جعل كتابه على أربعة أقسام: ثقات، و موثّقين، و حسان، و ضعاف، و أدرج كثيرا من الحسان في قسم الضعاف- قد ذكر هذا الرجل من قسم الثقات.

و بالجملة، وجود هذه القرائن في الرجلين أقوى من وجود لفظ «ثقة» في كتاب رجالي، فالظاهر أنّ السند أيضا كالدلالة معتبر.

و لكنّ الذي يوجب عدم جرأة الفقيه على الفتوى عدم موافقة الأصحاب و عدم إفتائهم بمضمونها، فإنّه لم ينقل في الجواهر من القائل بالثبوت إلّا الشيخ في النهاية، و ابن فهد في المهذّب، و الشهيدين في الذكرى

و الروضة، لكن نقل عن الشهيد في الذكرى أنّه بعد تقويته الثبوت قال: إلّا أن ينعقد الإجماع على خلافه.

و إعراض الأصحاب يوهن الرواية من حيث الجهة و إن كان سندها في غاية القوّة كدلالتها، فيسقط عن قابليّة التمسّك، لأنّه فرع القوّة في جميع الجهات الثلاث، أعني: الجهة و الصدور و الدلالة، و كلّ من هذه الثلاثة ضعف سقطت الرواية عن قابليّة التمسّك، و حينئذ فإن أراد الإتيان بها في السفر فالاحتياط أن لا يقصد بها إلّا الرجاء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 40

المسألة الثالثة قد خرج من عموم حرمة التطوّع في وقت الفريضة أو كراهته النوافل

المتقدّمة بمقتضى أدلّتها، و أمّا غيرها من الصلوات المندوبة فخروجها خصوصا إذا أريد إثبات استحبابها في أوقات الفرائض فيحتاج إلى دليل.

و من جمله ما أفتى بخروجه البعض و قوّاه في نجاة العباد صلاتان: إحداهما:

صلاة الغفيلة، و الأخرى: صلاة الوصيّة.

و اللازم أوّلا التيمّن بذكر الأخبار، فنقول:

روى هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: من صلّى بين المغرب و العشاء ركعتين يقرأ في الأولى الحمد و ذا النون إذ ذهب مغاضبا إلى قوله تعالى:

وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، و في الثانية الحمد وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ الْغَيْبِ، الآية، فإذا فرغ من القراءة رفع يديه و قال: اللّٰهمّ إنّي أسألك بمفاتح الغيب التي لا يعلمها إلّا أنت أن تصلّي على محمّد و آل محمّد و أن تفعل بي كذا و كذا، اللّٰهمّ أنت وليّ نعمتي و القادر على طلبتي تعلم حاجتي فأسألك بحقّ محمّد و آله لمّا قضيتها لي، و سأل اللّٰه حاجته أعطاه اللّٰه ما سأل» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 41

و بعدّة طرق روي عن النبيّ صلّى

اللّٰه عليه و آله أنّه قال: «تنفّلوا في ساعة الغفلة و لو بركعتين خفيفتين، فإنّهما تورثان دار الكرامة» «1».

و في خبر آخر: دار السلام و هي الجنّة، و ساعة الغفلة ما بين المغرب و العشاء الآخرة «2».

و أنت ترى عدم تصريح الاولى بكونهما صلاة غفيلة، فمن المحتمل مغايرتها مع هذه الأخيرة.

و أمّا صلاة الوصيّة فقد روي عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «قال: أوصيكم بركعتين بين العشاءين يقرأ في الأولى الحمد و إذا زلزلت الأرض ثلاث عشرة مرّة، و في الثانية الحمد و قل هو اللّٰه أحد خمس عشرة مرّة، فإن فعل ذلك في كلّ شهر كان من المؤمنين، فإن فعل في كلّ سنة كان من المحسنين، فإن فعل في كلّ جمعة كان من المخلصين، فإن فعل ذلك كلّ ليلة زاحمني في الجنّة و لم يحص ثوابه إلّا اللّٰه تعالى» «3».

إذا عرفت ذلك فنقول: قد ورد الحثّ في الأخبار الكثيرة بإتيان أربع ركعات نافلة للمغرب فيما بينه و بين العشاء، و لم يرد إلّا بعنوان أربع ركعات بلا أخذ خصوصيّة فيها، فهل هذه الأخبار الواردة في هاتين الصلاتين ترغيب و حثّ إلى إعمال هاتين الكيفيّتين في تينك الصلاتين المعدودتين في تلك الأخبار نافلة للمغرب، أو هما مستقلّتان عنها؟

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، الحديث 1.

(2) المصدر.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 42

و لا بدّ قبل التكلّم في ذلك من تقديم مقدّمة، و هي: أنّه كلّما ورد في لسان المولى مطلق و ورد مقيّد و علم بتعدّد المطلوب، فإمّا أن يكون

ذلك قيد ذات الأسباب كأن يقول: إن أفطرت فأعتق رقبة، و إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، و إمّا يكون في غيرها، كأن يقول: أعتق رقبة، ثمّ يقول: أعتق رقبة مؤمنة.

فإن كان من القبيل الأوّل فهو محلّ النّزاع في كونه مقتضيا لتعدّد الوجود، كما قاله شيخنا العلّامة المرتضى في منزوحات البئر، أو يكفي فيه الوجود الواحد كما اخترناه في محلّه.

و إن كان من قبيل الثاني فالمقيّد يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون أمرا بالكيفيّة في موضوع ذلك المطلق، بأن يكون الأمور به إتيان ذلك الموضوع الذي أمر به أمرا مطلقا بكيفيّة خاصّة.

و الثاني: أن يكون أمرا استقلاليّا في عرض ذلك الأمر، فهنا أمران: أحدهما بالمطلق و الآخر بالمقيّد في عرض ذلك المطلق.

و يظهر الثمر في ما لو امتثل المطلق بإتيان الفرد الفاقد للقيد، فإنّه امتثال للمطلق، و يبقى على عهدته امتثال المقيّد، فيجب عليه إتيان الطبيعة مرّة أخرى مع القيد، هذا على النحو الثاني.

و أمّا على النحو الأوّل فقد فوّت المحلّ للامتثال بالنسبة إلى الأمر الثاني، لأنّه قد فرض كون محلّه صرف الوجود الذي صار مأمورا به بالأمر الأوّل و قد سقط، فلم يبق للأمر الثاني موضوع.

و نظير هذين الاحتمالين يجي ء في اعتبار الكيفيّة الخاصّة في أجزاء المركّب المأمور به، مثلا يحتمل أن يكون الجهر في القراءة جزءا مستقلّا للصلاة في عرض القراءة، فلو نسيه و تذكّر قبل الركوع كان محلّه باقيا، و يحتمل أن يكون الجهر قد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 43

اعتبر في القراءة التي هي الجزء بحيث لو نسيه و تذكّر قبل الركوع لم يبق محلّه، فهو و إن كان أتى بالقراءة و لكن لم يأت بالجزء الآخر الذي هو الجهر فيها.

إذا عرفت ذلك

فاعلم أنّ الاحتمال الأوّل في أخبار هاتين الصلاتين بالنسبة إلى مطلقات الأربع ركعات في غاية البعد، فإنّه مبنيّ على أن يكون المراد بها الإشارة إلى تلك النوافل و الأمر بإتيانها بهذه الكيفيّة، و هو من البعد بمكان، إذ فرق بين الأمر بإتيان الصلاة الكذائيّة بهذه الكيفيّة و بين الأمر أوّلا بإتيان الصلاة المكيّفة، و هذه الأخبار من الثاني و لا وجه للاحتمال الأوّل.

إلّا أنّه مع ذلك يمكن أن يقال: لا يقتضي استقلالها عن النوافل المغربيّة لزوم انفكاكها في الوجود عنها، بمعنى أنّه ليس المحصّل من الأمر المطلق و الأمر المقيّد بالوجه الثاني إلّا تأكّد مطلوبيّة صرف وجود الطبيعة، لكونه موردا للطلب مرّة بالأمر المطلق، و اخرى في ضمن المقيّد.

و بعبارة أخرى: ليس الأمر المقيّد متعلّقا بما عدا صرف الوجود أعني:

الوجود الثاني، بحيث لا بدّ من التفريق بينهما في الوجود.

بل نقول: هكذا الحال في العنوانين المتغايرين مفهوما المتصادقين خارجا، مثل: إكرام العالم و إكرام الهاشميّ، فليس المستفاد من وقوع كلّ منهما تلو الأمر إيجادهما منفكّين، بل يكفي و لو أتى بالمجمع، ففي ما نحن فيه لو أتى بالمقيّد خرج عن عهدة كلا الأمرين، نعم لو أوجد الطبيعة خالية عن القيد كان عليه الإيجاد الثانوي مع القيد.

بل نقول: و هكذا الحال في ذوات الأسباب على خلاف ما اختاره الشيخ الأعظم، لأنّ تأثير السببين إن كان في الأمر كان اللازم تأكّد الأمر في صرف الوجود، و إن كان تأثيرهما في الوجود أعني: صرفه كان اللازم أيضا عدم تعدّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 44

الوجود، إذ الصرف غير قابل للتكرار.

مع أنّه يمكن أن يقال- و لو على فرض المماشاة و تسليم التعدّد- إنّ المقام ليس من قبيل ذوات

الأسباب، بل هو من قبيل قولك: إذا دخل الجمعة فصلّ كذا، و إذا جاء نصف الشهر فصلّ كذا، ثمّ صار الجمعة وسط الشهر، فإنّ الظاهر أنّ الوقت ليس سببا و مؤثّرا، بل المؤثّر شي ء آخر، و الوقت صرف الظرف للعمل، مثل سائر الكيفيّات المأخوذة فيه و القيود المعتبرة فيه.

ثمّ هذا الذي ذكرنا من الاجتزاء بالفرد المجمع للمطلق و المقيّد أو المفهومين المتصادقين ممّا لا إشكال فيه فيما إذا كان الأمران توصّليين.

و أمّا إذا كانا تعبّديين كما في مقامنا فلا إشكال أيضا لو قصد القرب من جهة كلا الأمرين، و أمّا لو قصد أحدهما فقط فربما يقال بالاجتزاء عن الآخر أيضا، إذ الفرض حصول القرب و إتيان العمل في الخارج مقرونا بقصد قربي، و لا يلزم أن يكون القرب حاصلا بقصد خصوص أمره، بل يكفي كون الداعي هو اللّٰه تعالى، نعم لو قلنا بعدم الكفاية و لزوم قصد خصوص الأمر فلا بدّ من عدم الاجتزاء و الإتيان بفرد آخر.

و قد تحقّق ممّا ذكرنا تخصيص عمومات: «لا تطوّع في وقت الفريضة» «1» بهاتين الصلاتين، سواء حملناها على الحرمة أم الكراهة، و ذلك لوجود المعارضة على الفرض الأخير أيضا، فإنّ الحث على الصلاتين ينافي كراهتهما، فكما يتحقّق المعارضة بناء على الحرمة يتحقّق بناء على الكراهة أيضا.

نعم ربما يقال: إنّ هذه الأخبار ليس لها إطلاق شامل، و القدر المتيقّن منها

______________________________

(1) راجع الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب المواقيت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 45

من لم يصلّ نوافل المغرب، و أمّا الذي جاء بها و أراد أن يأتي بهاتين مستقلّتين عنها فغير مشمول، و لكنّه دعوى بلا بيّنة، فإنّ منع إطلاق الأخبار المذكورة لا وجه له، و معه

يكون التخصيص متعيّنا.

فإن قلت: ما ذكرت من كون نافلة المغرب و هاتين الصلاتين من باب المطلق و المقيّد ليس في محلّه، بل هما من المتباينين، إذ لا أقلّ من التقييد بعنوان نافلة المغرب في الأولى، كما أنّ في الثانية التقييد بالكيفيّة الخاصّة.

قلت: لا ينافي عنوان نافلة المغرب مع إطلاقها، إذ هي مع ذلك مطلقة من حيث قصد تحقّق صلاة أخرى بها و عدمه، و لا يعتبر فيها عدم هذا القصد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 47

الفصل الثاني في أوقات الإجزاء و الفضل للفرائض
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاولى في اختصاص أوّل الوقت بالظهر
اشارة

لا إشكال في عدم مشروعيّة الظهرين قبل الزوال، و أمّا بعده فهل الوقت بمقدار أداء فريضة الظهر مختصّ بها ثمّ يشترك الوقت بينهما، أو أنّه من أوّل الزوال يكون الوقت مشتركا؟

و ليعلم أوّلا أنّ المراد باشتراك الوقت كون الخطاب و التكليف عنده بالنسبة إلى كليهما مطلقا و بلا شرط، بحيث لا يبقى بين المكلّف و بين العمل حائل غير القدرة العقليّة، و لو فرض أنّ له ألف شرط و مقدّمة وجوديّة لا يكاد يحصل تلك المقدّمات إلّا بعد مضيّ مقدار معتدّ به من الوقت، فلا ينافي هذا مع صيرورة الخطاب و الوجوب فعليّا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 48

و الحاصل: فرق بين مشروطيّة الخطاب و التكليف و بين احتياج العمل و الإيجاد الخارجي إلى مقدّمات، فالمقصود بالاشتراك و أنّ وقتا كذا وقت للواجب أنّ الوجوب يصير بدخول هذا الوقت فعليّا، لا أنّه يصلح لإيجاد العمل فيه.

فكما أنّ احتياج المصلّي إلى تحصيل الستر و الطهارة و معرفة القبلة و سائر المقدّمات لا يمنع من كون وقت الصلاة أوّل الزوال بالنسبة إلى الظهر، كذلك بالنسبة إلى العصر، غاية الأمر أنّه مضافا إلى هذه الأمور يحتاج إلى مقدّمة أخرى وجوديّة و هي سبق الإتيان بالظهر حتّى يتحقّق العصر المتّصف بكونه بعد الظهر.

فعدم إمكان إدراجه في أوّل الزوال لأجل اختلال وصف بعديّة الظهر فيه ليس إلّا كعدم إمكان إتيانه لفاقد الشرائط الأخر، فكما لا يمنع ذلك عن وقتيّة الزوال بالنسبة إليه كذلك هنا.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ بعض الوجوه التي تمسّك بها في هذا المقام لإبطال القول بالاشتراك من عدم المعقوليّة ليس في محلّه، و إلّا فكيف يتصوّر الاشتراك بينهما بالنسبة إلى ما بعد مضيّ الأربع ركعات

من أوّل الزوال.

و حينئذ نقول: قد وردت الأخبار الكثيرة كلّها بمضمون أنّه: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر و العصر» «1» و في بعضها زيادة قوله عليه السّلام: «إلّا أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس» «2».

و ليس بإزاء هذه الأخبار الكثيرة الظاهرة في اشتراك الوقت بينهما من أوّل الزوال إلّا خبر واحد، و هو رواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت.

(2) المصدر، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 49

أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر و العصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر و بقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس» «1».

و هذه الرواية و إن كانت مرسلة، إلّا أنّه لا يضرّها الإرسال لوجهين:

أحدهما: أنّ المشهور- بل ادّعي الإجماع- قد عملوا بهذا المرسل، و هذا يكفي في انجبار ضعفه- لو كان- فإنّه ليس في البين مستند لما ذهبوا إليه من الاختصاص غير هذا الخبر، و ما سواه من الوجوه الأخر عليلة بحيث لا ينبغي احتمال خفاء علّتها عليهم، كما عرفت من عدم معقوليّة الاشتراك مع لابدّية تصويره في ما بعد مضيّ مقدار الأربع ركعات، فليس مستندهم إلّا هذه الرواية.

و الثاني: أنّ السند إلى الحسن بن عليّ بن فضّال صحيح، فإنّ شيخ الطائفة قدّس سرّه يرويها بإسناده عن سعد عن أحمد بن محمّد بن عيسى، و موسى بن جعفر بن أبي جعفر جميعا عن عبد اللّٰه

بن الصلت عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن داود بن أبي يزيد، و هو داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام.

و ما بعد الحسن لا حاجة إلى الفحص عنه، بملاحظة ما ورد في شأن كتب بني فضّال و رواياتهم بعد السؤال عن حالها و أنّ بيوتنا منها ملاء من قوله عليه السّلام:

«خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا» فإنّه بعد ملاحظة ظهور ورود الكلام المزبور في شأن الكتب لا في شأن الأشخاص- حتّى يقال: توثيق الرجل لا يدلّ على توثيق من بعده في السند- يكون دليلا على حجّية جميع ما في كتبهم.

______________________________

(1) المصدر، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 50

تحقيق في معنى: «خذوا ما رووا .. إلخ»

و لكنّ الإنصاف عدم دلالة الكلام المزبور إلّا على تصديقهم فيما يروون، بمعنى صدقهم في قولهم: حدّثني فلان، و المعاملة معه معاملة حديث ذلك الفلان، كما لو كنّا سمعنا منه، فلا يدلّ على توثيق المرويّ عنه حتّى لا يلزم علينا الفحص عنه لو كان مجهولا، بل غايته صيرورة روايتهم كحال علمنا بصدق قولهم، فلو علمنا بأنّ داود بن فرقد روى عن بعض أصحابنا كان علينا تحقيق حال هذا البعض، فالعمدة هو الوجه الأوّل، هذا حال السند.

و أمّا الدلالة فالظاهر أنّها بمرتبة الصراحة، و لا يحتمل أن يكون وجه التقديم مراعاة الترتيب، كما في قوله عليه السّلام: إلّا أنّ هذه قبل هذه، لأنّه عليه السّلام قال: حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي، فلم يقيّد بالصلاة الفعليّة، بل بمضيّ هذا المقدار و لو لم يصلّ.

كما أنّه لا يحتمل إرادة وقت الفضيلة دون الإجزاء، فإنّه قال: «فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر و العصر حتّى يبقى من العصر مقدار ما

يصلّي المصلّي أربع ركعات»، و معلوم أنّه ليس هذا الامتداد إلّا لوقت الإجزاء.

و بالجملة، فصراحة الرواية في الاختصاص ممّا لا ينبغي إنكارها.

و هذا بخلاف الحال في روايات الاشتراك، فإنّها قابلة للتوجيه، بل في نفسها ما يؤيّد الاختصاص، و هو قوله عليه السّلام في إحدى روايتي عبيد بن زرارة منها:

«إلّا أنّ هذه قبل هذه» «1» عقيب قوله: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 51

و العصر» فإنّ كلمة «إلّا» إنّما تؤتى بها في مقام يتوهّم من الكلام السابق أمر خلاف الواقع، فيؤتى بها لأجل دفع ذلك التوهّم.

و لا يخفى أنّ الكلام السابق و هو قوله عليه السّلام: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر و العصر» لا يوقع في الوهم أنّ الصلاتين يصحّ إتيانهما بأيّ وجه كان، بل من المعلوم أنّ سوق الكلام لأجل بيان الوقت مع إحالة سائر الشروط و القيود إلى محالّها.

فكما أنّ الطهور شرط، و القبلة شرط، كذلك من الشرائط أيضا ترتيب ما بين الصلاتين، فليس المناسب للمقام الإشارة إلى بيان شرطيّة الترتيب، كما ليس المناسب الإشارة إلى شرطيّة الطهور و القبلة و غير ذلك.

فالذي يناسب مع إتيان كلمة «إلّا» أن يقال: إنّه و إن كان الوقت بحسب الاقتضاء و الصلاحيّة الذاتيّة صالحا لكلّ منهما، إلّا أنّه منع الشارع في مقام تشريع الوقت عن الجري على مقتضى هذا المقتضي ملاحظة كون هذه قبل هذه، فصارت هذه الجهة حكمه لأن يؤخّر في مقام الجعل وقت العصر عن وقت الظهر بمقدار أربع ركعات، كما صارت حكمة لتخصيص مثل هذا المقدار من آخر الوقت بالعصر، و على هذا يكون الإتيان بكلمة

«إلّا» في كمال السلاسة.

و إن أبيت عن ظهور هذه الأخبار و لو مع هذه الضميمة في الاختصاص، بل هي ظاهرة في الاشتراك و هذه الفقرة جي ء بها لأجل بيان شرطيّة الترتيب نقول:

لا أقلّ من كونه جمعا عرفيّا و مقبولا في مقام الجمع، فإنّ الأمر دائر بين هذا التصرّف في هذه الأخبار، و بين رفع اليد عن المرسلة رأسا، إذ قد عرفت عدم احتمالها معنى آخر.

و يشهد لما ذكرنا أيضا قوله عليه السّلام بعد الفقرة المذكورة: «ثمّ أنت في وقت منهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 52

جميعا حتّى تغيب الشمس» فإنّ حمله على إرادة بيان امتداد الوقت لا يناسبه الإتيان بكلمة «ثمّ» بخلاف الحال بناء على الحمل الذي ذكرنا، فإنّ الإتيان بثمّ حينئذ في غاية المناسبة.

و ما ذكرنا أحسن ممّا قيل في وجه الجمع تارة بأنّ الكلام من باب حذف المضاف أعني: أنّ وقت هذه قبل وقت هذه، فإنّه لا يخلو من برودة، فإنّه راجع إلى أنّه دخل الوقتان و ما دخل أحدهما.

و اخرى بأنّ المقصود دخولهما متعاقبين، فإنّه أيضا لا يناسب مع تعيين الوقت الواحد لكلا الوقتين، ألا ترى عدم صحّة قولك: عند ساعة كذا دخل زيد و عمرو، مع كون دخولهما متراخيا و كان المقرون منهما لتلك الساعة دخول الزيد فقط.

و يؤيّد ما ذكرنا أيضا قوله عليه السّلام في بعض روايات بيان وقت فضل الظهر:

«إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر، إلّا أنّ بين يديها سبحة» «1» فإنّ ظاهرها أيضا أنّ الوقت من أوّل الزوال و إن كان صالحا لفضل الظهر، إلّا أنّه منع عن جعله كذلك وجود السبحة و هي النافلة بين يديها، و لأجل هذه الحكمة أخّر وقت فضلها عن السبحة.

و

حاصل ما اخترناه في وجه الجمع أنّ كلمة «إلّا» في قوله عليه السّلام: «إلّا أنّ هذه قبل هذه» استعملت في موضع كلمة «لو لا» فالمراد- و اللّٰه أعلم- أنّ الوقت من أوّل الزوال إلى غيبوبة الشمس صالح لكلّ من الصلاتين لو لا ملاحظة كون هذه قبل هذه، فمراعاة هذه الجهة صارت سببا لتعقيب وقت العصر عن أوّل الزوال بمقدار مزاحمة الظهر و لانتهاء وقت الظهر من طرف الآخر بمقدار أداء العصر،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 53

و إلّا فالوقت وقت لكليهما.

لا نقول: هذا معنى الرواية في نفسها، بل ظاهرها أوّلا هو إفادة الترتيب بين الصلاتين مع اشتراكهما في جميع أجزاء الوقت، كما أنّ معنى الرواية الأخرى أجنبيّة مقدار أداء الظهر من أوّله عن العصر كما قبل الزوال بالنسبة إلى الظهر، و أجنبيّة مقدار أداء العصر من آخره عن الظهر كما بعد الغروب بالنسبة إلى العصر، و لكن لمّا لم يمكن الجمع بين هذين المفادين فالأمر دائر بين أحد وجهين لا ثالث لهما:

إمّا حمل الرواية الثانية على بيان وقت إمكان العمل، فهو بالنسبة إلى الصلاتين مختلف، لأنّه بالنسبة إلى الظهر أوّل الوقت بأنّه وقت إمكانه و لو في حقّ من استجمع الشرائط و المقدّمات، و ليس كذلك بالنسبة إلى العصر بحسب الغالب من التذكّر و لو في حقّ المستجمع، إذ لا أقلّ من مراعاة شرط الترتيب، فلا محالة يتأخّر وقت إمكان العمل فيه إلى ما بعد الأوّل بمقدار أداء الظهر، و كذلك الحال بالنسبة إلى آخره.

و إمّا حمل الاولى على بيان علّة تشريع الوقت كذلك، أعني: على نحو يختصّ مقدار أداء الظهر من أوّله بالظهر، و

مقدار أداء العصر من آخره بالعصر، و أنّها مراعاة تقديم هذه و قبليّتها على هذه، فيعلم من هذه الفقرة أنّ المراد بقوله: دخل الوقتان هو الوقت الاقتضائي لا الفعلي الغير المصادف للمزاحم و المانع.

و أمّا وجه اختصاص عليّة هذا المطلب بالجزء الأوّل و الجزء الآخر دون سائر الأجزاء مع وجودها في غيرهما أيضا فليس علينا الفحص عنه، و لا يقال: إنّه حمل للرواية على بيان فلسفة التشريع، لأنّا نقول: بل المقصود بيان الحكم ببيان ذلك، إذ يتفرّع عليه الثمرة الآتية.

و بالجملة، بعد الدوران بينهما يتعيّن المصير إلى الثاني، لأنّ الأوّل بعيد غاية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 54

البعد، فإنّ الوقت متى أضيف إلى العمل في لسان الشارع فإمّا يراد وقت وجوبه أو فضيلته و استحبابه، و أمّا وقت إمكان إتيانه فليس وظيفة له من حيث كونه شارعا، فإنّه أمر غير مربوط بالشرع يعلمه كلّ أحد.

ثمّ إنّه يتفرّع على المعنى الذي حملنا عليه رواية «إلّا أنّ هذه قبل هذه» ثمرات:

منها: أنّه لو فرض رفع مزاحمة صلاة الظهر بأن كان آتيا به قبل الظهر بظنّ دخول الوقت و كان قد أدرك لحظة من الوقت كان اللازم صحّة إتيان العصر في هذا الوقت، و لا يلزم الصبر إلى انقضاء مقدار الأربع ركعات.

و كذلك لو قدّم العصر سهوا على الظهر جاز إتيان الظهر في آخر الوقت، إذ فهمنا من هذه العلّة أنّه لا موضوعيّة لأربع ركعات لا في الأوّل و لا في الآخر، بل المعيار الأصلي إنّما هو قبليّة هذه على هذه، فمتى ارتفع مزاحمة هذه لا مانع لإتيان هذه في الأوّل، و كذا متى ارتفع مزاحمة هذه الثانية لهذه الاولى في طرف الآخر.

و هذا نظير ما ورد

من أخبار تحديد وقت الفضيلة بالقدم و القدمين، و المثل و المثلين، و القدمين و الأربعة أقدام مع الخبر الوارد فيه بأنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر، إلّا أنّ بين يديها سبحة، فإنّ مفاد الأخير أنّ تلك التحديدات منزلة على الغالب، و المعيار الأصلي هو مزاحمة السبحة، فمتى ارتفع هذا المزاحم- بسرعة أتى به أم ببطء- كان بعده وقت فضيلة الظهر.

و على هذا ففي مقامنا يختلف وقت الاختصاص بحسب الموارد طولا و قصرا كما في ذلك المقام.

و منها: أنّه لو سها و أتى بالعصر مقدّما على الظهر في هذا الوقت المختصّ بالظهر فعلى القول بالاشتراك، كان من سهو الترتيب، فيدخل في المستثنى منه من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 55

قوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود» «1».

و أمّا على القول بالاختصاص مع اختيار وجه الجمع الذي ذكرنا فلا إشكال أنّه من سهو الوقت أيضا، فإن قلنا بأنّ المستثنى شامل لمثل السهو عن الوقت بالإتيان في الوقت الاقتضائي أيضا كان محكوما بالإعادة بحكم المستثنى، و إن قلنا بانصرافه عن هذا الفرض كان محكوما بعدمها بحكم المستثنى منه، إذ بعد خروجه عن المستثنى كان داخلا في المستثنى منه، و حينئذ يرتفع الثمرة بين القولين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 56

المسألة الثانية في امتداد وقت الظهرين إلى الغروب اختيارا

اعلم أنّ في آخر وقت الظهرين أقوالا:

منها: أنّ الوقت الاختياري للظهر من الزوال إلى ذراع، و للعصر إلى ذراعين و الوقت الاضطراري يمتدّ إلى الغروب.

و منها: أنّ اختياري الظهر إلى أربعة أسباع، و اختياري العصر إلى ثمانية أسباع، و اضطراريّهما يمتدّ إلى الغروب.

و

منها: أنّ اختياريّ الظهر إلى أن يصير ظلّ كلّ شي ء مثله، و اختياري العصر إلى أن يصير مثليه، و اضطراريّهما ممتدّ إلى الغروب.

و القول الأقرب أنّه يبقى وقتيهما للمختار إلى أن يبقى من الغروب مقدار أداء العصر، فيختصّ بالعصر.

و قبل الشروع في الاستدلال على هذا المرام و تزييف أدلّة الخصم لا بدّ من تمهيد مقدّمة و هي أنّه إذا أضيف الوقت إلى عمل فقيل: وقت عمل كذا كذا، فإمّا يكون باعتبار كونه وقتا لفضل ذلك العمل، أو باعتبار كونه وقتا لإجزائه و حصول امتثاله.

و على الثاني أيضا تارة يكون وقتا للامتثال مطلقا من دون توقّف على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 57

حصول شي ء، و اخرى يكون وقتا مشروطا بحصول أمر من اضطرار أو عصيان.

إذا عرفت ذلك فنقول: قد عرفت ما في رواية داود بن فرقد من قوله: «حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات» إلخ و قوله في رواية عبيد بن زرارة: «ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس» و بمضمونهما أخبار كثيرة دالّة على امتداد وقتهما إلى الغروب.

و بإزاء هذه الأخبار أخبار أخر دالّة على أنّ وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظلّ قامة، و وقت العصر إلى أن يذهب قامتين، و أخبار أخر دالّة على أنّ وقت الظهر إذا زالت الشمس حتّى يمضي من زوالها أربعة أقدام، و أخبار دالّة على أنّ وقت الظهر ذراع من زوال الشمس، و وقت العصر ذراعان منه.

ثمّ من المسلّم فيما بينهم أنّ من أتى بالفريضة بعد هذه الأوقات قبل أن يبقى من الغروب مقدار أربع ركعات فصلاته أداء و ليس كإتيانها بعد الغروب.

و بعد هذا يتردّد أمر هذه الروايات

مع الروايات الأول بين أمرين: إمّا الالتزام بأنّ المراد بالروايات الأول تحديد وقت الإجزاء، لكنّ الأعمّ من المطلق بلا شرط و المشروط بالاضطرار و العصيان بالترك في الوقت الأوّل.

و المراد بالثانية بيان وقت الإجزاء أيضا بطريق الإطلاق.

و أمّا الالتزام بأنّ المراد بالأخبار الأول بيان الوقت المطلق الغير المشروط بشي ء لكن للإجزاء، و من الثانية أيضا كذلك، لكن للفضل و الاستحباب، و نحن و إن قلنا: إنّ إطلاق إضافة الوقت إلى العمل منصرف إلى كونه وقت إجزاء، إلّا أنّ إضافته إليه باعتبار الفضل أيضا إضافة متعارفة بحيث يترجّح في مقام الجمع على الوجه الآخر و هو حمل الوقت الوارد في النصوص الأول مع ورودها في مقام البيان على الأعمّ من المطلق و المشروط، مع عدم إشعار فيها بذكر الشرط و القيد،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 58

و خصوصا مثل قوله عليه السّلام: «ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس» فإنّه حمل في غاية البعد من تلك الأخبار.

و إذا لوحظ هذا مع حمل قوله: «وقت الظهر من الزوال إلى أربعة أقدام» على أنّ هذا وقت فضله، كان الثاني أرجح قطعا، لأنّه من المتداول المتعارف في المحاورة إضافة الوقت باعتبار فضل العمل، فيقولون: هذا وقت الصلاة، و أمّا إطلاق الوقت مع كونه مشروطا بالعصيان أو النسيان مع عدم الإشارة إلى بيان القيد، مع كون المخاطب محتاجا إلى البيان و سائلا عن تحديد الوقت ففي غاية البعد.

و إذن فيسهّل أمر اختلاف التحديد الوارد في الأخبار الثانية، فإنّه محمول على اختلاف مراتب الفضل، بخلاف ما لو حملناها على وقت الإجزاء، فإنّه لا جمع بينهما أصلا.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت ما ذكرنا لا تحتاج إلى تعداد الأخبار و استخراج

الأمارات في أنفسها على حملها على كونها في مقام بيان وقت الفضل، مع كونها كذلك، كما يعلم بمراجعتها.

كما أنّك عرفت بما ذكرناه في المسألة السابقة بطلان ما حكي عن العلّامة من الاستدلال على بطلان القول بالاشتراك بما ملخّصه- على ما لخّصه بعض- أنّ القول باشتراك الوقت حين الزوال بين الصلاتين مستلزم لأحد باطلين، إمّا التكليف بما لا يطاق، و إمّا خرق الإجماع، لأنّ التكليف حين الزوال إن كان واقعا بالصلاتين معا، كان تكليفا بما لا يطاق، و إن كان واقعا بأحدهما الغير المعيّن أو بأحدهما المعيّن و كان هو العصر، كان ذلك خرقا للإجماع، و إن كان واقعا بأحدهما المعيّن و كان هو الظهر ثبت المطلوب. انتهى.

فإنّه مضافا إلى استدراك قوله: أو بأحدهما المعيّن و كان هو العصر كان ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 59

خرقا للإجماع- لعدم ارتباطه بمرام الخصم، و إنّما المرتبط به هو الاحتمالان الأوّلان أعني: كون المكلّف به هو الصلاتين معا تعيينا في أوّل الزوال، أو هما تخييرا كذلك، و إلى انتقاضة بما بعد مضيّ مقدار أداء الظهر، فإنّه يجري فيه هذا الكلام حرفا بحرف مع أنّه ليس وقت اختصاص- قد عرفت في ما تقدّم أنّ المراد بالاشتراك ليس كون الوقت محلّا لوقوع كليهما فيه، بل المراد أنّ التكليف بهما يصير عنده فعليّا، و لا حائل إلّا قدرة المكلّف.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 60

المسألة الثالثة في أنّ العصر يختصّ بآخر الوقت بمقدار أدائها

و يدلّ عليه رواية داود بن فرقد المتقدّمة، و رواية الحلبي في حديث قال:

سألته عن رجل نسي الاولى و العصر جميعا، ثمّ ذكر ذلك عند غروب الشمس، فقال عليه السّلام: «إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصلّ الظهر ثمّ يصلّي العصر، و إن

هو خاف أن يفوته فليبدأ بالعصر و لا يؤخّرها فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا، و لكن يصلّي العصر في ما قد بقي من وقتها، ثمّ ليصلّ الاولى بعد ذلك على أثرها» «1».

و هذه الرواية و إن كانت بسؤالها دالّة على مذهب القائل بذهاب الحمرة في تفسير الغروب، لكن الكلام في المقام يتعلّق بالجواب، فإنّه إمّا أن نقول بمفاد هذا السؤال- كما هو الحقّ و يأتي إن شاء اللّٰه تعالى- و إمّا أن نرجّح أخبار سقوط القرص و نحمل هذا الخبر على أنّ الإمام عليه السّلام أعرض عن ذكر حكم مورد السؤال و أجاب بهذه الكلّية لموارد ضيق الوقت، و يستفاد منها أنّه لو أتى بالظهر في الوقت الذي لا يدركهما معا كانت باطلة، لأنّه مفاد قوله: «و لا يؤخّرها- يعني العصر- فيفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 61

ثمّ إنّ مقتضى القاعدة مع الغضّ عن تينك الروايتين أن يقال: هنا صلاتان قد نصّت الأخبار بامتداد الوقت بالنسبة إلى كليهما إلى الغروب، و بلزوم الترتيب في ما بينهما مع إمكانه، أمّا مع عدم إمكانه كما في الوقت الذي لا يسع كليهما و يدور الأمر بين إتيان أحدهما و ترك الآخر فلا دلالة لأدلّة الترتيب على اعتباره، لأنّه مع فرض سعة الوقت، و حينئذ فيحتمل أن يكون الوقت للظهر خاصّة لأهميّته و أن يكون للعصر كذلك، و أن يكون المكلّف بالخيار.

لا يقال: كما أنّ الآتية المركّبة من الذهب و الفضّة يستفاد حكمها من دليل الذهب الخالص و الفضّة الخالصة، كذلك الترتيب في هذا الفرض الذي هو مركّب من داخل الوقت و خارجه يستفاد من

أدلّة اعتبار الترتيب في الداخلين و أدلّة اعتباره في الخارجين.

لأنّا نقول: في ذاك الموضع ليس في البين احتمال آخر، و أمّا في هذا الموضع فيحتمل أن يكون رعاية وقت العصر في نظر الشارع أهمّ من رعاية الترتيب، و مع هذا الاحتمال كيف نحكم بتعيّن الظهر و لا دليل في البين يرفع الاحتمال المزبور بعمومه أو إطلاقه أو نصوصيّته؟

فلم يبق إلّا القول بالتخيير، لعدم العلم بالأهميّة في ما بينهما، كما هو الحال في كلّ واجبين متزاحمين، و لكنّ الذي سهّل الخطب هو وجود الخبرين الأوّلين الناصّين بتقديم العصر و تخصيص الوقت إيّاه.

و ما ذكرنا هو الموافق للتحقيق، خلافا لما عن بعض أجلّة العلماء في كتاب صلاته، حيث ذهب إلى اشتراك الوقت، بمعنى صلاحيّته من الزوال إلى الغروب لكلّ من الظهر و العصر، إلّا أنّه بحسب الفعليّة قد اختصّ الظهر من الأوّل بمقدار أدائه كذلك، و العصر من الآخر، و جعل هذا قضيّة ما دلّ على أنّ وقت الظهر من الزوال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 62

إلى الغروب، و ما دلّ على مثل ذلك في العصر، و ما دلّ على لزوم الترتيب بينهما.

فكان هذه المضامين الثلاث قد اجتمعت في دليل واحد، كأن يقال: وقت هاتين الصلاتين من الزوال إلى الغروب، و لكن يجب تقديم الظهر على العصر، فإنّه يستفاد منه أنّ أوّل الزوال بمقدار أداء الظهر وقت فعليّ للظهر، لعدم سعته للعصر مع حفظ الترتيب.

و كذلك الحال من جانب الآخر، بتقريب أنّ التكليف بهذا النحو أعني بنحو التركيب يكون ممتدّا من الزوال إلى الغروب، فإذا بقي ثمان ركعات من آخر الوقت يصير كلّ من الصلاتين مضيّقة لا محالة، ككلّ تكليف مخيّر أو موسّع عند تعذّر سائر

أطرافه أو فوت سائر أجزاء وقته، فيختصّ الأربع الاولى من هذه الثمان ركعات بالظهر، و الأربع الأخيرة بالعصر، هذا محصّل ما ذكره.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام بقاه بأنّ للظهر تكليفين: أحدهما نفسي، و الآخر غيري، لأنّ العصر مقيّد ببعديّة الظهر، فيكون الظهر لأجل تحصيل هذا القيد بالنسبة إلى العصر، كالوضوء بالنسبة إلى كلّ صلاة مع الطهارة، فإنّ الترتيب إنّما يقيّد العصر بالبعديّة، لا الظهر بالقبليّة، و لذا لو أتى بالظهر و لم يأت بالعصر عصيانا صحّ ظهره.

و حينئذ فإن عصى و لم يأت بالظهر في الأربع الاولى من الثمان ركعات، فإن بقي اشتراط العصر بالبعديّة بحاله لزم اختصاص الأربع الآخر بالظهر من حيث التكليف النفسي و إن سقط تكليفه الغيري بالعصيان كتكليف ذيه أعني العصر، و إن لم يبق بحاله، بل صار العصر مطلقا فهنا وقت واحد و واجبان مطلقان نسبتهما إليه نسبة واحدة لا بدّ من تخصيص الأهمّ به- إن كان- و إلّا فالتخيير.

فالاستدلال مبنيّ على المغالطة و الخلط بين الوجوب الغيري و النفسي،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 63

فالذي يسقط ببقاء الأربع ركعات إلى الغروب إنّما هو الأمر الغيري، لا النفسي، هذا.

و لكنّ الذي سهّل الأمر كما عرفت إنّما هو وجود الروايتين، و الرواية الاولى و إن كان لا يستفاد منها أزيد من انقضاء الوقت بالنسبة إلى الظهر و أنّ حاله كحال ما بعد الغروب، و أمّا وقوعه قضاء بناء على عدم إضرار نيّة الأداء لكونه من باب الخطاء في التطبيق، فلا يستفاد من تلك الرواية ما ينافيه.

غاية الأمر ابتناؤه على مسألة الضدّ و أنّ العبادة الموسّعة هل تقع صحيحة إذا زاحمها الضدّ الأهمّ أو لا؟ و قد رجّحنا الصحّة في محلّه،

فبناء عليه لا يستفاد من الرواية فساد الشريكة في الوقت المختصّ بعنوان القضاء.

و لكنّ الرواية الأخيرة قد كفتنا مئونة هذه الجهة أيضا و دلّت على أنّ الشريكة غير صحيحة في هذا الوقت و لو قضاء، و محلّ الاستفادة قوله عليه السّلام:

و لا يؤخّرها- يعني العصر- فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا. فإنّ معناه أنّه في صورة تأخير العصر إن أتى بالظهر أو لم يأت فهما سيّان في أنّ الصلاتين معا قد فاتتا منه، فكما أنّ العصر فائتة فيشملها قوله عليه السّلام: من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته.

فكذلك الظهر الذي أتي به أيضا فائتة مشمولة لهذه الكبرى.

و الحاصل أنّ الظاهر أنّ الفوت متعلّق بذات الصلاة في طرف الظهر المأتي، كما في طرف العصر الغير المأتيّ بها بوصف وقوعها في الوقت، لأنّ ظاهر جمعهما في التعبير بصيغة التثنية وحدة المراد به فيهما، فكما أنّ المراد بفوت العصر عدم الحصول رأسا، فكذلك في طرف الظهر، هذا.

و لكن يبقى هنا سؤال مطلب و هو أنّ المستفاد من الرواية هل الاختصاص في صورة بقاء الوقت بمقدار الشرائط الاضطراريّة، أو و لو بمقدار الاختياريّة، فلو كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 64

الوقت بمقدار ثمان ركعات لو تيمّم و بمقدار أربع لو توضّأ فهل المستفاد من الرواية تخصيصه بالعصر و إتيان الوضوء، أو أنّ اللازم هو التيمّم و الجمع بينهما؟

قد يقال: حال آخر الوقت كحال أوّله، فكما أنّ المراد باختصاص الأوّل بالظهر هو مقدار أدائه مع الشرائط الاختياريّة، فكذلك الحال في جانب الآخر.

و على هذا فلا يبقى المجال لمراعاة أهمّية الوقت من الطهارة المائيّة- مثلا- و سائر الشروط الاختياريّة إذا دار الأمر بينهما، و ذلك لأنّه فرع إحراز المقتضي و إطلاق المادّة

في كلا الطرفين و هو غير معلوم في جانب الوقت، بل المستظهر عدمه و أنّ الوقت للظهر بحسب الاقتضاء و التشريع مخصوص بهذا المقدار، فلا وجه لملاحظة المزاحمة، هذا ما ربما يقال.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ دليل تشريع التيمّم و سائر الأبدال الاضطراريّة موسّع للوقت و حاكم على دليل الاختصاص، لأنّ مفاد تنزيل تلك الأبدال منزلة الشروط الاختياريّة أنّه متى يفوت الوقت من قبل رعاية تلك الشروط فهذه الشروط ساقطة، و معنى هذا أنّ الوقت باق غير فائت.

و حينئذ نقول: نحن و إن كنّا لو راعينا الطهارة المائيّة أو تحصيل الستر أو طهارة البدن و اللباس مثلا خرج الوقت إلّا بمقدار أربع ركعات، و لكن لو اكتفينا بالتيمّم أو بالصلاة عاريا أو مع النجاسة لأدركنا من الوقت ثمان ركعات، فلو لم يكن في البين دليل التنزيل لكنّا مشمولين للرواية الثانية من الروايتين المتقدّمتين، فإنّه يصدق في حقّنا أنّا نخاف فوت إحدى الصلاتين، و لكن بعد ملاحظته يصدق في حقّنا الموضوع الآخر، أعني: لا يخاف فوت إحدى الصلاتين، فيشملنا قوله:

«فليصلّ الظهر ثمّ يصلّي العصر» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 65

المسألة الرابعة في تحديد وقت المغرب

اعلم أنّه قام الإجماع و تواترت الأخبار بأنّ وقت المغرب غروب الشمس، إلّا أنّه ورد أخبار كثيرة بأنّ الغروب عبارة عن ذهاب الحمرة المشرقيّة، و في بعضها تعليل ذلك بأنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا، و رفع يمينه فوق يساره، فإذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا.

و قد يجمع بين الطائفتين بأنّ الثانية شارحة للمراد من الاولى و أنّ الغروب الذي جعل وقتا يراد به ذهاب الحمرة المشرقيّة، لا غيبوبة القرص و لو مع

عدم ذهابها، فهذا من قبيل حمل المحكوم على الحاكم و الأظهر على الظاهر.

لكن قد يستشكل في هذا الجمع بعدم احتياج الغروب إلى التفسير، فإنّه موضوع مبيّن لدى العرف كالطلوع، فكما لا يحتاج هو إلى التفسير فكذلك الغروب.

و التوجيه بأنّ المراد هو بيان موضوع الحكم لدى الشارع- بمعنى أنّ الغروب و إن كان هو استتار القرص في مقابل الطلوع عرفا، إلّا أنّ موضوع الحكم الشرعي ليس إلّا ذهاب الحمرة المشرقيّة- غير وجيه، فإنّ مجرّد كون أحد الموضوعين المتغايرين موضوعا للحكم لا يصحّح حمل أحدهما على الآخر و استعمال لفظ أحدهما في الآخر، بل اللازم إيراد الحكم على الموضوع أعني: الذهاب، لا إيراده

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 66

أوّلا على الاستتار و استعمال لفظه في الذهاب ثمّ القول بأنّ الاستتار هو الذهاب.

و أيضا المشرق و المغرب نقطتان متقابلتان في كلّ أفق محاذيتان، فما معنى كون أحدهما فوق الآخر و مشرفا عليه، الذي قد ذكر تعليلا لذلك التفسير في بعض الأخبار؟

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن دفع كلا الإشكالين عن الجمع المزبور.

أمّا الأوّل: فللفرق بين موضوعي الطلوع و الغروب، فإنّ المراد بالطلوع هو الظهور، و لا يقال للجسم: إنّه ظهر و صار بارزا للحسّ إلّا إذا صار جسمه مشاهدا مرئيّا، و أمّا الغروب بمعنى السقوط عن مرتبة الظهور بعد ما كان ظاهرا فله مراتب، أولاها أن يغيب جسمه عن النظر و لو بقي ظلّه مشاهدا محسوسا، و الثانية غيبوبته بجميعه عينا و أثرا، مثلا لا يقال: زيد ظهر و طلع بمحض ظهور ظلّه، و أمّا إطلاق الاختفاء بعد أن كان ظاهرا فلا يصدق عليه ما دام ظلّه مرئيّا و إن اختفى بدنه عن النظر، فالغروب المجعول حدّا

للإفطار و الصلاة بهذه الملاحظة يصحّ السؤال عن شرحه، حيث لا يعلم أنّ المراد أيّ مرتبة من اختفاء القرص، هل الاختفاء العيني الغير المنافي مع بقاء شعاعه و آثاره على الجدران و المنارة و الجبال كما هو ظاهر لفظه، أو أنّه الاختفاء الرأسي عينا و أثرا، فالأخبار الثانية معيّنة لإرادة الثاني.

لا يقال: الظهور و الاختفاء متقابلان، فمتى صدق أحدهما لا يصدق الآخر، و متى لم يصدق أحدهما صدق الآخر، و إذن فإذا خفي جسم زيد فلا يصدق أنّه ظاهر، فيصدق أنّه مختف، و لا واسطة بينهما.

لأنّا نقول: المعيار هو العرف، فإنّهم يرون الظهور في ابتداء حدوثه منوطا برؤية الجسم، و في مقام الارتفاع و السقوط عن الظهور يزول الاحتياج إلى ارتفاع الجسم و الأثر كليهما عن النظر، و من أنكر فليراجع وجدانه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 67

و بالجملة، فلعلّ هذا هو السرّ في التفرقة بين الطلوع و الغروب، حيث لم يرد سؤال في خبر عن حدّه و لا ابتداء شرحه عن إمام عليه السّلام بخلاف الغروب، و إن أبيت إلّا عن اتّحادهما في الوضوح و الخفاء، لكن نقول: إنّ الاهتمام بشأن الغروب أزيد، حيث إنّه وقت الإفطار و الصلاة و الإفاضة من عرفات، بخلاف الطلوع، فإنّه و إن كان آخر وقت صلاة الصبح، لكن المصلّين في تلك الأزمنة لم يكونوا يؤخّرون صلاتهم إلى هذه الغاية حتّى يحتاجون إلى الفحص و السؤال عن حدّه.

و أمّا الثاني: فالنقطة التي هي المشرق يكون أعلى أبدا من التي هي المغرب، فإنّ الأولى هي النقطة الداخلة في الأفق، و الثانية هي النقطة الخارجة عنه، إذ الجسم إنّما يغيب عن النظر إذا انحدر بتمام أجرامه عن أفق الناظر، و لكنّه

يصير ظاهرا للنظر إذا صار إلى الناظر أقرب من نقطة الغروب، هذا إذا اعتبرنا بصرف غيبوبة العين، و أمّا إذا اعتبرنا بغيبوبتها و غيبوبة الأثر كما هو المفروض في الخبر، فالتفاوت بين النقطتين يكون أكثر من الأوّل، بمعنى أنّه لا بدّ من تجاوز الجسم عن النقطة الأولى التي يغيب فيها جسمه عن النظر إلى ما دونها حتّى يغيب أثره أيضا، فيكون محلّ غيبوبة عينه و أثره أدون بالنسبة إلى محلّ رؤيته و مشاهدته بأكثر من أدونيّة محلّ غيبوبة عينه عن محلّ رؤيته.

و على هذا فيصير الجمع المزبور خاليا عن الإشكالين، و لكنّه مع ذلك لا يتمشّى في بعض الأخبار، نعم هو جمع حسن بالنسبة إلى جلّها.

فمن جملة ما لا يقبله: مرسلة عليّ بن الحكم عمّن حدّثه عن أحدهما عليهما السّلام أنّه «سئل عن وقت المغرب؟ فقال عليه السّلام: إذا غاب كرسيّها، قلت: و ما كرسيّها؟

قال عليه السّلام: قرصها، فقلت: متى يغيب قرصها؟ قال عليه السّلام: إذا نظرت إليه فلم تره» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 25.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 68

و هذه الرواية و إن كان صدرها شاهدا على ما ادّعينا من كون الغروب معنى مجملا يحتاج أن يسأل عنه، و لكن ذيله المصرّح في تفسيره بأنّه إذا نظرت إليه فلم تره لا يلائم الجمع المزبور، فإنّ حمل قوله: إذا نظرت فلم تره على عدم رؤية عينه و أثره ليس جمعا عرفيّا، كما أنّه ليس عدم الرؤية إذا نظر إليه أيضا معنى ذو تشكيك حتّى يمكن أن يقال: إنّ المراد أقصى مراتبه، كما قلنا في الغروب.

و ممّا لا يقبله أيضا رواية الربيع بن سليمان و أبان بن أرقم و

غيرهم، قالوا:

أقبلنا من مكّة حتّى إذا كنّا بوادي الأخضر، إذا نحن برجل يصلّي و نحن ننظر إلى شعاع الشمس، فوجدنا في أنفسنا، فجعل يصلّي و نحن ندعوا عليه و نقول: هو شابّ من شباب أهل المدينة، فلمّا أتيناه إذا هو أبو عبد اللّٰه جعفر بن محمّد صلوات اللّٰه عليهما، فنزلنا فصلّينا معه و قد فاتتنا ركعة، فلمّا قضينا الصلاة قمنا إليه فقلنا له:

جعلنا فداك، هذه الساعة تصلّي؟ فقال عليه السّلام: إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت «1».

فإنّ صدر الرواية ناصّة بأنّ الذهاب كان مطلبا مقرّرا عند الشيعة، و مع ذلك كان الإمام عليه السّلام يصلّي في ذلك الوقت، فعلى القول المذكور لا بدّ من حمل ذلك على كون الشعاع الذي رأوه في أعلى جبل كان بالوادي خارجا عن المتعارف في الارتفاع، حيث إنّ المعتبر هو الذهاب عن المواضع المرتفعة بقدر المتعارف، لا مثل جبل دماوند، و إن لم تقبل هذا أيضا فلا مسرح فيه للجمع المتقدّم قطعا.

و ممّا لا يقبله رواية محمّد بن يحيى الخثعمي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه قال:

«كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يصلّي معه حيّ من الأنصار يقال له بنو سلمة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 23.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 69

منازلهم على نصف ميل، فيصلّون معه ثمّ ينصرفون إلى منازلهم و هم يرون مواضع سهامهم» «1».

و قد يجمع بين الطائفتين بحمل الثانية الدالّة على اعتبار ذهاب الحمرة على الأماريّة، و حمل الأولى الدالّة على استتار القرص على الأصاليّة، فالميزان الأصلي هو الاستتار، و لكن حيث إنّه قد يختفي على الحسّ و يحصل الاشتباه الموضوعي لأجل وجود السحاب أو الغبار أو

الجبل و نحو ذلك نبّه الشارع بأنّ ذهاب الحمرة أمارة قطعيّة على تحقّقه، فهذا إنّما يكون معتبرا مع الشكّ في الأوّل، و إلّا فمع القطع بالأوّل يكون هو المناط، و هذا أيضا لا يتأتّى في جميع الأخبار.

فإنّ منها: رواية عبد اللّٰه بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصالح عليه السّلام:

يتوارى القرص و يقبل الليل، ثمّ يزيد الليل ارتفاعا و يستتر عنّا الشمس و يرتفع فوق الجبل حمرة و يؤذّن عندنا المؤذّنون، أ فأصلّي حينئذ و أفطر إن كنت صائما، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب عليه السّلام إليّ: أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة و تأخذ بالحائطة لدينك «2». و هي غير قابلة للجمع المزبور كما ترى.

و منها: مرسلة ابن أشيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سمعته يقول: وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق، و تدري كيف ذلك؟ قلت: لا، قال عليه السّلام: لأنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا و رفع يمينه فوق يساره، فإذا غاب هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 14.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 70

فإنّه لو كان المراد من الغروب هو الغيبوبة عن الحسّ و لو لم يغب شعاعه فهو أمر دائم الانفكاك عن ذهاب الحمرة، و معنى هذا الخبر أنّ بينهما الملازمة الدائميّة.

و الداعي إلى الخروج عن ظاهر أخبار ذهاب الحمرة من كونها تفسيرا للغيبوبة و الغروب إلى هذا الاحتمال أعني: الأمارة العلميّة هو ما مرّ من توهّم أنّ الغروب و الذهاب أمران متباينان

لا ارتباط و علاقة بينهما حتّى يصلح إرادة أحدهما من لفظ الآخر، و حينئذ فيأبى أخبار الغروب عن الحمل على إرادة الذهاب.

مثلا: لو قال القائل: جئني بالأسد، ثمّ قال: أعني بقولي الأسد الكتاب، فلا يمكن العمل بهذا الظاهر من الحكومة و الشارحيّة، لعدم قبول لفظ الأسد لهذا الحمل، بخلاف ما إذا قال: أعني به الرجل الشجاع، فإنّه لا محيص عن الأخذ بالحاكم و رفع اليد عن ظهور المحكوم، و ما نحن فيه من القبيل الأوّل، هذا وجه التوهّم، و لكنّ الحقّ خلافه.

بيان ذلك أنّا نسلّم أنّ لفظ الغروب لو خلّي و طبعه ظاهر في غيبوبة الجسم التي هي المحسوسة و لا حاجة لها إلى الشرح، و لكن نقول: يصحّ استعمال هذه اللفظة تجوّزا و توسّعا على غيبوبة الجسم و بعض آثاره، مثلا قولك: زيد قد خفي، ظاهر في خفاء جسمه و لو بتواريه وراء جدار مع مشهوديّة ظلّه، و لكنّ الكلام قابل لأنّ تقول: أعني من الخفاء خفاؤه بآثاره و ظلّه، بحيث يستعمل هذه اللفظة في هذا المعنى، لا بطريق الإطلاق و التقييد.

و حينئذ نقول بأوّل مراتب غيبوبة الشمس غيبوبة جرمها عن النظر، فيقع شعاعه عند المغرب، و يقع انعكاس هذا الشعاع و البياض إلى جانب المشرق، فيكون هذا الانعكاس بصورة الحمرة، كما يرى في بعض الأبنية و الجدران العالية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 71

أيضا، فإذا انحدر أزيد من ذلك يرتفع ذلك البياض المغربي و تلك الحمرة المشرقيّة، و يحدث الحمرة المغربيّة، و هي أيضا انعكاس شعاع الشمس، فإذا انحدرت أزيد من ذلك ارتفع ذلك الانعكاس أيضا، و هذا بعينه هو الحال في طرف الطلوع، فإنّه متى ظهر الشعاع و البياض في المشرق

انعكست الحمرة في المغرب.

و هذا هو المراد بقولهم عليهم السّلام في بعض الأخبار: إذا ذهبت الحمرة من هذا الجانب (و أشار إلى المشرق) و في بعضها: من المشرق فقد غابت الشمس من شرق الأرض و غربها «1»، يعني من شرق أفق هذا المكلّف و غربة، فإنّ الشعاع المغربي إذا ارتفع و كذا انعكاسه المشرقي، فقد حصل غيبوبة الشمس من جميع المشرق و المغرب.

و أمّا التعبير بسقوط القرص كما هو الواقع في بعض أخبار الغروب و الذهاب فلعلّ المراد به كون الشمس خالية ممّا يترقّب منها من الإنارة، فالسقوط ليس السقوط الجسماني، إذ لا يقال على الجسم المنحدر تدريجا أنّه ساقط، إلّا إذا وقع دفعة، فهو كناية عن بطلان آثاره عن وجه الأرض من الإضاءة و الإشراق.

و على كلّ حال، فإذا قال قائل: إذا غربت الشمس فكذا، ثمّ قال: مقصودي من غروبها غروب جرمها و شعاعها أعني: الشعاع الذي في المغرب الذي يحصل بانعكاسه الحمرة في المشرق و يلازم ذهابه مع ذهاب الحمرة، فليس استعماله الغروب في هذه المرتبة من الخفاء كاستعمال لفظة «الأسد» في الكتاب ممّا لا مأنوسيّة له في الاستعمال و يعدّ غلطا، بل يكون ممّا يقبله الطبع و يستحسنه، فإذا تحقّق القبول الطبعي و التوسّع المجازي و المفروض ثبوت نسبة الحكومة و الشارحيّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 72

بين أخبار الغروب و ذهاب الحمرة فلا يمنعنا عن الحمل على هذا المعنى الاستيحاش المتقدّم لوضوح بطلانه.

نعم يبقى في البين في معارضات أخبار الذهاب طائفتان:

الاولى: الأخبار الحاكية لفعل النبيّ و بعض الأئمّة عليهم السّلام التي يدّعي ظهورها في أنّهم عليهم السّلام فعلوا المغرب عند

الغروب قبل الذهاب، و خصوصا فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم الذي هو غير قابل للحمل على التقيّة.

و الأخرى: خبر عليّ بن الحكم المتقدّم، حيث إنّه صريح في أنّ المناط هو الغروب الحسّي للجرم، و لا يقبل الحمل الذي ذكرنا، لأنّه فسّر غيبوبة القرص بأنّه إذا نظرت إليه لم تره، و أنت ترى عدم قابليّته للحمل على عدم رؤية العين و الأثر، فإنّه صريح في عدم رؤية القرص، و لسانه أيضا لسان الحكومة و الشارحيّة، كما أنّ لأخبار الذهاب أيضا كان هذا اللسان، فلا محيص عن معاملة المعارضة بينه و بين أخبار الذهاب، فإنّ كلّا منهما حاكم و مفسّر للغروب و صريح في مفاد غير مفاد الآخر.

فنقول: أمّا الخبر الحاكي لفعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و فلا منافاة فيه للقول بالذهاب إذا كان صلّى اللّٰه عليه و آله آتيا بالصلاة متّصلا بالذهاب و كانوا ذاهبين بسرعة عقيبها، إذ رؤية مواضع النبل مع هذا الوصف و الحال أنّ مسافة سيرهم إلى منازلهم نصف ميل و هو ألفا ذراع لا ينافي مع كون ابتداء الشروع بالصلاة أوّل الذهاب.

و أمّا الخبر الحاكي لفعل الصادق عليه السّلام فالجواب عنه أنّ صحّة التمسّك بخبر إنّما هي بعد تماميّة ثلاث جهات: الدلالة و السند و جهة الصدور، فالسند قد فرغ عنه بما تقرّر في الأصول، و كذا الدلالة أيضا لا خدشة فيها في هذا الخبر إن لم يجر فيه الاحتمال الذي تقدّم في طيّ الكلمات السابقة، بقي أصالة الجهة، و لا شكّ أنّها مثل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 73

أصالة الظهور في أنّ الأخذ بها في كلام كلّ متكلّم إنّما هو ما دام لم يصرّح

هو بخلاف هذا الأصل، و إلّا فيسقط الأصل في كلامه.

ألا ترى أنّه لو قال متكلّم: إنّي ربما أتكلّم بلفظة الأسد و أريد منها الرجل الشجاع بدون نصب قرينة فلا يبقى لكلامه ظهور إذا قال: جئني بالأسد مثلا، فهكذا لو صرّح المتكلّم بأنّي ربما فعلت كذا أو قلته و الداعي إلى ذلك هو التقيّة من الأعداء، فرأيناه فعل أو قال، فلا يبقى بعد هذا التصريح منه أصل عقلائي في جهة الصدور لكلامه و فعله.

إذا عرفت هذا فنقول: قد صرّح الصادق سلام اللّٰه عليه بذلك في ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة عن ابن رباط عن جارود أو إسماعيل ابن أبي سماك عن محمّد بن أبي حمزة عن جارود قال: قال لي أبو عبد اللّٰه عليه السّلام:

«يا جارود، ينصحون فلا يقبلون، و إذا سمعوا بشي ء نادوا به أو حدثوا بشي ء أذاعوه، قلت لهم: مسّوا بالمغرب قليلا فتركوها حتّى اشتبكت النجوم، فأنا الآن أصلّيها إذا سقط القرص» «1».

فإنّ هذا الخبر كما ترى دالّ على شكايته عليه السّلام عن أصحابه، حيث يذيعون قوله عليه السّلام: مسّوا بالمغرب قليلا بواسطة صعودهم مثلا المواضع المرتفعة لاستعلام الحال و التأخير إلى اشتباك النجوم بحيث صاروا معروفين بذلك عند العامّة، فمن هذا السبب التجأ عليه السّلام بأن يصلّي هو بنفسه عليه السّلام في وقت سقوط القرص لإخراج ذلك عن أذهان العامّة و إصلاح ما أفسده أصحابه.

و كما أنّ هذا الخبر يوهن في أصالة الجهة في الخبر المتقدّم الحاكي لفعله عليه السّلام،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 15.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 74

كذا هو موهن لخبر ابن الحكم المتقدّم المشتمل على إصرار السائل و استنطاقه

الإمام بتكرار السؤال، فإنّه يوجب زوال الأصل المذكور عنه و إن فرضنا صحّة سنده كما في طريقه الذي رواه الصدوق.

لا يقال: فلا داعي إذن إلى حمل أخبار الغروب على المعنى الذي تقدّم منك من جمع الحكومة بينها و بين أخبار الذهاب، بل يتعيّن القول بسقوطها عن درجة الحجّية، لاختلال أصلها الجهتي.

لأنّا نقول: لا داعي إلى الحمل على التقيّة ما دام الجمع العرفي المقبول ممكنا، و الغرض من البيانات المتقدّمة إثبات إمكانه و أنّ إطلاق غروب الشمس و لو بطريق التوسّع على خفائها عينا و شعاعا عن النظر ليس أمرا مستوحشا، و يكون غاية الأمر انفصال القرينة على هذا التوسّع عن مجلس الخطاب و الإتيان بها في أخبار الذهاب، و هو لأجل مصلحة لا بأس به.

و بالجملة، ما دام للكلام محمل على طبق قانون المحاورة موجود لا تصل النوبة إلى أصله الجهتي.

و ممّا يصحّح هذا التوسّع في كلمة غروب الشمس أنّ إطلاق الشمس على شعاعها إطلاق مجازي شائع، فيشار إلى الشعاع الواقع في البيت أنّه شمس، و إلى شعاع السراج أنّه سراج، فليس من المستنكر إطلاق غروب الشمس و إرادة زوال شعاعها، و لا يخفى أنّ الباقي في أفق المغرب شعاع الشمس، و ربما يطلقون توسّعا عليه اسم الشمس، فغروب الشمس بهذا الإطلاق إنّما يتحقّق إذا زال ذلك الشعاع أيضا المستلزم لزوال الحمرة من جانب المشرق.

و حاصل الكلام أنّ مقتضى التأمّل تعيّن الأخذ بأخبار ذهاب الحمرة التي هي بعد ملاحظة ما ورد منها في باب الإفاضة من عرفات تبلغ حدّ الكثرة، إذ المعارض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 75

لها إمّا الأخبار البالغة حدّ التواتر المشتملة على التحديد بالغروب، و قد عرفت تعيّن القول بحكومة أخبار

الذهاب عليها، و إمّا الأخبار الحاكية لفعل المعصوم، و قد عرفت جوابها أيضا، و إمّا خبر ابن الحكم حيث عرفت عرضيّته لأخبار الذهاب بملاحظة ثبوت لسان الحكومة له أيضا، فالتعارض وقع في مقام الشارحيّة، و قد عرفت ممّا تقدّم آنفا اختلال جهة صدوره أيضا.

مع أنّه ربما يقال بمعارضته مع أخبار الغروب أيضا بملاحظة أنّ قوله عليه السّلام فيه بعد السؤال عن وقت المغرب: إذا غاب كرسيّها، معلوم أنّ الضمير فيه يعود إلى الشمس، فلا بدّ إمّا من إرادة نفس الشعاع من الشمس المرجع للضمير توسّعا حتّى يصحّ إضافة الكرسي إليه، و إمّا من إرادة مجموع الشعاع و الجرم، ضرورة أنّ إرادة نفس الجرم يوجب صيرورة إضافة الكرسي غلطا، لعدم صحّتها لا بنحو البيانيّة و لا بنحو اللاميّة، إذ ليس الشي ء كرسيّا بقول مطلق و لا كرسيّا لنفسه.

فمفاد هذا الخبر أنّ المعتبر غيبوبة كرسيّ الشمس، لا غيبوبة نفسها، كما عبّر بها في أخبار الغروب، و لا ذهاب الحمرة كما اشتملت عليه الأخبار الأخر.

ثمّ لا يخفى أنّ كثرة عدد أخبار ذهاب الحمرة بملاحظة ما ورد منها في هذا الباب و بابي الصوم و الإفاضة من عرفات تغني عن تتبّع سندها.

ثمّ قد يجعل من الأخبار الشاهدة على تقيّة الإمام عليه السّلام في أخبار الغروب مكاتبة عبد اللّٰه بن وضّاح المتقدّمة بأحد تقريبين: إمّا حمل كلام السائل على الشبهة الموضوعيّة و أنّ الإمام عليه السّلام إنّما أرجع السائل إلى الانتظار حتّى يذهب الحمرة بصورة الاحتياط و كونه مورثا للجزم بغيبوبة القرص و مخرجا عن الشبهة الموضوعيّة لأجل التقيّة.

و إمّا حمل كلامه على الشبهة الحكميّة و أنّ الإمام عليه السّلام إنّما لم يظهر مذهبه، بل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص:

76

أظهر أنّه لا يدري بالواقع، فيحتاط لذلك لأجل التقيّة، فإنّ الذي يتّقى منه جعل مذهب و تأسيس أساس في قبال العامّة، و أمّا مجرّد أنّه لا يدري فلا تتولّد منه فتنة.

و الحقّ أنّ التقريب الأوّل لا مسرح له في الرواية، فإنّه كيف يمكن حمل الجواب على الشبهة الموضوعيّة مع شدّة تكرار السائل الفقرات الشاهدة بطريق القطع بحصول الاستتار، فأيّ تقيّة يحصل لو قال السائل: هذا الاحتياط لأجل أيّ شي ء، إن كان لأجل احتياط الاستتار، فقد فرضت الجزم بتحقّقه، فما معنى الاحتياط لأجله؟ فلم يبق إلّا لأجل الاحتياط في الحكم، و هو الذي يتّقى منه.

و أمّا التقريب الثاني فالإنصاف عدم كونه مرضيّا، فإنّ الإمام عليه السّلام كان يصلّي عند سقوط القرص، فإن كان أداء التقيّة ممكنا بما ذكر تعيّن أن يصبر و يقول:

إنّي غير عالم بالواقع، و أريد أن أحتاط، مع أنّه لم يعهد في مورد من الموارد صدور التقيّة بإظهار الجهل بالواقع و إرادة الاحتياط.

و إذا انسدّ باب التقيّة للإمام في هذه المكاتبة تعيّن أن نقول: إنّ قوله عليه السّلام:

و تأخذ بالحائطة إلخ ليس كبرى لقوله عليه السّلام: أرى لك أن تنتظر، حتّى يكون المعنى:

الانتظار أراه لك، لأنّه احتياط للدين، بل هو فقرة مستقلّة و حكم مستقلّ، فإنّه بعد أن حكم و أوجب عليه الصبر إلى ذهاب الحمرة أراد أن ينبّهه أنّ الصبر لا بدّ أن لا يكون مثيرا للفتنة، كأن يكون بمشهد منهم بحيث يظهر عندهم أنّ لك مذهبا غير مذهبهم، بل الصبر لا بدّ و أن يكون في غير مشهدهم، أو في مشهدهم لكن لا بعنوان أنّه مذهبه، بل بعنوان أنّه مبتلى بشغل مهمّ و التأخير جائز، فيرى نفسه مشغولا بفعل و

يرى أنّ التأخير لأجل هذا الاشتغال، و إلّا كان هو أيضا مبادرا إلى الصلاة مثلهم، ثمّ إذا حصل الذهاب بادر إليها، فمقصود الإمام عليه السّلام تقيّة السائل، يعني إنّك لا بدّ لك الصبر، و لكن مقرونا بالاحتياط و المحافظة لدينك و مذهبك، لا أنّه عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 77

بصدد التقيّة في إبراز الفتوى بصورة الاحتياط.

ثمّ إنّه حكى الأستاذ دام ظلّه عن صلاة بعض أجلّة العلماء رضوان اللّٰه عليهم أنّه حكى عن جمع من المتقدّمين و كثير من المتأخّرين الذهاب إلى حمل أخبار الذهاب على الاستحباب جمعا بينه و بين أخبار الاستتار، و هو و إن كان متمشّيا في بعض أخبار الذهاب و هو غير المشتمل منها على التفسير و الملازمة بين الأمرين، و لكنّ المشتمل منها على ذلك آب عنه كما هو واضح.

مضافا إلى ما يستفاد من جملة من الأخبار الأخر من أنّ الفضل في صلاة المغرب إنّما هو بتعجيلها في أوّل وقتها و أنّها ليست كالصلوات الأخر موسّعا وقت فضلها، كما هو المستفاد من قولهم عليهم السّلام: وقتها وجوبها، سواء فسّر الوجوب بغروب الشمس أو بوجوب الصلاة، يعني أنّ وقت فضلها وقت وجوبها بلا مهلة.

و لهذا قال في الكافي: المغرب يحصل بذهاب الحمرة إلى ما يسامت الرأس، و الشفق هو الحمرة المغربيّة، و ليس بين هذين الذهابين إلّا قدر ما يصلّى المغرب و نوافلها بتؤدة، و قد تفقّدت ذلك غير مرّة «1»، انتهى. و الحاصل يكاد يحصل القطع بعد ملاحظة النصوص بفساد هذا الجمع.

ثمّ المراد بما في مرسلة ابن أبي عمير من أخبار الذهاب من قوله: «وقت سقوط القرص و وجوب الإفطار من الصيام أن تقوم بحذاء القبلة و تتفقّد

الحمرة التي يرتفع من المشرق، فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار و سقط القرص» «2» هو ارتفاع الحمرة من تمام ربع الفلك الشرقي، و إلّا فليس جواز الحمرة من فوق الرأس أمرا محسوسا كما هو واضح، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

______________________________

(1) الكافي 3: 280، باب وقت المغرب و العشاء، ذيل الحديث 9، نقلا بالمعنى.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 78

المسألة الخامسة في امتداد وقت العشاءين إلى نصف الليل اختيارا

لا يخفى عليك جريان مثل ما تقدّم من الكلام في الظهرين هاهنا، أعني: في العشاءين في مقام الجمع بين طائفتي الأخبار المحدّدة لوقتها بنصف الليل، مثل مرسلة داود بن فرقد، و المحدّدة لوقت المغرب بربعه أو ثلثه أو زوال الشفق و هو الحمرة المغربيّة.

و مجملة أنّ الأمر دائر بين أحد أمرين: إمّا التزام التقييد في الطائفة الاولى و القول بأنّ امتداد وقتهما إلى الانتصاف إنّما هو للمختار بالنسبة إلى قطعة و للمضطرّ بالنسبة إلى أخرى، و إمّا القول بأنّ أضافه الوقت في الطائفة الثانية إنّما هي بملاحظة المطلوبيّة الاستحبابيّة، و هي إضافة شايعة، فيطلقون أنّ وقت عمل كذا كذا، و يريدون أنّه وقت فضله و استحسانه، و هذا كما ترى أنسب بمقام الجمع، لسلامته عن التقييد المذكور و شيوع الإضافة المذكورة.

و من هنا يفهم الجواب عمّا يقال في مقام ترجيح الأوّل بأنّ هنا طائفة ثالثة مفصّلة بين صاحب العلّة و الحاجة و المسافر و مطلق ذوي الأعذار و بين غيرهم بجعل النصف غاية لوقت الأوّل و زوال الحمرة المغربيّة غاية لوقت الثاني، فإنّك عرفت أنّ هذا الإطلاق أيضا في مقام التأكيد و المبالغة لفضل أوّل الوقت حتّى كأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)،

ج 1، ص: 79

ليس غيره وقتا إلّا لذوي الأعذار، كما ورد في تأخير صلاة الصبح من أنّه صلاة الصبيان، هذا.

مضافا إلى أنّ المراد بالعلّة و الحاجة في الأخبار المذكورة كما لا يخفى على من راجعها مطلق الحوائج العرفيّة و لو لم يبلغ حدّ الاضطرار الشرعي، و مثله لا يصلح أن يصير مجوّزا لتأخير الواجب عن وقته، فهو أيضا شاهد على التوسعة، و لكنّ الفضل إنّما هو في التعجيل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 80

المسألة السادسة في امتداد وقتهما الاضطراري إلى طلوع الفجر

لا إشكال في أنّ تأخير العشاءين عن نصف الليل عمدا محرّم، فليس ما بعد النصف وقتا اختياريّا قطعا، و لكن هل يكون وقتا اضطراريّا إلى طلوع الفجر بمعنى أنّه لو عرض له عذر عن الصلاة قبل النصف مثل النوم و النسيان و الحيض، أو عصى بالتأخير عمدا إلى النصف، يأتي بهما بعده إلى طلوع الفجر بعنوان الأداء، أو لا يكون كذلك، فلا يجب المبادرة بالإتيان قبل الطلوع، و إنّما هو كسائر الأوقات، فلو بادر يأتي بهما بعنوان القضاء؟ المشهور هو الثاني، و لكن هنا أخبار دالّة على الأوّل.

مثل ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن شعيب، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إن نام رجل و لم يصلّ صلاة المغرب و العشاء، أو نسي فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما، و إن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، و إن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس، فإن خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصلّ المغرب و يدع العشاء الآخرة حتّى تطلع الشمس و تذهب شعاعها ثمّ

ليصلّها» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 62 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 81

و قريب منه إلى قوله: قبل طلوع الشمس روايتان أخريان رواهما الشيخ أيضا عن الحسين بن سعيد، إحداهما: عن فضالة عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، و الأخرى: عن فضالة عن ابن سنان يعني عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام.

و مثل ما رواه الشيخ أيضا بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن عليّ بن يعقوب الهاشمي عن مروان بن مسلم عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، قال: «لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة، لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس، و لا صلاة الليل حتّى يطلع الفجر، و لا صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس» «1». و روى الصدوق نحوه.

و مثل ما ورد في باب الحائض إذا طهرت من الحيض في آخر الليل قبل طلوع الفجر أنّها صلّت المغرب و العشاء، كما أنّها إن طهرت قبل غروب الشمس صلّت الظهر و العصر، و هذه أربع روايات مذكورة في الوسائل في باب الحيض.

إحداها عن عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، و الثانية عن داود الدجاجي عن أبي جعفر عليهما السّلام، و الثالثة عن عمر بن حنظلة عن الشيخ عليه السّلام، و الرابعة عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «2»، هذه أخبار المسألة.

و أمّا الكلام فيها فمجمله أنّ مقتضى الجمع فيها و بين ما دلّ على انتهاء وقت العشاءين بانتصاف الليل هو القول بأنّ لهما وقتين اختياريّا و اضطراريّا، و الاختياريّ هو الممتدّ إلى النصف،

و يكون الأربع ركعات من آخره مختصّا بالعشاء، و أمّا الاضطراريّ فهو ممّا بعد النصف إلى طلوع الفجر مع اختصاص

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب المواقيت، الحديث 9.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 49 من أبواب الحيض، الأحاديث 7، 10، 11 و 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 82

آخره بمقدار أربع ركعات أيضا بالعشاء.

و لا يجري هنا ما تقدّم من وجه الجمع بين أخبار زوال الحمرة و الربع، و بين أخبار النصف من الحمل على الفضيلة و الإجزاء، إذ لا تصريح في هذه الأخبار إلّا بأنّه متى زال العذر من قبيل الحيض أو النوم أو النسيان و هو في آخر الليل قبل طلوع الفجر يجب إتيان العشاءين، و ليس في هذا المضمون إطلاق بالنسبة إلى المختار حتّى نقول بأنّه يجوز من أوّل الليل تأخير الصلاتين عمدا إلى ما قبل الفجر.

نعم قوله في رواية عبيد بن زرارة: لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس، و لا صلاة الليل حتّى يطلع الفجر، و لا صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس «1» ليس فيه ذكر لاسم اليوم و شبهه، و لكنّ التعبير بقوله: لا تفوت، غير التعبير بأنّه وقت، بل إنّما هو كقولنا: ليس بقضاء، و نحن و إن كنّا و هذا التعبير قلنا بأنّه لا إثم في التأخير عن النصف، و لكن يمنعنا عن هذا ما اشتمل من الأخبار على أنّ من نام عن العشاء إلى نصف الليل فالملك يقول: «لا أنام اللّٰه عينه» «2»، و في آخر: «فليقض صلاته فليستغفر اللّٰه» «3»، و في ثالث: «يصلّيها و يصبح صائما» «4»، و في رابع مرسل:

«يقضي و يصبح صائما عقوبة» «5».

و أيضا ما في مرسلة داود بن

فرقد من اختصاص مقدار أربع ركعات قبل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب المواقيت، الحديث 9.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب المواقيت، الحديث 8.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 83

النصف بالعشاء لا يناسب كونه وقت الفضيلة، فيتعيّن الجمع بما ذكرنا.

و لا ينافيه قوله: يقضي، في روايتين، لأنّه لا ظهور في لفظ القضاء في لسان الأخبار في ما هو المصطلح الآن، بل الظاهر منه هو الأداء و الإتيان، هذا.

ثمّ هذا كلّه في المضطرّ الغير الاختياري، و أمّا من أخّر الصلاة عمدا عصيانا حتّى بلغ النصف فهل يمكن استفادة الحكم الأدائيّة المذكورة بالنسبة إليه أيضا؟

فنقول: يمكن من وجهين:

أحدهما: إطلاق رواية عبيد، و الآخر: روايات الحائض، بضميمة ما دلّ على أنّ الحائض متى طهرت في وقت الصلاة و هي قادرة على الغسل ففرّطت حتّى خرج الوقت كان عليها القضاء، و إن قامت في تهيئة ذلك فجاز الوقت فليس عليها قضاء.

و الحاصل منها قضيّتان: الاولى: أنّ الحائض متى طهرت في الوقت كان عليها الأداء، و إن عصت فالقضاء، و الثانية: أنّها متى طهرت بعد مضيّه فلا قضاء عليها.

و من المعلوم أنّ المراد بقوله عليه السّلام: متى طهرت في وقت الصلاة هو الوقت المجعول لعامّة الناس المصلّين، لا المجعول لخصوص الحائض عند ارتفاع حيضها، فيصير المحصّل بعد هذه الضميمة أنّ الحائض متى طهرت في وقت صلاة الناس المصلّين كان عليها أداء الصلاة، و إلّا فلا.

ثمّ يضمّ هذا إلى قوله في أخبار الباب الواردة في الحائض: إذا

طهرت المرأة قبل طلوع الفجر صلّت المغرب و العشاء، فيستفاد من مجموعهما أنّ هذا وقت لعامّة الناس، إذ لو كان مخصوصا بالحائض المرتفع حيضها لكان اللازم تخصيص الخبر المتقدّم الدالّ على أنّها لو طهرت بعد خروج وقت سائر الناس لا يجب عليها الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 84

لا أداء و لا قضاء.

و بالجملة، ما ذكرنا جمع مقبول عرفي لا تصل معه النوبة إلى الحمل على التقيّة و لو فرض مطابقة مضمونها مع الفقهاء الأربعة.

نعم لو كان السند في جميع هذه الأخبار مخدوشا أو لم يكن السند مخدوشا و لكن تحقّق إعراض الأصحاب أو جلّهم عن العمل بها كان هو مطلبا آخر، أمّا الأوّل فبعض الأخبار المذكورة معتبر السند، كما يعلم بالمراجعة، و أمّا الثاني فمحتمل، و لهذا يكون الأحوط عدم تعرّض الأداء و القضاء بعد نصف الليل، خصوصا بالنسبة إلى العامد في تأخيره.

ثمّ إنّ الكلام في العشاءين من حيث اختصاص أوّل الوقت بالمغرب و آخره بالعشاء أو اشتراك تمام الوقت بينهما هو ما تقدّم في الظهرين حرفا بحرف، فلا يحتاج إلى الإعادة، و قد عرفت تقوية الاختصاص هناك و أنّه بالنسبة إلى حال اشتغال الذمّة بالشريكة، و أمّا مع فراغها عنها فعموم أدلّة الاشتراك سليم عن التخصيص.

مضافا إلى استفادة ذلك من قوله عليه السّلام: إلّا أنّ هذه قبل هذه، و قد تقدّم وجه الاستفادة، كما أنّك عرفت أنّ مقدار وقت الاختصاص يتفاوت على حسب اختلاف أحوال المكلّف في وجدان الشرائط و عدمها و غير ذلك و أنّ الاختصاص إنّما هو بالإضافة إلى الشريكة دون قضاء صلاة آخر، فلا مانع من إتيان قضاء في هذا الوقت و إن عصى بترك صاحبة الوقت و هو

من صغريات مسألة الضدّ.

و أمّا قضاء الشريكة فقد تقدّم أنّه ليس في الأخبار ما ينفيه غير رواية الحلبي المشتمل على أنّه «إن خاف فوت إحدى الصلاتين فليبدأ بالعصر و لا يؤخّرها فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 85

فإنّ مقتضاه أنّه لو أخّر العصر كان الصلاتان فائتتين، و إطلاق وجود الفائتة لا يصحّ بعد التدارك، فلا يقال في من كان عليه فوائت و قضاها: إنّ عليه فوائت، فهنا لو كان صلاة الظهر عند تقديمها في وقت اختصاص العصر واقعة قضاء لما صحّ أن يقال: إنّ هذا الشخص يكون بعد هذه الصلاة عليه فائتتان إحداهما الظهر، و الأخرى العصر، فإطلاق ذلك شاهد على بطلان الظهر المذكور قضاء أيضا.

ثمّ إنّ وقت صلاة الصبح ليس فيه بحسب الأدلّة إشكال يحتاج إلى التكلّم و البحث، فالأولى الصفح عنه و الاشتغال بما هو أهمّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 86

المسألة السابعة في بيان قاعدة «من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت كلّه»

فنقول و على اللّٰه التكلان و منه المستعان في كلّ آن: إنّ هنا فروعا فرّعها الأصحاب على القاعدة المذكورة، و ظاهرهم الإجماع على تلك الفروع.

منها: أنّه لو بقي إلى الغروب بمقدار خمس ركعات يجب أداء الظهرين معا في الحضر، و في السفر لو بقي مقدار ثلاث ركعات فكذلك، و لو بقي مقدار خمس ركعات إلى نصف الليل وجب إتيان العشاءين في الحضر، و في السفر لو بقي مقدار أربع ركعات فكذلك، و هكذا لو بقي إلى طلوع الشمس مقدار ركعة وجب أداء الصبح.

و العمدة التكلّم في مدرك القاعدة من الأخبار و النظر في مقدار دلالتها، فاعلم أنّ أخبار الباب أربعة:

أحدها: ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده

عن سعد بن عبد اللّٰه، عن أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدّق بن صدقة، عن عمّار ابن موسى، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «قال: فإن صلّى ركعة من الغداة ثمّ طلعت الشمس فليتمّ و قد جازت صلاته» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 87

و الثاني: ما رواه أيضا بالسند المتّصل إلى أصبغ بن نباتة قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة» «1».

و الثالث: ما روي عن عليّ عليه السّلام: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» «2».

و الرابع: ما روي عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه «قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» «3».

و هذان الأخيران لم يعثر عليهما في طرق الخاصّة، و لكن يجبر ضعفهما بالعمل، حيث إنّ الأصحاب أفتوا بمضمونهما على وجه يعلم استنادهم إليهما.

إذا عرفت ذلك فنقول: لو كنّا نحن و الأخبار الثلاثة الأول أمكن أن نحملها على الإرشاد إلى مطلب فهمناه من دليلي الأداء و القضاء من أنّ الملفّق من داخل الوقت و خارجه لا يقصر عن الممحّض من خارج الوقت و إن كان خارجا عن المفاد اللفظي لكلّ من الدليلين، نظير الآنية المصوغة من الذهب و الفضّة المختلطين، فإنّها و إن لم يصدق عليها شي ء من عنواني آنية الذهب و الفضّة، إلّا أنّه يمكن القطع بأنّها لا يقصر عن الخالص من أحدهما في حكم الحرمة.

و بالجملة، فالمقصود من الأخبار أنّه يمكن الاجتزاء بهذه الصلاة التي وقعت ركعة منها في الوقت،

و لا يتوهّم لزوم الصبر إلى انقضاء الوقت حتّى يكون تمامها في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 88

خارج الوقت، و على هذا لا يستفاد من الروايات وقت الاضطراري أو تنزيل خارج الوقت بمنزلة الوقت.

و أمّا وجه التخصيص بالركعة مع مجي ء ما فهمناه في نصف الركعة و أقلّ من النصف أيضا فيمكن أن يكون كراهة مقارنة الصلاة لذينك الوقتين أعني: الطلوع و الغروب، فجعل الشارع ما إذا كان المدرك بمقدار الركعة مغتفرا، و أبقى الباقي على الكراهة.

و لكن هذا المعنى في النبوي بعيد، إذ الظاهر منه تنزيل مدرك الركعة منزلة مدرك الصلاة، لكن هو أيضا ذو احتمالين آخرين غير ما فهمه الأصحاب.

أحدهما: أن يكون ناظرا إلى فضيلة الجماعة، بمعنى أنّ أدنى ما يدرك به فضل صلاة الجماعة إدراك ركعة مع الإمام.

و الثاني: أن يكون المراد الاجتزاء بالصلاة التي يؤتى بها بظنّ سعة الوقت، ثمّ ينكشف أنّه إنّما أدرك ركعة منها في الوقت، فلا يكون وقتا بالنسبة إلى العامد، و ذلك بقرينة قوله عليه السّلام: «أدرك» بصيغة الماضي، فيكون نظير من شرع في الصلاة بظنّ دخول الوقت، حيث يجزيه لو وقع جزء من صلاته في الوقت، و لكنّه ليس وقتا للعالم العامد، و هذا الاحتمال يجري أيضا في الثلاثة الأول.

و لكن يمكن دفع هذين الاحتمالين:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر من لفظ الصلاة هو الصلاة بجعلها الأوّلي، لا بما يطرأ عليه من العنوان الثانوي، أعني الجماعة.

و أمّا الثاني: فلأنّ الماضي في أمثال هذا التركيب يفيد معنى المضارع، فيشمل

العامد و غيره.

فيصير المحصّل من الرواية أنّ من أدرك من الوقت بمقدار ركعة فهو كمن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 89

أدرك جميع الصلاة في الوقت، فيجب عليه المبادرة إلى الإتيان، و لا يعامل معه معاملة القضاء، و أمّا أنّ الثلاث ركعات الواقعة في خارج الوقت واقعة حقيقة في الخارج و لكنّها بحكم الداخل، أو أنّه وقت لهما اضطرارا مثل ما بعد نصف الليل بالنسبة إلى العشاءين كلّ محتمل و إن كان ربما يستظهر الأوّل من العبارة، لأنّه قال:

كمن أدرك الجميع، فهو بالتنزيل أشبه.

و على كلّ حال يبقى في المقام إشكال، و هو أنّ غاية ما يستفاد من الرواية كما عرفت أحد الأمرين من جعل الوقت الاضطراري، أو التنزيل منزلة الوقت، و هذا بمجرّده إنّما ينفع إذا لم يصادف الوقت المختصّ المضيّق لصلاة أخرى، كما في صلوات الصبح و العصر و العشاء، و أمّا الظهر و المغرب فمجرّد جعل ركعة منهما في وقتهما منزلة إدراك تمامهما في الوقت لا يقتضي حيازة الوقت المختصّ بالعصر و العشاء الذي قد دلّ الدليل على اختصاص أربع ركعات من آخر الوقت بهما بجميع أجزائها بحيث لا يجوز صرف جزء منها في شريكتهما.

و بعبارة أخرى: الأربع ركعات من آخر الوقت وقت تحقيقي اختياري للعصر و العشاء و ثلاثة أو اثنان منها وقت تنزيلي أو اضطراري للظهر و المغرب، فكيف يحكم بتقديم التنزيلي على التحقيقي أو الاضطراري على الاختياري، فإنّه إذا بقي مقدار خمس ركعات فتوجّه التكليف بالظهر أو المغرب مستلزم لتفويت ثلاث ركعات من أربع العصر و ركعتين من أربع العشاء.

نعم، لو قيل بأنّ التنزيل منزلة الأربع ركعات في وقت الظهر و المغرب ناظر إلى جميع الجهات حتّى جهة عدم

مزاحمة العصر و العشاء كان بلا إشكال، لكن دون إثبات هذا المعنى خرط القتاد.

كما أنّه لو كان مصبّ الدليل خصوص صورة بقاء الخمس ركعات إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 90

الغروب أو إلى النصف أو إلى الفجر كان اللازم صونا للكلام عن اللغويّة هو الالتزام بذلك أيضا، و لكن مصبّ الكلام غير منحصر فيه، و حينئذ ليس المستفاد إلّا أحد المطلبين المتقدّمين من التنزيل أو جعل الوقت الاضطراري، و كلّ منهما كان ساكتا عن مقام المزاحمة مع الواجب المضيّق، و ترجيح أيّ المضيّقين على الآخر.

و الذي أفاده شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه علينا و على جميع المحصّلين فيوض أنفاسه القدسيّة أنّ الإشكال إنّما يتوجّه لو احتسبنا كلّا من الصلاتين مستقلّا في مقام إجراء قاعدة من أدرك، فإنّه يقال: إنّ العصر غير مصداق الآن، لأنّ المفروض بقاء خمس ركعات إلى الغروب، و الظهر أيضا فيه الإشكال المتقدّم.

و أمّا إذا لاحظناهما مجتمعين و أوردنا عليهما القاعدة المذكورة، فكما أنّه إذا كان المطلوب للشارع وحدانيّا بهذه الكيفيّة أعني: ثمان ركعات مقيّدة بعدم تجاوز أربع منها عن حدّ الأربع و عدم تجاوز الأربع الأخيرة عن الغروب، ثمّ ورد أنّ من أدرك ركعة فهو كمن أدرك الكلّ كنّا بلا إشكال في صورة إدراك الخمس مصداقا لهذه الكلّية، لأنّا بالنسبة إلى كلّ من الحدّين لا ندرك إلّا ركعة واحدة، فيجري علينا حكم الكلّية.

كذلك الحال بعينه إذا كان الثمان ركعات بالكيفيّة المذكورة مطلوبين للشارع بطلبين مستقلّين، فإنّه أيضا عند عدم بقاء الوقت إلّا مقدار الخمس يصدق علينا أنّا لا ندرك من الصلاة المجعولة الإلهيّة بالكيفيّة التي طلبها الشارع منّا إلّا ركعة في الحدّ الذي جعله الشارع.

و إن شئت توضيح المقام بالمثال فافرض

أنّ المولى أمرك بأمرين مستقلّين بإعطاء كلّ من الزيد و العمرو عشرة دراهم، و إن لم تتمكّن فبقدر الميسور، ثمّ كان الموجود عندك عشرة دراهم فقط، فإنّ العرف حينئذ يحكم بأنّ اللازم دفع العشرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 91

المذكورة إليهما و أنّك لا تقدر على دفع العشرة إلى هذا و العشرة إلى ذاك، فلا بدّ أن تدفع بقدر الميسور، و لا يجوز تخصيص أحدهما بتمام العشرة.

و لا فرق عندهم بين أداء ذلك بكلام واحد كأن يقول: أعط كلّا من الرجلين عشرا، و إن لم تقدر عليه فأعطهما بقدر ميسورك، أو قال ذلك بكلامين مستقلّين، كأن يقول: أعط زيدا عشرا، و إن لم تستطع فبقدر الاستطاعة، ثمّ يقول في مجلس آخر: أعط عمرا عشرا و إن لم تستطع فبقدر الوسع، فإنّ الفرض الأخير أيضا عند العرف في حكم الفرض الأوّل.

و حينئذ نقول في مقام التطبيق على المقام: إنّ الشارع قال لنا: ائت ثمان ركعات قبل الغروب بحيث لم يتجاوز الركعة الرابعة عن حدّها إلى الخامسة، و لم يتجاوز الثامنة إلى الغروب، فإن لم تستطع على محافظة هذه الكيفيّة و أمكنك محافظة الحدّين بمقدار الركعة الواحدة فهو الواجب عليك، غاية ما في الباب أنّ الشارع لم يقل ذلك في كلام واحد، و إنّما فرّقه في ثلاث كلامات.

الأوّل: قال: صلّ الظهر أربع ركعات بحيث لم يتجاوز ركعته الرابعة إلى حدّ الأربع الأخيرة.

و الثاني: قال: صلّ العصر في الأربع الأخيرة بحيث لم يتجاوز إلى الغروب.

و الثالث: كلّما لم تدرك من الصلاة بحسب موظّفها و مقرّرها الشرعي إلّا مقدار ركعة فعليك بمحافظة الموظّف بهذا القدر، و لا شكّ حينئذ أيضا في أنّه إذا صار الوقت مضيّقا على المكلّف

بمقدار خمس ركعات صدق عليه أنّ الشارع وظّف و قرّر في حقّه الثمان بالحدّين، و هو لا يقدر على أداء هذا الموظّف بحدّيه إلّا بمقدار ركعة من كلّ من الحدّين، و الظاهر عرفيّة هذا المعنى، فلا يحتاج إلى الإطالة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 92

المسألة الثامنة في بيان موضوع قاعدة من أدرك

هل المعيار في القاعدة المتقدّمة هو إدراك الركعة بحسب الحال التي عليها المكلّف مع قطع النظر عن هذه القاعدة و جعلها في حقّه، فإن كان موضوعا مع قطع النظر عنها للتيمّم اعتبر إدراك الركعة معه، و إن كان موضوعا كذلك للوضوء أو الغسل اعتبر إدراكها مع أحد الأمرين، فلا يكفي إدراكها مع التيمّم للانتقال إلى التيمّم، بل يحكم بفوت صلاته و صيرورتها قضاء، و هكذا الحال بالنسبة إلى سائر الشرائط من الستر و غيره؟

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 92

قد يقال بالثاني، نظرا إلى لزوم الدور لو قيل بالانتقال إلى التيمّم أو الإبدال الاضطراريّة لسائر الشرائط ببركة هذه القاعدة المفروض توقّف موضوعها أيضا على جعل التيمّم و سائر الإبدال في هذا الحال.

و لكن يمكن دفعه بأنّ الدليل في هذه القاعدة و في جعل الأبدال للشرائط حيثي ليس كلّ منها ناظرا إلى الآخر، فدليل القاعدة متكفّل لإصلاح جهة الوقت من غير نظر إلى سائر الجهات، و دليل جعل الأبدال للشرائط متكفّل لجهة تلك الشرائط من غير نظر إلى غيرها، فالمتألّف من المجموع يكون مشمولا للأدلّة، لكن لا بهيئته المجموعيّة، بل بطريق التفرقة و النظر إلى كلّ جهة منه على حدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 93

عن جهته الأخرى.

فإذا فرضنا أنّ المكلّف لو توضّأ لا يدرك خمسا، و لكن لو تيمّم يدرك

خمسا، فدليل من أدرك من حيث الوقت يجعل له الوقت، و دليل جعل التيمّم الدالّ على أنّه متى دار الأمر بين رعاية الطهارة المائيّة و بين رعاية الوقت فالثاني أولى و يتعيّن التيمّم، يجعل له التيمّم، فيحكم بصحّة صلاته بمجموع الدليلين، و كذا الحال بالنسبة إلى سائر الشرائط.

و استشكل فيه شيخنا الأستاذ أطال اللّٰه بقاه بأنّه إنّما يصحّ هذا فيما إذا جعل الوقت زمانا محدودا مثل عشر دقائق قبل الغروب، إذ حينئذ أمكن أن يقال: إنّ كلّا من دليلي التيمّم و سائر الأبدال و دليل جعل الوقت غير ناظر إلى الوقت، فإذا خيف من فوت العشر دقائق بواسطة تحصيل الطهارة المائيّة أو اللباس الطاهر أو قطع بالفوت بتحصيل ذلك يقال بسقوط الشرطين و الانتقال إلى التيمّم أو الصلاة مع اللباس النجس.

و أمّا إذا لم يكن في البين إلّا عنوان إدراك ركعة من الصلاة فلا محالة هذا يختلف باختلاف أحوال الأشخاص مع قطع النظر عن هذا الدليل، إذ من المعلوم أن ليس المراد ركعة خالية عن كلّ الشرائط و لو كان فاقد الطهورين، بحيث لا يسع الوقت إلّا لركعة بدون شي ء منهما، بل المراد هو الركعة من الصلاة الصحيحة الجامعة للشرائط، و الصحّة و الاستجماع للشرائط لا بدّ من ملاحظتهما بحسب الحال الفعليّة مع قطع النظر عمّا يتولّد من قبل قاعدة من أدرك، إذ لو كان الملحوظ الصحّة و لو بالنظر إلى الشرط المتولّد منها لزم أن يكون النظر في القاعدة إلى ما يتولّد من نفسها و يتأخّر عنها.

فالظاهر أنّ المراد أنّ كلّ مكلّف بحسب تكليفه الفعلي في صلاته من تحصيل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 94

الشرائط الاختياريّة أو الاكتفاء بأبدالها إذا أدرك من الصلاة

المشروعة في حقّه ركعة فهو مكلّف بالمبادرة إلى تلك الصلاة، فإذا فرضنا أنّه صحيح البدن ليس فيه علّة يضرّ به الماء و يكون الماء حاضرا عنده، و لكن ليس الوقت واسعا بقدر الوضوء و الركعة، و كذا لو كان لباسه نجسا و كان تحصيل الثوب الطاهر محتاجا إلى صرف مقدار من الوقت لا يسع معه لإدراك الركعة فهو غير مدرك لركعة من صلاته المشروعة في حقّه.

إن قلت: هذا الكلام يجري بالنسبة إلى ما إذا كان الوقت قبل الغروب بمقدار ثمان ركعات مع التيمّم لا مع الوضوء فلا بدّ أن يقولون بلزوم الوضوء عليه و إن لزم منه دخول بعض الظهر في وقت اختصاص العصر و بعض العصر في ما بعد الغروب، و أنتم لا تلتزمون، بل توجبون عليه في هذا الفرض التيمّم، و لا نعلم بينه و بين مقامنا فرقا، فإنّ الدليل الدالّ على تحديد وقت اختصاص العصر أيضا حدّده بأربع ركعات بحسب حال المكلّف، كما أنّ دليل المقام حدّده بالركعة بحسب حاله على ما قلتم.

قلت: الفارق بين المقامين أنّ الوقت بحسب الذات لو لا أنّ هذه قبل هذه صالح لكلتا الصلاتين، فالوقت المجعول الأصلي للصلاتين إنّما هو من الزوال إلى الغروب، إلّا أنّه بملاحظة الظهر للعصر خصّ مقدار من آخر الوقت بالعصر، فإذا كان الوقت قبل الغروب بمقدار عشر دقائق مثلا و خفنا أنّه لو توضّأنا ما أدركنا كلتا الصلاتين قبل الغروب صدق في حقّنا بالنسبة إلى كلتا الصلاتين أنّا نخاف من فوت الوقت الذاتي المجعول لهذين العملين شرعا، و الدليل قام على أنّه متى خيف من فوت الوقت بواسطة الوضوء وجب التيمّم.

و الحاصل أنّه إن قلنا هناك باشتراك الوقت إلى الغروب فالأمر واضح،

و إن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 95

قلنا باختصاص مقدار العصر من الآخر بالعصر فالوقت إلى الغروب صالح بحسب الذات لكلتا الصلاتين، كما مرّ تقريبه في محلّه، و بهذه الملاحظة يصدق خوف فوت الوقت، أو يقطع به في الفرض الذي ذكرت.

و هذا بخلاف ما نحن فيه، حيث لم يجعل مقدار معيّن لا ذاتا و لا فعلا وقتا اضطراريّا، بل إنّما جعل الضابط إدراك الركعة من الصلاة، و بعد معلوميّة إرادة الصلاة الصحيحة فلا محالة يكون ناظرا إلى أدلّة الشرائط، و من المعلوم أنّا لو أردنا تصحيح التيمّم لا بدّ أوّلا من جعل الوقت في حقّه حتّى يتحقّق في حقّه موضوع خوف فوت الوقت حتّى يشمله دليل التيمّم، و جعل الوقت يكون ببركة هذا الضابط، فكيف يكون ناظرا إلى ما يحصل ببركته؟

ثمّ هذا كلّه في صورة ارتفاع العذر في آخر الوقت أو التأخير العصياني، و هذا بخلاف ما لو حدث أحد الأعذار من الحيض و الجنون و الإغماء و نحوها في أوّل الوقت كما هو المسألة الآتية، و فرض العلم بساعة حدوثه و تأخّره عن أوّل الزوال و أنّه غير واسع للصلاة التامّة مع تمام الشرائط الاختياريّة، و واسع لها بدون تلك الشرائط، فإنّه يمكن أن يقال بجعل الأبدال الاضطراريّة من التيمّم و الصلاة مع النجس أو عاريا في حقّه، كما هو أحد الوجوه الآتية في المسألة الآتية، فإنّ الوقت مجعول من الزوال إلى طروّ العذر و هي دقائق مضبوطة معيّنة، فيصدق في حقّه فوت هذا الوقت المعيّن لو صار بصدد تحصيل الستر أو الساتر الطاهر، أو الماء أو الوضوء، فيكون موضوعا لدليل جعل البدل، و على هذا فيجب عليه الأداء، و مع عدمه يجب

القضاء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 96

المسألة التاسعة في حكم ذوي الأعذار عند طروّ العذر في أوّل الوقت أو أثنائه

إذا حصل للمكلّف أحد الأعذار المانعة عن التكليف بالصلاة كالجنون و الحيض و الإغماء و قد مضى من الوقت بمقدار فعل الصلاة مع الشرائط المعتبرة بحسب حاله و لم يصلّ وجب عليه القضاء بلا إشكال، لعموم أدلّة القضاء.

و أمّا إذا لم يكن زمان الفراغ من المانع متّسعا لأداء الصلاة كذلك فقد يتمكّن من أداء الصلاة مع إسقاط بعض الشرائط أو تمامها، و قد لا يتمكّن من ذلك أيضا، فهل يجب عليه القضاء مطلقا، أو لا مطلقا، أو يفصل بين الصورتين؟

توضيح المقام يبتني على تقديم مقدّمة و هي أنّ الفوت المعلّق عليه القضاء يختلف صدقه باختلاف اعتبار القيود في مادّة المطلوب شرعا أو إطلاق المادّة بالنسبة إليها و اعتبارها بحسب العقل، مثلا عدم النوم و الغفلة و النسيان قيد في التكليف الفعلي بحسب العقل، إذ لا يحسن مع وجود أحدها توجيه الخطاب عقلا.

و أمّا شرعا فربما كان المادّة مطلقة بالنسبة إلى وجود ذلك و عدمه، ففقدان المطلوب بواسطة فقدان الشرط العقلي يسمّى فوتا عرفا، بمعنى أنّهم يقولون: قد فات المطلوب الذاتي عن النائم و الغافل و الساهي، و هذا بخلاف فقدانه من قبل فقدان الشروط التي اعتبرها الشارع في الطلب لا في المطلوب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 97

مثلا عدم إعطاء الكفّارة بواسطة عدم إيجاد شرطه الذي علّق وجوبها شرعا عليه و هو الإفطار مثلا لا يسمّى فوتا، فلا يقال: قد فات من الصائم واجب شرعي و هو الكفّارة.

و الحاصل أنّ الفوت المطلوب لا يصدق بفوت ما كان قيدا للطلب شرعا، و يصدق بفوت ما كان قيدا له عقلا، لا شرعا، فإنّ فقدان الشي ء بسبب فقدان شرط طلبه لا

يسمّى فوتا، فإذا قال المولى: أكرم زيدا إن جاءك، فعدم الإكرام بعدم المجي ء ليس فوتا للمحبوب، و أمّا فقدانه بعد حصول شرط طلبه و إن كان لفقد شرطه العقلي فهو فوت، كما إذا ترك الإكرام بعد المجي ء لأجل عدم القدرة أو عصيانا، فليس الفوت دائرا مدار الطلب الفعلي، كيف و العاجز ليس مكلّفا و مطلوبا منه الفعل طلبا فعليّا، و مع ذلك يصدق أنّه قد فات منه محبوب المولى كالصلاة، و القضاء تابع لصدق هذا العنوان.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في اشتراط طلب الصلاة بدخول الوقت، ففقدانها بواسطة انتفاء هذه المقدّمة ليس فوتا، و لا إشكال أيضا في أنّ الطهارة من حدث الحيض مثلا يكون كالوقت شرطا للطلب لا للمطلوب، لكن هنا ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن يكون الشرط هو الطهارة في جزء من الوقت و لو لم يسع لفعل الصلاة خالية عن تحصيل الشرائط من الستر و الطهارة في البدن و اللباس و الغسل و الوضوء و التيمّم، فلو طهرت المرأة بعد الوقت بهذا القدر كان المطلوب و المحبوب في حقّه حاصلا، فإن أمكنها و لو بعلاج و شرب دواء تأخير حدوث الحيض إلى أن تأتي بالصلاة وجب عليها ذلك، و إن كان الحيض يفاجئها من غير اقتدار منها على دفعه و تأخيره كانت معذورة، لعجزها عن إتيان المطلوب، فبقاء الطهارة على هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 98

شرط المطلوب، و حدوثها شرط للطلب.

الثاني: أن يكون الشرط هو الطهارة في جزء يسع الصلاة مع تحصيل كلّ شرط غير حاصل، فلو وسع الطهارة الترابيّة و الصلاة مع النجس أو عاريا فلا أداء و لا قضاء.

الثالث: أن يكون الشرط هو الطهارة في جزء يسع الصلاة و

الشرائط المطلقة، فلو قدرت على التيمّم و الصلاة بدون الساتر أو مع النجس يجب الأداء، و على تقدير عدم فعله فالقضاء.

و نحن نذكر فروع المبنى الأوّل، و يظهر منه الحال على المبنيين الأخيرين.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: لو بنينا على الأوّل و قلنا: إنّه إذا حصل الطهارة بعد الوقت و لو لم يسع الفعل فضلا عن مقدّماته كفى في حصول المطلوبيّة، فاللازم حينئذ هو ما اختاره كاشف اللثام على ما نقله عنه شيخنا المرتضى قدّس سرّه في مبحث الحيض من طهارته، و هو أنّ مقتضى القاعدة هو الحكم على المرأة المذكورة بلزوم المبادرة إلى الصلاة بتمام شرائطها الاختياريّة إن أمكنها ذلك، و إلّا فاللازم المبادرة إلى الصلاة بدون سائر الشرائط من غير طهارة و الاكتفاء من الطهارة بالترابيّة.

و الفرق أنّ سائر الشروط تسقط عند العجز عن تحصيلها و أمّا الطهارة فهي و إن كانت تسقط بمرتبتها المائيّة، و لكن بمرتبتها الترابيّة لا تسقط، فالفاقد للطهورين غير مكلّف بالصلاة.

و بالجملة، فإن لم تبادر في الصورتين إلى الأداء حتّى خرج الوقت فقد صدق في حقّها الفوت، فيجب عليها القضاء.

فإن قلت: ما وجه مشروعيّة التيمّم لأجل ضيق الوقت؟

قلت: مضافا إلى ما ورد في ضيق الوقت عن تحصيل الماء بالطلب من الأمر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 99

به يمكن استفادته من قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا .. «1» بعد تفسيره في الأخبار بأن لم تتمكّنوا من استعماله، و كذلك من قوله عليه السّلام: «التراب أحد الطهورين» «2» فإنّ عموم المنزلة شامل للمقام.

و على كلّ حال فإن لم يمكنها الصلاة مع التيمّم أيضا فهي معذورة في ترك الأداء، و لكن يجب عليها القضاء، كما هو الحال في النائم،

هذا مقتضى القاعدة في طرف أوّل الوقت، و كذا الحال في جانب آخره.

لكن عارضنا النصّ في جانب آخر الوقت، حيث خصّ وجوب الأداء و القضاء في روايتي عبيد بن زرارة و الحلبي بإدراك مقدار الصلاة مع تمام شرائطها الاختياريّة، فراجع.

ثمّ بهذا فقط لا يتمّ مرام كاشف اللثام، بل مع ضمّ مطلب آخر نبّه عليه شيخنا المرتضى قدّس سرّه و إن كان هو قدّس سرّه فرّع عليه ما لا نسلّمه، و ذلك المطلب أنّ المستفاد من أدلّة عدم قضاء فوائت الحائض أنّ كلّ فوت صلاة استند إلى الحيض فالشارع أسقط قضاءه عن الحائض، و بهذا المطلب يتمّ اعتبار سعة الوقت في جانب الأوّل بمقدار التيمّم، فإنّه إذا لم يسع ذلك أيضا كان الفوت لأجل الحيض، و أمّا مع سعته له كان الفوت إمّا للجهل بطروّ المانع، أو لأجل الإهمال.

و أمّا ما فرّعه شيخنا المرتضى قدّس سرّه على هذا المطلب و لم يرتضه شيخنا الأستاذ دام ظلّه فهو عدم وجوب القضاء في صورة إدراك الصلاة مع التيمّم و إسقاط سائر

______________________________

(1) النساء: 43، و المائدة: 6.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب التيمّم، الحديث 1، و فيه: فإنّ التيمّم أحد الطهورين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 100

الشرائط الاختياريّة و قال بأنّا و إن قلنا بوجوب الأداء حينئذ، لكن لا يلزم منه وجوب القضاء لو تركه.

قال قدّس سرّه: لأنّ الواجب مع فوت الفعل الاضطراري تدارك الفعل الاختياري الذي فات من غير بدل، لا تدارك بدله الاضطراري الذي أمر به فعلا، فإذا فرض استناد فوت الاختياري إلى الحيض مع كون المفروض عدم وجوب تدارك ما فات لأجل الحيض فلا مقتضى آخر للقضاء، انتهى كلامه، رفع في الخلد مقامه.

و

لكنّك خبير بأنّ الصلاة حقيقة واحدة و إن اختلف مصاديقها بحسب اختلاف الأحوال، فالفائت هو حقيقة الصلاة و إن كان تكليفه فعلا عند التكليف بالأداء هو الصلاة مع التيمّم أو مع النجس أو عاريا أو نحو ذلك من أحوال الاضطرار، فيكون مكلّفا بالقضاء و إن كان تكليفه حين القضاء هو الصلاة مع الوضوء أو الغسل و مع سائر الشرائط الاختياريّة.

و بالجملة، فمن كان تكليفه الصلاة مستلقيا مثلا لم يفت منه حقيقة الصلاة، و إذا تركها فقد فاتت منه الصلاة، لا أنّه فات منه الصلاة قائما و لم يأت ببدلها أيضا، فالقضاء متوجّه إليه لأجل فوت الفرد الاختياري من الصلاة، بل فوت الصلاة منه بمعنى فوت فردها الذي وجب في حقّه و هو مخاطب به، كالمسافر و الحاضر، فلا وجه لجعل الفائت في حقّ المضطرّ ما هو المطلوب في حقّ المختار، بل فائت كلّ منهما عند الترك هو الصلاة بفردها المجعول في حقّه.

و إذن ففي مقامنا لم تفت الصلاة من الحائض من جهة الحيض، بل من جهة مسامحتها و تقصيرها و إن كان الفرد الاختياريّ فات منها لأجل الحيض، لكنّ المعتبر هو فوت الصلاة المشروعة في حال الفوت، كما أنّ المعتبر في القضاء هو حال الإتيان به دون حال الفوت، فإن كان حال الفوت فاقد الماء و كان تكليفه الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 101

مع التيمّم ثمّ صار حال القضاء واجدا للماء فيجب عليه القضاء مع الطهارة المائيّة.

و صار حاصل المقام أنّه بعد ضمّ المطلب المذكور أعني سقوط قضاء كلّ فائتة استند فوتها إلى الحيض إلى المبنى المتقدّم أعني كون الشرط طلب الصلاة في حقّ الحائض هو الطهارة في جزء من الوقت مطلقا، و

لو لم يسع فعل الصلاة يكون مرام كاشف اللثام مطابقا للقاعدة.

لكن هنا مطلب آخر و هو أنّ موثّقة يونس بن يعقوب و رواية ابن الحجّاج الواردة أولاهما في المرأة التي دخل عليها الوقت و هي طاهرة فأخّرت الصلاة حتّى حاضت فأجاب بقوله عليه السّلام: «يقضي إذا طهرت» «1». و ثانيتهما: عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس و لم تصلّ الظهر، هل عليها قضاء تلك الصلاة؟ «قال عليه السّلام:

نعم» «2»، يدلّان على أنّ الاعتبار بالصلاة المشروعة في حقّ المرأة بحسب حالها مع قطع النظر عن هذا الضيق العارضي لأجل عروض المانع، فإن كان تكليفها الصلاة مع الطهارة المائيّة و الطهارة الخبثيّة في البدن و اللباس فالمعتبر سعة الوقت لجميع ذلك، و ذلك لأنّه المفهوم من قول السائل في الأولى: فأخّرت الصلاة حتّى حاضت.

و من المعلوم أنّ مراده الصلاة التي تصلّيها بحسب طبعها في كلّ يوم، فيكون الكلام في قوّة أنّه إن دخل عليها الوقت طاهرة و مضى عليها الوقت بقدر صلاتها التي هي تصلّيها فحاضت قبل أن تصلّي فهل يجب عليها القضاء أو لا؟ فإذا أجاب عليه السّلام بأنّها تقضي إذا طهرت فمعنى هذا تقرير السائل في الشرطيّة التي أفادها كلامه، و إلّا فإن لم تكن الشرطيّة مرضيّة للإمام عليه السّلام لكان حقّ الجواب أن يقول: عليها

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 48 من أبواب الحيض، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 48 من أبواب الحيض، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 102

القضاء بمحض الطهارة بعد دخول الوقت، و إن فاجأها الحيض و لم يحصل لها فرصة للصلاة.

ألا ترى أنّه لو قال سائل: إن جاء زيد فهل يجب إكرامه؟ فقلت في جوابه:

نعم، فهذا تقرير

لكلّ من الجزاء و الشرط، لا لخصوص الجزاء و إن لم يكن معلّقا، بل ثابتا في جميع الأحوال، و إلّا كان حقّ الجواب أن يقول: لا اختصاص بحال المجي ء، بل الوجوب ثابت في غير هذه الحال أيضا، و من هنا يعرف كيفيّة تقريب الاستشهاد بالرواية الأخرى أيضا.

فعلى هذا المستفاد يتمّ ما يحكى عن المشهور، بل يدّعى عليه الإجماع من اعتبار مضيّ الوقت بمقدار جميع الشرائط الاختياريّة.

ثمّ الظاهر من المباني الثلاثة المتقدّمة أيضا على ما أفاده و قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه هو المبنى الأوّل، غاية الأمر أنّه يلزم أن يجب عليها لو علمت بالحال و أنّه سيفاجئها الحيض بحيث لا تبقى لها فرصة الصلاة مع مقدّماتها مع الإمكان أن تشرب دواء حتّى تؤخّر الحيض بمقدار الصلاة مع مقدّماتها، و لا بأس بالتزامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 103

الفصل الثالث في أمارات الوقت
اشارة

لا يخفى أنّ المعيار في تشخيص الوقت هو العلم من أيّ سبب حصل، و هل يكفي غيره مع التمكّن منه و لو بغير الصبر و الانتظار حتّى يحصل، أو لا يكفي إلّا بعد تعذّره حتّى بالصبر، أو تفصيل بين صورة التمكّن بالانتظار و التعذّر بغيره فيكفي، و بين صورة التمكّن بغير الانتظار أيضا فلا يكفي؟

لا إشكال في صورة التعذّر المطلق حتّى بالانتظار مع كون الاحتياط الكلّي حرجيّا، كمن كان محبوسا و لم يكن له طريق إلى الاطّلاع على الوقت أصلا و كان اشتغاله في تمام المدّة بالصلاة حرجا عليه، فإنّه حينئذ يجري عليه حكم الانسداد، فإن قلنا بمقالة الشيخ الأجلّ المرتضى قدّس سرّه من التجزّي في الاحتياط كان عليه التجزّي إن أمكنه، و إن لم يمكنه ذلك انتقل لا محالة إلى مراتب الظنّ الأقوى منها، فالأقوى، من

أيّ سبب حصل.

إنّما الكلام في صورة تمكّنه من العلم، فنقول: تارة يكون متمكّنا من العلم بأوّل الوقت بالرجوع إلى العلامات المقرّرة له، و اخرى يتعذّر عليه العلم بأوّله، و لكنّه متمكّن من العلم بأصله بأن يصبر و يؤخّر الصلاة حتّى يحصل العلم، و الذي قيل أو يقال بحجّيته في القسم الأوّل أمور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 104

منها: البيّنة

حسب ما يستفاد من دليل حجّيتها في الموارد الخاصّة حيث يستفاد من تتبّع المجموع أنّ الشارع جعلها في عرض العلم لا اختصاص لحجّيتها بباب دون باب.

مثل ما في رواية مسعدة بن صدقة الواردة في شبهة الحلّية و الحرمة من قوله عليه السّلام: «و الأشياء كلّها على ذلك حتّى تستبين أو يقوم بها البيّنة» «1» بعد البناء على أنّ المراد بها الشاهدان العدلان، لأنّه المتبادر منها في عرف المتشرّعة، كما في قوله عليه السّلام: «و إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان» «2» و قوله عليه السّلام: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» «3».

مضافا إلى أنّ إرادة مطلق الحجّة المعتبرة منها كما وقع في قوله تعالى:

لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «4»، يبعّدها مقابلتها بقوله:

تستبين، فإنّ المناسب حينئذ هو الاقتصار على قوله: حتّى يقوم بها البيّنة، لأنّ الحجّة شاملة للعلم و غيره، و العطف شاهد على المغايرة، فيتعيّن إرادة العدلين.

و مثل ما سمعته من باب القضاء و فصل الخصومات إلى غير ذلك من موارد الفقه من الطهارة و النجاسة و غيرها من الموارد التي من المسلّم عندهم اعتبار البيّنة فيها، بحيث يحصل العلم أو الاطمئنان للفقيه بملاحظتها بأنّ الشارع جعلها حجّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب

به، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب القضاء، الباب 2 من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى، الحديث 1.

(3) راجع الوسائل: كتاب القضاء، الباب 3 من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى.

(4) الأنفال: 43.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 105

شرعيّة في جميع الأبواب، هذا.

و لكن لا يخفى أنّ غاية ما يستفاد من هذه الموارد إنّما هو الحجّية بمعنى عدم الاعتناء باحتمال تعمّدهما الكذب، فلو أخبرا بالوقت عن حسّ بالوقت أو بأمارته الحسّية كزيادة الظلّ في الزوال فهو و إن لم يستندا في أخبارهما إلى الحسّ و احتمل أنّه كان المستند لهما الحدس مثل الاطمئنان الحاصل لهما بالآلة المصنوعة لمعرفة الساعات و الدقائق، فالاعتماد حينئذ محلّ إشكال، لعدم إحراز الموضوع و هو الإخبار الحسّي، و ليس في اللفظ أيضا ظهور في كون مستند الخبر هو الحسّ.

و منها: إخبار العدل الواحد

و حجّيته بمعنى التعبّد به و لو لم يفد الظنّ، بل و لو ظنّ بالخلاف، كما هو الحال في حجّية البيّنة في غاية الإشكال، بل لم يعثر على دليل لها، و ما ورد في باب الاعتماد على إخبار الثقة في أخذ الأحكام و نقل الروايات فالظاهر منها الإيكال إلى الأمر الارتكازي العرفي، و ما هو المرتكز إنّما هو الاعتماد بقول الثقة من حيث حصول الوثوق الفعلي به، لا من حيث كون الشخص موثّقا، و لهذا نراهم يتمسّكون بالوثوق الحاصل من القرائن الخارجيّة غير موثّقية المخبر، مع كون المخبر شخصا ضعيفا أو مجهولا.

و الحاصل أنّ الظاهر رجوع هذا الدليل إلى الدليل الرابع المذكور في كلام شيخنا العلّامة المرتضى قدّس سرّه لحجّية خبر الواحد و هو استقرار سيرة العقلاء على الرجوع إلى خبر الواحد في أمورهم العاديّة، و من المعلوم أنّه لم يعلم بناؤهم

إلّا على الخبر الموثوق به، لا على خبر المخبر الموثوق به، و المجدي لاعتبار خبر الواحد الثقة فضلا عن العدل، بحيث لم يعتن في قباله بظنّ الخلاف فضلا عن احتماله المساوي أو المرجوح هو الثاني، و أمّا الأوّل فلا ربط به باعتبار خبر الثقة أو العدل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 106

و منها: أذان الثقة العارف بالوقت،

و حجّيته أيضا محلّ إشكال، فإنّ الظاهر من أخباره أيضا عدم التعبّد في اتّباعه، بل من باب أنّهم أمناء و مؤتمنون و أشدّ شي ء مواظبة على الوقت، و هذا يوجب الوثوق الفعلي، ففي الحقيقة الحجّة هو الوثوق، و لهذا صرّح في بعض الأخبار بعدم جواز الاعتماد ما لم يحصل العلم، و مع حصول الشكّ.

نعم إن استفيد منها التعبّد بأذان الثقة العارف بالوقت فالظاهر أنّ مناط الحجّية هو الحكاية الحاصلة من أذانه، فكونه عارفا بصيرا بالوقت يسدّ باب احتمال الخطأ على اعتقاده، و كونه موثّقا يسدّ باب احتمال الكذب في إخباره عن معتقده، و لا يفرق في هذا المناط بين أذانه أو إخباره، بل و فعله الكاشف عن دخول الوقت مثل صلاته، كما أنّه الحال في حجّية البيّنة، فلو رأينا عدلين اقتديا بشخص حكمنا بعدالة المقتدى لحكاية فعلهما عن تعديلهما إيّاه.

و لكن لا يخفى أنّه لا ملازمة حينئذ بين اعتبار قول الثقة العارف و بين اعتبار قول العدل الواحد، وجه ذلك أنّ الثقة عبارة عمّن يحصل الوثوق بإخباره لنوع الناس، و أمّا العدل فهو بحسب معناه الواقعي و إن كان عبارة عن صاحب الملكة الرادعة عن المعاصي و منها الكذب، و لكن بحسب الإثبات ربّما لا يكون أدنى مرتبة الظنّ حاصلا بوجود هذه الملكة في من يحكم بعدالته في الظاهر و ترتّب عليه أحكامها،

و ذلك للاكتفاء في إثباتها بحسن الظاهر، و هذا لا يلازم الوثوق بنفس الشخص، و الوثوق أمر وجداني لا يقبل التعبّد، فلا يمكن أن يقال: إنّه منزّل منزلة واجد الملكة واقعا في أحكامه و منها كونه موثّقا، و هذا واضح.

و لكنّ العمدة هو التأمّل في دلالة الأخبار على التعبّد بأذان الثقة بحيث كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 107

كالبيّنة متّبعا و إن لم يفد الظنّ، بل و إن ظنّ بالظنّ الغير المعتبر خلافه، فإنّه و إن كان ورود الأمر باتّباعه كذلك ممكنا و ليس كالعلم، إلّا أنّ الظاهر كونه كأوامر الإطاعة إرشاديّا، و ذلك لأنّه إذا ورد أمر في مقام كيفيّة الامتثال بطريقة يسلكها أهل العرف سواء كان ابتداء متعلّقا باتّباعها أو باتّباع جزئي معلّلا بتلك الكبرى فالإنسان لا يفهم منه التعبّد، بل الإحالة إلى ما هو المرتكز بين العقلاء من دون إطلاق للكلام لغير مورد ارتكازهم.

و بعبارة أخرى: الأخذ بالإطلاق فرع الكون بصدد التشريع و الجعل.

و أمّا إذا كان اللسان لسان الإرشاد و التنبيه فليس أمرا زائدا على المرتكز العقلائي، فلا بدّ من التأمّل في ذلك المرتكز بحسب بناء العقلاء، و مقدار سعته و ضيقه يعلم بالمراجعة إليهم.

و حينئذ نقول: قد ورد على لسان الشارع المقدّس إرجاع الناس إلى المؤذّنين بمثل قولهم عليهم السّلام: «صلّ بأذان هؤلاء، فإنّهم أشدّ شي ء مواظبة على الوقت» «1»، و في آخر: «المؤذّن مؤتمن» «2»، و في ثالث قال السائل: أخاف أن نصلّي الجمعة قبل أن تزول الشمس، «قال: إنّما ذلك على المؤذّنين» «3».

و لا يخفى أنّ سوق ذلك سوق كلام القائل في مقام إرجاعك إلى طبيب أنّه رجل عارف متدرّب في فنّه، و مقصوده إزالة الشكّ و

الخوف عنك، و بعد ملاحظة كون المؤذّنين في تلك الأزمنة أشخاصا مخصوصين منصوبين من قبل السلطان

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 108

مرتزقين منه بإزاء الأذان يعلم شدّة مواظبتهم على الوقت.

فمقصودهم عليهم السّلام في هذه الأخبار هو التنبيه على ذلك و إزالة الخوف و الشبهة عن نفس السامع، فليس في نفس هذه الأخبار تعبّد و إعمال تشريع زائد على ما في أيدي العقلاء من اتّباع قول الموثّقين.

فلا بدّ من ملاحظة أنّه هل بناؤهم فيه كبنائهم في بابي الإقرار و ظواهر الألفاظ يكون لغرض الاحتجاج في مقام المخاصمة، أو يكون لغرض إدراك الواقع و كشفه.

فإن كان من الأوّل كما في البابين المذكورين حيث ليس المقصود التوصّل بإقرار المقرّ إلى كشف واقع الدين المقرّ به أو التوصّل بالظاهر إلى إدراك واقع مراد المتكلّم، بل محض الاحتجاج و أخذ الحجّة على الخصم، فحينئذ لا بدّ من حجّيته، سواء حصل الظنّ منه أو لم يحصل، بل و لو ظنّ لأجل أمارة غير معتبرة بخلافه لا يسقط عن صلاحيّة الحجّية.

و أمّا إن كان من الثاني فالإنسان الطالب لإدراك واقع لا يقدم بمحض الشكّ، بل لا بدّ من تحصيل الانكشاف و لو بأدنى مرتبته.

و الإنصاف أنّا متى راجعنا الوجدان و تتبّعنا سلوك العقلاء مع أخبار الثقات في أمورهم المعاشيّة لا نراهم يعاملون معها معاملة الحجّية بالنحو الأوّل بأن كان مقصود من يرسل مال تجارته إلى البحر أو البرّ باتّباع الثقة أخذ الحجّة على ذلك الثقة

عند انكشاف كذبه في إخباره، بل نظرهم ممحّض إلى إدراك الواقع، و لازم ذلك أن يتوقّفوا لو لم يحصل لهم ظنّ من قول الثقة.

ثمّ هل يعتمدون على حصول الظنّ أيّ مرتبة بلغ، أو يقتصرون على الاطمئنان و الخروج عن تزلزل النفس؟ الظاهر بل المعلوم هو الثاني، فيرجع إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 109

الاطمئنان الآتي تحقيقه.

و منها: الاطمئنان،

فإنّه حجّة عند العقلاء من أيّ سبب حصل، و لو لا ذلك لزم اختلال عامّة الأمور المعاشيّة، لقلّة حصول العلم الحقيقي المانع عن النقيض تحقيقا.

و على هذا، فهذا الطريق العقلائي- حيث لم يردع عنه الشارع- حجّة في كلّ باب إلّا ما ورد فيه النصّ الخاصّ بالردع، كما في باب ثبوت النجاسة، حيث ورد قوله عليه السّلام: «حتّى ترى في منقاره دما» «1».

هذا كلّه هو الحال في ما إذا أمكن تحصيل العلم بأوّل الوقت بالمشاهدة و نحوها، و قد عرفت أنّه لم يقل دليل على حجّية مطلق الظنّ في حقّه، بل لم يقم دليل على حجّية الظنّ الخاصّ أيضا ممّا عدي البيّنة و الاطمئنان في هذا الحال.

و أمّا إذا تعذّر تحصيل العلم بأوّل الوقت إلّا بالانتظار فهل مطلق الظنّ حينئذ حجّة يجوز التعويل عليه مطلقا، أو ليس بحجّة مطلقا، أو يفصل بين ما إذا كان العذر المانع عن تحصيل العلم عامّا لجميع الناس كالغيم و نحوه، و ما إذا كان خاصّا كالعمى و الحبس، فحجّة في الأوّل دون الثاني؟ وجوه أقواها الأوّل، و يدلّ عليه جملة من الأخبار:

منها: موثّق سماعة: «سألته عن الصلاة بالليل و النهار إذا لم نر الشمس و القمر و لا النجوم؟ فقال عليه السّلام: اجتهد رأيك و تعمّد القبلة جهدك» «2».

و هذه الرواية و إن

ذكرها في الوسائل في بحث القبلة و استدلّ بها بعض

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 4 من أبواب الأسئار، الحديث 2 و 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب القبلة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 110

للاجتهاد فيها، و بعض آخر للأعمّ منها و من الوقت، إلّا أنّه استبعده شيخنا الأستاذ دام ظلّه و استظهر كونها مرتبطة بباب الوقت خاصّة من وجهين:

الأوّل: أنّ القبلة لا تشتبه في العمران التي هي المبتلى بها غالبا، فينحصر اشتباهها في القفار البعيدة عن العمران، فلو كان مراد السائل السؤال عن ذلك كان اللازم التقييد بالسفر، فإذا أطلق الكلام كان هذا قرينة على إرادته السؤال عن اشتباه الوقت، لأنّه الأمر الدائر الكثير الابتلاء في الحضر و السفر و العمران و القفار.

و الثاني: أنّ السائل بعد ما فرض انسداد جميع أمارات القبلة عليه و انقطاع يده عنها لا يبقى وجه لإرجاعه إلى الاجتهاد و إعمال الفكر و الرأي، فإنّ الفكر في أمر القبلة ينحصر مدركه في تلك الأمور التي فرض السائل اختفاؤها طرّا.

و هذا بخلاف ما إذا حملنا الكلام على اشتباه الوقت، فإنّ القبلة معلومة، فالإمام عليه السّلام نبّه السائل طريقا لم يتنبّه له و هو إعمال نظره في جهة القبلة و سمتها، فإنّ تلك الجهة محلّ رجاء وجدان شعاع الشمس بواسطة رقّة السحاب، فمن الممكن أن يكون حركة السحاب من الجنوب إلى الشمال، فإذن أقرب المواضع بالانجلاء طرف الجنوب دون الشمال و طرفي المشرق و المغرب، فالإمام نبّه السائل على هذا المعنى و أنّ مطلوبك مرجوّ الحصول في هذا السمت.

و أمّا وجه استفادة حجّية الظنّ فهو أنّه عليه السّلام لم يذكر شيئا سوى اجتهاد الرأي، و هو ليس

دائما موصلا إلى القطع، بل الغالب عدم حصول العلم و حصول أدنى درجة الظنّ أو بقاء الشكّ، فحيث لم يقيّده عليه السّلام بصورة حصول العلم أو الاطمئنان كان دليلا بإطلاقه على الاتّباع في صورة أدنى مرتبة الظنّ الذي هو أدنى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 111

مسمّى الاجتهاد و الرأي.

و حاصل الكلام أنّ معنى هذه الكلمة أعني: «اجتهاد رأيك»: اعمل الوسع في تحصيل الرأي لنفسك، و هو مطلق الاعتقاد الراجح، و لكنّ المستفاد من كلمة «الاجتهاد» أنّه لا يجوز التنزّل إلى الظنّ الضعيف إلّا بعد تعذّر القويّ.

و أمّا احتمال أنّ المقصود من هذا الكلام هو الاجتهاد لأجل تحصيل العلم، فكأنّه قال: اجتهد لعلّه يحصل لك العلم، فيه أنّ الظاهر من العبارة أنّ كلّما صدق عليه الرأي و الاعتقاد هو المرجع، و لا اختصاص له بخصوص فرده المانع عن النقيض.

نعم لو كانت العبارة بهذه الصورة: اجتهد في طلب الوقت، كان ظاهرا في ما ذكر، و أمّا إذا كان على ما وقع في الخبر فالظاهر منه إرجاع المخاطب إلى رأيه بإعمال الوسع و بذله، و لا يخفى أنّه ظاهر في حجّيته في أيّ مرتبة كان إذا لم يتمكّن من ما فوقها، كما أنّه لا فرق بين أسبابه.

و حينئذ فإذا كان السؤال عن اشتباه القبلة بواسطة اختفاء أماراته لا يناسبه الجواب، إذ المفروض أنّ السائل فرض صورة التحيّر و فقد كلّ أمارة و علامة يحصل منها العلم أو الظنّ، و مع ذلك إرجاعه إلى الاجتهاد غير صحيح.

و هذا بخلاف ما إذا كان عن اشتباه الوقت، فإنّه و إن كان مفروضه فقدان أماراته من الشمس و القمر و النجوم، إلّا أنّ الإمام عليه السّلام سدّ باب الاعتراض بقوله بعد

ذلك بلا فصل: «و تعمّد القبلة جهدك»، و معناه و اللّٰه يعلم أنّ هذا الجهد الذي أمرتك به في باب الوقت اعمله و اصرفه في سمت القبلة، فإنّ هناك مظنّة للعثور على أثر من الشمس في النهار و من النجوم في الليل، فإنّ جانب القبلة أقرب من سائر المواضع بظهور أثر الشمس و النجوم فيه، فإنّه يمكن أن يكون سير السحاب من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 112

تلك الناحية، فيكون عند أواخره و قرب انتهائه سحاب ذلك المحلّ رقيقا يمكن رؤية الشعاع من ورائه.

و أمّا إذا فرض اشتباه القبلة فلا يتميّز المشرق و المغرب و الجنوب و الشمال، فلو فرض رؤية شعاع من وراء السحاب في نقطة لا يفيد ذلك شيئا و لا يتشخّص به جانب القبلة.

هذا مع أنّ تقييد السائل الصلاة بالليل و النهار لا يخلو عن إشعار باختلاف الصلاتين في الجهة المشكوك فيها، فلو كان هو الوقت صحّ ذلك، و أمّا إذا كان هو القبلة فلا يناسب مثل هذا التعبير، لعدم الاختلاف في القبلة بين صلاتي الليل و النهار، نعم بين الليل و النهار اختلاف في أمارات القبلة، فكان المناسب على هذا التقدير أن يقول: سألته عن الصلاة إذا لم نر في النهار شمسا و لا في الليل قمرا و لا نجما.

و كيف كان فدلالة الموثّقة على حجّية مطلق الظنّ متدرّجا في مراتبه لعلّه غير قابل للإنكار بعد التأمّل و الإنصاف.

و منها: الأخبار الواردة في باب جواز الاعتماد على الظنّ بالغروب في إفطار الصوم إذا كان في السماء غيم يمنع المشاهدة، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام في حديث أنّه قال لرجل ظنّ أنّ الشمس قد غابت فأفطر ثمّ أبصر

الشمس بعد ذلك، قال عليه السّلام: ليس عليه قضاء «1».

و في رواية الكناني قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل صام ثمّ ظنّ أنّ الشمس قد غابت و في السماء غيم فأفطر، ثمّ إنّ السحاب انجلى، فإذا الشمس

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصوم، الباب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 113

لم تغب، فقال عليه السّلام: قد تمّ صومه و لا يقضيه «1». فإنّه لو لا حجّية الظنّ في حقّ المفطر و المفروض حجّية استصحاب بقاء النهار لولاها كان إفطاره عمديّا موجبا لفساد الصوم، فحيث حكموا عليهم السّلام بتماميّة الصوم و عدم القضاء كشف عن أنّه حجّة شرعيّة كالبيّنة.

و أمّا ارتباطها بما نحن فيه أعني: وقت الصلاة فلأجل اتّحاد وقتهما لقوله عليه السّلام: إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار، و وجبت الصلاة، فإذا جعل الظنّ أمارة على دخول المغرب لأجل إفطار الصوم فمن البعيد كون هذه الحيثيّة مأخوذا.

نعم لو كان أصلا تعبّديا أمكن فيه التفكيك بين الجهتين و لم يكن خلافا للظاهر، و أمّا في الأمارة فهو خلاف الظاهر و إن كان ممكنا، و الحاصل أنّ الإنسان يفهم منه أنّه أمارة المغرب، و معلوم أنّ المغرب وقت للصلاة و الإفطار معا.

و من هنا يعلم وجه التوفيق بين روايتي عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام الواردتين في صلاة الفجر اعتمادا على أذان المؤذّن، حيث حكم في إحداهما بعدم جواز الاعتماد إلّا مع العلم، و في الأخرى بكفاية الظنّ «2»، أمّا الأولى فقد عرفت مطابقتها لما قوّيناه سابقا، و أمّا الثانية فموردها صورة الإتيان بالصلاة قاطعا بالفجر، إلّا أنّه حصل الشكّ الساري بعد الإتيان، غير أنّه لمكان الأذان

ظنّ بالفجر بالظنّ الساري.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصوم، الباب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 58 من أبواب المواقيت، الحديث 4، و الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 114

ففي هذه الصورة المفروض انسداد باب العلم بأوّل الوقت، و عدم إمكان مراعاته، لفرض تحقّق الشكّ الساري بعد الصلاة، فالحكم بإجزاء الظنّ المذكور لعلّه من هذه الجهة، فيكون مقتضى الجمع بين الخبرين أنّه مع إمكان المراعاة و تحصيل العلم لا يجزي أذانهم حتّى يعلم، و مع عدم الإمكان يكفيه الظنّ الحاصل من أذانهم.

و استدلّ أيضا بما ذكر في الجواهر أنّه المرسل المشهور على ألسنة الفقهاء: المرء متعبّد بظنّه، و ذكره أيضا في باب الشكّ في ركعات الصلاة، و لكن ظاهر المرسل عموم العمل بالظنّ، و هو مناف لقوله تعالى إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «1» و تخصيصه بباب الوقت أو باب الشكّ في الركعات أو كليهما مستلزم لتخصيص الأكثر.

هذا مع ضعف سنده بالإرسال، فالأولى ترك الاستدلال به، كما أنّ الأولى ترك الاستدلال بأخبار صياح الديك «2» الواردة في صورة اشتباه الوقت بواسطة الغيم و نحوه.

أمّا أوّلا: فلأنّه على تقدير استفادة الحكم التعبّدي منها لا يجوز التعدّي من موردها أعني: صياح الديك إلى مطلق الظنّ.

و أمّا ثانيا: فلأنّ استفادة الحكم التعبّدي في موردها أيضا محلّ إشكال، و ذلك لأنّ من المحتمل كونها إرشادا و إعلاما على طريق موجب للاطمئنان بالوقت، فإنّ الديك أصواتها ليست كسائر أصناف الحيوان بطريق الاختلاف،

______________________________

(1) يونس: 36.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب المواقيت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 115

بل هي تصوّت بهيئة الاجتماع في وقت مخصوص

لا تتجاوزه باختلاف الفصول، و هو إلهام إلهي في هذا الحيوان، فمن المحتمل أنّه كان في زمان صدور هذه الأخبار في بلاد العراق هذا الزمان المخصوص مطابقا للزوال، و الإمام عليه السّلام كان أخبر عن هذا الواقع.

و لا يخفى أنّا أيضا إذا جرّبنا و رأينا في بلد عند صفاء الهواء مطابقة اجتماعها على التصويت مع الزوال كان عند الغيم أمارة اطمئنانيّة على الزوال، و لا يجوز بمجرّد ذلك الاكتفاء في كلّ زمان و في كلّ بلد باجتماع الديوك في التصويت في الحكم بالزوال حتّى في بلد العراق، و ذلك لاحتمال اختلاف البلدان- كما ادّعي تجربته- و الأزمان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 116

مسألة في الحكم بالإجزاء عند انكشاف الخلاف و دخول الوقت في الأثناء

لو انكشف له فساد اعتقاد الوقت بعد الصلاة و قد دخل الوقت في أثنائها و لو قبل الجزء الأخير منها، فالمشهور حكموا بالإجزاء و الصحّة.

و الأصل في ذلك رواية إسماعيل بن رياح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت و أنت ترى أنّك في وقت و لم يدخل الوقت فدخل الوقت و أنت في الصلاة فقد أجزأت عنك» «1». و ضعف الخبر بإسماعيل- لو كان- فهو منجبر بالعمل، حيث لا مستند لهم سواه.

و احتمال استنادهم إلى قاعدة أجزاء الأمر الظاهر كما ترى، مضافا إلى أنّه غير صحيح في صورة القطع، لأنّه من خيال الأمر، لا الأمر الظاهري.

هذا مضافا إلى أنّ الراوي عن إسماعيل هو ابن أبي عمير، و هذا من أمارات الوثوق، و على أيّ حال الظاهر استجماعه لشرائط الحجّية.

و أمّا الكلام في دلالة الخبر، فاعلم أنّ هنا صورا بعضها مقطوع الدخول في مدلول الخبر، و بعضها مشكوك، و بعضها مقطوع العدم، و ذلك لأنّ الدخول في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب

الصلاة، الباب 25 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 117

الصلاة تارة يكون بالقطع، و اخرى بالظنّ المعتبر، و ثالثة بالشكّ الأعمّ من الظنّ الغير المعتبر و غيره، و كذلك تبيّن الخلاف و دخول الوقت في الأثناء أيضا تارة يحرز بالقطع و اخرى بالظنّ المعتبر، و ثالثة يشكّ شكّا ساريا في الاعتقاد السابق.

أمّا صورة الإحراز القطعي في كلّ من الحالين فلا إشكال في مشموليّتها للخبر و محكوميّتها بالصحّة و الإجزاء.

و أمّا إذا ظنّ في الابتداء بالوقت بأمارة معتبرة ثمّ انكشف الخلاف فشموله محلّ إشكال ينشأ من ظهور كلمة «ترى» في قوله: و أنت ترى أنّك في وقت، في العلم، و لا أقلّ من الشكّ في شمولها للظنّ، و قد تقرّر في الأصول أنّ كلّ حكم أخذ في موضوعه العلم لا يكفي في ترتيبه الأمارة الظنّية، لأنّ دليل الحجّية إنّما يفيد بالنسبة إلى ترتيب آثار الواقع، لا في ما للعلم في ترتّبه مدخليّة.

نعم، إن كان مدخليّة العلم أيضا بعنوان أنّه أحد مصاديق الحجّة المعتبرة حتّى يكون الموضوع أو جزئه قيام الحجّة المعتبرة، يكفي حينئذ الأمارة الظنّية، لكونها حجّة معتبرة، لكن من أين لنا أنّ العلم في هذا الحكم أخذ موضوعا بهذا العنوان، لا بعنوان خصوصيّته و كونه مانعا عن النقيض، و ذلك لأنّ الحكم المرتّب عليه غير مناسب لشأن طريقيّته و كاشفيّته عن الواقع، بل يناسب جهة خصوصيّته، لأنّ شأن الطريق أن يكون كشف خلافه موجبا للإعادة، فإذا حكم عليه بالإجزاء ناسب عنوانه الخصوصي، و مع هذا الاحتمال لا يجوز الإسراء إلى غيره، لأنّ الحكم على خلاف القاعدة.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ «ترى» من مادّة الرأي، و هو مطلق الاعتقاد الشامل للظنّ، و

حينئذ فإمّا أن يقال بكونه في مقام الإطلاق، فيصير دليلا على حجّية مطلق الظنّ و لو في غير الغيم و نحوه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 118

أو يقال بأنّه ليس من هذه الجهة في مقام البيان، بل أحال الأمر من هذه الجهة إلى محلّه، فيكون دليلا على سريان الحكم في الظنون الخاصّة، و لكنّ الأوّل في غاية البعد كما لا يخفى، فإنّ المطلق مسوق لحكم آخر.

و أمّا الثاني فالإنصاف تماميّته، و أمّا ما ذكرنا من احتمال مدخليّة خصوصيّته بملاحظة كون هذا الحكم غير مناسب للطريقيّة، فيه أنّ هذا الحكم و إن كان كذلك، إلّا أنّ العلم في مقام تعيين الوقت لا إشكال في طريقيّته محضا، فكأنّه قال: إذا أحرزت الوقت بقواعده المقرّرة في محلّه لكيفيّة الإحراز و شروطه فكذا، و من المعلوم عموم الكلام حينئذ لما سوى القطع من الظنون الخاصّة.

و هذا بخلاف التعدّي إلى كلّ ظنّ، لأنّه فرع كون المتكلّم في مقام الإرجاع إلى الرأي و الاجتهاد في تشخيص الوقت، و ليس كذلك، بل هو موكول إلى محلّ آخر.

فكما لا يجوز التمسّك بإطلاق قوله: صلّيت، لما إذا صلّى بأيّ كيفيّة و لو بدون الطهارة، فكذا لا يمكن بإطلاق قوله: و أنت ترى أنّك في وقت. هذا كلّه بالنسبة إلى حال الشروع في الصلاة بإحراز الوقت.

و أمّا بالنسبة إلى دخول الوقت في أثناء الصلاة فحيث لم يؤخذ الإحراز هنا قيدا أصلا، بل المعتبر نفس واقع الدخول في البين فلا محالة لا بدّ من التعميم لصورة القطع و قيام الظنّ المعتبر على الدخول في البين من غير فرق بين حصولهما في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها، بل و لو شكّ في الدخول في الأثناء بمعنى

أنّه لا يدري أنّ صلاته بأجمعها وقعت في الوقت أو وقع جزء منها فيه مع القطع بعدم وقوعها تماما قبله و قد كان دخل في صلاته محرزا للوقت بعلم أو علمي كان صلاته مجزية لا بهذا الخبر، بل به و دليل صحّة الصلاة في الوقت.

و لو احتمل وقوع صلاته تماما قبل الوقت بعد ما شرع فيها بإحراز الوقت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 119

بنحو صحيح فإمّا أن يحصل له هذا الاحتمال في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها، فإن حصل في الأثناء فلا يمكن الاجتزاء بهذه الصلاة، للشكّ في الفراغ بعد القطع بالاشتغال.

و دعوى أنّه لا يقطع بالاشتغال في شي ء من الآنات، إذ قبل الوقت لم يتوجّه إليه تكليف، و بعده يحتمل سقوطه بواسطة الإتيان بهذه الصلاة التي يحتمل دخول الوقت في أثنائها.

مدفوعة أوّلا بأنّ الأوامر المشروطة التي يقطع بحصول شرطها، كالمطلقة في اشتغال العهدة بها قبل حصول شرطها، كما قرّر ذلك في الأصول، و ثانيا بأنّ المعلّق عليه هنا حاصل، و التكليف المشروط يصير فعليّا، و اشتغال الذمّة به يكون حاصلا، غاية الأمر أنّ إتمام ما بيده على تقدير دخول الوقت في أثنائه يصير مسقطا و مفوّتا للمحلّ بالنسبة إلى التكليف، فالاشتغال قطعي، و الشكّ في حصول الفراغ.

و إن حصل له الشكّ المزبور بعد الفراغ و قد أتى بالصلاة من أوّلها إلى آخرها بإحراز الوقت فهذا له صورتان:

الاولى: أن يكون قاطعا باستمرار قطعه الذي التفت إلى فساد مدركه إلى آخر صلاته.

و الثانية: أن يحتمل تبدّله بالالتفات في أثناء الصلاة مع القطع بالوقت في ذلك الحال.

فالصورة الاولى يكون حكمها مبنيّا على شمول قاعدة الشكّ بعد الفراغ لمثل ما إذا احتمل صحّة العمل اتّفاقا لا

بذكره و التفاته، و هو محلّ إشكال بواسطة التعليل الوارد في باب الوضوء بقوله عليه السّلام: «هو حين يتوضّأ أذكر» «1» فإنّ فساد مدرك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 120

القطع كان مغفولا عنه عنده حين الصلاة، و كذا لو انقدح له ما لم ينقدح في ذاك الحال، فأوجب شكّه و إن لم ينكشف فساد مدرك قطعه.

و أمّا الصورة الثانية فلا إشكال في جريان القاعدة فيها حتّى بعد البناء على التعليل المذكور.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ المتبادر من قولهم عليهم السّلام: «كلّ شي ء شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» «1» أن يكون هناك عمل مأمور به ذو أجزاء و شرائط، فاحتملنا مطابقة المأتيّ به له و عدم مطابقته سهوا، و أين هذا من مثل مقامنا، فإنّ الصلاة التي قد ورد المكلّف فيه بإحراز الوقت ثمّ دخل الوقت فيه إنّما هي محكومة بالإجزاء، و ليست من أفراد الصلاة المأمور بها بالأمر الأوّلي، و لا بالأمر الثانوي، و إنّما هو مجرّد حكم بالإجزاء، نظير ما يقوله شيخنا المرتضى قدّس سرّه في الناسي لجزء أو شرط من الصلاة، حيث إنّ قوله عليه السّلام: «لا تعاد إلخ» «2» لا يفيد في حقّه تكليفا و أمرا، و إنّما هو مجرّد حكم بكونه شيئا مفوّتا للمحلّ بالنسبة إلى المأمور به.

و الحاصل أنّه قد يكون العمل مأمورا به بالأمر الواقعي، و قد يكون مأمورا به بالأمر الظاهري، و قد لا يكون هذا و لا ذاك، بل صرف حكم وضعي بالإجزاء و سقوط الإعادة، و لهذا يتمشّى في حقّ الجاهل المركّب الذي يستمرّ جهله من أوّل صلاته إلى آخرها، و لو

كان أمرا كيف يمكن توجيهه إليه مع عدم التفاته إلى انطباق عنوانه على نفسه.

و الحاصل أنّ المدّعى هو الانصراف في الشي ء الواقع في قولهم: كلّ شي ء إلخ،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 121

لا أنّه من القدر المتيقّن في محلّ التخاطب حتّى يكون غير مانع عن الأخذ بالإطلاق، فعلى هذا يكون إجراء القاعدة في كلتا الصورتين المذكورتين محلّ إشكال.

لكنّ الإنصاف عدم تماميّة الانصراف المزبور، فإنّه و إن لم يكن أمر لا واقعي و لا ظاهري، و لكن لا إشكال في كون ظاهر الخبر هو إجزائه بعنوان الصلاة لا شي ء أجنبي مسقط لها، و على هذا فتجري فيه قاعدة الفراغ و التجاوز، لأنّه إذا كان صلاة يجري عليه جميع أحكامها، فيجب إتمامها و يجري في الشكّ في بعض أجزائه بعد المحلّ أو بعد الفراغ القاعدتان المذكورتان.

و يتفرّع على هذا أنّه لو شكّ في الأثناء في دخول الوقت يحصل له علم إجمالي بين وجوب إتمام ما بيده و وجوب صلاة أخرى مستأنفة، لكنّ الحقّ منع العلم المذكور، لعدم ثبوت وجوب الإتمام إلّا فيما إذا كان للمكلّف طريق عقلي أو نقلي إلى تطبيق ما بيده على العنوان المأمور به.

و أمّا إذا كان شاكّا في التطبيق و لا أصل يفيد إحراز القيد المشكوك فيه أو جواز الاكتفاء بالمشكوك في مرحلة الامتثال فلا نسلّم وجوب الإتمام حينئذ.

و الحاصل لا نسلّم كون وجوب الإتمام من أحكام الصلاة الواقعيّة، و حصول العلم الإجمالي متفرّع على ذلك، وجه عدم التسليم أنّ الدليل عليه منحصر بالإجماع و لم يثبت قيامه على أزيد

ممّا ذكرنا.

ثمّ إنّك عرفت أنّه لا بدّ من الفرق بين صورتي احتمال إحراز الوقت في الأثناء و عدمه بناء على التعليل و من عدم الفرق في الجريان بناء على إطلاق سائر أخبار القاعدتين.

فاعلم أنّه يمكن تأييد الإطلاق بما رواه ثقة الإسلام قدّس سرّه بإسناده عن الحسين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 122

ابن أبي العلاء قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال عليه السّلام:

حوّله من مكانه، و قال في الوضوء: تديره، فإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «1».

وجه التأييد أنّه من المعلوم كون الأمر بالإدارة و التحويل لأجل المقدّميّة لإيصال الماء تحته، لا لتعبّد محض و لو مع القطع و الاطمئنان بالوصول بدون ذلك، بل هذه الصورة لا يحتاج إلى السؤال أيضا، و حيث إنّ الخاتم ليس لاصقا باليد لصوقا يورث القطع بعدم الوصول أيضا فلا محالة يحصل الشكّ مع ترك إدارته و تحويله عن مكانه في الوصول و عدمه.

لكن على تقدير الوصول فهو أمر حاصل اتّفاقا من غير التفات و ذكر للمكلّف إليه في أثناء العمل، و مع ذلك قد حكم عليه السّلام فيه بقوله: لا آمرك أن تعيد الصلاة.

فهذه الرواية كالنصّ في عدم اعتبار احتمال الذكر في أثناء العمل في إجزاء القاعدة، فهي يوجب وهنا في ظهور ذلك التعليل المتقدّم في العلّية، و يقرب كونه لمجرّد الحكمة أو تقريبا إلى الذهن في غالب الأفراد، مضافا إلى خلوّ سائر الأخبار مع تعدّدها عن ذكر هذا القيد، فيقوى بذلك جانب الإطلاق، و اللّٰه الهادي إلى الصواب.

و ملخّص الكلام في المسألة أنّ بعض صورها محكوم بالصحّة و الإجزاء بمقتضى الخبر، و هي صورة الدخول مع قيام

الطريق العقلائي على الوقت، سواء كان قطعا، أم أمارة معتبرة ثمّ انكشاف الخطأ و إحراز الدخول في الأثناء بالقطع أو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب الوضوء، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 123

القطعي، فهذا محكوم بالصحّة بنفس الخبر، و بعضها بالتلفيق منه و من دليل الصلاة، و هو ما إذا لم يقم على عدم الدخول في الابتداء علم و لا علمي، بل قامت عنده حين الشروع أمارة على الدخول معتقدا حجّيتها، ثمّ تبيّن له بعد الصلاة عدم حجّيتها و هو محتمل لكذبها في دخول الوقت و صدقها مع قيام العلم أو العلمي على أصل الوقت في الأثناء، و يمحّض الشكّ فيه في الابتداء، ففي هذه الصورة إن كان الوقت متحقّقا في الابتداء يشمله دليل الصلاة، و إن تحقّق في الأثناء يشمله خبر إسماعيل المتقدّم.

و هل يشمل الخبر الجهل الحكمي بالوقت، كأن اعتقد كون الاستتار وقتا للمغرب فصلّى عنده، ثمّ تبيّن له اعتقاد الخلاف بعد الفراغ؟ الظاهر العدم، لأنّ المتبادر من الخبر هو الجهل بالوقت المفروغ عنه كونه وقتا، لا مفهوم الوقت، كما أنّه لا يشمل الدخول بعنوان الرجاء لدخول الوقت ثمّ دخل في الأثناء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 124

مسألة في اشتراط الترتيب بين الظهرين و العشاءين و مسائل العدول
اشارة

لا إشكال في اشتراط صحّة كلّ من العصر و العشاء بترتّبهما على الظهر و المغرب، بحيث يكون الظهر بالنسبة إلى العصر و المغرب بالنسبة إلى العشاء مقدّمة وجوديّة و محقّقا لشرطهما الذي هو الترتيب، نظير الوضوء المحصّل للطهارة، و هذا المعنى يستفاد من قولهم عليهم السّلام في أخبار تحديد وقت الظهرين و العشاءين: إلّا أنّ هذه قبل هذه، بعد معلوميّة عدم اشتراط مطلوبيّة الظهر بقبليّته على العصر. و لذا لو فعل

الظهر دون العصر صحّ الظهر قطعا، فإنّ المستفاد حينئذ أنّ قبليّة الظهر شرط في العصر، كسائر الشرائط الشرعيّة من الطهارة و الستر و الاستقبال و غير ذلك.

و على هذا فمقتضى القاعدة الأوّلية أنّه لو أخلّ بالترتيب و لو عن سهو كان عليه الإعادة، و لكن مقتضى قوله: لا تعاد إلخ هو الحكم بعدمها لو وقع في الوقت المشترك، إذ المفقود حينئذ هو الترتيب، فيكون داخلا في المستثنى منه.

و أمّا إذا وقع في وقت الاختصاص بناء على القول به فلا بدّ من الإعادة، لكونه حينئذ من المستثنى أعني: سهو الوقت.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بما قوّيناه من صلاحيّة الوقت ذاتا لكليهما، و إنّما منع من فعليّته مانع و يدّعى انصراف الوقت في قوله عليه السّلام: لا تعاد إلخ عن مثل هذا، فيكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 125

داخلا في المستثنى منه أيضا، هذا مقتضى القاعدة.

و لكن في كلام بعض الأساطين قدّس سرّه في هذا المقام ما حاصله أنّ شرطيّة الترتيب ليس على حدّ سائر الشرائط التي اعتبرها الشارع في ماهيّة المأمور به، كالطهارة و الستر و غيرهما، بل هو شرط اعتباري ينتزع من تكليف نفسي مستقلّ آخر، نظير إباحة المكان، حيث ينتزع شرطيّتها للصلاة من التكليف النفسي التحريمي المتعلّق بالغصب، و شأن مثل هذا أنّه متى كان ذلك التكليف المستقلّ واجدا لشرائط التنجيز كانت الصلاة بدون ذلك الشرط فاسدة، و متى سقطت عن التنجيز و صار المكلّف معذورا في مخالفتها ارتفعت الشرطيّة.

ففي المقام يكون الحال بهذا المنوال، فصحّة صلاتي العصر و العشاء لو سها عن الترتيب و أتى بهما قبل الظهر و المغرب تكون مطابقة للقاعدة الأوّلية، لا من باب حديث لا تعاد.

و الذي أفاد في

تقريب هذا المرام أنّ الوقت صالح لكلتا الصلاتين من الزوال إلى الغروب بحسب الذات، من دون اختصاص إحداهما بقطعة منه، و حينئذ فإن كان الواجب في هذا الوقت الموسّع فعل الصلاتين بلا إيجاب شي ء آخر كان التكليف بهما من أوّل الوقت مطلقا و منجّزا، و كان هو مخيّرا في البدأة بأيّهما شاء، و لكن هنا واجب آخر و هو فعل الظهر مقدّما على العصر، و هذا الواجب يوجب سلب قدرة المكلّف عن العصر قبل إتيان الظهر، مع فرض كونه ممتثلا لتكليف: صلّ الظهر قبل العصر، فلهذا يتأخّر تنجيز التكليف بالعصر إلى الفراغ عن الظهر، فلو أتى بالعصر عمدا قبل الظهر كان باطلا، لعدم الأمر به حتّى على القول بصحّة الأمر الترتّبي في الضدّين.

وجه الفرق أنّ المضادّة أوجبت سلب القدرة عن الجمع، و إلّا لو فرض محالا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 126

جمع المكلّف بينهما لوقعا بصفة المطلوبيّة.

فلهذا يمكن تصحيح الأمر بالمهمّ منهما بنحو الترتّب على عصيان الأهمّ، بخلاف الحال في المقام، إذ ليس المانع صرف عدم القدرة على الجمع لأجل المضادّة بين الفعلين في الوجود، بل المانع كونه مأمورا بإيقاع الظهر قبل العصر، بحيث لو فرض محالا إمكان جمعهما لم يجب عليه، بل لم يكن مشروعا، هذا حال العمد.

و أمّا إذا نسي و سها فلا مانع من صحّة العصر، لصلاحيّة الوقت و كونها تامّة الأجزاء و الشرائط الشرعيّة بدون مانع من ناحية التكليف المستقلّ النفسي الآخر، أعني: صلّ الظهر قبل العصر، لكونه معذورا في مخالفته، هذا صورة ما استفاده هذا الحقير من كلماته الشريفة.

و قد استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّ المانع عن صحّة كلّ عبادة منحصر في أمرين لا ثالث لهما.

الأوّل: فقد

شرط أو جزء من شروطه و أجزائه التي اعتبرها الشارع فيها.

الثاني: اجتماعهما في الوجود مع فعل مبغوض محرّم على القول بامتناع الاجتماع و تقديم جانب النهي، فإنّ الوجود المبعّد لا يصلح أن يكون مقرّبا، و أمّا عدم الأمر في الواجبين المتزاحمين بالنسبة إلى غير الأهمّ منهما، فأوّلا قد ثبت في محلّه عدم حاجة العبادة إلى وجود الأمر، بل يكفي وجود الجهة، و ثانيا ثبت في محلّه أيضا إمكان تصحيح الأمر بنحو الترتّب، فالمانع عن صحّة العبادة بناء على هذا غير متصوّر إلّا في فقد الجزء و الشرط و في باب الاجتماع في الفرض المذكور.

إذا عرفت هذا فنقول: إن أراد من قوله طاب ثراه: إنّ هنا واجبا آخر و هو فعل الظهر مقدّما على العصر كونه بنحو وحدة المطلوب فاللازم سقوط الظهر لو قدّم العصر عمدا، لا عدم صحّة الأمر، غاية الأمر أنّه عصى بتفويته للظهر المقدّم الذي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 127

كان واجبا عليه، فما وجه حكمه ببطلان العصر و وجوب إيجاد الظهر ثمّ العصر؟

و إن أراد ذلك بنحو تعدّد المطلوب فكذلك، إلّا أنّه لا يلزم حينئذ سقوط الظهر عنه، لكنّ العصر يقع صحيحا، و لا نتصوّر معنى قوله: إنّ تنجيز التكليف بالعصر يتأخّر عن إتيان الظهر، فإنّ شرط الوجوب الذي هو الزوال بالنسبة إلى كلتا الصلاتين حسب مختاره قدّس سرّه قد تحقّق، و ليس مجرّد التكليف بإيقاع الظهر قبله إلّا كتكليفه بالوضوء قبله، و هذا لا يوجب تأخير الوجوب أو تنجيزه إلى ما بعد ذلك الفعل، بل هما معا منجّزان عليه من أوّل الزوال.

نعم لو قدّم العصر كان مفوّتا للواجب الذي هو قبليّة الظهر، و مجرّد هذا لا يوجب أدونيّته عن الواجبين

المتزاحمين، فإذا تصوّرنا الأمر بغير الأهمّ عند عصيان الأهمّ فلا مانع من الأمر بالعصر المقدّم على الظهر أيضا بهذا النحو، و على فرض اختيار القول بعدم صحّة الأمر بنحو الترتّب على خلاف التحقيق فلا أقلّ من كفاية الجهة و المحبوبيّة الذاتيّة في صحّة العبادة.

و بالجملة، ففساد العصر المقدّم ينحصر طريقه بأحد الأمرين، إمّا شرطيّة الترتيب في العصر شرعا كما استظهرناه، أو اختصاص الوقت بالظهر كما في أوّل الوقت، أمّا بعد اشتراك الوقت بينهما كما هو المفروض و كون الترتيب غير شرط في العصر شرعا و إنّما كان واجبا نفسيّا في عرض ذلك التكليف فلم نفهم لفساده وجها.

و كيف كان فلو اعتقد أنّه أتى بالظهر فأتى بالعصر قبل الظهر، و كذا لو اعتقد إتيان المغرب فأتى بالعشاء قبله فتذكّر في الأثناء عدل بنيّته إلى السابقة و أتمّها ظهرا أو مغربا إن لم يتجاوز محلّ العدول، ثمّ يأتي بعد بالعصر و العشاء، و هذا الحكم هو المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع، و الأصل فيه الأخبار المستفيضة التي منها صحيحة زرارة الطويلة المشتملة على الحكم في الظهرين و العشاءين، بل و غيرهما،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 128

إلّا أنّ

الكلام يقع في مواضع:
الأوّل: هل الحكم المذكور يعمّ وقت الاختصاص و الاشتراك، أو يختصّ بالثاني؟

الظاهر الثاني، و ذلك لعدم الإطلاق في شي ء منها على وجه يشمل الدخول في العصر سهوا في وقت اختصاص الظهر، و ذلك لأنّ في بعضها السؤال عن رجل أمّ قوما في العصر، و في آخر عن رجل دخل مع قوم و لم يصلّ هو الظهر و القوم يصلّون العصر، و لا يخفى عدم الإطلاق في هذين، و في ثالث عن رجل نسي صلاة حتّى دخل وقت صلاة أخرى، و هذا أيضا مثل السابقتين.

نعم في بعضها السؤال عن رجل

نسي أن يصلّي الاولى حتّى صلّى العصر، و لا يخفى عدم انصرافه- خصوصا بحسب ما هو المتعارف في تلك الأزمنة من تفريق الصلاتين- إلى وقوع البيان المذكور في أوّل الزوال، إلّا أن يشتبه عليه الوقت و تخيّله وقتا للعصر و الأذان إذا ناله، و هذا فرض نادر لا يشمله الإطلاق، أو يشكّ في شموله.

و يؤيّد عدم الإطلاق في صحيحة زرارة الطويلة أنّه قد جعل العدول من الحاضرة إلى مثلها في رديف العدول من الحاضرة إلى الفائتة، فكما أنّ الثاني مفروض بعد مضيّ وقت الإجزاء، فالظاهر أنّ الأوّل مفروض بعد مضيّ وقت الفضل.

و حينئذ فعلى القول بالاختصاص يكون محكوما بالبطلان إذا كان لم يدخل بعض منه في وقت الاشتراك.

نعم لو قلنا بالاشتراك من أوّل الوقت إلى آخره كان محكوما بالصحّة و وجوب العدول من باب تنقيح المناط، لا من باب الإطلاق، كما لو وقع قبل الوقت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 129

بتخيّل الوقت و وقع بعضها في الوقت، و كما فيما إذا صلّى الظهر فاسدا فأتى بالعصر، فتبيّن له في أثنائه فساد الظهر، فإنّ هذا كلّه خارج عن المفاد اللفظي و يكون حكمه من باب تنقيح المناط.

الثاني: هل هذا الحكم مختصّ بالأثناء، أو يعمّ بعد الفراغ أيضا؟

قد صرّح بالتعميم في صحيحة زرارة المتقدم إليها الإشارة، و كذا ظاهر رواية الحلبي بملاحظة التعبير بصيغة المضيّ في قوله: نسي أن يصلّي الاولى حتّى صلّى العصر و إن أمكن حمله على إرادة أنّه دخل في صلاة العصر، لكن لا شبهة في ظهوره، إلّا أنّ المشهور قد أعرضوا عن العمل، و هذا موجب للوهن في جهة الصدور و إن لم يكن نفس الصدور قابلا للخدشة و معتبرا في أعلى درجة الاعتبار، بل كلّما ازداد السند قوّة يزداد بواسطة

الإعراض وهنا، و لو لا الإعراض المذكور كان العمل بهما قويّا.

و قد يتوهّم أنّه يخصّص بهما حينئذ قاعدة لا تعاد و نحوه ممّا يدلّ على سقوط الترتيب في حال السهو، حيث إنّ مقتضى ذلك وقوعه عصرا، فاعتبار الترتيب مع ذلك تخصيص فيه.

لكن فيه أنّ التخصيص إنّما يلزم لو حكم بالإعادة لأجل تدارك الترتيب الذي فات بواسطة النسيان، و أمّا إذا حكم بالصحّة و عدم الإعادة، لكن أمكن جبران الترتيب الفائت بجعل العصر الذي فعله ظهرا في نيّته فإذا أمر الشارع بهذا فليس تخصيصا في لا تعاد.

لكن لا يخفى أنّ استفادة الوجوب بالنسبة إلى ما بعد الفراغ محلّ إشكال، بل منع، و ذلك لانحصار دليله في الصحيحة الطويلة، و هي بواسطة اشتمالها على العدول من الحاضرة إلى الفائتة، و هو على ما تقرّر في محلّه ليس بواجب، محمولة على مطلق الرجحان، كما في: اغتسل للجمعة و الجنابة، فإنّه يعلم من الخارج بالاستحباب في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 130

بعض الفقرات، و هو ما أشير إليه، و بالوجوب في بعض آخر، و هو العدول من الحاضرة إلى الحاضرة في الأثناء.

و ذلك بواسطة رعاية الترتيب اللازم في تمام الأجزاء و حرمة القطع، فمتى جاز العدول وجب لأجل رعاية الترتيب في الأجزاء اللاحقة و عدم القطع.

و أمّا بعد الفراغ فيبقى على الشكّ، إذ المفروض محكوميّة دليل الترتيب لدليل سقوطه حال النسيان، و مقتضاه وقوع الصلاة عصرا صحيحا، فهذه الصحيحة تكون مجملة بالنسبة إلى هذا العصر الواقع صحيحا، فلا يفيد وجوب جعلها ظهرا.

لا يقال: هنا أيضا يمكن ضميمة ما ذكر من أنّه متى جاز العدول وجب لأجل مراعاة الترتيب.

لأنّا نقول: كلّا، فإنّ رعاية الترتيب هناك لأجل تصحيح الأجزاء اللاحقة

لتحقّق الذكر فيها، و المفروض هنا استيعاب النسيان لتمام الأجزاء، و مقتضى أدلّة رفع النسيان و دليل لا تعاد وقوع الصلاة بتمامها صحيحة بعنوان العصريّة.

نعم غاية ما ثبت من الصحيحة أنّ المكلّف متمكّن من جعلها بالنيّة ظهرا، ثمّ يفعل العصر مرتّبا، و مجرّد ذلك لا يفيد الوجوب، إذ بعد ما وقع العصر صحيحا فالأمر منوط باختيار المكلّف، إن شاء جعلها ظهرا، و إن شاء لم يجعلها.

بل نقول على فرض ظهور الصحيحة في الوجوب بعد الفراغ أيضا، غاية الأمر حصول العصيان لو ترك العدول لا الحكم بفساد العصر، و ذلك لأنّ المستفاد من قوله: انوها ظهرا أو اجعلها ظهرا أنّه قبل النيّة و الجعل عصر صحيح، ففي الأثناء المانع من جهة الإتمام موجود، و أمّا بعد الفراغ فهذا المانع أيضا مفقود.

و على كلّ حال فمقتضى الاحتياط في صورة التذكّر بعد الفراغ أن ينوي العدول ثمّ يأتي بأربع ركعات بقصد ما في الذمّة، نعم إن وقع بتمامه في وقت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 131

الاختصاص فالاحتياط في العدول، ثمّ إتيان ظهر و عصر بعد ذلك.

الثالث: هل الترتيب بين الفوائت معتبر أو لا؟

ليس في أدلّة العدول ما يفيد العدول من الفائتة إلى مثلها حتّى يستفاد ذلك منه، نعم في صدر صحيحة زرارة الطويلة قال عليه السّلام: «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء و كان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ، فأذّن لها و أقم ثمّ صلّها، ثمّ صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة» «1».

و يمكن الخدشة في دلالتها، لأنّها مبنيّة على إرادة أوّلهنّ فوتا من قوله عليه السّلام:

فابدأ بأوّلهن، حتّى يكون الكلام مسوقا لإفادة حكمين، أحدهما الترتيب، و الآخر حكم الأذان و الإقامة، لكن من الممكن إرادة أوّلهن شروعا، و كان الكلام

توطئة لما بعده و متصدّيا لحكم واحد و هو كيفيّة الأذان و الإقامة للصلوات المقضيّة إذا أراد إتيانها في مجلس واحد.

الرابع: لا يخفى أنّ العدول في الأثناء أمر على خلاف القاعدة،

و إلّا فمقتضاه الحكم بالبطلان، لعدم اغتفار التقدّم بالنسبة إلى ما بعد التذكّر، لكونه عمديّا، فالحكم بصحّتها ظهرا بعد نيّة ما تقدّم للظهر على خلاف القاعدة يقتصر فيه على القدر المتيقّن، و هو ما إذا وقع تمام الصلاة في الوقت، و أمّا الواقعة بعضها فيه المحكومة بالإجزاء بمقتضى رواية إسماعيل بن رياح المتقدّمة، فإجراء هذا الحكم فيه محتاج إلى أحد أمرين: إمّا القول بأنّ المستفاد من تلك الرواية توسيع الوقت حقيقة، و إمّا القول بأنّه و إن لم يستفد منها التوسعة الحقيقيّة، لكن يستفاد منها تنزيل ما وقع في هذا الوقت منزلة الصلاة الحقيقيّة في جميع الخواصّ و الآثار، و الأوّل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 63 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 132

مقطوع العدم، و الثاني غير معلوم، إذ المعلوم إنّما هو التنزيل بالنسبة إلى الإجزاء عن نفس صاحبة الوقت، و أمّا بالنسبة إلى جميع الآثار حتّى العدول منها إلى سابقتها فمحلّ التأمّل.

الخامس: قد سمعت أنّ العدول على خلاف القاعدة لا بدّ فيه من التماس الدليل.

فنقول: الذي قام عليه الدليل إنّما هو العدول من اللاحقة إلى السابقة الحاضرتين، و من المغرب إلى العصر لذلك اليوم، و من الغداة إلى العشاء لتلك الليلة، و أمّا من المغرب إلى الظهر أو إلى الغداة أو إلى العصر لغير ذلك اليوم، أو من الغداة إلى المغرب أو العصر أو الظهر أو الغداة أو العشاء للّيالي المتقدّمة فليس العدول في شي ء من هذه مفادا للدليل، و تنقيح المناط غير حاصل لنا، فالتعدّي إلى هذه المسائل لا وجه له.

نعم إن استفيد أنّ المناط مجرّد تذكّر صلاة سابقة على ما بيده و لو كانت غير متّصلة كان التعدّي حسنا، لكن من أين لنا علم ذلك؟ فلعلّ الشارع راعى في

المتّصل ما لم يراعه في المنفصلين.

و على هذا فلو شرع في المغرب فتذكّر أنّه نسي الظهرين معا فهذا خارج عن مورد النصّ، فإنّه في صورة نسيان العصر فقط، فالعدول إلى العصر غير مشمول للرواية من هذه الجهة.

مضافا إلى عدم حفظ الترتيب بين الظهرين في هذا الفرض لو عدل إلى العصر، فكيف يعدل إليه ثمّ يعدل منه إلى الظهر، فإنّ العدول من العصر إلى الظهر إنّما مورده ما إذا كان مشتغلا بعصر صحيح، و لم يصحّ العصر بالعدول إليه بالفرض حتّى يعدل منه إلى الظهر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 133

و أمّا العدول في هذا الفرض إلى الظهر ابتداء و بلا واسطة العدول إلى العصر فهو مبنيّ على تنقيح المناط من الرواية في العدول من المغرب إلى مطلق السابقة و لو المنفصلة، و قد عرفت الخدشة فيه، هذا مع تذكّره لنسيان الظهرين.

و أمّا لو تذكّر أوّلا لنسيان العصر دون الظهر، فعدل إليه بتخيّل كونه مورد الرواية ثمّ تذكّر أنّه لم يصلّ الظهر أيضا فعدل من العصر المعدول إليه إلى الظهر فصحّة هذا مبتنية على تنقيح المناط في مسألتين:

إحداهما: في العدول من المغرب إلى العصر، مع أنّ مورد الرواية صورة انحصار المنسيّ بالعصر، فيقال: إنّ المناط عدم لزوم الترتيب، و هو حاصل في هذا الفرض، إذ العصر غير مرتّب مع النسيان على الظهر.

و الثانية: في العدول من العصر المعدول إليه إلى الظهر مع أنّ مورد الرواية هو العصر الابتدائي بأن يقال: إنّ المناط هو العصر الصحيح، و لكن في كلا المناطين كلام، فيبقى المغرب في كلتا المسألتين صحيحة بحالها كما هو مقتضى القاعدة.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ العدول من اللاحقة إلى سابقة السابقة سواء كان ابتداء أم بالواسطة

و هو المسمّى في لسان البعض بالترامي في العدول سواء كان مع التذكّر ابتداء أم في الأثناء محلّ إشكال، و المتيقّن هو العدول من الحاضرة إلى سابقتها المتّصلة الحاضرة، و من المغرب إلى عصر ذلك اليوم، و من الغداة إلى عشاء تلك الليلة.

و لو اشتغل بالمغرب فتذكّر أنّه نسي العصر فعدل إليه، ثمّ تبيّن أنّه صلّى العصر و لم يصلّ الظهر و بنينا في المسألة السابقة على العدول من اللاحقة إلى مطلق السابقة فهل يجب العدول حينئذ إلى الظهر أو لا؟

و محلّ الكلام تارة يفرض فيما إذا لم يصدر منه بعد العدول إلى العصر التخيّلي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 134

فعل أو قول من الأفعال و الأقوال الصلاتيّة، و اخرى يفرض فيما إذا صدر منه ذلك.

فإن كان الأوّل فلا كلام في أنّ نيّة جعل المغرب عصرا صارت لغوا، بمعنى أنّها لم تؤثّر في انجعاله عصرا و هو واضح، و لا في بطلانه مغربا، و ذلك لأنّ غاية الأمر أنّه نوى عدم المغربيّة في أثناء المغرب، و قد بان في محلّه أنّ نيّة القطع غير مضرّ بالصلاة، بخلاف الصوم، فإنّه هناك مجزّى على الزمان، فإذا خلى آن من النيّة أفسده، بخلاف الصلاة.

و حينئذ فالمغرب على ما كان لم يتغيّر بواسطة هذه النيّة عمّا هو عليه، فإذا صحّت و الفرض البناء على العدول إلى مطلق السابقة فيعدل في الفرض إلى الظهر، كما أنّه إن بنينا على العدم يتمّه مغربا.

و إن كان الثاني فإن كان المأتيّ به من غير الأركان فحال النيّة ما تقدّم، و أمّا ما أتى به بعنوان العصريّة فيعيده بعنوان الظهريّة بناء على العدول إلى مطلق السابقة، و بعنوان المغربيّة بناء على العدم، لأنّه

غير مبطل للصلاة، لأنّه إمّا ليس بزيادة، لأنّ الزيادة ما أتى به بقصد الجزئيّة لهذه الصلاة، فلو ركع بنيّة قتل العقرب لا تبطل صلاته، و إمّا أنّه زيادة سهويّة، و على كلّ حال لا يضرّ بالصلاة.

و إن كان من الأركان بنى على ما أشير إليه من أنّه هل يصدق الزيادة على نفس إتيان صورة الركوع مثلا و لو لا بقصد كونه جزءا لهذه الصلاة، أو لا بدّ في صدق الزيادة على القصد المزبور، فإن قلنا بالأوّل بطلت الصلاة للزيادة الركنيّة، و إن قلنا بالثاني فلا.

و أمّا العدول إلى الظهر أو العود إلى نيّة المغرب فهو مبنيّ على ما سبق، و قد عرفت أنّ الحقّ عدم العدول و العود إلى نيّة المغرب على حسب القاعدة الأوّلية.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 135

البحث الثاني في القبلة و فيها فصول:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 137

[الفصل] الأوّل
اعلم أنّ الكلام في المقام يحتاج إلى تقديم مقدّمتين:
الاولى: أنّ الجسم متى ازداد بعدا ازداد محاذاة،

و يعلم ذلك بالحسّ، فإنّك إذا واجهت شخصا من شخصين متلاصقين بحيث اتّصل الخطّ من موقفك بذلك الشخص فلا شبهة في أنّك إذا بعدت منه في خطّك المستقيم من دون انحراف تجد نفسك في حدّ من البعد مواجها لكلا الشخصين، و إذا بعدت أزيد من ذلك رأيت نفسك مواجها لثلاثة، و إذا زدت على البعد واجهت أربعة، و هكذا كلّما زدت على البعد ازددت على المحاذاة، و أنت في كلّ ذلك تسير على خطّ مستقيم واصل بذلك الشخص الواحد.

الثانية: إذا أمر المولى عبده بمواجهة زيد مثلا

فلا شبهة في صدق الامتثال إذا واجهه بالنحو الذي ذكرنا و لو علم بعدم اتّصال الخطّ من موقفه إلى زيد، و هل ذلك من جهة التوسعة في مفهوم المقابلة و المواجهة عند العرف بحيث يكون صدقه على هذا الفرد بلا عناية تجوّز و رعاية علاقة، أو أنّه لأجل خطئهم في مقام التطبيق مع الضيق في المفهوم؟ الظاهر الأوّل.

و على كلّ تقدير الصدق عندهم حقيقي لا مسامحي تجوّزي حتّى لا يحكم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 138

بتحقّق الامتثال بسببه، و في مراجعة العرف كفاية في صدق ما ادّعيناه.

[في معنى الأخبار الدالّة على أنّ الكعبة قبلتنا]
اشارة

إذا عرفت ذلك فنقول: لو كنّا و الآية و الأخبار الدالّة على أنّ الكعبة قبلتنا لحملناها على هذا المعنى الذي ذكرنا، فإنّه متفاهم اللفظ عرفا، و هو الحال في عامّة الخطابات، لكنّ المشهور بين الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم أنّ الكعبة قبلة للمتمكّن منها، و جهتها لغير المتمكّن، و هذا يحتمل وجهين:

الأوّل: أنّ العين قبلة للمتمكّن

بمعنى اتّصال الخطّ و الجهة بالمعنى الذي ذكرنا لغيره، و قد عرفت أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم الفرق بين المتمكّن و غيره في أنّ المعتبر صدق عنوان المقابلة و المواجهة و لو لم يتّصل الخطّ، بحيث لو علم بعدم الاتّصال و تمكّن من تحصيله لا يجب عليه تحصيله لحصول الامتثال و الإتيان بالمصداق الحقيقي العرفي للمأمور به بدونه، و ليس في مقام الامتثال متعهّدا بما سواه.

الثاني: أنّ الكعبة قبلة بالمعنى الذي ذكرنا للمتمكّن،

و الجهة العرفيّة لغيره، و لا يخفى أوسعيّة الجهة العرفيّة ممّا ذكرنا، ألا ترى أنّهم يتوجّهون في زيارتهم إلى جهة بلدة كربلاء المشرّفة و مع ذلك يكونون مختلفين في التوجّه بما يضرّ بصدق المقابلة بالمعنى الذي ذكرنا.

و ربما يؤيّد هذا الوجه ما ورد في بعض الأخبار بعد السؤال عن حدّ القبلة من قوله عليه السّلام: «ما بين المشرق و المغرب كلّه قبلة» «1».

و لكن فيه ما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى من عدم ظهور الخبر في كون ما بين المشرق و المغرب قبلة على وجه الإطلاق، و لو سلّم فلا يخفى أنّ التوسعة في الجهة العرفيّة لا يبلغ حدّ ما بين المشرق و المغرب، فلا يصلح هذا الخبر لتأييد ذلك الوجه،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 139

مضافا إلى معارضته بأخبار تحويل الوجه نحو القبلة لو علم في أثناء الصلاة أنّه على غير القبلة في ما بين المشرق و المغرب.

و ربما يؤيّد أيضا بما في بعض الأخبار الأخر من تعيين القبلة للسائل بوضع الجدي على يمينه، و في طريق مكّة بين كتفيه، و لمحمّد بن مسلم بوضعه على قفاه.

و لا يخفى عدم انطباقه على ما ذكرنا، إذ ما ذكرنا يضرّ

به أدنى انحراف كما نشاهد بالنسبة إلى الأنجم، حيث ينحرف الإنسان عنها بكثير بمحض انحراف يسير، و في هذا الخبر لم يعيّن وضع الجدي في أيّ من نقاط المنكب و لا في أيّ من نقاط القفا و بين الكتفين، فيكون دالّا على التوسعة بأزيد ممّا ذكرنا، و لكنّه لا ينطبق أيضا على الجهة العرفيّة، لأوسعيّتها من هذا المقدار كما لا يخفى.

فالذي ينبغي أن يقال: إنّا لو كنّا و مقتضى الأدلّة الأوّلية الجاعلة للكعبة قبلة لحكمنا بما مرّ من المسامتة، بمعنى رؤية الإنسان مسامتا للكعبة المشرّفة لو كانت مرئيّة، كمسامتتنا للكواكب، و مقتضى هذا أنّه لو تمكّن المكلّف من تحصيل العلم به فهو المتعيّن في مرحلة الامتثال، و إلّا يتنزّل إلى ما دونه من الاحتياط بتكرار الصلاة بعدد النقاط المحتملة إن لم يكن متعذّرا أو متعسّرا، و إلّا يتنزّل إلى الاحتياط الجزئي، و مع عدم إمكانه أو حرجيّته إلى الصلاة الواحدة في إحدى النقاط المحتملة، لكن مع رعاية عدم لزوم المخالفة القطعيّة بأن يواظب بإتيان سائر صلواته لهذه النقطة التي صلّى صلاته الاولى نحوها، ضرورة أنّه لو صلّى الظهر مثلا إلى نقطة من تلك النقاط المحتملة و العصر إلى نقطة أخرى منها يحصل له العلم بمخالفته القبلة الواقعيّة في إحدى الصلاتين، هذا مقتضى القاعدة الأوّلية في مرحلة الامتثال بالنسبة إلى كلّ موضوع رتّب عليه الحكم.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ طريقة العرف في أوامرهم العرفيّة استقرّت على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 140

الاكتفاء بأوسع من ذلك في حقّ العاجز عن تحصيل تلك الجهة الواقعيّة، بمعنى أنّهم يوسّعون في مفهوم الاستقبال بالنسبة إلى العاجز بعد حكمهم بما ذكرنا بالنسبة إلى المتمكّن، فالعاجز يكون استقباله عبارة عن

وقوفه في نقطة يحتمل كونها أقصر الخطوط المتوازية مع الخطّ الواصل إلى الكعبة المشرّفة، فهذا عندهم امتثال قطعي لهذا العاجز لا أنّه امتثال احتمالي.

و لكن لا يخفى أنّه ليس مجرّد الاحتمال كافيا و لو وسعت دائرته تمام الجهات الأربع، بل له حدّ مضبوط عندهم ربما يكون مقدار شبر أو أنقص بيسير، و أمّا المتمكّن فحاله على خلاف هذا، فيطلبون منه تحصيل ذلك المعنى المتقدّم، فراجع العرف في أمرهم باستقبال كربلاء المشرّفة و استقبال كوكب الجدي فمصداقهما عندهم مختلف بالطريق الذي ذكرنا، هذا مقتضى القاعدة و لو لم يكن لنا خبر الإرجاع إلى الجدي.

و أمّا مع ملاحظته فيمكن استفادة الأوسع من هذا الذي ذكر بالنسبة إلى العاجز عن تحصيل النقطة الحقيقيّة المحاذية لأقصر الخطوط، و ذلك لخبر محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام «قال: سألته عن القبلة فقال عليه السّلام: ضع الجدي في قفاك و صلّه» «1».

و في مرسل الصدوق قال: «قال رجل للصادق عليه السّلام: إنّي أكون في السفر و لا أهتدي إلى القبلة بالليل؟ فقال عليه السّلام: أ تعرف الكوكب الذي يقال له: جدي؟

قلت: نعم، قال عليه السّلام: اجعله على يمينك، و إذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 141

فإنّه يستفاد من إطلاق الخبرين كفاية وضع الجدي في القفا و بين الكتفين بمسمّاه العرفي من دون أمر بالمداقّة فيه بأن يقف إنسان آخر بحذائه و يجعله في النقطة الحقيقيّة المتوسّطة في عنقه أو بين كتفيه، بل أوكله إلى نفس المكلّف، مع أنّ حالات الجدي أيضا مختلفة

و لم يعيّن حالة مخصوصة منها.

فنعلم من هذا اغتفار هذا المقدار من الاختلاف الناشئ من هذه الجهات و لو أورث العلم بالخروج عن الخطّ المحتمل الانطباق على أقصر الخطوط الذي قلنا إنّه قبلة عرفيّة لغير المتمكّن، و ذلك لإطلاق الرواية من هذه الحيثيّة.

و لكن لا يخفى أنّه يتوقّف استفادة هذا على تنزيل الخبر على بلد السائل أعني: الكوفة، و ذلك لأنّ من المعلوم أنّ قبلة الكوفة و ما والاها على ما ذكره العلماء قدّس أسرارهم يعرف بجعل الجدي خلف المنكب الأيمن بواسطة مقدار طول هذه البلدة و عرضها مع مكّة المشرّفة.

فعلى هذا الخبر يجوز التعدّي عن هذا المقدار بجعل الجدي على القفا، مع أنّ توسعة وضع الجدي في القفا بملاحظة اختلاف ضخامة الأعناق ربما يصل إلى مقدار شبر، فيجوز لنا التعدّي عن النقاط المحتملة إلى كلّ من طرفيها بمقدار شبر في سائر البلاد أيضا، مع أنّه يحصل لنا العلم بالخروج عن المحاذاة الحقيقيّة حينئذ.

لا يقال: فهذا ينافي مع ما اعترفت من اختصاص التوسعة المستفادة من الخبر لغير المتمكّن، لعدم الإطلاق له بالنسبة إلى المتمكّن.

لأنّا نقول: الذي نعترف به عدم إطلاقه بالنسبة إلى المتمكّن من العلم التفصيلي بالمحاذاة الحقيقيّة، و أمّا المتمكّن بنحو العلم الإجمالي بحيث يعلم كون الانحراف عن أطراف علمه انحرافا عن القبلة، و لكن لا يتميّز جهة الكعبة المشرّفة مفصّلا فهو داخل تحت الإطلاق.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 142

و الحاصل هذا المعنى المستفاد من الخبر لا معارض له في شي ء من الأخبار و لا من غيرها، إذ أوّلا ليس اللسان لسان الأماريّة حتّى يقال: لا يعقل جعل مثل هذا أمارة، بل لسان الإلحاق و التنزيل.

و أمّا الأدلّة الدالّة على أنّ الكعبة قبلتنا

فنحن نقول: هي قبلتنا، و لكن هذا الخبر يعلّمنا كيفيّة استقبالها، ألا ترى أنّه لو كان الأخبار الحاكية لأنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه بلا معارض ممّا دلّ على لزوم تحويل الوجه إلى القبلة لمن التفت في أثناء صلاته أنّه منحرف عن القبلة في ما بين المشرق و المغرب، لكان القول بمفادها متعيّنا.

و حينئذ كانت القبلة الواقعيّة بالنسبة إلى العاجز هو ذلك المقدار، فهكذا الكلام بالنسبة إلى الخبرين المذكورين، فلا بدّ من الأخذ بمفادهما من التوسعة المذكورة، لسلامتهما عن المعارض.

لا يقال: إذا بنيت على خبر الجدي فلم لا تعمل بإطلاقه، فإنّ خصوص المورد لا يخصّص الوارد، و إلّا فكلّ سائل عن كلّ مسألة لا محالة يكون جاهلا، فيلزم على قولك اختصاص الجواب بالجاهلين.

لأنّا نقول: فرق بين السؤال في الأحكام و في الموضوعات، ففي الاولى لا يوجب جهل السائل تخصيص الجواب ما لم يكن في الكلام تقييد، و أمّا في الثانية فلا يمكن التعدّي عن الجاهل، إذ المفروض أنّه كان عالما في مسألتنا بأنّ القبلة هو الكعبة و أنّ استقبالها بحسب المفهوم ما ذا، و إنّما تمحّض شكّه في أنّه في أيّ نقطة تكون الكعبة حتّى يستقبلها، و هذا سؤال موضوعي، فإن أمكن تعيين النقطة الحقيقيّة و الاستقبال الحقيقي له كان هو المتعيّن، لكن لمّا لم يمكن ذلك قال عليه السّلام:

ضع الجدي في قفاك و صلّه، فكيف يمكن على هذا التعدّي إلى الرصدي الذي يمكنه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 143

العلم بالجهة الحقيقيّة؟

و الحاصل أنّه ليس مشتبها في القبلة بمفهومها العامّ حتّى يكون الجواب عامّا و لا في الاستقبال بمفهومه العامّ حتّى يكون كذلك، بل سؤاله ممحّض في الموضوع بعد تينك المقدّمتين، و

لا محالة يكون الجواب مقصورا حينئذ على غير العالم بالموضوع، و إلّا فالعالم بالموضوع لا عذر له في مخالفة استقبال الكعبة المشرّفة.

و هذا بخلاف الحال في إطلاقه بالنسبة إلى العالم تفصيلا بالانحراف مع الجهل تفصيلا بنقطة الاستقبال الحقيقي، فإنّه غير قابل للإنكار، فإنّه عليه السّلام عيّن هذا الدستور للجاهل المذكور، فله الأخذ بإطلاق الكلام حيثما ساقه، و قد عرفت أنّ الكلام مفيد بإطلاقه جواز الانحراف و لو كان معلوما تفصيليّا مع الجهل التفصيلي بنقطة الاستقبال.

هذا و لكنّ الإنصاف يقتضي خلاف ما قوّيناه من استفادة جواز الانحراف عن النقاط المحتملة كونها أقصر الخطوط من الخبر المزبور، لأنّك عرفت أنّها مبنيّة على حمل الخبر على بلد محمّد بن مسلم و هو كوفي، بعد العلم بمعرفته انحراف قبلة بلده عن نقطة الجنوب، و العلم بتساوي الناس و البلدان في الحكم، لكن للمنع عن المبنى المذكور مجال واسع، إذ لا شاهد عليه، إذ السائل إنّما سأل عن القبلة حين كونه مسافرا، فلعلّه كان سؤاله راجعا إلى سفر مخصوص و كان الجواب راجعا إلى تعيين قبلة مكان مسافرته، لا أنّه سأل عن قبلة بلده.

و حينئذ فغاية ما يستفاد من الخبر التوسعة في القبلة بمقدار الشبر، لأنّه لازم تعيينها بوضع الجدي على القفا كما يعلم بيانه من السابق، و هو مطابق لمقدار التوسعة في الجهة العرفيّة، فلا يستفاد الانحراف عن الجهة العرفيّة بناء على هذا، فتدبّر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 144

هذا حاصل الكلام في المقام، و أمّا تعيين نقاط البلدان فخارج عن شأن الفقيه، كما أنّ التكلّم في مرادات الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم من كلماتهم في هذا المقام شاغل عن الأهمّ، و لا بأس بالتكلّم في مقامين:

أحدهما: ما ورد به

الأخبار و على طبقه الأقوال من الفقهاء الأبرار من أنّ قبلة المسجد الكعبة المشرّفة، و قبلة الحرم المسجد الحرام، و قبلة خارج الحرم الحرم «1».

فنقول: بعد القطع بعدم إرادة ظاهر هذا المضمون من جواز استقبال الواقف خارج المسجد ممّا يلي جدرانه بحذاء بعض المسجد و لو كان خارجا عن محاذاة الكعبة المشرّفة بكثير، و كذا الخارج عن الحرم ممّا يلي جزءه الآخر، يمكن حملها على إفادة ما ذكرناه، و تقريبه إلى أذهان الناس من اتّساع الجهة الحقيقيّة كلّما ازداد البعد، فربما يصير جهة الكعبة مع المسجد واحدة، و ربما يكون جهتها مع الحرم كذلك، و ذلك بالنسبة إلى خارج المسجد، و إلّا فداخل المسجد ليس له إلّا جهة ضيّقة.

و ثانيهما: ما ورد به أيضا خبران و قال به بعض العلماء قدّس سرّهم من استحباب التياسر للعراقيين، و الأصل فيه خبر المفضّل بن عمر «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة و عن السبب فيه؟ فقال عليه السّلام: إنّ الحجر الأسود لمّا انزل به من الجنّة و وضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال و عن يساره ثمانية أميال كلّه اثنا عشر ميلا، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة، لقلّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب القبلة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 145

أنصاب الحرم، و إذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة» «1».

و قريب منه مرفوع عليّ بن محمّد، و الكلام هنا في أمرين:

الأوّل: في جواب ما أورده سلطان المحقّقين الخواجة نصير الدين الطوسي لمّا حضر مجلس درس المحقّق الأوّل أعلى

اللّٰه مقامهما و بيان دفعه.

و الثاني: في ما يستفاد من الخبرين.

أمّا الأوّل: فحاصل إيراده قدّس سرّه أنّ التياسر أمر إضافي يحتاج إلى مضاف إليه، فالجهة التي يضاف إليها التياسر و يكون التياسر عنها إلى غيرها لا يخلو إمّا أن تكون هي القبلة، فالتياسر عنها حرام، و إمّا أن يكون غيرها أعني: المتياسر إليها، فالتياسر واجب، فما معنى الحكم باستحبابه.

و أجاب عنه المحقّق على ما في روض الجنان بأنّ الانحراف عن القبلة للتوسّط فيها لاتّساعها من جانب اليسار، لأنّ أنصاب القبلة إلى يسار الكعبة أكثر، ثمّ صنّف رسالة في تحقيق الجواب و بعثها إليه فاستحسنها العلّامة الطوسي رحمه اللّٰه حين وقف عليها، و نقلها بتمامها في المهذّب البارع في شرح المختصر النافع.

و أنت خبير بطريق دفعه بعد ما مرّ من البيانات السابقة، فإنّ الجهة العرفيّة- التي هي قبلة البعيد- فيها اتّساع و اشتمال على نقاط كلّها محتملة الانطباق على نقطة الاستقبال الحقيقي، فمن الممكن أن يكون الشارع تعبّدنا بأنّ التمايل عن وسط هذه النقاط إلى جانب يسارها مستحبّ و إن كانت العلّة التي وردت في الخبر تناسب القول بكون القبلة للبعيد هي الحرم لا الكعبة، و لكن يمكن تصحيحها على القول الآخر أيضا بأن نقول: من الممكن كون صيرورة الأنصاب في جانب اليسار أكثر،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب القبلة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 146

علّة تعبّدية لهذا الحكم و إن لم نفهم مناسبته.

و أمّا ما يستفاد من الخبرين فلا يبعد أن يقال: إنّه لا يفهم منه و لو بملاحظة التعليل أزيد من استحباب التياسر عند إرادة الانحراف لا مطلقا حتّى بالنسبة إلى الاعتدال، فإنّه لا ينافي مع العلّة المذكورة أعني: كثرة

الأنصاب في جانب اليسار و قلّتها في اليمين، كما لا يخفى.

فالمناسب هو استحباب التياسر عند إرادة الانحراف بالنسبة إلى التيامن، ثمّ من المعلوم اختصاص الحكم بالعراق.

نعم ربما يمكن التعدّي إلى ما يقابلها من البلاد الواقعة بحذائها في جنوب الكعبة المشرّفة فيقال باستحباب التيامن لهم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 147

الفصل الثاني في أحكام المستقبل
اشارة

قد عرفت أنّ قبلة المتمكّن هو نقطة الاستقبال الحقيقي، و غير المتمكّن هو الجهة بمعنى قوس صغير بمقدار أربع أصابع تقريبا كان كلّ من طرفيه مقطوع الانحراف، و كلّ من نقاط وسطها محتمل الاستقبال بذلك المعنى، فالوقوف بحذاء كلّ من نقاط الوسط استقبال في حقّ النائي الغير المتمكّن حقيقة، لا من باب الموافقة الاحتماليّة، بل قد عرفت زيادة الترخيص من خبري الجدي.

و الكلام الآن في أنّه لو تعيّن عنده نقطة الاستقبال الحقيقي أو الجهة المذكورة علما أو بما هو كالعلم فلا كلام، و كذا كان كلّ من نقاط الجهة متساوية الاحتمال، و أمّا إذا تعذّر تحصيل العلم و أمكن الظنّ فهل يجب تحصيله و اتّباعه أو لا؟

و الكلام تارة مفروض في ما إذا أمكن تحصيله بالنسبة إلى نقطة من نقاط الجهة، و اخرى فيما إذا تردّدت الجهة المذكورة بين مواضع متباينة و أمكن تعيين الواقعيّة منها ظنّا.

أمّا الكلام في الصورة الأولى فمحصّله أنّه يمكن القول بوجوب تحصيله و اتّباعه من دون حاجة إلى دليل اعتبار، بل بنفس القاعدة الأوّليّة، و ذلك لأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 148

يحصل الشكّ لنا في أنّه هل يحصل امتثال: صلّ إلى القبلة بالصلاة نحو النقطة الموهومة أو لا، بعد القطع بحصوله بالصلاة نحو النقطة المظنونة، و إذا دار الأمر بين الامتثال المشكوك و المقطوع فالعقل يعيّن الثاني.

في حجّية مطلق الظنّ عند تعذّر العلم الإجمالي

نعم لو قطع المكلّف بصدق الاستقبال العرفي مع هذا الظنّ أيضا كان مستريحا عن حكم العقل المذكور، و لكن أنّى لنا بهذا القطع، فالمتيقّن من الصدق المذكور صورة عدم وجوده كالعلم.

و الحاصل أنّه مع الشكّ في الصدق المذكور لا محيص عن الاشتغال، و على هذا يحصل الشكّ في إطلاق خبر الجدي

أيضا.

و أمّا الصورة الثانية أعني: اشتباه الجهة بين موضعين متباينين أو ثلاثة أو أربعة متقاطعة بزوايا قوائم مثلا و كان المظنون إحداها، فتارة نتكلّم على حسب القاعدة، و اخرى على حسب ما تقتضيه أدلّة الباب.

أمّا مقتضى القاعدة فهذا الظنّ ظنّ قائم بأحد أطراف العلم الإجمالي مع عدم الدليل على حجّيته، فلا محيص عن الاحتياط بتكرار الصلاة إلى كلّ من الجهات المحتملة، و هذا واضح.

و أمّا مقتضى أدلّة الباب فربما يقال بإطلاق قوله عليه السّلام: ما بين المشرق و المغرب قبلة، بالنسبة إلى هذا الفرض، فإنّه رواية صحيحة قد عمل بها العلماء رضوان اللّٰه عليهم، غاية الأمر قد وفّقوا بينها و بين روايات التحويل بحملها على الناسي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 149

فنقول: هذا تقييد منفصل، فالمتيقّن تقييده بالنسبة إلى العالم بالجهة العرفيّة تفصيلا، و أمّا من تردّدت عنده بين نقطتين متمايزتين ممّا بين المشرق و المغرب فالإطلاق لم يعلم تقييده بالنسبة إليه، فأيّ مانع من القول بكفاية الصلاة له إلى أيّة من نقاط هذا الحدّ.

و لكن فيه عدم الإطلاق، و ذلك لوروده عقيب قوله عليه السّلام: لا صلاة إلّا إلى القبلة، فمن المحتمل أنّه كان في البين قرينة متّصلة و خفيت علينا، أو أنّه كان في مقام جعل ما بين المشرق و المغرب هو القبلة المطلقة التي لا يصحّ الصلاة بدونها في حال من الحالات، فليس لها إطلاق.

و بعبارة أخرى: الرواية بصدد عدم الإعادة لمن انحرف بهذا القدر نسيانا، و الإعادة لمن انحرف بالزيادة عليه بأيّ نحو كان، و لا يدلّ على جواز هذا القدر ابتداء و من أوّل الشروع في الصلاة متعمّدا.

و قد يقال بحجّية الظنّ المطلق في هذا الفرض تمسّكا بموثّقة سماعة المتقدّمة

في باب المواقيت المشتملة على قوله عليه السّلام: اجتهد رأيك و تعمّد القبلة جهدك.

و لكنّك عرفت ما يوهن حملها على ما يشمل اشتباه القبلة، و يقرب اختصاصها باشتباه الوقت، فراجع.

و الأولى الاقتصار في المقام على التمسّك بصحيحة زرارة: «يجزي التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة» «1».

و دلالتها كالصريحة في جواز الاجتزاء بالتحرّي و الاجتهاد في القبلة عند عدم التمكّن من العلم، و النسبة بينها و بين ما دلّ على الصلاة لأربع وجوه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب القبلة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 150

و إن كانت بالعموم من وجه، لكنّ الأمر دائر بين تقييد هذه بالفرد النادر و هو صورة عدم التمكّن إلّا من صلاة واحدة، مضافا إلى استبعاد سعة الوقت للتحرّي، دون الأربع صلوات، و بين تقييد تلك بصورة تعذّر التحرّي، و هذا أولى، كما لا يخفى.

و أمّا معارضتها بمرسلة خراش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «قلت: جعلت فداك، إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون: إذا أطبقت علينا السماء أو أظلمت فلم نعرف السماء، كنّا و أنتم سواء في الاجتهاد؟ فقال عليه السّلام: ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه» «1». حيث يستظهر منها عدم الاجتهاد في القبلة و تعيّن الاحتياط.

فمدفوعة بعدم ارتباط المرسلة بهذا المقام، أعني: الاجتهاد في الموضوع، فإنّ المستفاد من قول المخالفين في مقام الاعتراض على الشيعة الطاعنين عليهم بالقياس و إعمال الرأي في أحكام اللّٰه أنّ مرادهم الاجتهاد في الحكم الشرعي في هذا الفرض.

فمقصودهم أنّا و أنتم سواء في الحاجة إلى إعمال الرأي و النظر في فهم حكم اللّٰه في هذه الحالة، فأجابه الإمام عليه السّلام بأنّا

في هذه الحالة أيضا لا نقيس و لا نجتهد، بل نعمل بمقتضى العلم الإجمالي و نحتاط بالصلاة لأربع وجوه، و إلّا فلو كان الغرض الاجتهاد في تشخيص الموضوع فأوّلا لم يكن وجه لاستشكال المخالفين، لعدم المشابهة بينه و بين الاجتهاد في الأحكام.

و ثانيا لم يكن وجه لتسليم الإمام عليه السّلام أنّه لو لا الاحتياط كان الإشكال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 151

واردا، بل كان حقّ الجواب عدم المناسبة بين الاجتهادين.

و يؤيّد ذلك أنّه فرض إطباق السماء و ظلمتها، و مع هذا يبعد وجود أمارة يستكشف بها القبلة، و يتعيّن كون المراد هو الاجتهاد و الاستحسان الظنّي في الحكم.

ثمّ بعد ما عرفت من حجّية الظنّ الاجتهادي لو قامت البيّنة على خلافه يمكن أن يقال بتقديم البيّنة بملاحظة قوله عليه السّلام: إذا لم يعلم أين وجه القبلة، فإنّ الظاهر من العلم هو بوجه الطريقيّة، فيقوم مقامه سائر الطرق، فيكون الظنّ الاجتهاديّ طريقا حيث لا طريق.

و الظاهر أنّ خبر العدل بل غيره إن أوجب الظنّ يعتمد عليه، و هو من باب العمل بالظنّ لا بالخبر، و هو واضح، كما أنّ الظاهر جواز اختيار طريقة الاحتياط و ترك الاجتهاد بعد ما تقرّر في محلّه من عدم اعتبار نيّة الوجه في العبادة، و جواز الاحتياط و إن استلزم التكرار، لكن حينئذ لا بدّ له من الإتيان بعدد يوجب الجزم بالصلاة في الجهة الواقعيّة، و لا يكفي الإتيان بأربع جوانب، فإنّه غير محصّل لذلك، فإنّ من المحتمل الانحراف بمقدار ثمن الدائرة، و هو غير مغتفر في الجهة العرفيّة، و لعلّه يكفي الإتيان بعشر صلوات في عشرة جوانب في تحصيل القطع

المزبور.

هذا كلّه مع اشتباه القبلة بين الجهات و تمكّن الاجتهاد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 152

في حكم المتحيّر في القبلة بين الجهات الأربع

و أمّا مع اشتباهها و تعذّره ففي بعض الأخبار الاكتفاء بالصلاة إلى جهة واحدة، و هي مرسلة ابن أبي عمير عن زرارة، «سألت أبا جعفر عليهما السّلام عن قبلة المتحيّر؟ قال عليه السّلام: يصلّي حيث يشاء» «1».

و صحيح زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السّلام: «يجزي المتحيّر أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة» «2».

بناء على أنّه غير الصحيح المتقدّم في التحرّي، فإنّه احتمل بعض كونهما واحدة و أنّ كلمة «التحرّي» صحّفت بالمتحيّر، مؤيّدا بعدم نقل التهذيب و الاستبصار هذه الرواية عن الفقيه مع استقرار دأبهما على نقل ما في الفقيه ممّا يعارض ما نقلاه من الرواية.

و ما في الصحيح المرويّ في الفقيه عن معاوية بن عمّار أنّه «سأل الصادق عليه السّلام عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا، فقال عليه السّلام له: قد مضت صلاته، و ما بين المشرق و المغرب قبلة» «3» و نزلت هذه الآية في المتحيّر وَ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(4) البقرة: 115.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 153

بناء على كون التتمّة أعني قوله: و نزلت إلخ من قول الصادق عليه السّلام، و لكن يبعّده عدم الملاءمة بين أجزاء الكلام على هذا التقدير، إلّا أن يكون مستأنفا و غير مرتبط بسابقه، لكن

الظاهر كونه من كلام الصدوق رحمه اللّٰه.

و على كلّ حال فيعار هذه ما تقدّم في مرسلة خراش من قوله عليه السّلام:

فليصلّ لأربع وجوه مؤيّدا بمرسلتي الكافي و الفقيه.

قال في الأوّل: «و روي أنّ المتحيّر يصلّي إلى أربعة جوانب» «1».

و في الثاني: «روي في من لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أن يصلّي إلى أربعة جوانب» «2».

لكن من المحتمل إرادتهما مرسلة خراش المتقدّمة، فالعمدة التكلّم في وجه الجمع بينها و بين ما تقدّم.

فنقول: من المحتمل قريبا أن يكون نظر الإمام عليه السّلام في مرسلة خراش مقصورا على فرض فرضه السائل من فرض عدم نصّ في الكتاب و السنّة يبيّن الحكم مع اشتباه القبلة من كلّ الجهة، ففي هذا الفرض اعترض المخالف بأنّكم معاشر الشيعة أيضا ملجئون بالرجوع إلى الاستحسان و المصالح الظنّية، فأجاب عليه السّلام بأنّه في هذا الفرض أيضا لا تصل النوبة إلى العمل بذلك، بل المتعيّن هو العمل بالاحتياط و الصلاة إلى أربع جهات، فإنّه تحصيل للقبلة الواقعيّة المجعولة في هذا الحال التي هي أوسع من الجهة العرفيّة، و يكون بمقدار ثمن الدائرة، فإنّ الصلاة إلى أربع جهات متقاطعة محصّلة قطعيّة لهذه القبلة الواقعيّة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 4.

(2) المصدر، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 154

و على هذا فلا منافاة في هذه مع ما في تلك من كون الحكم في المتحيّر هو الصلاة إلى جهة واحدة.

و كيف كان، فعلى تقدير البناء على المرسلة و الحكم بتعيين الأربع فالظاهر أنّه ليس حكما بالاحتياط لتحصيل الجهة العرفيّة التي قلنا: إنّها قبلة واقعيّة للبعيد، و إلّا لزم المخالفة القطعيّة في صلاتين ادّيتا إلى جهات متخالفة، مع أنّه ليس هذا المقدار

محصّلا لها كما مرّ، بل الظاهر أنّه توسيع للقبلة بالنسبة إلى هذا الشخص بمقدار ثمن الدائرة، فيكون الأربع احتياطا في تحصيل هذا الموضوع.

و ينبغي التنبيه على فروع:

الأوّل: الظاهر المتبادر إلى الذهن من الوجوه الأربع هو الجهات المتقاطعة بخطّين منقسمين إلى أربع زوايا قوائم، فإنّ غيره غير محصّل للاحتياط المطلوب.

الثاني: إذا صلّى صلاة إلى وجوه أربعة، فهل له تبديل تلك الوجوه بما يخالفها لصلاة أخرى؟ الظاهر ذلك، لإطلاق الرواية، فلا يجب عليه الالتزام في الصلاة المتأخّرة بما اختاره في الصلاة الاولى، بل له التغيير في كلّ صلاة مع رعاية ما ذكرنا من تقاطع الخطّين بأربع زوايا قوائم.

الثالث: هل له أن يأتي بالظهر في طرف واحد، و بالعصر بعده إمّا في هذا الطرف، أو في ما يخالفه، ثمّ يأتي بظهر و عصر آخرين على خلاف الطرف الأوّل، و هكذا إلى أن يتمّ أربع صلوات للظهر و أربع للعصر، أو أنّه يجب عليه أن لا يشتغل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 155

بالعصر حتّى يأتي بأربع الظهر كملا؟

الظاهر التفصيل بين اتّحاد الجهة التي يأتي إليها الظهر و العصر، و بين اختلافها، فمع الاتّحاد لا مانع، لأنّه بعد الفراغ يقطع بإتيان ظهر و عصر مرتّبين مع وجدانهما للقبلة، و أمّا مع الاختلاف فيحتمل أن يكون الواجد للقبلة من العصر متقدّما على الواجد لها من الظهر، فلم يحصل الترتيب حينئذ، فلا بدّ من عدم الاكتفاء بهذه الكيفيّة، لئلّا يقع في الشكّ من جهة الترتيب.

و أمّا مع اتّحاد الجهتين في جميع الأدوار فالذي يتصوّر مانعا عدم إمكان الجزم بالنيّة في العصر المرتّب، بخلاف ما لو أخّر أربع العصر عن جميع أربع الظهر، فإنّه جازم بحيث الترتيب، و لكن قد تقرّر في

محلّه عدم لزوم الجزم في النيّة و جواز الاحتياط و إن استلزم تكرار العمل، و اللّٰه العاصم عن الزلل في القول و العمل.

بقي الكلام في أنّه هل لنا ظنّ مخصوص في تعيين القبلة غير البيّنة حتّى يكون عند تعارضه مع الأمارة الاجتهاديّة مقدّما عليها، كما قلنا في البيّنة، أو ليس؟

الظاهر الثاني، فكلّ ما يتوهّم كونه كذلك من كيفيّة وضع الجدي على حسب ميزان درجة البلد طولا و عرضا و غير ذلك من العلائم من قبلة بلاد المسلمين من محاريبها و قبورها، كلّ ذلك معتبرة من باب إفادة الظنّ الشخصي، فلو لم يفد الظنّ فلا اعتبار به، و ذلك لأنّه لم يقم دليل على اعتبار الجدي فضلا عن غيره في بلد مخصوص، كما عرفت التكلّم فيه.

و حينئذ فإن تعارض اجتهاد الشخص مع قبلة البلد فالمتّبع ما أفاد الظنّ منهما و إن تساويا، فإن كان اختلافهما لا يخرج عن الجهة العرفيّة دخل في من قبلته الجهة العرفيّة، لأنّه غير متمكّن، و إن كان فاحشا بحيث يخرج عن مقدارها، فالمتعيّن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 156

الاحتياط بتكرار الصلاة إلى كلّ من الجهتين بناء على ما أسلفنا من عدم استفادة العموم من قوله عليه السّلام: ما بين المشرق و المغرب قبلة، لأنّ المتيقّن من موارد صدوره أنّه القبلة المعتبرة في كلّ حال بحيث لا يغمض الشارع عنها في شي ء من الحالات، نظير الطهارة الحدثيّة، فلا يدلّ على أنّه في حال الاختيار يكون قبلة بحيث يجوز الدخول في الصلاة بهذه القبلة، مع كون المكلّف قادرا على الاحتياط، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 157

الفصل الثالث في المستقبل له
اشارة

اعلم أنّه لا إشكال في وجوب الاستقبال في الصلاة الواجبة الأصليّة حتّى صلاة

الجنازة من غير فرق بين السفر و الحضر مع التمكّن و الاختيار، و الفريضة الأصليّة التي صارت نفلا بالعرض كالمعادة حكمها حكم أصلها كما يأتي.

كما أنّه لا إشكال في اشتراطه في الأجزاء المنسيّة و الركعات الاحتياطيّة، بل و سجدتي السهو على ما يبيّن في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى.

و لا إشكال أيضا في خروج النافلة بالأصل عن هذا الحكم أعني: شرطيّة الاستقبال في الجملة، حتّى لو صارت فرضا بالعرض كالنذر و أخويه، على ما يأتي تحقيقه.

إنّما الكلام الآن في مقامين:
الأوّل: هل الحكم في النافلة مختصّ بحال الركوب و المشي

و إن كانا في الحضر أو يعمّهما و حالة الاستقرار، فيجوز للإنسان صلاة النافلة إلى غير القبلة مختارا في الحضر و السفر في حال استقراره على الأرض.

و الثاني: هل الحكم مختصّ بغير التكبيرة
اشارة

و أمّا هي فيجب الاستقبال فيها أو يعمّها و سائر الأجزاء؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 158

قد يقال في كلا المقامين بالتعميم نظرا إلى إطلاق ما دلّ من النقل المستفيض على أنّ قوله تعالى فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ نزل في النافلة، فإنّه شامل لحالتي الاستقرار و غيره و التكبيرة و غيرها.

فإن قلت: إنّه لا إطلاق له بل المنساق منه أنّه نزل في النافلة لا الفريضة، و أمّا أنّ موضعه في النافلة ما ذا فليس بهذا الصدد حتّى يكون له إطلاق.

قلت: المتبادر من مقابلة الفريضة و النافلة و مناسبة النافلة لسهولة المئونة كون هذا الحكم المدلول عليه بالآية من خاصّته حيثيّة النفليّة في مقابل الفرضيّة.

و أمّا ورود التقييد في بعض الأخبار بحال الركوب و المشي أو بالاستقبال في حال التكبيرة فلا يوجب رفع اليد عن هذا الإطلاق بناء على ما ثبت في محلّه من عدم حمل المطلق على المقيّد في المندوبات، بل يحمل ذلك فيها على مراتب الفضل.

و تفصيل الكلام أنّه قد ورد في الأخبار الكثيرة جواز النافلة على الراحلة سفرا، بل و حضرا حسب التصريح في روايات حيث سأل في إحداها «عن الرجل يصلّي النوافل في الأمصار و هو على دابّته حيث ما توجّهت، فقال: لا بأس» «1».

و في الأخرى: «في الرجل يصلّي النافلة و هو على دابّته في الأمصار؟

قال عليه السّلام: لا بأس» «2».

و في الثالثة: «سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابّة إذا خرجت قريبا من أبيات الكوفة أو كنت مستعجلا بالكوفة، فقال

عليه السّلام: إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول و تخوّفت فوت ذلك إن تركته و أنت راكب فنعم، و إلّا فإنّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 159

صلاتك على الأرض أحبّ إليّ» «1».

فمقتضى هذه الروايات جواز النافلة على الدابّة و لو حضرا في حال الاختيار، و إن كان في حال النزول أفضل.

و أمّا في حال المشي سفرا أو حضرا فمقتضى بعض الأخبار الجواز فيه أيضا اختيارا، ففي بعضها: «كان- يعني أبا جعفر عليه السّلام- لا يرى بأسا بأنّ يصلّي الماشي و هو يمشي، و لكن لا يسوق الإبل» «2».

و في آخر: «سألته عن الرجل يصلّي و هو يمشي تطوّعا؟ قال: نعم» «3».

و قريب منها أخبار أخر، و لولاها لم يمكن التعدّي من حال الركوب إلى المشي، لاحتمال مدخليّة الركوب في الحكم باعتبار زيادة اطمئنان البدن فيه من حال المشي.

و أمّا جواز ترك الاستقبال في حال التكبيرة أيضا فمقتضى إطلاق كثير من الأخبار ذلك و خصوصا مع الاهتمام بشأن التكبيرة و كونها الجزء العمدة للصلاة، و خصوصا الخبر الحاكي لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حين رجوعه صلّى اللّٰه عليه و آله من مكّة و جعله الكعبة خلف ظهره من أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله صلّى إيماء على راحلة أينما توجّهت به «4»، مع عدم ذكر استقباله بالتكبيرة، فلو كان معتبرا لزم التعرّض له.

و الحاصل يلزم من إرادة المقيّد لبّا من هذه المطلقات الكثيرة نقض الغرض

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 12.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16

من أبواب القبلة، الحديث 5.

(3) المصدر، الحديث 6.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 20.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 160

غالبا، فيكون هذه قرينة على حمل ما ذكر فيه الاستقبال بالتكبيرة من الأخبار، و هو خبران على الأفضليّة.

هذا مضافا إلى التصريح بعدم لزوم الاستقبال في حال التكبيرة في رواية الحلبي بناء على زيادة ذكرها الكليني رحمه اللّٰه في الكافي، فإنّ فيها: «قلت: استقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال عليه السّلام: لا، و لكن تكبّر حيثما كنت متوجّها، و كذلك فعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

بقي الكلام في أنّه هل يجوز النافلة في حال الاستقرار على الأرض أيضا

بغير القبلة أو يشترط فيها حينئذ الاستقبال؟ ظاهر رواية البزنطي عن الرضا صلوات اللّٰه عليه عدمه، «قال: سألته عن الرجل يلتفت في صلاته، هل يقطع ذلك صلاته؟

قال عليه السّلام: إذا كانت الفريضة و التفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلّى و لا يعتدّ به، و إن كانت نافلة لم يقطع ذلك صلاته، و لكن لا يعود» «2».

و هو مقتضى ما دلّ على أنّ قوله تعالى فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ ليست بمنسوخة و أنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر، و لا يضرّ التقييد بحال السفر بعد ما عرفت من الإطلاق و التنصيص في الحضر، فيجب حمله على تعدّد المطلوب.

مع أنّه على فرض الإجمال لا عموم و إطلاق في البين يوجب الاشتراط في النافلة، إذ ما يتوهّم عمومه قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «3». و قوله في صحيحة زرارة: «لا صلاة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 8.

(2)؟؟؟.

(3) البقرة: 144.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 161

إلّا إلى القبلة» «1».

و لا

عموم لهما بعد ورود الخبر بأنّ الآية واردة في الفريضة، و هو خبر زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه قال عليه السّلام: «استقبل القبلة بوجهك و لا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول لنبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله في الفريضة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الحديث» «2».

لا يقال: إنّ من المقرّر أنّ المخصّص المنفصل إذا تردّد بين الأقلّ و الأكثر مفهوما فالمرجع عموم العامّ، و مقامنا من هذا القبيل، فمقتضى عموم الآية و الصحيحة اشتراط الاستقبال في الفريضة و النافلة في جميع الحالات، فلا بدّ في الخروج عنه من التماس دليل معتبر.

لأنّا نقول: نعم الأمر كما ذكرت في المخصّص المنفصل، و لكن المقام ليس منه، بل من المفسّر و الحاكم، و فيه لا نسلّم جواز الرجوع إلى عموم المحكوم بعد إجمال الحاكم.

فإذا ورد عموم: لا صلاة إلّا إلى القبلة، و عموم فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ ثمّ ورد تفسير الأوّل بالفريضة، و الثاني بالنافلة فلا يبقى لنا عموم مستقرّ الظهور وراء هذا المفسّر، فإن طرأ عليه الإجمال من حيث إطلاق الفريضة أو النافلة لبعض الأحوال فشككنا في شرطيّة الاستقبال فيهما في بعض الحالات و فرضنا إجمال المفسّر من هذه الجهة لا يمكننا رفع الشكّ بتوسّط شي ء من العمومين.

و الحاصل أنّه بعد فرض الإجمال لا محيص عن الرجوع إلى الأصل العملي

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 162

و هو فيما إذا تردّد الأمر بين الأقلّ و الأكثر في الواجبات أصالة البراءة

و قبح العقاب بلا بيان، و أمّا في المندوبات فيشكل ذلك بعدم عقاب حتّى يحكم برفعه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

إلّا أن يقال- كما حكاه شيخنا الأستاذ دام بقاه عن بعض السلف من أساتيده قدّست أسرارهم- بأنّه و إن لم يكن عقاب، لكن لا يخلو أيضا عن عتاب، و هو أيضا قبيح بدون البيان، أو يقال: نتمسّك بأصالة البراءة الشرعيّة بناء على شمول حديث الرفع للوضعيّات، فيحكم بتوسّطه بنفي شرطيّة القبلة، هذا.

و لكنّ المشهور أعرضوا عن الفتوى، حتّى حكي عن بعض أنّهم رموا القائل بعدم الاشتراط مع شذوذه و عدم معروفيّته بقوس واحد.

مضافا إلى أنّ إتيان النافلة بخلاف القبلة في حال الاستقرار يعدّ من المنكرات عند أهل الإسلام، فالاحتياط يقتضي الاجتناب.

ثمّ هل المراد بالنفل و الفرض الموضوعين للاشتراط و العدم في هذا المقام ما ذا؟

فيه خمسة احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد هو الذاتي منهما و إن تغيّر النفل عن النفليّة إلى الفرضيّة بالعرض كالنذر، و الفرض عن الفرضيّة إلى النفليّة كذلك كالصلاة المعادة.

الثاني: أن يكون هو الفعلي منهما، سواء كان نفلا بالذات أم فرضا كذلك.

الثالث: أن يكون المراد من النفل ما كان كذلك ذاتا و فعلا، و من الفرض ما كان كذلك ذاتا و فعلا، فيكون ما اختلف فيه الجهتان خارجا عن مدلول أدلّة الطرفين، و لا بدّ أن يعمل فيه على القواعد.

الرابع: أن يكون المراد بالنفل ما اتّصف بصفة النفليّة في الجملة، سواء كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 163

ذاتا فقط، أو فعلا فقط، أو منهما معا، فيكون الفرض عبارة عمّا اتّصف بالفرضيّة ذاتا و فعلا.

الخامس: عكس ذلك، أعني: أن يكون الفرض عبارة عمّا اتّصف بالفرضيّة بالأعمّ من الذاتيّة و الفعليّة أو كليهما، و النفل عبارة عمّا اتّصف بها ذاتا و فعلا، هذه أنحاء التصوّرات بحسب مقام

الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الإثبات فقد يقال بعدم إمكان كون الوجوب الفعلي موضوعا للاشتراط، إذ اللازم منه كون الحكم مورثا لتقييد موضوعه، فالصلاة مع قطع النظر عن حكمها لا تقييد فيها، و إنّما يوجب تعلّق حكم الوجوب بها صيرورتها مقيّدة بالاستقبال، و هذا محال.

و أيضا يلزم أن يكون ناذر النافلة و لو لم يقيّدها بالاستقبال ملزما به، مع كونه غير ما التزمه، و وضوح أنّ أمر الوفاء بالنذر ليس بأزيد من الإلزام بما التزم.

و على هذا فالمحيص منحصر بأن يقال: إنّ المراد بالفرض هو الذاتي، و كذلك النفل، كما هو الاحتمال الأوّل.

و لكنّ الحقّ اندفاع كلا الأمرين.

أمّا إشكال عدم المعقوليّة فلأنّ الغير المعقول إنّما هو تأثير الحكم في موضوعه إمّا تقييدا و إمّا إطلاقا، و أمّا إذا لم يكن هناك تأثير، بل كان مجرّد أنّ الحكم الوجوبي لا يجتمع مع إطلاق موضوعه من حيث الاستقبال و كانا متنافيين بحيث دار الأمر بين صرف النظر عن الأمر رأسا أو الأمر و التقييد في الموضوع فلا محذور عقليّ أصلا، إذ المحذور ناش من الترتّب و الطوليّة، و لا ترتّب على هذا، بل الثابت مجرّد التلازم بين الحكم و التقييد و عدم إمكان الجمع بينه و بين الإطلاق.

و أمّا إشكال لزوم الالتزام بغير ما التزم فلأنّه أيضا إنّما يتوجّه لو قلنا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 164

باقتضاء النذر أزيد ممّا التزمه الناذر، و أمّا إذا قلنا بأنّ التقييد لم ينشأ من ناحية اقتضاء النذر، بل من جهة وجود المانع في الفرد الفاقد القيد بعد استواء نسبته من حيث الاقتضاء في جميع أفراد ما التزم فلا محذور.

مثلا لو نذر طبيعة الصوم من غير تقييدها بشي ء من أيام السنة

فهو من حيث النذر متساو النسبة إلى جميع الأيام، لكن حرمة صوم العيدين يمنع عن تأثير هذا المقتضى فيه الوجوب، فيتضيّق دائرة الوجوب قهرا بما عدا صوم العيدين.

و هكذا الكلام في ما نحن فيه لو قلنا بأنّ ظاهر الأدلّة اشتراط الاستقبال في الفرض الفعلي، فإنّا نقول: و إن كان الناذر لم يعلّق نذره إلّا بطبيعة الصلاة النافلة و معنى الأمر بالوفاء أيضا هو الإتيان بهذا، إلّا أنّه منع عن تأثير هذا المقتضي الوجوب في الفرد الفاقد للاستقبال مانع، فانحصر الوجوب قهرا بالفرد الآخر، أعني: الواجد للاستقبال.

و قد يقال باستظهار النفل الفعلي و الفرض كذلك، كما هو الاحتمال الثاني بمناسبة أنّ الوجوب يلائم مع التضييق و الاستحباب، و الطلب الندبي يلائمه التسهيل و قلّة المداقّة.

و فيه أنّه و إن كان الأمر كما ذكر، لكنّه لا يوجب ظهورا في اللفظ و هو المطلوب.

و الذي يقتضيه الإنصاف أن يقال بتبادر النفل الذاتي من النافلة، و الفرض كذلك من الفريضة.

و لعلّ السرّ أنّ النافلة المنذورة لا يرتفع بطروّ الأمر النذري ملاك ندبه، بل و لا ذات الطلب الندبي، بمعنى أنّه ينفكّ عنه الحدّ العدمي الذي هو فصل حدّ الاستحباب، و لكنّ المعنى الجامع بين وجود هذا الحدّ و عدمه و هو أصل الطلب باق،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 165

غاية الأمر أنّه مندكّ في الطلب الإيجابي.

و لا يخفى أنّ قوام عباديّته و الذي يكون داعيا للإنسان في حال عبادته إنّما هو ذات الأمر، لا هي مع هذا الحدّ العدمي، فعند النذر أيضا يكون ممتثلا لهذا الأمر و آتيا بالنافلة بمحرّكية أمرها، لا بمحرّكية أمر «ف بالنذر»، نعم الداعي له إلى هذا الإتيان بداعي أمر النافلة هو الأمر المذكور نظير

إتيان المستأجر بالصلوات الاستيجاريّة، حيث ليس عباديّته بالإتيان بداعي أمر «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، بل بداعي الأمر الصلاتي، و الأمر المذكور داع على الداعي.

و بالجملة، المدّعى أنّ النافلة عبارة عن الفعل الذي تحقّق فيه ذات الأمر الندبي و إن انسلخ عنه حدّه، نعم الاستحباب المصطلح لا يطلق إلّا على واجد الحدّ.

و هكذا الكلام في الفريضة، فالمراد بها ما كان فيه ملاك الأمر الإيجابي و إن انسلخ عنه حدّ المنع عن النقيض، كما هو الحال فيما إذا أوجد العبد بعد الإتيان بفرد من الطبيعة المأمور بها قبل حصول الغرض الداعي إلى الأمر فردا آخر منها أوفق بذلك الغرض من الفرد الأوّل، كما لو أمره المولى بإحضار الماء ليرفع العطش فأحضر ماء، و لكنّه وجد ماء أصفى و أبرد من الأوّل قبل صرف المولى الماء الأوّل، فلو أحضره كان هذا تبديلا لامتثال الأمر الإيجابي بالفرد الأحسن، لا أنّه ممتثل للأمر الندبي، و هذا الذي يأتي به ثانيا مصداق للمأمور به بالأمر الندبي، نعم كان له الاكتفاء بالفرد الأوّل، و هذا معنى استحباب الثاني بالمعنى المصطلح و عدم وجوبه كذلك، و لكن المستحبّ هو امتثال الأمر الإيجابي بتبديل الامتثال الأوّل، لا إيجاد فرد ثان مع وقوع الفرد الأوّل امتثالا، بل هذا إبطال و إلغاء لكون الفرد الأوّل امتثالا و جعل هذا الثاني مكانه، و هذا و إن كان مستحبّا اصطلاحيّا، لكنّه داخل في مفهوم الفريضة عرفا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 166

و هذا بخلاف ما لو أتى بالفرد الثاني بعد سقوط الغرض الباعث على الأمر الأوّل، كما لو كان إتيانه الماء الثاني في المثال بعد رفع عطش المولى باستعمال الماء الأوّل لملاك آخر ندبي، فإنّه غير مشمول لمفهوم الفريضة.

و حينئذ

نقول: الفريضة المعادة جماعة من قبيل القسم الأوّل، حيث إنّ الإتيان بها لأجل استيفاء كمال في الفرد الثاني مفقود في الفرد الأوّل مع عدم سقوط الغرض الداعي إلى الأمر، فإنّه وصول العبد إلى درجات الجنّة الموكول إلى ما بعد الموت، فله تبديل الفرد الأوّل بالفرد الأكمل و هو مفاد قوله في بعض أخبار تلك المسألة: يختار اللّٰه أحبّهما إليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 167

الفصل الرابع في الخلل الحاصل من حيث الاستقبال
اشارة

لو صلّى باجتهاد القبلة أو في ضيق الوقت أو في سعته و قلنا بأنّ المتحيّر مخيّر فتبيّن بعد الفراغ خطأه و أنّه صلّى إلى غير القبلة، فللمسألة صور:

الاولى: أن يتبيّن كونه في ما بين المشرق و المغرب و كان الوقت باقيا.

الثانية: هذه الصورة و كان الانكشاف بعد خروج الوقت.

الثالثة: أن يتبيّن كونه في نقطة المشرق أو المغرب مع بقاء الوقت.

و الرابعة: هذه الصورة مع خروجه.

الخامسة: أن ينكشف كونه متعدّيا عن نقطة المشرق أو المغرب إلى النقطة المقابلة للكعبة مع بقاء الوقت.

السادسة: هذه الصورة مع خروجه.

حكم الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب
اشارة

و محصّل الكلام في هذه الصور أنّه قد وردت عدّة أخبار بمضمون أنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة لهذا المصلّي المخطئ و أنّ صلاته صحيحة ماضية لا إعادة لها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 168

و بعضها كالصريح في نفي الإعادة في الوقت، فيعلم بالنسبة إلى خارجه أيضا، و هو صحيح معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق عليه السّلام «عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا، فقال عليه السّلام له: قد مضت صلاته، و ما بين المشرق و المغرب قبلة» «1».

و مثله صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه قال: «لا صلاة إلّا إلى القبلة، قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال عليه السّلام: ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه، قال:

قلت: فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال عليه السّلام: يعيد» «2».

و لكن هنا أخبار كثيرة أخر بمضمون أنّه «إذا صلّيت فأنت على غير القبلة و استبان لك أنّك صلّيت و أنت على غير القبلة و أنت في وقت فأعد، و إن

فاتك الوقت فلا تعد» «3».

قال في الحدائق: لقائل أن يقول: إنّ بين أخبار الطرفين عموما و خصوصا من وجه، فكما أنّ هذه الأخبار عامّة بالنسبة إلى الصلاة، على غير القبلة، إلّا أنّها مفصّلة بالنسبة إلى الوقت و خارجه، و تلك الأخبار مطلقة بالنسبة إلى الوقت و خارجه و خاصّة بالنسبة إلى القبلة التي حصل فيها الانحراف و هي ما بين المشرق و المغرب، فكما يمكن ارتكاب التخصيص المذكور الذي بني عليه الاستدلال بالأخبار في الموضعين (و مقصوده الحكم بالصحّة في صورة الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب مطلقا و التفصيل بين الوقت و خارجه في صورة الانحراف بأزيد ممّا ذكر) كذلك يمكن تخصيص تلك الأخبار بالصلاة في خارج الوقت، كما فصّلته

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القبلة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 169

هذه الأخبار و إبقائها على إطلاقها بالنسبة إلى القبلة فيقال بوجوب الإعادة في الوقت متى صلّى إلى غير القبلة بأيّ نحو كان و إن كان فيما بين المشرق و المغرب.

و لا يتمّ الاستدلال بتلك الروايات على ما ذكروه، و لا بدّ لترجيح الأوّل من دليل.

و ساق الكلام إلى أن قال: و هذا بحمد اللّٰه سبحانه ظاهر لامرية فيه، و بالجملة، فإنّي لا أعرف لهم دليلا على ما ذكروه زيادة على الإجماع المدّعى في تلك المسألة.

نعم قوله في صحيحة معاوية: «ثمّ ينظر بعد ما فرغ» «1» ربّما أشعر بكون ظهور الانحراف في الوقت بالحمل على البعديّة القريبة، كما هو المتبادر، هذا أقصى ما يمكن أن يقال في المقام، انتهى كلامه

رفع في الخلد أعلامه.

و أنت خبير بأنّ النسبة و إن كانت عموما من وجه، إلّا أنّ أخبار عدم الإعادة مع الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب أظهر بالنسبة إلى نفي الإعادة في الوقت من الأخبار الأخر المفصّلة من وجوه:

الأوّل: ما أشار هو قدّس سرّه إليه في آخر كلامه بقوله: نعم قوله في صحيحة معاوية إلخ، فإنّ تقييد هذا الكلام بما بعد الوقت بعيد في الغاية.

الثاني: أنّ لسان الأخبار الأول أنّ الصلاة صحيحة ماضية، و هو غير العفو عن القضاء مع وقوع الصلاة فاسدة، فلو كان المراد نفي القضاء خارج الوقت مع لزوم الإعادة في الوقت لما ناسب التعبير بمضيّ الصلاة.

الثالث: إنّ لسانها أنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة، و هذا حاكم على تلك الأخبار و شارح للمراد بها، و أنّ غير القبلة فيها عبارة عن نفس المشرق و المغرب أو ما جاوزهما إلى جهة الاستدبار.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 170

و بالجملة، لا أرى وجها لما ذكره قدّس سرّه، بل لا بدّ من حمل إطلاق كلام القدماء بوجوب الإعادة في الوقت أيضا على غير ما بين المشرق و المغرب، هذا كلّه في صورة الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب.

أمّا مع تبيّن الانحراف بأزيد من ذلك سواء كان على نفس إحدى النقطتين أو متجاوزا عنهما إلى الاستدبار فمقتضى إطلاق الأخبار المتقدّم إليها الإشارة هو التفصيل بين الانكشاف في الوقت فيجب الإعادة، و خارجه فلا يجب القضاء، و هذا بالنسبة إلى نفس نقطتي المشرق و المغرب ممّا لا إشكال فيه، بل الإجماع عليه دائر في ألسنة القوم.

إنّما الإشكال بالنسبة إلى الفرد الآخر، أعني: ما

إذا تجاوز الانحراف عن النقطتين، سواء وصل إلى حدّ الاستدبار أم لم يصل، فمقتضى الإطلاق المذكور جريان التفصيل فيه أيضا و هو المحكيّ عن جماعة.

و لكنّ المشهور على ما نقل قد أفتوا بوجوب الإعادة و القضاء في هذه الصورة، و ليس في البين ما يمكن أن يكون مستندا لهم سوى مرسلة النهاية قال: قد رويت رواية أنّ «من صلّى إلى استدبار القبلة ثمّ علم بعد خروج الوقت وجب عليه إعادة الصلاة» «1» ثمّ قال: و هذا هو الأحوط و عليه العمل، انتهى.

و لا يخفى صراحته، و لكنّ العمدة ضعفه بالإرسال، فإن علم أنّ المشهور استندوا إليه فهو، و إلّا فلا يصلح رفع اليد عن إطلاق الأدلّة المتقدّمة بسببه. و سوى خبر معمّر بن يحيى قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل صلّى على غير القبلة، ثمّ تبيّنت القبلة و قد دخل وقت صلاة أخرى؟ قال عليه السّلام: يعيدها قبل أن يصلّي هذه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القبلة، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 171

التي قد دخل وقتها، إلّا أن يخاف فوت التي دخل وقتها» «1».

تقريب الاستدلال به أنّ النسبة و إن كانت هي التباين الكلّي، فإنّ كلّا من هذا الخبر و الأخبار المتقدّمة حاكم في موضوع الصلاة على غير القبلة بعد خروج الوقت أحدهما بالإعادة و الآخر بنفيها، إلّا أنّه لا بدّ من معاملة الخصوص المطلق مع هذا الخبر، و العموم كذلك مع تلك، و ذلك لأنّه بعد الإجماع المنعقد على حكم الصلاة على نفس المشرق أو المغرب و أنّه بعد الوقت لا إعادة فيها يجب إخراج هذا الفرد عن تحت هذا الخبر، فيبقى الباقي بعده ما كان

متعدّيا عن النقطتين، و هذا المضمون الثاني خاصّ بالنسبة إلى الأخبار المتقدّمة، فيتخصّص عمومها بهذا الخبر بصورة كون الانحراف إلى نفس المشرق أو المغرب.

و فيه ما تقرّر في الأصول في مبحث التعادل و التراجيح من أنّ الحقّ في مثل المقام عدم انقلاب النسبة بواسطة الإجماع على بعض الأفراد.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 171

تحقيق مسألة أصوليّة

و توضيح المقام أنّه ربما يقال بأنّ رتبة السند متقدّمة على الدلالة، ففي الرتبة المتقدّمة يكون دليل السند شاملا لكلا الخبرين بلا مزاحم، و في الرتبة الثانية لا تحيّر لنا، فإنّا لو فرضنا الخبرين مقطوعي السند حتّى كأنّا سمعناهما من لسان المعصوم عليه السّلام فلا إشكال أنّه كان المتعيّن تخصيص أحدهما بمورد الإجماع ثمّ تخصيص الآخر بما بقي بعد الإجماع من الأوّل، فمعيار التعارض أن يكون التحيّر باقيا بعد فرض الخبرين مقطوعي الصدور، و معيار عدمه أن لا يكون كذلك،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 172

فالمقام من قبيل الثاني، كما تقدّم.

و فيه أنّ دليل السند إنّما يشمل الخبرين إذا لم يلزم من شموله لهما محذور و خلاف قاعدة كما في العامّ و الخاصّ المطلقين، فإنّه ليس خارجا من ذات المتكلّمين في مقام ضرب القانون ذكر العامّ و الخاصّ منفصلين.

و هذا بخلاف ما إذا أراد إكرام العلماء العدول و عدم إكرام العلماء الفسّاق، فعبّر عن هذا المقصود بقوله: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم العلماء، فدليل السند لا نسلّم سلامته عن المعارض حينئذ.

ألا ترى أنّه لو علمنا أنّه لو شمل الخبر دليل الحجّية لزم حمله على التقيّة، فليس دليل الحجّية شاملا له، و

كذلك لو عثرنا على مطلب في رسائل الشيخ الأجلّ المرتضى قدّس سرّه و كان في بادي النظر غير مناسب مع جلالة الشيخ نتأمّل لعلّه نصل إلى حقيقة مرامه، و أمّا إذا تأمّلنا و لم نصل احتملنا حينئذ عدم صحّة النسخة، و هكذا الكلام في المقام.

فإن قلت: بناء على هذا لا يكون الخبران من المتعارضين، لأنّهما عبارة عمّا كان مشمولا لدليل الحجّية.

قلت: و هذا أيضا كذلك، إذ كلّ منهما في حدّ ذاته مشمول له، و إنّما الإشكال نشأ بحسب مقام الفعليّة.

و الحاصل أنّ الخبرين معدودان من باب التعارض، لا من باب العامّ و الخاصّ، و توضيح المقام أزيد من هذا يطلب من محلّه، هذا.

و يمكن أن يقال في مقامنا بعدم الدلالة في خبر معمّر بن يحيى، و ذلك لأنّه وارد مورد حكم آخر، لأنّه مسوق لبيان ترتيب الفائتة من حيث القبلة على الحاضرة بعد الفراغ عن جهة الفوت فليس بصدد أنّه بم فات و كيف فات، فلا إطلاق له من هذه الحيثيّة حتّى يمكن الأخذ به.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 173

تنبيهان:
الأوّل: بعد البناء على الأخذ بالمرسلة فهل المراد بالاستدبار ما ذا؟

يمكن أن يقال بأنّه عبارة عن الانحراف المتعدّي عن نقطتي المشرق و المغرب و إن لم يصل إلى النقطة المقابلة للقبلة.

وجهه ما ذكر من الشرطيّتين في بعض أخبار الانحراف بين المشرق و المغرب من أنّه إن كان بين المشرق و المغرب فليحوّل وجهه، و إن كان على دبر القبلة فليقطع الصلاة، بناء على أنّ الظاهر منه عرفا كون الشرطيّة الثانية مفهوما للشرطيّة الأولى، فالمقصود من قوله: و إن كان إلى دبر القبلة أنّه إن لم يكن فيما بين المشرق و المغرب فبقضيّة وحدة السياق نقول في المرسلة أيضا: إنّ المراد هذا المعنى، لكن خصوص

المشرق و المغرب خرج بالإجماع و بقي الباقي.

هذا على تقدير تسليم هذا الظهور، و إن أنكرناه فلا يخفى أنّ حال الاستدبار عرفا على العكس من الاستقبال، فكلّ ما كان استقبالا عند العرف على ما مرّ تفصيله فعكسه استدبار، فيكون هذا المقدار خارجا عن تحت الإطلاقات الدالّة على عدم الإعادة خارج الوقت، و يبقى غيره و هو نفس المشرق و المغرب و الانحراف عنهما إلى جهة الاستدبار الغير البالغ إيّاه تحت تلك الإطلاقات.

الثاني: الظاهر بحسب إطلاق أخبار مسألة الانحراف فيما بين المشرق و المغرب عدم الفرق بين المجتهد و الناسي

للقبلة، إذ ليس فيها لفظ الاجتهاد إلّا في بعض أخبار الأعمى المذكور فيه إمامة الأعمى لغيره، ثمّ تبيّن الانحراف، فحكم بإعادته دونهم معلّلا بأنّهم قد تحرّوا، الذي لا بدّ بملاحظة الجمع من حمله على الانحراف بما بين المشرق و المغرب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 174

و المقصود من عدم تحرّي الأعمى دخوله في الصلاة بغير مبالاة و بلا تجسّس عن أمر القبلة أصلا، و بين تحرّي المأمومين كونهم معتمدين على فحص الإمام، و الحاصل أنّ المراد منه ما يقابل عدم المبالاة.

و أمّا الأخبار الدالّة على حكم الانحراف الزائد عمّا بين المشرق و المغرب ففي بعضها التصريح بالاجتهاد و هو قوله عليه السّلام في رواية سليمان بن خالد: و إن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده، لكن صحيحة عبد الرحمن و مكاتبة محمّد بن الحصين مطلقتان ليس فيهما قيد الاجتهاد، فيمكن استفادة حكم الناسي منهما.

اللّٰهمّ إلّا أن يستفاد العلّية من رواية سليمان بن خالد مع وحدة الحكم في جميع الأخبار، فإنّه إذا علّل حكم واحد في خبر واحد بعلّة فالأخبار الأخر المطلقة تصير مقيّدة بمورد تلك العلّة، نعم يمكن حكم آخر معلّلا بعلّة أخرى، لكنّ الظاهر وحدة الحكم في جميع الأخبار.

لكنّ الإنصاف عدم استظهار العلّية

من الرواية بملاحظة أنّ الاجتهاد لا موضوعيّة له، بل المقصود التوصّل به إلى الظنّ أو القطع، فإن كان الاجتهاد موضوعيّا و كان دائما موصلا إلى الظنّ أمكن أن يقال باستفادة العلّية و أنّ الحكم الظاهري هاهنا أفاد الإجزاء، فأين هو من النسيان الذي هو صرف المعذوريّة.

و لكنّه بعد القطع بأنّه قد ينفكّ الاجتهاد عن الظنّ إلى القطع و هو صرف المعذوريّة، و قد لا يحصل شي ء من الظنّ و القطع، و كذلك قد ينفكّ الظنّ عن الاجتهاد، و مع ذلك يكون حجّة نعلم بعدم الموضوعيّة له، و أنّ المراد كونه معذورا خارجا عن حدّ عدم المبالاة، و هذا المعنى متحقّق في مورد النسيان.

ثمّ هذا كلّه في الناسي، و أمّا الجاهل بالحكم بكلا قسميه فالظاهر عدم اندراجه في الأخبار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 175

البحث الثالث في الستر و الساتر

اشارة

أعني مطلق لباس المصلّي و لو لم يكن ساترا لعورته، فإنّ هنا بحثا في ستر العورة الذي هو الشرط، و بحثا عن أمور يعتبر في اللباس إذا لبسها المصلّي حال الصلاة و لو ستر عورته بغيره، و فيه فصول:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 177

[الفصل] الأوّل
اشارة

يجب على المختار ستر بشرة العورة في حال الصلاة فريضة كانت أم نافلة، كان الناظر المحترم موجودا أم لا.

و ليعلم أوّلا أنّ هذا الباب أعني: الستر الصلاتي غير باب الستر عن الناظر المحترم.

و الملاك في البابين غير متّحد، فإنّ المطلوب هناك هو الحفظ عن الناظر و التستّر عنه بأيّ أمر حصل و لو بالاختفاء عنه بظلمة أو بيت، أو الدخول في ماء أو وحل، و ليس الزائد عن ذلك واجبا.

و المطلوب في المقام هو عدم كون العورة أو تمام الأجزاء عاريا، و من المعلوم أنّ العريانيّة أمر لا يتفاوت فيه بين الظلمة و غيرها و الماء و غيره، و لا يحصل بوضع اليد على القضيب و الأنثيين مع حفظ الدبر بالأليتين أو بالتطلية بالطين، فإنّه يصدق العراء و عدم الستر معها أيضا.

و أيضا لا ملازمة بين ما يجب ستره في أحد المقامين مع ما يجب ستره في الآخر، فلو قلنا في ذاك الباب بأنّ ما يجب ستره في الرجل عبارة عن تمام ما بين الركبة و السرّة الذي هو ما يستر بالمئزر المأمور به في أخبار الحمّام فلا يوجب ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 178

القول بمثله في المقام، و لو فرض إطلاق العورة على هذا المقدار في ذاك المقام لا يوجب صرف إطلاق العورة هاهنا بعد أنّ لها منصرفا عرفيّا هو عبارة عن الدبر و القضيب و الأنثيين،

فيكون إطلاق العورة في ذاك الباب محمولا على ضرب من التوسّع أو التنزيل.

و كذا لو قلنا: إنّه يجب في ذاك الباب على المرأة ستر جميع بدنها حتّى الوجه و الكفّين و القدمين فلا يوجب ذلك القول به في المقام بعد ما كان المستفاد من أخبار المقام خلافه.

فنقول بصحّة صلاتها مكشوفة الوجه و الكفّين و القدمين و لو كانت بمحضر من الأجنبيّ، غاية الأمر أنّها أثمت من جهة الكشف المذكور، و لكن لا يضرّ ذلك بصحّة صلاتها كما هو الحال في الأمة لو لم تستر رأسها بمحضر الأجنبي في صلاتها، فإنّها آثمة مع صحّة صلاتها.

إذا عرفت ذلك فالكلام في المقام في ثلاثة أمور:

الأوّل: في مقدار العورة الواجب سترها في كلّ من الرجل و المرأة.

و الثاني: في تعميمه بالنسبة إلى جميع الأحوال أو تخصيصه ببعضها.

و بعبارة أخرى:

هل لنا دليل عامّ يشمل الحالات حتّى نحكم عند الشكّ بمقتضى عمومه بشرطيّة الستر كما كان لنا في باب الطهور و القبلة من قولهم عليهم السّلام: لا صلاة إلّا بطهور، و لا صلاة إلّا بالقبلة، أو ليس لنا هذا العموم، فلا بدّ من الرجوع في مورد الشكّ إلى الأصول و هو البراءة، لأنّه من باب الشكّ في القيد، و الحقّ فيه على ما قرّر في الأصول هو البراءة كالجزء.

و الثالث: في تحديد الستر الواجب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 179

في تحديد العورة
أمّا الأمر الأوّل أعني: مقدار العورة

فالظاهر أنّ العورة في الرجل هي السوأة و ما يستقبح ذكره و هو معهود معروف، لأنّه المتبادر من لفظ العورة المذكور في رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام: «قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال عليه السّلام: إذا

أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود» «1» الخبر.

و أمّا المرأة فالظاهر من الأخبار وجوب ستر تمام أجزاء بدنها إلّا الوجه و الكفّين و القدمين، و ذلك لأنّ المذكور في الأخبار في كيفيّة صلاتها أنّها تصلّي إمّا بثلاثة أثواب، الخمار «2» و الدرع «3» و الإزار «4»، أو بثوبين، الخمار و الدرع، أو بثوب واحد، الملحفة، و هي التي يشتمل على رأسها إلى القدم، و المتحقّق في جميع هذه الأنحاء الثلاثة هو استتار جميع البدن.

و أمّا استثناء الوجه و الكفّين و القدمين و إن لم يصرّح به في الأخبار المذكورة، لكن يعلم ذلك من غلبة ملازمة انكشاف هذه مع لبس هذه الأثواب، فإنّها غير ساترة لهذه الأجزاء بحسب الغالب، فلو كان سترها لازما لزم التنبيه عليه و عدم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) چارقد.

(3) پيراهن.

(4) لنگ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 180

الاكتفاء بهذه الأثواب.

و الظاهر عدم الفرق في الكفّين بين الظاهر و الباطن، لاستوائهما في الغلبة المذكورة، و أمّا القدمان فالفرق بين ظاهرهما و باطنهما ظاهر، إذ حال القيام يكون باطنهما مستورا بالالتصاق بالأرض، و حال السجود بالثوب.

إن قلت: قد ذكر عدم كفاية التطلية بالطين في هذا المقام، و ما الفرق بين الالتصاق بالأرض و التطلية بالطين.

قلت: الفرق واضح، فإنّ العراء صادق مع الثاني، و غير صادق مع الأوّل، ألا ترى أنّه لو عمل قالبا للبدن من الطين الكثيف و لبسه يجتزي به قطعا، فكذا في المقام.

و الحاصل أنّه لا يستفاد الاستثناء في الباطن، و لكن لا يستفاد اشتراط الستر فيه أيضا، فيكون مشكوك الحال، و الأصل فيه البراءة، و لكن الاحتياط مراعاة الستر.

و لعلّه

إلى هذا يشير ما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في حاشية نجاة العباد من الاحتياط في الباطن.

و أمّا الأمر الثاني

فاعلم أنّه ليس في مقامنا دليل دالّ على إطلاق الشرطيّة كما في بابي الطهور و القبلة حتّى نقول بمقتضاها في جميع الأحوال من الاختيار و غيره، و لا الالتفات و عدمه، فيقتصر في الخروج عن دائرة عموم الشرطيّة على مقدار دلالة المخرج، و على هذا فمتى حصل في حال من الحالات لنا شكّ في الشرطيّة كان المرجع هو البراءة على ما تقرّر في الأصول من كونها مرجعا حتّى في الشكّ في القيد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 181

حكم تكشّف العورة و الالتفات في الأثناء

فمن جملة الأحوال التي يشكّ فيها ما إذا انكشف العورة بغير اختياره إمّا لغفلة أو لنسيان أو لجهل بالحال أو لقهر قاهر كالريح و نحوه، نعم في بعض هذه الصور و هو ما إذا كان الانكشاف لغفلة و كان التنبّه بعد الفراغ من الصلاة لا شبهة في الصحّة، لرواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل صلّى و فرجه خارج لا يعلم به، هل عليه إعادة أو ما حاله؟ قال عليه السّلام: لا إعادة عليه و قد تمّت صلاته» «1».

و أمّا بقيّة الصور أعني: جميع صور التنبّه في الأثناء و صورة النسيان و التذكّر بعد الفراغ فنحن نشكّ في أصل تحقّق الشرطيّة فيها، لعدم عموم حاكم بها، فالمرجع أصالة البراءة بناء على إمكان تخصيص الجاهل و الناسي بالخطاب كما حقّق في محلّه.

و قد يقال بالصحّة و عدم البطلان في الجميع أيضا، و لو استفدنا الإطلاق من الأدلّة أيضا بواسطة حديث الرفع و لا تعاد، و لكن فيه أنّه بالنسبة إلى النسيان و الغفلة المستمرّين إلى ما بعد الفراغ حسن، و أمّا المرتفعان في الأثناء منهما فيشكل التمسّك بهما لرفع الشرطيّة، إذ المرفوع إنّما

هو الشرطيّة بالنسبة إلى حال ثبوت الغفلة و النسيان.

و أمّا الآن الذي تبدّلا فيه بالتنبّه و الالتفات فغير مشمول لهما، و يكفي في البطلان هذا الآن، بل نقول: بناء على عدم استفادة الإطلاق أيضا فلا شكّ بالنسبة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 27 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 182

إلى هذا الآن، لأنّه آن الالتفات و الاختيار و العمد، و قد كان مكشوفا، فعلى كلا التقديرين لا محيص عن البطلان في الأثناء.

و كذا الحال في الانكشاف القهري الحاصل بالريح، فإنّ الآن البعد المتّصل بالآن الأوّل كشف حاصل في حال الالتفات و الاختيار.

فإن قلت: بل يمكن التمسّك للصحّة و عدم البطلان بحديث الرفع، لكونه ممّا اضطرّ إليه، لأنّه في هذا الآن العقلي غير قادر على الستر، فهو مضطرّ إلى الكشف في هذه الصلاة الشخصيّة.

قلت: نعم، و لكن بالنسبة إلى حقيقة الصلاة لا اضطرار له، و المعيار هو الاضطرار بالنسبة إليها، فله ترك هذا الفرد المضطرّ فيه و اختيار فرد آخر لا اضطرار فيه.

فإن قلت: المعيار ملاحظة الفرد لا الكلّي كما هو الحال في ما لا يعلمون و النسيان و نحوهما.

قلت: نعم و لكنّ المدّعى أنّ الاضطرار إلى الكشف في الفرد لا يسمّى اضطرارا إليه عرفا، إلّا إذا استوعب جميع أفراد الطبيعة، نعم لو حصل ذلك في ضيق الوقت جاز له الاكتفاء بهذه الصلاة من باب أهميّة الوقت من حفظ شرطيّة الستر.

فإن قلت: لا دليل على اشتراط الستر في الأكوان الصلاتيّة، و إنّما المعتبر هو في أفعالها و أقوالها.

قلت: الظاهر من الدليل هو الاعتبار في المصلّي، و لا شكّ أنّه في حال السكون مصلّ.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا الإشكال في صحّة الصلاة

في جميع صور الكشف في حال الالتفات و الاختيار في الأثناء بعد المسبوقيّة بالنسيان و الغفلة و القهر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 183

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّه حسب الفرض ليس لنا إطلاق دالّ على الشرطيّة المطلقة الشاملة لجميع الأحوال، و إنّما المتيقّن من قوله عليه السّلام: إذا أصاب حشيشا يستر به عورته إلخ حال الالتفات، لكن إذا عرضنا هذا الكلام على العرف لا يفهم منه هذا الآن العقلي المتوسّط بين مبادرته و الستر، فإنّه ما دام غافلا لم يكن مخاطبا بالستر، و متى التفت بادر بلا مهلة إلى تحصيل الساتر و أوجده فورا عرفيّا فقد خرج عن عهدة الخطاب الشرعي المتوجّه إليه في هذا الحال.

و الحاصل فرق بين قولنا: الستر شرط للصلاة، الظاهر منه الاستيعاب لجميع الأحوال و الآنات و منها هذا الآن، فلا محيص عن البطلان، و بين قولنا: لا بدّ أن لا يقع منك كشف مسبوق بالقدرة و الاختيار، و في هذا الفرض الذي ذكرنا تحقّق هذا المعنى، إذ لم يتحقّق منه كشف مسبوق بالاختيار، و إن تحقّق كشف في حال الاختيار، لكن لا بالاستناد إليه، بل إلى النسيان أو الغفلة أو القهر السابقة.

نعم لو تخلّل زمان نافى الفور العرفي، أو احتاج تحصيل الساتر إلى إيجاد مناف للصلاة فهو مطلب آخر، و أمّا إذا حصل بدون تراخ و بلا مناف فلا نسلّم أنّه خالف تكليف: أيّها الملتفت استر عورتك في صلاتك. مع أنّه ليس لنا تكليف بهذه الصورة، بل الأخبار غير متعرّضة للعموم و الإطلاق، لكونها مسوقة لبيان حكم آخر مثل التفرقة بين المرأة و الرجل في أنّ الاولى تحتاج إلى ثياب ساتر لجميع جسدها دون الثاني، و حينئذ يكون مورد الكلام

خاليا عن الدليل، و لو فرض احتياج تحصيل الستر إلى زمان معتدّ به، و لكن قبل الاشتغال بشي ء من أفعال الصلاة، فيكون من باب الدوران بين المطلق و المقيّد، و المرجع فيه البراءة.

بل يمكن أن يقال: على تقدير وجود الإطلاق في المقام أيضا يمكن التمسّك للصحّة بحديث لا تعاد، بدعوى أنّه كما يشمل الإخلال السهوي، كذلك يشمل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 184

الإخلال الواقع في حال التنبّه، لكن بالاستناد إلى السهو السابق، فإنّ الآن الأوّل من آنات الالتفات ليس عدم الستر فيه مسبّبا عن العمد و الاختيار و إن كان مختارا فيه، بل مسبّب عن السهو السابق، و الحديث شامل لهذا القسم من الخلل أيضا.

و الحاصل: أنّا ندّعي أوّلا: أنّه ليس لنا في أخبار الباب ما يستفاد منه إطلاق شرطيّة الستر للصلاة، بل غاية ما يستفاد منها شرطيّته في الجملة، فلا يشمل مثل هذا التمكّن و الالتفات الحاصلين في الآن الأوّل المسبوق بالغفلة أو النسيان أو قهر القاهر، فلو كان مكشوفا في هذا الآن و لكن بادر في تحصيل الستر بما لا ينافي الفور العرفي بل و لو نافاه و لكن لم يبلغ حدّ الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة كانت صلاته صحيحة، بعضها بدليل اغتفار السهو و الغفلة و القهر، و بعضها بسقوط شرطيّة الستر بأصل البراءة، و بعضها بإيجاد الشرط في حال التمكّن و الالتفات.

و ثانيا: على فرض التسليم و وجود الإطلاق المذكور يكون الآن المذكور مشمولا لحديث لا تعاد، و هو حاكم على الإطلاق المذكور، فإنّ الحديث لم يذكر فيه اسم السهو، فمقتضى إطلاق لفظه شمول جميع صور الإخلال و لو ما كان عن عمد، فضلا عن غيره، و من غير فرق

بين الإخلال من الابتداء أم في الأثناء.

لكن سلّمنا خروج العمد إمّا لعدم المعقوليّة، و إمّا لعدم الانصراف إليه، و كذا سلّمنا خروج الاضطرار الابتدائي فلا يشرع بسببه الدخول في الصلاة المضطرّ إلى ترك شرطها أو جزئها، و أمّا بالنسبة إلى الاضطرار الطارئ في أثناء الصلاة الشخصيّة فلا داعي إلى تخصيص عمومه.

و الفرق بين هذا و سابقه أنّه على التقدير السابق يكون الحكم بالصحّة من جهة الاستناد إلى أصالة البراءة عن اعتبار قيد الستر بالنسبة إلى هذا الحال المتخلّل بين أوّل الالتفات و بين حصول الستر، و على هذا التقدير يكون من جهة الاستناد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 185

إلى الحديث الشريف، لكن على كلّ حال لا بدّ أن لا يشتغل بشي ء من أفعال الصلاة، لأنّ اشتراط الستر فيها معلوم، و تحصيله أيضا ممكن بالصبر إلى حصوله، إذ كلّ ما هو شرط في أحوال الصلاة فهو شرط في أفعالها.

و من هنا تبيّن الحال في الأمة المعتقة في أثناء الصلاة لو بادرت إلى الستر بمحض حصول الانعتاق، فإنّ الأمة قد استثنتها الأخبار بالنسبة إلى ستر رأسها عن حكم المرأة فأجازت كشف رأسها في الصلاة، و حينئذ فلو كانت في أوّل الصلاة أمة و طرأتها الحرّية في أثناء الصلاة فصحّة هذه الصلاة لو بادرت إلى ستر رأسها بلا فعل مناف مبنيّ على إحدى المقدّمتين اللتين أشرنا إليهما، فإن سلّمنا إحداهما فالصلاة صحيحة، و إن منعناهما فباطلة كما هو واضح، فإنّه و إن كان هنا آن واحد تحقّق فيه الحرّية مع الانكشاف، إلّا أنّه لا ينافي مع صدق أنّها ما دامت مكشوفة الرأس كانت أمة مغتفرا عنها ذلك، و متى صارت حرّة صارت مستورة الرأس.

فرع: قد عرفت استثناء الأمة عن حكم الستر المعلّق على المرأة،

فهل المبعّضة مع

قطع النظر عن الدليل الخاصّ ما حكمها من حيث وجوب ستر رأسها و عدمه؟

الحقّ هو الوجوب، لأنّها ليست بمصداق للأمة، فإنّها عبارة عمّن كانت مملوكة بتمامها، فإذا خرجت عن صدق الأمة دخلت تحت إطلاق المرأة التي قد علّق حكم الستر عليها في الأخبار، إذ ليس الحكم دائرا مدار عنوان الحرّة حتّى يقال:

إنّ المبعّضة خارجة عن العنوانين فيحكم فيها بالبراءة.

و ذلك لأنّ العام و إن كان يصير معنونا بعد ورود الخاصّ، لكن بعدم ذلك الخاصّ، لا بضدّه الوجودي، فيصير العنوان في عامنا هو المرأة التي ليست مملوكة بتمام أجزائها، و هذا لا شبهة في انطباقه على المبعّضة، لا المرأة الحرّة، و هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 186

و أمّا الأمر الثالث: أعني: تحديد الستر الواجب

فاعلم أنّ هنا مرتبة من الستر نقطع بمصداقيّته لهذا المفهوم بقول مطلق، و هو ما إذا كان البدن مستورا بساتر ضخيم لا يمكن رؤية ما وراءه و لو بتوسّط الدقّة و شعاع الشمس و نحو ذلك، و في مقابلتها العريانيّة بلا ساتر أصلا، فالقسم الأوّل نقطع فيه بصحّة الصلاة، و الثاني نقطع فيه بالفساد، و بينهما مراتب متدرّجة في الوضوح و الخفاء.

إحداها: أن يكون على البدن ساتر كان بشكل البدن و قالبا له و لطيفا و ملصقا بالبدن، بحيث لا يحكي لا لونه و لا شبحه و لو بالدقّة أو في الشعاع، و لكنّه يحكي جميع كيفيّاته من القطر و الانحناء و الاستقامة و الانجذاب و جميع الخصوصيّات.

و هذا لا إشكال في أنّ المرئيّ ليس إلّا قطر المجموع، لا قطر البدن و إن كان ربما يقال: إنّ قطر البدن مرئي، لكنّه من باب المسامحة، نعم قطرة معلوم بعد استثناء مقدار الساتر، فيعلم

مثلا أنّه شبر إلّا شعيرة، فيحتسب الشعيرة لأجل الساتر، و لكنّه غير كونه محسوسا مرئيّا برؤية العين.

فالظاهر عدم الإشكال في هذه الصورة بعد ما كان اللون و سائر المميّزات أيضا مستورا كما هو الفرض، كما أنّه يكتفى بمثل ذلك في باب النظر أيضا، نعم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 187

الظاهر حرمته من جهة عنوان آخر و هو كونه مهيّجا للشهوة.

الثانية: أن يكون الساتر حاكيا للشبح أعني: ما لا يتميّز إلّا بعوارضه العامّة المشتركة بين الحيوان و الجماد، أو المشتركة بين أصناف الحيوان، أو المشتركة بين أفراد الصنف الواحد منه بدون تميّز للعوارض الشخصيّة، و لو كان هناك قرينة خارجيّة تدلّ على تلك العوارض الشخصيّة بحيث علمنا بأنّه الشخص الكذائي، فليس هذا داخلا في رؤية الشخص، بل المرئي هو الشبح، و المعلوم إنّما هو الشخص بجميع معيّناته المشخّصة.

و الحاصل: أنّه فرق بين رؤيته بلونه و كمّه و كيفه المخصوص به، إلى غير ذلك من خواصّه، و بين العلم بذلك من القرينة الخارجيّة و انحصار المرئي في السواد الغير المتحرّك المردّد بين الجماد و الحيوان، أو المتحرّك الغير المعلوم استقامة قامته المردّد بين الإنسان و غيره، أو المعلوم استقامته لكن مردّدا بين أفراد الإنسان.

و بالجملة، فهذا على قسمين:

الأوّل: أن يكون حكايته لهذا المعنى محتاجة إلى مئونة و علاج مثل القرب و المداقّة و المحاذاة للشعاع، فهذا القسم أيضا الظاهر تحقّق الستر الصلاتي و كذلك النظري به.

و الثاني: أن لا يكون محتاجة إلى شي ء من ذلك.

و الثالثة: أن يكون الساتر كالشبكة المشتملة على الفرج الصغار مثل ما يسمّى في زماننا (تور) بحيث يحكي نقش لون البشرة و قطرها، و هذا القسم لا إشكال في عدم كونه سترا

في شي ء من البابين، إنّما الإشكال في ما تقدّمه و دعوى أنّه ليس لنا في باب الصلاة إطلاق.

و ما ورد في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة من قوله عليه السّلام: يستر به عورته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 188

وارد مورد حكم آخر، فالمعلوم اعتبار ستر ما، و أمّا كيفيّته فلا، فيرجع إلى أصل البراءة، فإنّ هذه المرتبة بالإضافة إلى العريانيّة الصرفة ستر، و بالإضافة إلى الستر التامّ كشف.

فلا يعلم هل اعتبره الشارع سترا صلاتيا أو لا، فالأصل البراءة من اعتبار أزيد منه مشكلة جدّا، و خصوصا مع ملاحظة التقييد الوارد في بعض الأخبار لكفاية القميص الواحد للرجل و قوله عليه السّلام: إذا كان كثيفا «1»، و قوله في بعض آخر:

لا تصلّ فيما شفّ أو وصف، و في نسخة أو «صفّ» «2» و في ثالثة: أو سف بواو واحدة مع السين المهملة، فإنّ شفّ على ما صرّح به أهل اللغة بمعنى رقّ، فهذا القسم يصدق عليه أنّه رقيق و غير كثيف، فالاجتناب إن لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه أحوط.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 22 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 189

الفصل الثاني في الساتر يعتبر فيه أمور:

الأوّل: الطهارة،

بل هي شرط في جميع لباس المصلّي و إن لم يكن ساترا.

و تفصيل الكلام في هذا الشرط موكول إلى كتاب الطهارة.

الثاني: الإباحة،
اشارة

و ليعلم أوّلا أنّ الستر المعتبر في الصلاة ليس عبادة حتّى ينافي كونه منهيّا عنه للتقرّب بسببه، و لهذا لو وقع بلا قصد قربة و على وجه الغفلة كفى قطعا، فالحال في الساتر المغصوب حال اللباس الغير الساتر كالقلنسوة و القباء و الرداء إذا كان مغصوبا، فيحتاج إضراره بالصلاة إلى حصول الاتّحاد بين التصرّف فيه و بين الأكوان الصلاتيّة، نظير الصلاة في المكان المغصوب، فإن سلّمنا الاتّحاد أوجب البطلان سواء في الساتر أم في غيره، و إن منعناه فلا بطلان، بلا فرق بينهما أيضا.

و بالجملة، لا يحدث بسبب الأمر بتحصيل الساتر للصلاة مزيّة للساتر في هذا الباب على غيره، بل الملاك فيهما هو الاتّحاد المذكور و عدمه.

و حينئذ نقول

المتصوّر في لبس اللباس المغصوب من الوجوه المحرّمة و التصرّفات المبغوضة للمالك أمور:
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 190

الأوّل: مجرّد الاستيلاء المالكي عليه

بقطع يد مالكه عنه من دون تصرّف زائد على الاستيلاء المذكور، و بعبارة أخرى: تحصيل المعنى الذي لو لا العلم بالحال لو أحرزناه حكمنا بمالكيّة صاحبه و عبّرنا عنه باليد الدالّة على الملك، فإنّه معنى غير ملازم للتصرّفات، فإنّه عبارة عن الاستيلاء، و الاستيلاء على المال و قطع يد الغير عنه أمر غير ملازم مع التصرّف من المستولي في المستولي عليه، كما هو واضح.

و الثاني: الزيادة عليه باستعماله في اللبس،

فإنّه تصرّف زائد على نفس الاستيلاء و قهر المالك و سلب اختياره، فيكون محرّما آخر غيره، لكنّه من المعلوم عدم اتّحاده مع شي ء من الأكوان الصلاتيّة، بل المحقّق صرف المقارنة بمعنى أنّه راكع و قائم و ساجد في حال اللبس المحرّم و مقارنا معه من دون اتّحاد بينهما في الوجود أصلا، إذ لا يصحّ حمل مفهوم اللبس على شي ء من هذه الأكوان و الأفعال، فلا يقال: الركوع لبس أو القيام أو السجود، و هذا أيضا واضح.

الثالث: الزيادة عليه بتحريك الثوب المغصوب بعد لبسه

بالحركات البدنيّة في حالة القيام و الركوع و السجود و إحداث الهيئات الخاصّة فيه بعد ما لم يكن، و هذه لا شكّ في كونها تصرّفات أخر وراء الاستيلاء و وراء اللبس، فإنّ إحداث الهيئة الركوعي في الثوب بعد كونه بهيئة الاستقامة و كذا سائر الهيئات و تحريكه بالتحريكات الخاصّة الحاصلة بتبع حركات البدن تصرّفات في الثوب، و هي غير الاستعمال اللبسي، و تكون متّحدة مع الأفعال الصلاتيّة، فإنّ عين تحطيط الظهر الذي هو جزء للصلاة تحريك للثوب و إحداث للهيئة فيه.

و لكنّ الذي يختلج بالبال أنّ مثل هذه التصرّفات و إن كان أهل العرف يراها تصرّفا قطعا و هل هو إلّا مثل جعل المال في الفينة و نقله إلى مكان آخر، فإنّه نقل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 191

بالتبع، و مع ذلك يكون تصرّفا عرفا، و لكنّهم لا يهتمّون و لا يعتدون بوجود هذه التصرّفات، بل وجودها و عدمها سيّان في نظرهم، لعدم التفاوت في غرضهم بين كون ثوبهم بهيئة الاستقامة أو بهيئة الانحطاط الركوعي أو السجودي.

نعم إلّا إذا كان ذلك مظنّة حدوث نقص و فساد في الثوب، و أمّا إذا لم يحدث تفاوت فيه من ناحية الهيئة

الجديدة، أو كانت هي أنفع و أصرف بحاله من القديمة فلا يبالون و لا يتغيّر حالهم بحدوثه، بحيث لو سئلوا عن هذه التصرّفات بعد الفراغ عن مقطوعيّة يدهم و الكون تحت يد الغاصب لما انقدح في أنفسهم المنع عنه.

و إذن فلا يمكن أن يقال: إنّ اللابس اللباس المغصوب أبدا مشتغل بثلاثة محرّمات: الأوّل: نفس الاستيلاء و إثبات اليد المالكي عليه، و الثاني: التصرّف فيه باللبس، و الثالث: التصرّف فيه بعد اللبس بهذه التحريكات أو السكونات الحاصلة له بتبع البدن، أو استقلالا إذا كان بالوصف الذي ذكرنا من عدم تفاوت بين وجوده و عدمه في نظر عامّة الملّاك.

نعم لو كان التحريك المذكور مظنّة للخطر في اللباس مثل جعل طرف القباء وعاء لشي ء أو استعماله في إثارة الريح أو الركوع في الثوب الضيّق بحيث كان مظنّة للانخراق فهذه يكون محطّا للنظر و مهتمّا بشأنه للمالكين و يمكن تعدّد الحرام بسببها.

و أمّا أمثال ما ذكرناه من المشي في حال لبس اللباس مثلا إلى مسافة يسيرة بحيث لا يحدث فيه شي ء أصلا و نحوه فلا يكون محطّا لنظرهم، و ليس مالك بين المالكين غير راض بوقوع أمثال ذلك في ماله حتّى يقال: قد وقع في ماله مبغوض آخر له وراء كونه ملبوسا للغاصب، و هو أنّه قام فيه أو ركع أو سجد، و اللباس المذكور قد تحرّك و تغيّر هيئته بتبع ذلك، فقد حدث له مبغوض ثانوي وراء أصل الملبوسيّة، فإنّه يمكن القطع بخلاف ذلك و أنّ المبغوض المالكي لا يتعدّد بسبب ذلك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 192

فتحقّق ممّا ذكرنا أنّ ما يكون مبغوضا للمالك من التصرّف في الثوب المغصوب و هو لبسه غير متّحد مع الأكوان الصلاتيّة،

بل بينهما بون بعيد و مغايرة فاحشة، فأين الركوع و السجود و القيام من اللبس، و إن كان اللبس متحقّقا حينها، و ما كان متّحدا معها و هو التحريكات و تغيير الهيئات في الثوب بتبع الحالات و الأفعال الصلاتيّة غير مبغوض مالكي، فلا يكون مبغوضا شرعيّا أيضا، لكون المبغوضيّة الشرعيّة تابعة للمبغوضيّة المالكيّة في هذا الباب، كما هو واضح.

و الحاصل: أنّا نقول بأنّ هذه التحريكات تصرّف في نظر العرف، و لكن نقول: الرضى بها حاصل لكلّ أحد لا على وجه الإطلاق حتّى يستلزم الرضى بأصل اللبس أيضا، بل في تقدير تحقّق اللبس، فلا ينافي مع مبغوضيّة اللبس الذي هو التقدير.

فإن قلت: ما الفرق بين هذه التحريكات و بين الأفعال الصلاتيّة في الدار المغصوبة، فإنّا نقول: أيّ عاقل لو سئل عنه: إنّك على فرض كون الغاصب في دارك تبغض صلاته فيه بالنسبة إلى مكثه غير مشتغل بالصلاة؟ قال: نعم أبغض ذلك.

قلت: هذا مبنيّ على تصوّر الترتّب في الموضوع الواحد بعد الفراغ عن تسليمه في الموضوعين كالصلاة و الإزالة، بأن يقال: إنّه منهيّ أوّلا عن الغصب بحقيقته السارية التي منها هذه الحركات التي هي عين الأفعال الصلاتيّة، و على فرض عصيانه هذا النهي، مأمور باختيار فعل الصلاة من بين سائر أنحاء الكون الغصبي، و هو ربما يكون محلّ منع و إن كان مسلّما في باب الضدّين الذين أحدهما أهمّ.

فإن قلت: مرجع ما ذكرت إلى حصول الرضى بهذه التحريكات لعدم كونها وجها من وجوه الانتفاع و لا معرضا لحصول الضرر أو الاندراس في الثوب،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 193

و بعبارة أخرى: لقلّتها و سقوطها عن النظر، و هذا موجود في الحبّة من الحنطة، فلا بدّ أن نقول

بعدم حرمة أكلها من مال الغير بدون الإذن منه.

قلت: المناط حصول القطع للمكلّف بالرضى الباطني للمالك، و أنّى لنا بهذا القطع في حبّة الحنطة ما لم يأذن هو في الأكل.

و أمّا في المقام فالمدّعى حصول القطع لكلّ أحد بأنّ واحدا من العقلاء ليس إذا عرض عليه هذا المعنى انقدح له مبغوضان، أحدهما اللبس، و الآخر التحريك المذكور، و ليس التحريك من شئون و أطوار اللبس حتّى يقال: إنّه لمّا كان اللبس فردا للغصب و الغصب بشؤونه و مراتبه حرام بحيث يسري الحرمة إلى جميع خصوصيّاته و أطواره، فيكون اللبس أيضا بما له من الشئون ساريا فيه الحرمة، و من شئونه هذه التحريكات، إذ قد عرفت أنّ التحريك للثوب من مكان القيام إلى مكان الركوع و هكذا من كلّ نقطة إلى غيرها، و من كلّ هيئة إلى خلافها ليس فردا للّبس بحيث صحّ إطلاق مفهوم اللبس عليه.

فلا يقال: هذا التحريك من مكان القيام إلى مكان الركوع لبس للثوب، فلم يبق إلّا أنّها منفكّة عنه في الوجود و إن كانا متقارنين في الزمان، و إذا لوحظت هذه الكيفيّات مستقلّة فلا يوجد عاقل تجدّد له همّ و غصّة من قبلها فوق الهمّ و الغصّة الحاصلين من قبل اللبس.

ألا ترى أنّا لو رأينا شخصين كلّ منهما غصب عدّة دراهم موضوعة على الأرض بهيئة خاصّة، و لكن أحدهما لم يزد على أن حال بين المالك و دراهمه من دون نقلها عن محلّها و تغييرها عن هيئتها، و الآخر زاد على ذلك برفعها من الأرض إلى كيسه و تفريقها عن الهيئة الأوّليّة، فهل يكون همّ قلب المالك الثاني بسبب هذه الزيادة زائدا على المالك الأوّل، فتارة يهتمّ لأجل محروميّته عن دراهمه،

و اخرى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 194

يحزن لأجل تفريق هيئتها و كونها على الأرض و تبدّلها إلى مكان آخر، لا نجد من أنفسنا انقداح الثاني في نفس عاقل و إن كان لو فرض التصريح من المالك بعدم الرضى فلا محالة يتعدّد الحرام، و لا محيص عن بطلان الصلاة حينئذ.

فإن قلت: سلّمنا أنّ هذه الكيفيّات ليست بشؤون للّبس، و لكن نقول: القيام في اللباس و الركوع و السجود ليس إلّا كالقيام و الركوع و السجود في الفضاء المغصوب، فكما أنّ الثاني حرام بلا شكّ فكذلك الأوّل، فإنّا نضع مكان الفضاء المملوك للغير، الثوب المحفوف بالبدن، كاحتفاف الفضاء به المملوك للغير، فكما أنّ الحركة القياميّة و الركوعيّة و السجوديّة في الفضاء ممنوع و غصب محرّم، فكذلك في الثوب المذكور بلا فرق في البين أصلا.

قلت: الفرق أنّ كون المكلّف في الفضاء المملوك للغير بجميع أنحائه و بطبيعته السارية التي منها القيام فيه، و منها الركوع و السجود فيه محرّم، فيقال له: لم تقوم في هذا المكان، أو لم تركع فيه، أو لم تضع جبهتك على هذه الأرض، و بالجملة، يقع كلّ فرد من أفراد الكون بخصوصيّته الخاصّة تحت النهي المالكي، فكذلك يقع تحت النهي الشرعي.

و أمّا اللابس للباس الغير الكائن في المكان المباح فلا يقال له: لم تقوم أو تقعد؟ أو لم تركع أو تسجد؟ بل يقال: لم تلبس هذا اللباس و تجعله على بدنك؟

فليس الاعتراض متوجّها إلى قيامه و قعوده و ركوعه و سجوده و سائر أكوانه، بل متوجّه إلى اللبس الذي هو مغاير لها مفهوما و وجودا و إن قارنها زمانا.

و الحاصل: لا يعدّ من أفراد التصرّف في اللباس عرفا أنحاء أكوان اللابس فيه

من القيام و القعود و غيرهما و إن كانت معدودة كذلك في المكان. و الفارق العرف، فإذن لا يتوجّه إليها النهي المالكي، فكذلك الشرعي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 195

فإن قلت: الذي صرّحت به في طيّ العبارات اتّحاد تحريك الثوب مع الأفعال الصلاتيّة، إلّا أنّه غير متعلّق للنهي، و لقائل أن يمنع الاتّحاد، فإنّ تحريك الثوب غير تحريك البدن وجودا كتحرّكهما و إن كانا متقارنين زمانا.

قلت: نعم، و لكن غايته أنّه من باب علّة الحرام، فإنّ تحريك الثوب تابع و معلول لتحريك البدن، و قد قرّر في محلّه سراية البغض من الحرام إلى علّته، فإذا كان تحريك البدن حراما فإنّه كالإلقاء فيما إذا كان الإحراق حراما، فكيف يكون عبادة.

فالعمدة ما ذكرنا في وجه التفصّي من منع كونه محرّما آخر وراء اللبس ما لم يكن معرضا لفساد أو اندراس أو استيفاء لمنفعة جديدة.

ثمّ إنّه قد حكي من بعض الأساطين أنّه تفصّى عن بطلان الصلاة في المكان المغصوب بطريق آخر يكون على فرض صحّته جاريا في المقام، و هو أنّ الاجتماع و الاتّحاد إنّما يلزم إذا جعلنا الأجزاء الصلاتيّة عبارة عن نفس الأفعال و الحركات الصادرة من المصلّي من القيام و الركوع و غيرهما.

و أمّا إذا قلنا بأنّها ليست بأجزاء للصلاة و إنّما الأجزاء هي الهيئات المتحصّلة من تلك الحركات عقيبها أعني: الهيئة الحاصلة للقائم و للراكع و غيرهما، و هذه الهيئات ليست من مقولة الفعل حتّى يكون تصرّفا في المكان أو اللباس.

نعم مقدّماتها كذلك، و لكن حيث إنّ المقدّمة المحرّمة إذا لم تكن منحصرة كما فيما نحن فيه لا يمنع من وقوع ذيها عبادة، كما يصحّ الحجّ بركوب الدابّة المغصوبة، فلا مانع من الصحّة في المقام

أيضا، هذا ما حكي عنه قدّس سرّه.

و أورد عليه شيخنا الأستاذ أطال اللّٰه بقاءه بوجهين:

الأوّل: منع كون جزء الصلاة هذه الهيئات، و ذلك لأنّ الأمر و الإرادة في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 196

الآمر سنخها سنخ إرادة الفاعل، فكما أنّها أبدا إنّما يتعلّق بتحريك العضلات سمت ما هو فعل صادر عنها، لا إلى ما هو أجنبيّ عن مقولة الفعل بها، فكذلك الإرادة الآمريّة، غاية الأمر أنّ لها هذا التأثير في عضلات العبد، و الاولى له ذلك في عضلات نفس المريد.

و أمّا كيفيّة الاقتضاء و التأثير فيهما واحد، أعني: تحريك الفاعل سمت الفعل، و لو صحّ أن يقال: أطلب منك هذا البياض فهو من باب التوسّع في العبارة، و إلّا ففي الحقيقة و اللبّ لم يتعلّق الطلب إلّا بالتبييض.

و هكذا في المقام أيضا لا يتعلّق الأمر إلّا بإيجاد الهيئات و هو عين الأفعال الصادرة و ما هو المعنى المصدري، فيعود المحذور.

و هكذا الكلام في باب الطهارة الحدثيّة، فإنّها أيضا ليست بنفسها مأمورا بها، بل المأمور به إيجادها و تحصيلها الذي هو نفس الغسلتين و المسحتين، و الفرق بين تعلّق الأمر بنفس الغسلتين و المسحتين و بين تعلّقه بإيجاد الطهارة أنّه على الأوّل لو شكّ في جزء أو قيد كان المرجع هو البراءة، و على الثاني كان المرجع هو الاشتغال، لأنّ إيجاد الطهارة أمر مبيّن معلوم مفهوما، و قد علم اشتغال الذمّة به، و الشكّ في تحقّقه و وجوده خارجا، و هو مورد الاشتغال، و أمّا على الأوّل فالشكّ في المفهوم الذي أمر به وسعته و ضيقه، و أنّه المقيّد أو المطلق أو التامّ، أو الناقص.

و حاصل المقام أنّ النتيجة المتولّدة من الفعل الاختياري و إن

كان مقدورا بمعنى أنّ لك الولاية على وجودها و عدمها، إلّا أنّ مجرّد ذلك لا يكفي في المتعلّقيّة للإرادة، بل إرادتك إنّما تتعلّق بما هو فعل لك بالمعنى المصدري، فكذا الأمر الذي هو أيضا متّحد السنخ مع إرادتك، غاية الأمر أنّه إرادة مولاك الفعل من جوارحك.

و الوجه الثاني: سلّمنا صحّة تعلّق الأمر و إن لم يصحّ تعلّق إرادة الفاعل،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 197

لكن هذه النتيجة لا اختيار فيها بعد حصول الاختيار في مقدّمتها.

و بعبارة أخرى: هذه المقدّمة ليست كركوب الدابّة المغصوبة في طريق الحجّ مع عدم الانحصار، فإنّ هناك للمكلّف اختيار آخر بعد تماميّة الركوب بصرفه في عمل الحجّ، و لهذا يحصل له الحسن الفاعلي الذي هو أحد ركني العبادة بواسطة هذا الاختيار الثانوي الذي نشأ من مبدأ حسن، فإنّ قوام المقرّبيّة و العبادية بشيئين:

أحدهما: ترتّب الثمرة المطلوبة للمولى على العمل، و الآخر: كون الداعي للفاعل إلى العمل أيضا داعيا راجعا إلى المولى و رعاية جانبه و حفظ مقامه، لا ناشئا عن الشهوة فضلا عن المعصية أو العناد و البغض للمولى، فهذان الأمران في مثال الحجّ يحصلان كلاهما بعد الركوب.

و أمّا في هذا المقام فليس للعبد اختيار آخر و قدرة اخرى يصرفه للمولى حتّى يحصل له الحسن الفاعلي الذي هو القدر المشترك بين الانقياد و العبادة، نعم قد تحقّق عقيب اختياره الأوّل الذي فرض نشوه عن محض تمرّده على المولى و عصيانه و اتّباعه لشهوته نتيجة مطلوبة للمولى قهرا و بلا اختيار آخر في حصولها.

و إن شئت توضيح المقام بالمثال فافرض أنّ صبغ ثوب بالحمرة مطلوب للمولى و يثيب من أوجده طلبا لمرضاته، ثمّ إنّ العبد قتل ابن المولى و صبغ الثوب بهذا

العمل المبغوض، فهل ترى أنّه يحصل له بواسطة هذا الصبغ الحاصل من إراقة دم الابن أجر و ثواب عند المولى مقرونا مع عتابه و عقابه على إراقة دم مهجة قلبه؟

كلّا و حاشا.

فإن قلت: لو فرضنا المقدّمة فعلا مباحا في حدّ نفسه فلا إشكال في حصول القرب بواسطة ترتّب مسبّبه عليه إذا أتى به بقصد ترتّب ذلك المسبّب، فكما صار المباح واسطة لعباديّة المسبّب و مقرّبيّته، فكذلك لا مانع في المقام أن يكون هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 198

العمل المبغوض محصّلا لعباديّة المسبّب من جهة تسبّبه إليه، و مبغوضا من الجهة الراجعة إلى ذاته.

قلت: ليس جهة إعطاء عنوان العباديّة في المقدّمة المباحة صرف التسبّب، بل من جهة أنّ الفاعل إذا أراد بالفعل المباح تحصيل تلك الجهة المطلوبة حصل له الحسن الفاعلي، فإذا انضمّ إلى حصول تلك الجهة تحقّقت العبادة.

و أمّا في المقام فلم يبعثه إلى الفعل إلّا الشيطان و لم يزده هذا العمل إلّا بعدا عن ساحة المولى، فكيف يحصل له الحسن الفاعلي، نعم يأتي الكلام في أنّه هل يحصل له القرب بصرف ترتّب تلك الجهة الحسنة المطلوبة.

و لكنّك قد عرفت أنّ تلك الجهة بمجرّدها ما لم تنضمّ إلى سعي فاعلي و حركة جوارحي لم يتحقّق بها العبادة، و إلّا فصحّ قصد العباديّة بطيران الغراب الذي علم بوقوعه خارجا و كونه مطلوبا للمولى، بل لا بدّ من إعمال وسع و إتعاب بدن من العبد في سبيله، و السعي المتحقّق منه في المقام حسب الفرض لم يوجب له إلّا البعد، فبقي الحسن الفاعلي بلا محصّل، و بدونه لا تتمّ العبادة.

اختصاص البطلان بصورة فعليّة النهي

ثمّ إنّه على فرض القول بكون المقام من صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي فلا

إشكال في اختصاص البطلان بصورة فعليّة النهي و تنجّزه، فلو كان المكلّف معذورا فيه إمّا للجهل بأصل النهي قصورا أو بموضوعه أو للنسيان في أحدهما فلا مانع من تحقّق العبادة و لو على مذهب القائل بامتناع اجتماع الأمر و النهي.

و تفصيل هذا المطلب و إن كان يطلب من الأصول، إلّا أنّه لا مانع من الإشارة إليه هنا على سبيل الإجمال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 199

فنقول: العذر تارة شرعي، و الأخرى عقلي، أمّا الأوّل فكما في مورد ثبوت اليد المحكوم شرعا بكون المال ملكا لذيها، فأخذ الثوب إمّا بإذنه أو بالشراء أو الاستئجار منه، فإنّه مرخّص شرعا في الاستعمال لهذا الثوب، لكنّه بحسب الواقع باق على حرمة الاستعمال، و لو فرض أنّه لا يسمّى غصبا، لأنّه تصرّف عدواني، و هو ملازم مع العصيان و فعليّة النهي نقول: على فرض التسليم لا ندور مدار اسم الغصب، بل المعيار وجود النهي الواقعي، و هو متحقّق، فالمدّعى أنّ هذا التحريم بوجوده الواقعي غير مناف مع ورود الأمر، كيف و هو قد اجتمع مع الترخيص، و التضادّ مشترك بينه و بين الوجوب.

فإن قلت: هو إنّما يكون في موضوع الشكّ في التحريم، فبينهما الترتّب و الطوليّة، نقول نحن أيضا: نفرض محلّ الأمر الصلاتي هذا الموضوع، و لا يقال: إنّه خروج عن المطلب، فإنّ كلامنا في اجتماع الأمر و النهي، و هذا من باب اجتماع الحكمين الظاهري و الواقعي.

قلت: إن أردت أنّه حكم ظاهري بمعنى أنّ له انكشاف الخلاف فلا كذلك، لأنّه لا كشف خلاف في هذا الأمر، لأنّ الحركة الخارجيّة لا نقصان فيها من حيث الأجزاء و الشرائط المعتبرة في الصلاة، و إنّما المانع من قبيل الأمر، و هو في

هذا الموضوع أعني: الشكّ لا مانع له، فمع فرض وجود المقتضي يحصل العلّة التامّة للثبوت، و الأوامر الظاهريّة التي لها كشف الخلاف إنّما ذلك بواسطة خلوّها عن المصلحة الذاتيّة في المتعلّقات، فلا يصلح للمقرّبيّة و العباديّة، هذا في صورة العذر الشرعي.

و أمّا مع العذر العقلي كالنسيان حيث إنّ العقل يعذر الناسي، لا أنّ له رخصة شرعيّة في الارتكاب فأوّلا نقول بإمكان إثبات الأمر في هذا الموضوع أعني:

من كان معذورا من الحرام الواقعي بالنسيان أو نحوه بقاعدة الترتّب التي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 200

حقّق في الأصول في التوفيق بين الحكم الواقعي و الظاهري، و لا يلزم تخصيص عنوان الناسي، إذ الخطاب شامل له في ضمن عنوان عامّ و هو جامع المكلّف في قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ و إنّما خرج عنه بالتخصيص العقلي حسب الفرض من اختيار القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي صورة عدم العذر عن الحرام الواقعي، و أمّا مع العذر بنحو الترتّب فلا مانع منه.

و ثانيا نقول: لا نحتاج في العبادة إلى وجود الأمر، بل يكفي موافقة الغرض المطلوب للمولى، بحيث لو لا المانع في أمره لأمر به، إذا المفروض أنّ الفعل الخارجي جامع الشرائط و الأجزاء الشرعيّة، و لهذا لو كان توصّليّا لوفى بالغرض بلا إشكال.

و إنّما الكلام تمامه في تصحيح الشرط القلبي و هو نيّة القربة و حصول القرب للفاعل بواسطة الفعل، و هو أمر يرجع في تشخيص مصاديقه إلى العرف و العقلاء، و نحن لا نشكّ في أنّ العرف و العقلاء حاكمون في مثل المقام ممّا كان المأتيّ به ذا وجهين بأحدهما محصّل لنتيجة سيّئة، و بالآخر لنتيجة محبوبة مرغوبة، و فرضنا أنّه لم يؤثّر وجهه الأوّل في تحطيط

منزلة العبد عند المولى و لا أحدث تفاوت حال له في ساحته، لكونه غافلا عن هذا الوجه، و إنّما دعاه إلى الفعل وجهه الثاني في أنّ هذا القصد يوجب قربه، بمعنى أنّ هذا الفاعل إذا لوحظ مع التارك ليسا بمرتبة واحدة عند العقل، لا بمعنى استحقاق الأوّل على المولى شيئا، كلّا و العبد و ما في يده لمولاه، بل بمعنى أنّه لو أراد المولى تفضّلا و أنعاما فلو قدّم الثاني على الأوّل في جعله موردا لإنعامه و إكرامه كان قبيحا، فإذا تحقّق الحسن الفاعلي و الفعلي فلا محالة يتحقّق القرب بالمعنى المذكور عند العقل، و لا وجه لعدم حصول الحسن الفاعلي بعد أنّ الجهة المقبحة ساقطة عن تأثيرها في تقبيح العبد و تحطيط درجته، كما أنّ الحسن الفعلي محلّ الوفاق بين المجوّز و المانع في مبحث اجتماع الأمر و النهي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 201

اعتبار الذكاة في الجلود و نحوها

الثالث: من شروط الساتر بل مطلق لباس المصلّي أن يكون مذكّى،
اشارة

فلا تصحّ في الميتة إذا كان ممّا تحلّه الحياة مثل الجلد من أجزاء ذي النفس، و التقييد بكونه من أجزاء ذي النفس لم يرد في الأخبار تصريحا، و إنّما يكون القول به من أحد وجوه:

الأوّل: أنّه ورد التقييد في بعض أخبار النهي عن الصلاة في جلد الميتة بقوله عليه السّلام «و لو دبغ سبعين مرّة» «1» و هو يوجب ظهور الموضوع في الجلود التي تقبل الدباغة، و كلّ ما ليس له نفس لا يقبلها و إن كان بعض ما له النفس كالفأرة و الطيور أيضا كذلك، لكنّ المقصود عدم تعرّض الأخبار إلّا لما يقبلها، و لا ينافي معلوميّة الحكم في ما له النفس من الخارج.

و الثاني: أنّ التقييد المذكور ظاهر في أنّه ورد للردّ

على العامّة القائلين بأنّ الدباغة ذكاة للجلد و موجب لطهارته، و إذن فيصير في قوّة اشتراط الطهارة في اللباس و أنّ جلد الميتة وجه عدم جواز الصلاة فيه نجاسته و عدم حصول الطهارة له بالدبغ كما هو مذهب العامّة، و حينئذ فمن المعلوم أنّ النجاسة خاصّة بميتة ذي النفس.

و الثالث: أنّ الأخبار المطلقة الناهية عن الصلاة في الميتة و إن أمكن جعلها عنوانا مستقلّا بلا إرجاع إلى حيث النجاسة، كما ورد النهي عن الصلاة في أجزاء غير المأكول، إلّا أنّه إذا كان الميتة ممّا ارتكزت نجاستها في الأذهان، فربما أمكن أن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 202

يقال بانصراف النهي عن الصلاة فيه إلى تقرير نجاسته و إمضاء ما ارتكز في الأذهان العرفيّة.

هذا كلّه مضافا إلى ما يدّعى من أنّ من المعلوم من سيرة المسلمين عدم الاجتناب عن ميتة ما لا نفس له مثل ميتة الذباب و الجعل و الخنفساء و الجراد و نحو ذلك.

و كيف كان فلو شكّ في جلد أنّه من المذكّى أو الميتة فلا إشكال في أنّ مقتضى الأصل هو الحكم بالثاني، لأنّ الموت أمر عدمي و هو عبارة عن عدم حصول التذكية المعتبرة شرعا في حلّ الحيوان عند إزهاق روحه.

و لكن هذا بالنسبة إلى ما إذا كان الحيوان الذي أخذ الجلد منه مشكوك الحال ممّا لا إشكال فيه، سواء جعلنا التذكية عبارة عن نفس الأفعال الخارجيّة من فري الأوداج الأربعة مع إسلام الذابح و استقباله و تسميته و كون الآلة حديدا و نحو ذلك، أم جعلناها عبارة عن الأمر البسيط المتولّد من هذه الأفعال، إذ على التقديرين نقول: لم يكن

هذا المعنى الحادث متحقّقا في هذا الحيوان، و الآن أيضا كما كان، فيثبت له جميع أحكام غير المذكّى.

و إنّما الكلام بالنسبة إلى ما إذا لم يكن لنا في الخارج حيوان شككنا في حاله و أنّه مذكّى أو ميتة، كما لو رأينا حيوانا مخصوصا مذبوحا بالشروط المقرّرة، و حيوانا معيّنا آخر غير مرعي فيه تلك الشروط، فشككنا في الجلد أنّه أخذ من أيّهما، فإنّه ليس لنا أن نشير إلى الحيوان الذي منه أخذ هذا الجلد، و نقول: نشكّ في كونه مذكّى أو ميتة، فالأصل عدم تذكيته، لأنّا حسب الفرض نقطع في هذا المعيّن بالتذكية، و في ذاك المعيّن بعدمها، و لا ثالث يحتمل كون الجلد منه، فلا معنى لقولنا:

إنّا نشكّ في الحيوان المأخوذ منه هذا الجلد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 203

الإشكال في أصالة عدم التذكية
اشارة

نعم هذا لا إشكال فيه لو جعلنا التذكية عبارة عن الأفعال المخصوصة أعني:

إمرار السكّين و الذبح بالشروط المقرّرة، فإنّ مورد التذكية على هذا هو الحيوان دون الجلد، فإنّ الجلد لا يصحّ أن يقال: فري أوداجه، أو ذبح، و إنّما محلّ ذلك هو الحيوان، و قد فرضنا عدم الشكّ فيه، فما هو محلّ الذبح و الفري أعني الحيوان لا شكّ فيه حتّى يستصحب، و ما يكون مشكوكا أعني: الجلد ليس محلّا للفري و الذبح حتّى يستصحب عدمها فيه، فلا معنى للاستصحاب المذكور.

و إنّما الكلام كلّه في هذا الفرض لو قلنا بأنّ التذكية عبارة عن الأمر البسيط المتحصّل من تلك الأفعال، فإنّه حينئذ يسري إلى جميع أجزاء الحيوان، فيصحّ أن يقال: هذا الجلد ذكيّ، أعني: حصل له الحالة المخصوصة المعنويّة بواسطة ذبح حيوانه بالشروط المقرّرة.

فهل يصحّ على هذا المبنى إجراء أصالة العدم في المثال الذي تقدّم

بأن يقال: لم نعلم بحصول هذه الحالة بعد وقوع الذبح على أحد الحيوانين المعيّنين في هذا الجلد الشخصي، بعد ما علمنا بعدم حصولها قبله، فالأصل بقاؤه على ما كان، أو لا يصحّ؟ الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه في بحث الأصول و أكّده في هذا المقام في بحثه الشريف هو الثاني، لوجوه ثلاثة لعلّ مرجعها إلى واحد.

الأوّل: أنّ المورد شبهة مصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ، لاحتمال كونه نقضا باليقين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 204

تصوير الشبهة المصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ

توضيح ذلك يحتاج إلى مقدّمة و هي أنّه لو فرضنا إناءين من الماء مقطوعي النجاسة ثمّ قطعنا بطهارة أحدهما المعيّن بنزول الغيث مثلا أو الاتّصال بالكرّ أو الجاري مع المزج، ثمّ رأينا قطرة قطرت على لباسنا و نقطع بأنّها من الإناءين المذكورين و لكن نشكّ في أنّها من أيّهما فلا شكّ أنّ هذه القطرة يحتمل كونها من القطرات التي نحن نقطع فعلا بكونها طاهرة قطعا تفصيليّا، فإنّ الإناء المعيّن الذي وقع الغيث فيه نشير إلى جميع قطراته بالإشارة التفصيليّة و نحكم عليها حكما جزميّا بالطهارة، فمع وصف احتمال كون هذه القطرة الواقعة على اللباس من تلك القطرات الموصوفة بالمقطوعيّة التفصيليّة الفعليّة بالطهارة كيف يصحّ لنا أن نقول: هذه القطرة كانت نجسة في السابق قطعا، و الآن نشكّ في حصول الطهارة لها، فلا يصحّ لنا نقض ذلك اليقين بالنجاسة السابقة إلّا باليقين بالطهارة، و ليس لنا في هذه القطرة يقين بالطهارة، فإنّ الحكم بعدم اليقين بالطهارة فيها لا يصحّ، لأنّه من المحتمل أنّه مورد قطعنا الفعلي التفصيلي و إشارتنا التفصيليّة إلى جميع قطرات ذلك الإناء بالحكم بالطهارة.

فإن قلت: يلزم عليك عدم جريان استصحاب الطهارة الحدثيّة لمن تيقّن بالوضوء و شكّ في أنّه

بال، و لكن نقطع بأنّه لو بال لكان في حال العلم و الالتفات، فإنّه حينئذ يجري فيه ما ذكرت حرفا بحرف، لأنّه يحتمل أنّ يقين الطهارة انتقض في حقّه بيقين الحدث، فكيف يحكم جزما بأنّ معاملة الحدث فعلا نقض لليقين بالشكّ، مع أنّه يحتمل تخلّل اليقين في البين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 205

قلت: الاعتبار بالحال الفعليّة، و القطع في ما ذكر من المثال ليس بفعلي، بل الحال الموجودة فعلا هو الشكّ، ليس إلّا.

نعم له قطع حاصل على تقدير، أعني: أنّه لو كان قد بال كان محدثا، و القطع المعتبر في نقض اليقين السابق هو القطع الفعلي، و إلّا فكلّ شكّ يرجع لا محالة إلى القطع التقديري، و كذلك يحتمل أنّه في السابق حصل له القطع بالحدث تفصيلا في حال بوله، و لكنّ القطع السابق على فرض مقطوعيّته لا يضرّ، فضلا عن كونه محتملا كما هو المفروض في المثال، بل المعيار هو القطع في الحال الغير المتبدّل فعلا بالخلاف.

و هذا بخلاف الحال في مقامنا، فإنّ القطع التفصيلي حاصل حالا، لا في الماضي، و على وجه الفعليّة و التنجيز لا التعليق و التقدير، فإنّا الآن نحكم حكما جزميّا على جميع قطرات الإناء الواقع فيه المطر بطريق الاستيعاب بالطهارة التفصيليّة بحيث ننظر إلى جميع أشخاص قطراته و نحكم بأنّ هذه طاهرة و هذه كذلك، و هذه كذلك إلى آخرها، و هذه القطرة الساقطة على اللباس يحتمل كونها من أحد موارد هذه الأحكام التفصيليّة الموجودة الفعليّة في نفسنا، فكيف يصحّ لنا أن نقول: لم ينتقض في هذه القطرة قطعنا بالنجاسة بالقطع بالطهارة، بل نحن شاكّون في طهارتها بعد ما كنّا قاطعين بالنجاسة.

فإن قلت: النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات، فإذا

كان انطباق تلك الصور المقطوعة التفصيليّة الجزئيّة على هذه القطرة مشكوكا فالحاصل فيها هو الشكّ و إن كان الصورة المحتملة الانطباق مقطوعة.

قلت: لا ندّعى عدم حصول الشكّ في هذه القطرة، كيف و هذه الدعوى مصادمة للضرورة و البداهة، بل نقول: تلك الصورة مقطوعة بالقطع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 206

التفصيلي الشخصي الخارج عن حدّ الانطباق على الكثيرين و الكلّية، و قد فرضنا أنّ غاية «لا تنقض» عبارة عن العلم المتعلّق بالصور الشخصيّة الغير القابلة للصدق على الكثيرين، دون العلم الإجمالي المتعلّق بالصورة الكلّية أو الفرد المنتشر.

و في هذا المقام القطع تعلّق بصورة شخصيّة تفصيليّة خاصّة غير قابلة للصدق على الكثيرين، و ليست بفرد منتشر أيضا، بل هو معيّن بالإشارة التعيينيّة، و بالجملة، لا نقض فيه أصلا عن اليقين الذي جعل غاية في الدليل للاستصحاب، فمع احتمال انطباق هذا القطع على هذا الفرد يكون شبهة مصداقيّة للاستصحاب لا محالة.

إذا عرفت ذلك فنقول في المقام: نحن نقطع تفصيلا بالتذكية في تمام أجزاء الحيوان المعيّن الخارجي بحيث نشير إلى جزء جزء منه و نحكم بحصول الذكاة فيه، فإذا احتملنا أنّ هذا اللباس المتّخذ من الجلد كان من جلد هذا الحيوان كان موردا لما تقدّم من كون نقض اليقين بعدم التذكية في هذا الجزء بمعاملة التذكية مردّدا بين كونه نقضا بيقين التذكية أو لا، فإذا سقط أصالة عدم التذكية كانت قاعدة الطهارة محكّمة.

و يؤيّد ما ذكرنا ما ورد من الأخبار المطلقة الحاكمة في موارد الشكّ في التذكية و العدم بجواز الاستعمال حتّى يعلم العدم، و لا داعي إلى حملها على مورد وجود السوق أو نحوه من أمارات وجود التذكية.

و لا ينافيه ما ورد من عدم جواز الاستعمال في

ما يؤخذ من يد الكافر، و كذلك ما ورد في ذيل موثّقة ابن بكير الواردة في عدم جواز الصلاة في أجزاء غير المأكول، حيث اشترط في جواز الصلاة في المأكول العلم بأنّه ذكيّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 207

قد ذكّاه الذبح.

وجه عدم المنافاة أنّ المطلقات محمولة على ما إذا كان في البين حيوان قد علمنا بتذكيته تفصيلا و احتملنا كون الجلد المصنوع ثوبا من ذلك الحيوان، كما هو الغالب في من هو ساكن في بلد الإسلام، لكن كان ابتلاؤهم في تلك الأزمنة بمعاشرة من يستحلّ جلد الميتة بالدباغة.

و الحاصل: أنّ الجلود الخارجيّة منقسمة عنده في الخارج بين ثلاث طوائف:

إحداها: ما قام العلم أو العلمي على حصول التذكية الشرعيّة فيه.

و الثانية: ما قام العلم أو العلمي على عدمها فيه.

و الثالثة: ما يكون مشكوك الحال، فهذا الثوب المشتري من السوق يحتمل كونه مأخوذا من الطائفة الاولى، و قد قلنا بعدم جريان أصالة عدم التذكية في هذا الفرض.

و أمّا ما دلّ على البأس بالصلاة في المأخوذ من يد الكافر فمن المحتمل أن يكون مورد السؤال ما إذا كان عمل صناعة الجلد و ذبح الحيوان كليهما راجعا إلى الكفّار، و كان من المحتمل أن يكون في خدمة الكفّار و أكرتهم مسلم و هو باشر ذبح الحيوان الذي يكون جلده في يده، و من المعلوم أنّ أصالة عدم التذكية حينئذ جارية، إذ غايته أن يكون موردا للعلم الإجمالي، و الذي ذكرنا إضراره بجريان الأصل هو التفصيلي، و المفروض انتفائه في الحيوانات التي تصير مذبوحة تحت يد الكافر، بل هي إمّا مشكوكة بدويّة، أو معلومة بالعلم الإجمالي، و على كلّ حال يكون موردا للأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 208

طهارة الجلود المجلوبة من الإفرنج

و من هنا يعلم أنّ المصنوعات الجلديّة المجلوبة من الإفرنج في زماننا هذا ليس الحال فيها بهذا المنوال بعد فرض القطع بأنّه يجلب من بلاد الإسلام جلود ذكيّة إلى تلك البلاد.

نعم نقطع بوجود الجلود الغير الذكيّة في بلاد الإفرنج أيضا، فالمصنوعات غير معلومة أنّها من تلك المقطوعات التفصيليّة كونها مذكّاة، أو من تلك الأخرى المقطوعة الخلاف.

هذا مضافا إلى محمل آخر لهذا الخبر سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى ذكره.

و أمّا الموثّقة فهي متعرّضة لأصل اشتراط الذكاة واقعا، لا لحكم الشكّ كما سيأتي أيضا إن شاء اللّٰه تعالى.

الوجه الثاني: أنّه لا يحرز في المقام اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، لاحتمال انقطاعه عنه بتخلّل زمان القطع، بخلاف الحالة السابقة، فلو رجعنا قهقرى يحتمل ورودنا عند انتهاء أزمنة الشكّ في زمان القطع التفصيلي المحفوظ فعلا، الغير المتبدّل بالشكّ الساري أو الإجمال الساري بخلاف الحالة السابقة، و يتّضح حال هذا الوجه أيضا بالتأمّل في البيانات السابقة.

الوجه الثالث: أنّ المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء و احتمال الارتفاع بعد القطع بالثبوت في السابق، و النهي راجع إلى النقض العملي في مورد يحتمل عدم الانتقاض التكويني للحالة السابقة بخلافها، و هذا ممّا لا شبهة فيه، و هذا المعنى متحقّق في مورد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين و طهارة الآخر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 209

و الشكّ في التعيين بعد القطع بنجاسة كليهما مثلا، فإنّ كلّا من الشخصين بصورته التفصيليّة، يتحقّق فيه ذاك الملاك، أعني: القطع بثبوت النجاسة في السابق، ثمّ الشكّ في البقاء و الارتفاع و الانتقاض و العدم في اللاحق و إن كان لأجل احتمال انطباق الصورة الكلّية المعلومة الحال أو الفرد المنتشر كذلك عليه.

و كذلك موجود في استصحاب

القسم الثاني من استصحاب الكلّي، فإنّه ليس لنا قطع مطلق بالارتفاع و قطع مطلق بالبقاء، بل القطع بالارتفاع ثابت على تقدير، و كذا القطع بالبقاء، و هذا معناه الشكّ في البقاء و الارتفاع الفعليّين.

فالذي لا يتحقّق فيه الملاك المذكور هو ما إذا حصل القطع الفعلي، لا التقديري بصورة شخصيّة كان حملها على المشكوك من قبيل حمل هو هو و حمل هذا زيد، الذي مفاده العينيّة الصرفة، لا من قبيل حمل الكلّي على الفرد أو الفرد المنتشر على المعيّن، فإنّ بينهما تغايرا حقيقيّا مع الاتّحاد في الوجود.

و أمّا في مثل هذا زيد، فالمغايرة بصرف الاعتبار مع الاتّحاد الحقيقي، فإذا فرضنا صورتين حالهما بالنسبة إلى المشكوك على فرض انطباق كلّ حال حمل هذا على زيد و كنّا قاطعين بالارتفاع في إحداهما و بالبقاء في الأخرى فصرف الشكّ في الانطباق و عدم العلم بأنّ هذا الشبح المرئيّ مثلا في الظلمة هل هو زيد المقطوع فيه بقاء العدالة أو العمرو المقطوع فيه انتقاضها بالفسق لا يوجب صدق عنوان الشكّ في الانتقاض بالنسبة إلى هذا المرئيّ في الظلمة حتّى يصحّ أن يقال: إنّا كنّا قاطعين في هذا الشخص المرئي بالعدالة في اليوم السابق، و نشكّ الآن في بقائها و ارتفاعها، بل الصادق أنّ لنا مقطوعا تفصيليّا قطعنا فيه بالارتفاع، و مقطوعا كذلك قطعنا فيه بالبقاء.

و هذا الشخص لا نعلم أنّه الأوّل أو الثاني، فالشكّ متعلّق بأنّه الباقي قطعا أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 210

المرتفع كذلك، و هو غير الشكّ في البقاء و الارتفاع في الشخص، فإنّ هذا الرجل لو ارتفعت الظلمة عن الهواء تبيّن أنّه بشخصه و نفسه معلوم البقاء، أو بشخصه و نفسه معلوم الارتفاع، لا بصورة

كلّية أو جزئيّة مردّدة، فالشكّ في البقاء و الارتفاع لا يصدق.

نعم مطلق الشكّ صادق، و لهذا نقول في مثال القطرة المتقاطرة من أحد الإناءين التي مثّلنا بها سابقا بجريان أصالة الطهارة فيه، و كذلك فيما نحن فيه، أعني الجلد المحتمل الانتزاع من الحيوان المعيّن المقطوع التذكية أو الحيوان المشخّص المقطوع عدمها بجريان أصالة الطهارة و حلّية الاستعمالات مثل اللبس و نحو ذلك، و إن كنّا نتوقّف في الصلاة و البيع لو قلنا بأنّ للميتة عنوانا استقلاليّا مع قطع النظر عن النجاسة في المانعيّة عن الصلاة و البيع، فلا بدّ في الجلد المذكور من التفرقة بين الصلاة و الشراء ممّا يرتبط انعقاده و صحّته وضعا بالتذكية و بين الاستعمالات التي أنيطت بالطهارة، أو كان المتحقّق فيها صرف الحرمة التكليفيّة، فالمرجع فيها أصالة الطهارة و الحلّية.

و وجه جريان هذين الأصلين مع كونهما مغيّين بالعلم بالخلاف كالاستصحاب ما عرفت من أنّ المانع من جريان الاستصحاب عدم تحقّق صدق الشكّ في الانتقاض و البقاء الذي هو المعتبر فيه في المقام، و أمّا في الأصلين فالمعتبر مطلق الشكّ و هو موجود بالبديهة، فإنّه إذا شككنا أنّه هل هو الشخص الذي هو مقطوعنا من جهة الارتفاع أو الشخص الذي هو مقطوعنا من حيث البقاء، فلا محالة كان هذا الشبح حاله الفعليّة هو الشكّ في الطهارة و النجاسة و التذكية و الموت و إن كان لا يصدق فيه الشكّ في انتقاض الحالة السابقة القطعيّة، لما ذكرنا من أنّ عنوان الشكّ في البقاء و الانتقاض غير عنوان الشكّ في أنّه معلوم الانتقاض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 211

أو معلوم البقاء.

و من هنا يعرف الجواب عن الإشكال الذي ربما يورد في المقام و

هو أنّ العلم التفصيلي قد كان، و فعلا قد فات و تبدّل بالإجمال بواسطة الظلمة أو نحو ذلك، و غاية الاستصحاب هو العلم التفصيلي لا الإجمالي.

فإنّ الجواب أنّ التفصيل محفوظ في النفس من دون تبدّل أو تغيّر فيه أصلا، فإنّ نفس صورة الزيد الذي كان رفيقنا و جليسنا مثلا معلوم العدالة حدوثا و بقاء الآن بدون حدوث شكّ أو إجمال فيه، و كذلك صورة العمر و المعلوم المعيّن معلوم الارتفاع كذلك، و الإجمال الطارئ إنّما طرأ على معلومنا، فلا نعلم أنّ معلومنا التفصيلي ارتفاعا منطبق على هذا، أو معلومنا التفصيلي بقاء، لا أنّ الإجمال طار على الواقع مع قطع النظر عن تعلّق العلم التفصيلي به بأن لم نعلم أنّ العادل المرتفع عدالته هل هو زيد أو عمرو بعد أن علمنا تفصيلا أنّه زيد، فإنّه قد تغيّر العلم التفصيلي حينئذ بالإجمال، و كان الإجمال ساريا إلى السابق.

و أمّا في مفروضنا فالمعلوم التفصيلي على حاله بدون تغيّر و سريان إجمال إليه، و الإجمال تعلّق بوصف كونه معلوما تفصيليّا لنا.

و الحاصل: الظاهر عدم الإشكال في عدم جريان أصالة التذكية و استصحاب الطهارة أو النجاسة أو العدالة أو غير ذلك في الأمثلة المذكورة و ما شابهها، و قد علمت أنّه حينئذ يرجع إلى الأصول الأخر لو كان، مثل أصالة الطهارة و أصالة الحلّية على حسب الأثر المناسب في كلّ مقام.

نعم يبقى الكلام في أنّه هل يستفاد من الأخبار الواردة في حكم الجلود و اللحوم المشتبه انتزاعها من المذكّى أو الميتة حكم مفروض البحث و لو بإطلاقها أو عمومها حتّى يقال بمضمونها و يحكم بأنّه و إن كان الأصل هو الطهارة و حلّية اللبس

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 212

و الاستعمال، إلّا أنّ الشارع لم يجز لنا إعمال هذين الأصلين في خصوص هذا المقام، أو أنّه لا مساس للأخبار المذكورة بمقامنا و لا يوجب رفع اليد عن الأصول المذكورة؟

الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه في مجلس درسه الشريف هو الثاني، و توضيح الحال يحتاج إلى شرح الكلام في الأخبار المذكورة.

فنقول و باللّه المستعان و عليه التكلان و المستغاث بأولياء الرحمن عليهم صلوات اللّٰه الملك المنّان: إنّ الأخبار بين طوائف:

الاولى: موثّقة ابن بكير الواردة في اشتراط كون لباس المصلّي من غير جزء حرام اللحم، قال فيه تفريعا على هذا: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه و الصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز، إذا علمت أنّه ذكيّ و قد ذكّاه الذبح» «1» الخبر.

وجه عدم مساسه بمقامنا أنّه ليس متعرّضا لحكم حال الشكّ، بل للحكم الواقعي، و التعبير بالعلم للتأكيد في إحراز الواقع، فالعلم هنا طريقي محض.

و الثانية: عدّة أخبار دالّة في المشتبه بين المذكّى و الميتة بجواز اللبس و الصلاة فيه و الأكل من دون إشارة إلى أمارة من سوق المسلمين أو أرض الإسلام أو يد المسلم، مثل ما ورد في الصلاة في السيف و فيه الكيمخت، فسأل عنه فقال:

جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّا و منه ما يكون ميتة، فقال عليه السّلام: ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه «2»، و بمضمونه أخبار أخر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 55 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 213

و منها: الخبر الوارد في السفرة المطروحة في الطريق يكثر لحمها و خبزها و جبنها

و بيضها و فيها سكّين، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «يقوّم ما فيها، ثمّ يؤكل، لأنّه يفسد، و ليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: يا أمير المؤمنين، لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسيّ، فقال عليه السّلام: هم في سعة حتّى يعلموا» «1».

فإنّه ليس فيه أنّ الطريق كان طريق الإسلام، مضافا إلى أنّه عليه السّلام لم يسند الحكم إليه، بل إلى ما ذكره من قوله عليه السّلام: هم في سعة إلخ، و هذه الطائفة مساعدة لما ذكرنا فضلا من أن تكون مضرّة.

و الثالثة: عدّة أخبار حكمت بعدم البأس في الصلاة في الجلود المشتبهة المشتراة من السوق أو من يد المسلم أو من أرض الإسلام، و هذه أيضا لا يضرّنا، لأنّه إن كان الحكم بواسطة أماريّة هذه فيكون الأصل و لو موافقا محكوما لها، و إن كان لأجل الأصل الذي قرّرنا فنعم الوفاق و الدلالة على المطلب.

و الرابعة: ما دلّ على أنّ الجلود المشتبهة المأخوذة من يد معلوم الكفر أو مجهول الحال إذا لم يكن الغالب في البلد المسلمين غير جائزة الاستعمال في الصلاة، و هذه الطائفة هي العمدة في المقام، و يتوهّم منها الإضرار بالمطلب.

و تقريبه أنّ من المعلوم أنّ يد الكافر ليست أمارة على عدم التذكية، فليس الحكم بعدم جواز اللبس في الصلاة إلّا من جهة عدم وجود الأمارة على التذكية، فيعلم منه أنّ الأصل عند الشكّ في التذكية و العدم مطلقا و لو كان ممّا يحتمل كونه منتزعا من مقطوع التذكية على وجه التفصيل هو عدم التذكية حتّى يعلم التذكية.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصيد و الذبائح، الباب 38 من أبواب الذبائح، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 214

و

أجاب عنه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّه بعد ملاحظة الأخبار المطلقة على الجواز من غير تقييد بيد المسلم أو سوقه أو أرض الإسلام يدور الأمر بين تقييد تلك المطلقات بصورة وجود تلك الأمارات حتّى يحفظ ظهور الخبرين في البأس التحريمي، و بين رفع اليد عن ظهوره في التحريم و حمله على التنزيه حتّى يحفظ تلك الإطلاقات، و الثاني أقرب لوجهين:

أحدهما: أنّ حمل النهي و البأس المستفاد من مفهوم قوله عليه السّلام: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس، على النهي التنزيهي في خصوص الاستعمال الصلاتي ممّا يقربه الخبر الوارد في الثوب المشتري من السوق، لا يعلم لمن كان، هل يصلح الصلاة فيه؟ «قال عليه السّلام: إن كان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، و إن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله» «1»، فإنّ النهي عن الصلاة في الثوب المشتري من النصراني حتّى يغسله لا محالة محمول على التنزيه بعد مسلّميّة عدم كون يده أمارة على النجاسة، بل المحقّق عدم كونه كيد البائع المسلم أمارة على الطهارة، فإنّ استعمال ذي اليد المسلم دليل الطهارة، بخلاف الكافر، و معلوم أنّ الأصل في المشكوك هو الطهارة، و مع ذلك حكم بعدم الصلاة حتّى يغسله، فليس هذا إلّا لأجل الاهتمام بأمر الصلاة و مطلوبيّة الاحتياط لها.

و حينئذ فمن المحتمل قريبا أن يكون الحال في الخبر الوارد المفصّل في الجلود المشتبهة بين المأخوذة من المسلم و الكافر بهذا المنوال، بأن يكون احتياطا استحبابيّا رعاية لحال الصلاة، كما روي عن مولانا عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه كان لبس الفراء العراقي في غير حال الصلاة و كان ينزعه حال الصلاة، فإنّه معلوم أنّه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 50 من

أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 215

للاستحباب، و إلّا لم يلبسه عليه السّلام في غير الصلاة أيضا.

الثاني: أنّه لم يعلم في خبر من أخبار المقام وقوع السؤال عن الشراء، مع أنّ شراء الميتة أيضا كالصلاة فيها غير جائز، بل السائل فرض جواز شراء المشتبه مفروغا عنه و جعل السؤال ممحّضا في الصلاة فيه، و لم يعترض الإمام عليه السّلام أيضا بأنّه إذا كنت شاكّا فلم شريته، فيعلم أنّ هذا السؤال لأجل الاهتمام بشأن الصلاة بعد الفراغ عن الجواز في غيرها، و إنّما كان الشكّ في الجواز في الصلاة، فوقع الجواب في عدّة أخبار بالجواز، و ورد في بعض آخر بالمنع، فالمنع المذكور أيضا محمول على الكراهة بقرينة ما ذكرنا.

ثمّ نقول: سلّمنا أنّ المنع تحريمي و ليس بكراهي و ليس ما ذكرنا من الأمرين صالحا لرفع اليد عن الظاهر، فغاية الأمر إثبات المنع في خصوص الاستعمال الصلاتي مع بقاء الجواز في سائر الاستعمالات المنوطة بالطهارة المتحقّق فيها صرف التكليف بواسطة أصالتي الطهارة و الحلّية.

و الحاصل: لو كانت أصالة عدم التذكية في المورد الذي محلّ بحثنا جارية كانت هذه الأصول محكومة لها، و أمّا بعد الخدشة في جريانها بما تقدّم فغاية ما يستفاد من السير في الأخبار هو المنع في خصوص الصلاة.

فإن قلت: ما يمنعك عن الجمع الذي ارتضاه المشهور من حمل أخبار الجواز على صورة وجود إحدى الأمارات من السوق أو أرض الإسلام أو يد المسلم كما هو الغالب، فإنّ الخارج عن هذا هو المأخوذ من الكافر المعلوم عدم سبقه بيد المسلم، أو من مجهول الحال في سوق الكفّار أو أرضهم، و لا يخفى أنّه فرض نادر و لا سيّما مع وجود الشاهد

على هذا الحمل في كلتا الطائفتين، فإنّ أكثر أخبار الجواز قد ذكر فيها لفظ السوق المنصرف إلى سوق المسلمين، أو التقييد بصنعة أرض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 216

الإسلام، و ما بقي منها و إن كان مطلقا، و لكنّها أيضا قابلة لهذا الحمل بواسطة شيوع وجود تلك الأمارات، كما أنّ خبري المنع عن المأخوذ عن الكافر ظاهران في صورة الانفكاك عن الأمارتين الأخريين، و خصوصا مع أنّ النسبة عموم و خصوص مطلقان، و مقتضى القاعدة هو تقديم الخاصّ و تخصيص العامّ به.

و على هذا فلا بدّ من القول بما أفتى به المشهور من الحكم بعدم التذكية في غير مورد وجود الأمارات، سواء كان من قبيل ما ذكرت من المثال أو من غيره، و ذلك لإطلاق خبري المنع في المأخوذ من الكافر و شموله لكلا الفرضين، و إطلاق الخاصّ يؤخذ به و يرفع به اليد عن إطلاق العامّ أو عمومه.

قلت: المانع من هذا الجمع أمران:

الأوّل: أنّه لم يذكر في خبر من تلك الأخبار المشتملة على لفظة السوق مع كثرتها أنّه سوق المسلمين، بل الظاهر أنّ ذكره من باب أنّه محلّ الابتلاء غالبا بالبيع و الشراء، لا أنّ للسائل و المجيب نظرا و عناية إليه.

و على هذا فمساق هذه الأخبار أيضا مساق ما لم يذكر فيه هذه اللفظة مع الخلوّ عن القيدين الآخرين، بحيث يصلح عدّها من جملة المطلقات الدالّة على الجواز، و لعلّ الداعي للمشهور على ما ذهبوا إليه من حملها على أماريّة السوق استحكام أصالة عدم التذكية و قوّتها في أنظارهم- رضوان اللّٰه عليهم- بحيث لم يصلح عندهم تخصيص فيها و رفع اليد عن مفادها إلّا بقيام الأمارة على التذكية، و إلّا فبدون أمارة

عليها لا يرفع اليد عنها، فهذا ألجأهم إلى ما ذهبوا إليه من حمل هذه الأخبار على الأماريّة.

و المانع الثاني: أنّ لسان هذه الأخبار آب عن بيان الأماريّة للسوق، فإنّ لسان جعل الأمارة لا يناسبه المغيّائيّة بالعلم بأن يقال: اعمل به حتّى يعلم الخلاف،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 217

فإنّ العلم معناه الطريق، و هذا بالفرض فرد حقيقي للطريق، فالمناسب أن يقال:

لا سبيل لك إلى الشكّ مع الأمر الفلاني، بل لا بدّ من إلقاء احتمال كذبه، و التعبير في هذه الأخبار كما يعلم بمراجعتها إنّما هو بعدم لزوم الفحص و مراجعة الطريق و أنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم و الدين أوسع من ذلك كما في بعضها، و بأنّه ما دام الشكّ و عدم العلم بكونه ميتة لا بأس بالاستعمال كما في بعضها الآخر، و هذا كما ترى يناسب جعل الأصل.

و على هذا نقول: و إن كانت النسبة بين هذه و بين الخبرين عموما و خصوصا مطلقا، لكنّ التخصيص فرع إحراز قوّة الظهور في جانب هيئة الخاصّ على الظهور في مادّة العامّ، و نحن إذا رأينا من الشارع أنّه راعى جانب الصلاة في الثوب الغير الجلد المأخوذ من الكافر بأن لا يصلّى فيه إلّا بعد غسله، و فهمنا منه أنّه حكم استحبابي ينفتح لنا باب هذا الاحتمال في خبري المنع في الجلود المأخوذة من الكافر و أنّه و إن كان لا بأس تحريمي في الصلاة لأنّ المشكوك لا بأس به، إلّا أنّ الفضل في الاجتناب عنه في صورة أخذه من يد الكافر، إلّا إذا كان في أرض الإسلام، بحيث كان ذلك أمارة على أنّه إنّما وقع في يده من يد المسلم، فيرتفع هذا المنع.

و إذا وازنّا هذا

الحمل في هيئة الخبرين اللذين هما خاصّان في مقامنا مع حمل الأخبار الأخر على بيان أماريّة السوق و اليد و الأرض مع عدم ذكر الإسلام في أخبار السوق و مع جعل المعيار فيها هو العلم و الشكّ، كان الحمل الأوّل عند الإنصاف أقرب من الثاني.

و على هذا فلا بدّ من الأخذ بمفاد تلك الأخبار و القول بأنّ الشارع جعل الأصل في باب التذكية و عدمها هو البناء على التذكية حتّى يعلم العدم، سواء كان المورد من قبيل المثال الذي فرضنا الذي قلنا بعدم جريان أصالة عدم التذكية فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 218

ذاتا، أم من غيره ممّا يجري فيه ذلك الأصل، فإنّه و إن كان النسبة بين هذه الأخبار و أخبار الاستصحاب عموما و خصوصا من وجه، لشمول هذه الأخبار، لما ذكرنا من المثال، و شمول تلك لغير الجلود، إلّا أنّ هذه الأخبار أظهر من تلك، بواسطة أضقيّة دائرة عمومها و أوسعيّة عموم تلك.

ثمّ إنّ في بعض الأخبار تعليق الجواز بضمان البائع الذكاة للمشتري، فإن كان المراد منه هو العهدة التي تعهّدها بفعله و يده إذا كان مسلما، فلا مزيّة فيه على أخبار اليد التي عرفت الحال فيها و أنّه لأجل مراعاة الصلاة بالاحتياط الاستحبابي، و إن كان أزيد منه- أعني الاشتراط في ضمن العقد- فلا محيص من حمله على الاستحباب أيضا، فإنّه لو كان اليد أمارة فواضح، كما قاله المشهور، و كذا على ما قلنا من أنّ الأصل هو البناء على التذكية.

و أمّا إن لم نقل بذاك و لا بهذا، بل قلنا بجريان أصالة عدم التذكية فلا معنى لتجويز البيع للشي ء الذي قام الاستصحاب على كونه ميتة باشتراط كونه مذكّى، فهذا قرينة

على أنّ المراد منه أيضا ما ذكرنا من الرعاية الاستحبابيّة لأجل الصلاة و إن كان الارتكاب بدونه أيضا جائزا، أمّا للأمارة على طريقة المشهور، و إمّا لوجود الأصل على طريقتنا، هذا و لكنّ الذي لا يتجرّأ الفقيه من الإفتاء مخالفة المشهور رضوان اللّٰه عليهم.

تتميم: لا يذهب عليك أنّا لا ننكر أماريّة يد المسلم و سوق المسلمين

و صنعة أرض الإسلام على التذكية بواسطة بعض الأخبار الظاهرة في ذلك كقوله عليه السّلام: «إذا رأيتم يصلّون (يعني البائعين) فيه فلا تسألوا عنه» «1»، و قوله عليه السّلام: «و فيما صنع في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 219

أرض الإسلام» «1»، و أمّا اعتبار سوق المسلمين فيدلّ عليه بعض الأخبار المذكور في الوسائل في بعض أبواب الصيد و الذباحة، فراجعه «2».

بل المقصود أنّها لا ينافي مع كون الأصل عند الشكّ هو التذكية، كما مرّ بيانه، و هل المستفاد من الأخبار أماريّة الثلاثة في عرض واحد، أو أنّ اليد أمارة التذكية و الأخريين أمارتان على اليد؟ الظاهر هو الثاني، فإنّه لا يفهم الإنسان من الأخبار أنّ مجرّد وجود المسلمين و غلبتهم في السوق له مدخليّة في الحكم بتذكية المأخوذ من يد معلوم الكفر مع الشكّ في تذكيته، بل الظاهر أنّ غلبة المسلمين أمارة على تشخيص حال الشخص المشكوك الحال، و هكذا صنعة بلاد الإسلام، فإذا صار شي ء من مختصّات أرض الإسلام مثل ما يسمّى بالفارسيّة (پوستين) فنحن إذا وجدناه في أقصى بلاد الإفرنج لا بدّ أن نحكم بأنّه مذكّى و أنّه مجلوب من بلاد الإسلام إلى هناك.

الرابع: من شروط الساتر بل و مطلق اللباس أن لا يكون من أجزاء ما لا يؤكل لحمه،
اشارة

و الأصل في ذلك موثّقة ابن بكير، «قال: سأل زرارة أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في الثعالب و الفنك و السنجاب و غيره من الوبر، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّ الصلاة في وبر كلّ شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شي ء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتّى

تصلّى في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله» «3» الخبر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(2) راجع الوسائل: كتاب الصيد و الذبائح، الباب 29 من أبواب الذبائح.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 220

و الراوي أعني: ابن بكير و إن كان ضعيفا على ما صرّح به بعض العلماء رضوان اللّٰه عليهم، و متن الخبر أيضا لا يخلو من بعض المناقشات مثل إطلاق الزعم الظاهر في الاعتقاد المخالف للواقع، و مثل قوله: فالصلاة في وبره و شعره إلخ، فإنّه لا يناسب التركيب النحوي، إلّا أنّ العلماء رضوان اللّٰه عليهم تلقّوا هذا الخبر بالقبول، و بذلك ينجبر الوهن الوارد عليه من هذه الجهات، هذا هو الكلام في السند.

و أمّا الدلالة فلا كلام فيها من حيث الذات، و أمّا من حيث المعارض فاعلم أنّ هنا أخبارا دالّة على الجواز إمّا بطريق الإطلاق الشامل لجميع الاستعمالات التي منها الصلاة فيه، مثل قوله في رواية عليّ بن يقطين: «لا بأس بذلك» عقيب السؤال عن لباس الفراء و السمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود «1».

و إمّا بطريق التخصيص بخصوص الصلاة، مثل قوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي:

«لا بأس بالصلاة فيه» عقيب السؤال عن الفراء و السمّور و السنجاب و الثعالب و أشباهه «2».

و إمّا بطريق التخصيص، لكن مع المنع في خصوص ما كان صيّادا أو ذا ناب و مخلب، بل و بعض هذا القسم يكون شارحا و مبيّنا لمورد نهي الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و أنّ نهيه صلّى اللّٰه عليه و آله متعلّق بالصلاة في خصوص ذي الناب و المخلب.

أمّا الطائفة الأولى: فيمكن جمعها

مع الموثّقة بتقييد هذه الطائفة باللبس الغير الصلاتي، لكون النسبة هو الإطلاق و التقييد.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 221

و أمّا الثانية: فلا محيص عن حملها على التقيّة، و ذلك لتجويزه الصلاة في السمّور و الثعالب، و هما من قسم السباع، و قد أطبقت كلمتهم- على ما قيل- على المنع فيها.

فينحصر المعارض في الطائفة الثالثة، فقد يقال: إنّ النسبة بين هذه الطائفة و بين الموثّقة هو التباين، بملاحظة ذكر السنجاب بالخصوص في الموثّقة، فيكون العموم بالنسبة إليه نصّا غير قابل للتخصيص، لكونه من تخصيص المورد المستبشع، و لو لا ذكر السنجاب في الموثّقة أمكن أن يقال بتخصيصها بواسطة هذه الطائفة بخصوص الغير المأكول الذي كان ذا ناب و مخلب.

لكن ما ذكر يمنع من هذا الجمع و يجعلهما من قبيل الخاصّين المتعارضين، كما أنّه لا مساغ للجمع بالكراهة في غير ذي الناب، لإباء الموثّقة عن الحمل على الكراهة و كمال ظهورها في بطلان الصلاة كما لا يخفى.

فينحصر الأمر في الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، و هي مع الموثّقة لمخالفتها الجمهور و موافقة معارضها معهم، لكون مذهبهم على ما قيل هو الجواز، هذا ما قد يقال.

و لكن استشكل فيه شيخنا الأستاذ العلّامة دام ظلّه على ما نقل لي «1» أوّلا:

______________________________

(1) فإنّي ما حضرت مجلس بحثه من أوّل الشرط الرابع إلى قولنا: و ينبغي التنبيه على أمور، و قد كتبت ما هنا من تقرير بعض حضّار بحثه من الفضلاء كثّر اللّٰه أمثالهم، و كان سبب عدم حضوري انتقالي إلى بلدة عراق (أراك) بواسطة قضيّة وفاة والدتي العلويّة

طاب ثراها، و قد أحرق فوتها قلبي أيّ إحراق، و كان تأريخ وفاتها ليلة السادس من شهر الصفر من السنة التاسعة و الأربعين بعد الثلاثمائة و الألف 1349، ألتمس من القارئ الدعاء بالمغفرة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 222

بإمكان دعوى كون النسبة هي العموم و الخصوص و لو كان مصبّ السؤال الذي ورد العموم في جوابه هو الخاصّ، و ذلك لأنّ نظر المتكلّم بالعامّ قد يكون في العامّ متوجّها إلى ذكر حكم ذلك المورد الخاصّ، فالعموم مذكور تطفّلا لذكر ذلك الخاصّ، ففي هذه الصورة لا يصحّ استثناء هذا المورد عن العموم.

و قد لا يكون متوجّها إلى ذكر حكم المورد الخاصّ، و إنّما نظر كلّ من السامع و المتكلّم ممحّض إلى فهم حكم القاعدة، و ذكر بعض الجزئيّات ليس لأجل العناية بها بخصوصها، بل لأجل المثال لذلك الكلّي المنطبق عليها، فكأنّه وقع السؤال من أوّل الأمر في الكلّي و أنّ حكمه ما ذا، ففي هذه الصورة لا نتحاشى عن معاملة العموم و الخصوص، فيجوز استثناء بعض ما ذكر مثالا في السؤال لذلك الكلّي المسئول عنه عن عموم الجواب بواسطة دليل خاصّ منفصل.

و على هذا فلو كنّا و الأخبار لكان الجمع المقبول تقديم الطائفة الثالثة على الموثّقة و إخراج ما لم يكن صيّادا من عموم الموثّقة، و لكنّ العمدة إعراض المشهور عن الفتوى بمضمون هذه الطائفة، فيوجب ذلك وهنا فيها من حيث ذاتها بحيث يسقط عن درجة الحجّية الذاتيّة، فلا يصلح لمعارضة الموثّقة.

نعم بعض الأخبار الأخر الوارد في السنجاب بالجواز بدون ذكر التعليل لا مانع من تقديمه على الموثّقة، كما ورد في الخزّ و غيره على ما يأتي تفصيل الكلام في كلّ واحد في محلّه إن شاء

اللّٰه تعالى.

و ثانيا: سلّمنا عدم إمكان معاملة العموم و الخصوص، و لكن الرجوع إلى المرجّحات أيضا ممنوع، و ذلك من جهة أنّ مورد التعارض أعني: غير ذي الناب و المخلب ليس بتمامه قابلا للطرح، بل بالنسبة إلى غير السنجاب منه، فإنّ السنجاب حسب الأخبار الأخر الخاصّة به يكون الجواز فيه حكما واقعيّا، فالطرح السندي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 223

أو الحمل على التقيّة لا يتأتّيان بالنسبة إلى جميع أفراد مدلول المعارض، بل إلى بعضها، و التفكيك خلاف منصرف الأخبار العلاجيّة، فإنّ منصرفها ما إذا كان الأمر دائرا بين رفع اليد، إمّا عن تمام مدلول هذا الخبر، و إمّا عن تمام مدلول ذلك، كما ذكر ذلك في وجه خروج العامّين من وجه عن منصرفها، فلا محيص عن الرجوع بعد اليأس عن الجمع الدلالي إلى الأصول العمليّة لو لم يكن هناك عامّ فوق، و إلّا فالمرجع بعد تعارض الخاصّين هو ذلك العامّ، و المقام من هذا القبيل، فإنّه بعد معاملة الخاصّين بين الموثّقة و الطائفة يكون مرجعنا الأخبار العامّة المانعة عن الصلاة في جزء غير المأكول اللحم من غير تعرّض لذكر أفراده، فلا يصل النوبة إلى الأصل العملي المقرّر في الأصول في أمثال المقام من البراءة على ما حقّق في محلّه.

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأوّل: هل الممنوع خصوص لبس جزء الغير المأكول، أو يعمّه

و مصاحبته مع المصلّي لا بعنوان اللباس بأيّ نحو كان و لو مثل شعرة ملقاة على ثوبه، أو مثل جزء موضوع في وعاء موضوع في كيس المصلّي، أو يعمّه و خصوص المصاحبة الشبيهة باللبس، مثل ما لو التفّ الثوب بشعر غير المأكول بحيث صار كالجزء منه، أو تلطّخ الثوب ببوله أو روثه؟ وجوه.

للأوّل منها أنّ ظهور كلمة «في» في الظرفيّة الحقيقيّة يمكن الأخذ به بالنسبة

إلى الجلد و أمثاله، و إنّما لا يمكن بالنسبة إلى الروث و نحوه، و لا يصار إلى المجاز إلّا بقدر الضرورة.

و للثاني أنّ عطف الروث و نحوه قرينة على إرادة المعيّة و المصاحبة المطلقة من الكلمة، فإنّه لم تتكرّر «في» في الموضعين حتّى يقال باختلاف المراد حسبهما، فيلزم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 224

استعمال اللفظة الواحدة في المعنيين لو أريد خصوص كلّ من الحقيقي و المجازي منها، فلا محيص عن استعمالها في الجامع، لكونه أقرب إلى الحقيقي بعد تعذّره.

و للثالث أنّ اللفظة لم يستعمل في معنيين بالنسبة إلى موردين، بل استعملت في الجامع، و هو مفهوم المصاحبة و المعيّة، و لكن هذا المفهوم بإضافته إلى كلّ مورد ينصرف إلى معنى خاصّ، نظيره أن يقال: اضرب هذا العقرب و هذا الثور، فإنّ المنصرف من ضرب العقرب قتله، و من ضرب الثور إيلامه. و هكذا في المقام إذا أضيف المصاحبة إلى الجلد ينصرف إلى اللبس أو ما يكون شبيها به، و إذا أضيفت إلى البول و الروث ينصرف إلى المصاحبة المطلقة و لو مثل القطرة.

هذا ما يقال من الوجوه في هذا المقام.

لكن قال شيخنا الأستاذ العلّامة دام ظلّه بأنّها مبنيّة على كون لبس المصلّي من الظرفيّة الحقيقيّة للصلاة، و كان استعمال «في» في قولنا: صلّيت في ثوب من الاستعمال في المعنى الحقيقي، و لمانع أن يمنع ذلك و يقول بأنّه فرق بين ظرفيّة اللباس للشخص المصلّي و بين ظرفيّته لفعل الصلاة، و المتحقّق في المقام إنّما هو الأوّل دون الثاني، فإنّ معظم أجزائها القراءة و الأذكار، و هي غير مظروفة للّباس، و مفاد العبارة إنّما هو الظرفيّة للفعل لا الفاعل، كما هو الظاهر من أمثالها كقولك:

ضربت زيدا في الدار، حيث ليس معناه كون الضارب في الدار و لو كان ظرف الضرب خارجها.

و على هذا فلا محيص عن التجاوز عن المعنى الحقيقي هنا حتّى في اللباس و إرادة مطلق المصاحبة، و حينئذ فلا فرق بين الملبوسيّة و المحموليّة، فمساق قوله عليه السّلام: لا تصلّ في جلد غير المأكول مساق قول القائل: صلّيت في السيف أو في السكّين، في أنّ اللازم في كليهما إخراج الكلمة عمّا وضعت له و استعمالها في مطلق المصاحبة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 225

نعم بعض أفراد المصاحبة محلّ للشكّ كالموضوع في الكيس.

و ربما يستدلّ على الجواز في المحمول بالأخبار الناهية عن الصلاة في الثوب الذي يلي جلود الثعالب، حيث إنّه لا وجه للمنع إلّا التصاق شعرات من الجلود بذلك الثوب.

و برواية إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: «كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر و الشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة و لا ضرورة؟ فكتب: لا يجوز الصلاة فيه» «1».

لكنّ الروايات الاولى يحتمل أن يكون المراد بما يلي الجلود، الثوب الملصق بها بحيث صارا متّحدين كالظهارة و البطانة.

و أمّا الثانية فالإنصاف تماميّة الاستدلال بها من حيث الدلالة، و أمّا السند فهي مشتملة على عمرو بن يزيد و هو مجهول.

الثاني: هل الممنوع في جانب الملبوس يعمّ ما يتمّ به الصلاة

لكونه ساترا و غيره لعدم الساتريّة، أو يختصّ بالأوّل، فلا بأس بمثل القلنسوة و التكّة و الجورب المتّخذات من أجزاء ما لا يؤكل لحمه؟

مقتضى صحيحة محمّد بن عبد الجبّار «قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله:

هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه، أو تكّة حرير محض، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب عليه السّلام: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، و إن كان الوبر

ذكيّا حلّت الصلاة فيه إن شاء اللّٰه تعالى» «2» هو الثاني.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 226

لا يقال: من المحتمل كون الجواز مخصوصا بحالة التقيّة، و ليس لنا التمسّك بالإطلاق مع هذا الاحتمال، أ ترى أنّه يجوز الأخذ بإطلاق كلام المفتي إذا رآه مقلّده يفتي أحدا بصلاة القصر عقيب سؤاله عن كيفيّة صلاته و هو عالم بحاله من السفر و الحضر و الرائي جاهل، فهل يجوز أن يعمّم الحكم بالنسبة إلى المسافر و الحاضر مع كونه محتملا لكون السائل مسافرا؟ و ليس هذا من باب الحمل على تقيّة المتكلّم حتّى يكون على خلاف الأصل، بل من باب تقيّة السامع، و ليس هو على خلافه، لكون الحكم حينئذ واقعيّا له في هذا الحال.

لأنّا نقول: فرق بين المثال و ما نحن فيه، فإنّه في المثال سأل عن حكم شخص نفسه، و نحن نحتمل أنّه كان مسافرا و المفتي عالم بحاله، و لو كان سائلا عن كيفيّة الصلاة بلا إضافة إلى نفسه كان قال: هل يصلّى الظهر- مثلا- قصرا أو تماما؟

فأجابه بالقصر كان مثل ما نحن فيه، و الأخذ بالإطلاق حينئذ مع تماميّة مقدّماته صحيح و لو احتملنا كونه مسافرا، لأنّ الفرض أنّه سأل عن حقيقة الصلاة بالنسبة إلى جميع المكلّفين، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه قال: هل يصلّى في قلنسوة إلخ، و لم يقل: هل أصلّي، بل لو كان اللام في قوله عليه السّلام: و إن كان الوبر إلخ للعهد لم يجتمع مع تقيّة السامع أصلا، لأنّ المفروض تجويزه له في خصوص

التكّة مع ارتكاز المنع في الساتر.

اللّٰهمّ إلّا أن يكون اللام للجنس، كما هو الأصل فيه.

لكن بإزاء هذه الصحيحة رواية عليّ بن مهزيار «قال: كتب إليه إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب و تكك يعمل من وبر الأرانب، فهل يجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة و لا تقيّة؟ فكتب عليه السّلام: لا يجوز الصلاة فيها» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 227

و النسبة بينهما الإطلاق و التقييد، فمقتضى القاعدة تقييد الاولى بحال التقيّة، كما كان هو الغالب للسائلين في تلك الأزمنة، و كان هذا هو السرّ في إطلاق الكلام، و لمّا خصّ السائل في هذا الخبر سؤاله بغير حال التقيّة صرّح الإمام عليه السّلام بالمنع.

و من هنا يظهر عدم جواز التمسّك برواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكّة الإبريسم و القلنسوة و الخفّ و الزنّار يكون في السراويل و يصلّى فيه» «1».

تقريب التمسّك أنّ النسبة بين هذه الرواية و روايات المنع عن الصلاة في الحرير و في الميتة و في النجس و في غير المأكول و إن كانت عموما من وجه كما هو واضح، و لكن لهذه الرواية حكومة عليها، لأنّها ناظرة إليها، إذ موضوع الكلام ليس الثوب الغير الساتر الذي ليس فيه شي ء من هذه الموانع، بل من المعلوم أنّ المراد ما كان منه مشتملا على واحد منها أو أزيد، فكأنّه قال: كلّ ما كان مانعا في اللباس لو لا جهة قلّته و عدم ساتريّته فهو مع القلّة و عدم الساتريّة ليس بمانع، و هذا المضمون

حاكم على جميع أدلّة المنع كما هو واضح.

وجه عدم الجواز أنّه لا يصحّ هذا الكلام بالنسبة إلى رواية عليّ بن مهزيار المتقدّمة، لورودها بالخصوص في ما لا يتمّ به الصلاة، و النسبة بينهما العموم و الخصوص المطلقان، كما أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى الميتة أيضا، لقوله عليه السّلام في الميتة: «لا تصلّ في شي ء منه و لا شسع» و قد تقدّم في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار منع الصلاة في تكّة حرير محض، و النسبة بينهما التباين، فنرجع بعد التساقط إلى عمومات المنع عن الحرير، فينحصر مورد جواز التمسّك بهذه الرواية في النجس، فيخرج عن محلّ الكلام.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 228

الثالث: قد عرفت استفادة العموم في حرمة الصلاة في جزء غير المأكول،
اشارة

فاعلم أنّه استثني عن هذا العموم الخزّ الخالص عن وبر الأرانب و الثعالب و سائر ما لا يؤكل لحمه، و قد استفاضت النصوص بجواز الصلاة فيه من أراد الاطّلاع فليراجع الوسائل، و لكنّ الكلام في المقامين:

استثناء الخزّ الخالص
الأوّل: هل الجواز مخصوص بالوبر الخالص عن الجلد،

كما لو كان الثوب منسوجا من وبره، و منه عمامة الخزّ، أو يعمّه و الجلد؟ و الظاهر عدم الإشكال بحسب الروايات في التعميم للجلد، و يدلّ عليه رواية ابن أبي يعفور «قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من الخزّازين، و ساق الحديث إلى أن قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: فإنّ اللّٰه تعالى أحلّه و جعل ذكاته موته، كما أحلّ الحيتان و جعل ذكاتها موتها» «1» فإنّ اعتبار التذكية إنّما هو للجلد، و إلّا فالوبر ممّا لا تحلّه الحياة، و لا حاجة فيه إلى التذكية.

المقام الثاني: في أنّه هل الموجود في أيدي التجّار في زماننا ممّا يسمّونه خزّا يجوز الصلاة فيه أو لا؟

و منشأ الإشكال أنّا نحتمل أن يكون لفظة «الخزّ» مستعملة في زمان الأئمّة عليهم السّلام في معنى، ثمّ هجر عن ذلك المعنى و استعمل في المعنى الآخر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 229

و الذي يدفع هذا الاحتمال إنّما هو أصالة عدم النقل، و نحن لا نجزم ببناء العقلاء على هذا الأصل حتّى في مثل المقام ممّا يكون المعنى مشخّصا في الزمان اللاحق و مشكوكا في السابق، و القدر المتيقّن من بنائهم هو ما إذا كان المعنى مشخّصا في السابق و مشكوكا في اللاحق.

ثمّ لو فرض العلم باتّحاد المعنى في الزمانين أو ببناء العقلاء على العمل بالأصل المذكور في المقام، يمكن الإشكال في هذا الخزّ الموجود بأيدينا أيضا من جهة احتمال أن يكون له أصناف برّي و بحري، إلى غير ذلك، و كان المتعارف في زمن صدور الخطاب قسما خاصّا من أصنافه، و كان اللفظ في الخطابات إشارة إلى ذلك القسم، و لم يصرّح بالقيد من باب عدم الحاجة، لعدم ابتلاء المخاطب بغيره.

نعم

لو كان الظاهر من تعلّق الحكم بعنوان كونه موضوعا بعنوانه، لا عبرة إلى الخارج، صحّ التمسّك بالإطلاق لكلّ ما صدق عليه العنوان و لو لم يكن متعارفا في زمن الخطاب كما لو استفيد ذلك من مناسبة الحكم و الموضوع، و أمّا لو لم يدلّ قرينة على ذلك و احتمل أنّه جي ء بالمفهوم للإشارة إلى مصاديقه الخارجيّة، فلا ينفع الإطلاق حينئذ لدفع القيد المحتمل، و حينئذ فيجب الرجوع إلى عموم أدلّة المنع عن الصلاة في جزء غير المأكول.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إذا احتملنا أن يكون الخارج قسما واحدا و كان هو هذا الذي بأيدينا، بل نحتمل أن لا يكون له غير هذا القسم من الزمان الأوّل إلى الحال، يصير هذا الموجود بأيدينا من الشبهة المصداقيّة لعمومات المنع، و المرجع حينئذ يكون إلى الأصل العملي، و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى أنّه البراءة و جواز اللبس في الصلاة.

نعم لو قطع بأنّ المتعارف قسم و الموجود بأيدينا قسم آخر دخل في الشبهة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 230

المفهوميّة التي يكون المرجع فيها العموم، فيرجع في ما زاد على القدر المتيقّن إلى عمومات المنع، لكن أنّى لنا بهذا القطع في هذا الجزء الموجود بأيدينا و الموجود في الزمان السابق.

فإن قلت: نعم لا نقطع بالمغايرة، و لكن بعد القطع بأنّ هنا قسما من الخزّ باقيا تحت العموم و إن كنّا لا يمكننا تشخيصه، يحصل لنا علم إجمالي، فلا يجوز لنا في شي ء من الجلود المسمّاة بالخزّ الصلاة، لكونها أطرافا للعلم بالمنع.

قلت أوّلا: أنّى لنا بهذا القطع، و نحن نحتمل أن لا يكون للخزّ إلّا قسم واحد، و هو هذا الذي بأيدينا من أوّل الزمان إلى هذه الغاية، و على

فرضه فليست سائر الأطراف محلا لابتلائنا، فلا مانع من إجراء الأصل الشرعي في الطرف الواقع محلّا للابتلاء.

في استثناء السنجاب

الرابع: و من المستثنيات السنجاب،

و الأخبار باستثنائه كثيرة، و ليس في جانب المنع إلّا الرضوي المعلوم حاله، و ما في العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم الغير المعلوم كونه رواية، بل من المحتمل أنّه فتوى نفسه، و إلّا الموثّقة المتقدّمة بملاحظة اشتمال السؤال على ذكر السنجاب، فيكون عموم الجواب بالنسبة إليه نصّا، فيعارض تلك الأخبار المجوّزة.

و لكن تقدّم الكلام في إصلاح هذه المعارضة و أنّ النسبة عموم و خصوص مطلق، لأنّ السنجاب إنّما ذكر من باب المثال، لا لعناية بنفسه، فيقبل التخصيص،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 231

و ليس من تخصيص المورد.

ثمّ بعد البناء على استثنائه عن عموم المنع يجري فيه أيضا الكلام المتقدّم في الخزّ من الجهتين المتقدّمتين، فلا حاجة إلى الإطالة.

ثمّ إنّه ذكر المحقّق قدّس سرّه أنّ في الخزّ المغشوش بوبر الأرانب و الثعالب روايتين أصحّهما المنع، و لكن لم نعثر على رواية الجواز في المغشوش بوبر الثعالب، نعم عثرنا على الجواز في المغشوش بوبر الأرانب، و كذا على المنع فيه و في المغشوش بوبر الثعالب، و كذا على الجواز و المنع في نفس الأرانب و الثعالب.

و لكن يبعد أن يكون مراده بذلك رواية الجواز في نفس الثعالب، حيث إنّها بإطلاقها شاملة لحالة خلطه بالخزّ، لأنّ الظاهر منه وجود الرواية بهذا العنوان، أعني: المغشوش بوبر الثعالب.

و كيف كان فالمتّبع هو رواية المنع، لأنّ رواية الجواز قد أعرض عنها الأصحاب و لم يعلم العامل بها غير الصدوق، و هذا يوجب الوهن فيها، فيكون رواية المنع سليمة عن المزاحم.

و مثل ذلك الكلام في الأرانب و الثعالب، فإنّ فيهما روايتين أيضا،

و الأصحّ المنع، لعين ما ذكر من كون رواية الجواز معرضا عنها عند الأصحاب، و بذلك يسقط عن درجة الاعتبار و عن مقاومة رواية المنع.

حكم الصلاة في اللباس المشكوك

الخامس: لو شكّ في الملبوس أنّه من جنس المأكول أو غيره،
اشارة

فهل مقتضى الأصل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 232

العقلي فيه البراءة و جواز الصلاة فيه، أو الاحتياط؟

لا بدّ لتوضيح الحكم من تقديم مقدّمات:
الاولى: أنّه متى اعتبر في المأمور به أمر مبيّن المفهوم سواء كان وجوديّا أم عدميّا

فلا بدّ في مقام الامتثال من إحرازه إمّا بطريق القطع أو بمقتضى الأصل، فلو شكّ في تحقّقه و لا أصل يحرز به فلا شكّ أنّ مقتضى حكم العقل هو الاحتياط، و مجرّد كونه أمرا عدميّا لا يجدي في رفع الاحتياط شيئا و إن كان فيه كلام يأتي بيانه مع دفعه.

نعم هذا بعد الفراغ عن تقييد المأمور به بذلك الشي ء، و أمّا لو كان الشكّ في التقييد بني على النزاع في الأقلّ و الأكثر الارتباطيين، فمن قال هناك بالبراءة يقول هنا بها، و مجرّد كون الشبهة موضوعيّة لا يجدي في رفع البراءة شيئا كما برهن في محلّه من أنّ معلوميّة الكبرى بدون الصغرى لا ينجّز على العبد شيئا، فالعمدة في مقامنا تحقيق أنّ الشكّ الحادث في الموضوع هل هو من قبيل الشكّ في حصول المقيّد حتّى يكون حكم العقل فيه الاحتياط، أو في التقييد حتّى يكون هو البراءة.

و لعلّ نظر شيخنا المرتضى قدّس سرّه حيث اختار الاحتياط في المسألة إلى كون الشكّ من قبيل الأوّل، و إلّا فيبعد منه قدّس سرّه أنّه مع تسليم كونه من الثاني يذهب إلى الاحتياط مع ذهابه في شبهة الأقلّ و الأكثر إلى البراءة إذا كانت حكميّة و لمحض الفرق بين الشبهة الحكميّة و الموضوعيّة، بل يمكن القطع بخلافه.

المقدّمة الثانية: تقييد الصلاة بعدم كونها واقعة في غير المأكول يتصوّر بحسب مقام الثبوت على أنحاء:
الأوّل: أن يكون الشارع اعتبر في حقيقة الوبر إذا كان المصلّي مستصحبا له قيدا،

و هو عدم كونه من غير المأكول، فالأوبار كلّها من المأكول أم من غيره وقعت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 233

تحت ملاحظة الشارع، غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منها واجد القيد، و القسم الثاني فاقده، فإذا عرف المصلّي أنّ الثوب المشكوك من وبر الحيوان يحكم بأنّ الشارع اعتبر فيه قيدا قطعا، و يشكّ في تحقّقه، فلا محيص عن الاحتياط، إذ لا

أصل يحرز به ذلك القيد.

نعم كان المصلّي سابقا غير لابس لغير المأكول و لو في زمان عرائه، و لكن استصحاب ذلك لا ينفع بحال هذا الثوب، فإنّه مثبت.

و لا يخفى أنّ تصويري اعتبار صرف الوجود و الوجود الساري آتيان في هذا القسم أيضا، و يترتّب عليهما أيضا أنّه على تقدير صرف الوجود بأن كان الشرط على تقدير لبس الحيواني أن لا يكون صرف وجود غير المأكول يكون شبهة الموضوعيّة محكومة بالاشتغال، و على تقدير الوجود الساري بأن كان الشرط على التقدير المذكور عدم كونه من الأرنب و من كذا و كذا يكون شبهته الموضوعيّة محكومة بالبراءة، نعم هذا في اشتراط العدم، و أمّا اشتراط الوجود فليس حكم شبهته المذكورة إلّا الاحتياط، و اللّٰه العالم.

الثاني: أن يكون الشارع إنّما اعتبر خصوص القسم الثاني من الأوبار و لم يلحظ الأوّل منها أصلا،

و اعتبر في الصلاة عدم ذلك القسم، فالصلاة مقيّدة بكونها غير واقعة في أوبار الغير المأكول، و لكنّ العدم المعتبر كان نقيضا لصرف الوجود، أعني أن لا يكون مع المصلّي صرف الوجود من قسم غير المأكول، و من المعلوم أنّه لا يحرز ذلك أعني: عدم استصحابه صرف الوجود إلّا بعد القطع بعدم جميع الأفراد، فمع الشكّ في فرديّة شي ء لصرف الوجود و كان مع المصلّي لا يحصل القطع بحصول المقيّد، و الأصل أيضا مثبت بالنسبة إلى اتّصاف الصلاة بالأمر العدمي، فلا محيص أيضا عن الاحتياط.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 234

الثالث: أن لا يكون الملحوظ حقيقة الوبر،

بل خصوص وبر غير المأكول، و لكن لم يكن العدم المعتبر قيدا نقيضا لصرف وجود وبر غير المأكول، بل نقيضا لوجود كلّ واحد واحد من أفراده استقلالا، بحيث يرجع إلى تقييدات مستقلّة بعدد الأفراد.

و تظهر ثمرة الوجهين فيما إذا اضطرّ إلى لبس غير المأكول في الصلاة، فإنّه على تقدير اعتبار صرف الوجود لا مانع من لبس الزائد على مقدار ما يضطرّ إليه، لأنّ الصرف لا يتحفّظ من لبسه بواسطة التحفّظ عن ذلك المقدار الزائد، بخلاف صورة اعتبار الوجود الساري، فإنّه لا بدّ من التحفّظ على مقدار الضرورة، لأنّ الزائد مانع مستقلّ.

و بالجملة، فعلى هذا التقدير لو شكّ في وبر خارجي أنّه من غير المأكول كان الشكّ في التقييد الزائد، لأنّه يشكّ في أنّه علاوة على التقييدات الواردة بعدم الأوبار المعلومة، هل ورد تقييد آخر بعدم هذا الوبر أيضا أو لا. و قد عرفت أنّ كون الشبهة موضوعيّة لا يثمر في البراءة إذا كان حكم سنخ الشكّ إذا كان في الحكم الكلّي هو البراءة.

و بعبارة أخرى: لهذا الشكّ حيثيّتان، و شي ء منهما لا يقتضي إلّا

البراءة، إحداهما: حيثيّة كونه شكّا في الأقلّ و الأكثر، و قد فرغنا عن كونها مقتضية للبراءة، و الأخرى: حيثيّة كونه شكّا موضوعيّا لا حكميّا، و هذه أيضا قد فرغنا عن عدم اقتضائها إلّا البراءة، فكيف يقتضي اجتماع هاتين الحيثيّتين الاحتياط؟

المقدّمة الثالثة: إنّ ما ذكرنا في حكم العقل في كلّ من الشقوق الثلاثة لا خلاف فيه بين الأساطين

إلّا ما ذكر في الشقّ الوسط، فإنّ ما ذكر من الاشتغال فيه مختار شيخنا الأستاذ العلّامة دام ظلّه، خلافا لما ذهب إليه أستاذه الجليل السيّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 235

محمّد الأصفهاني قدّس اللّٰه تربته الزكيّة، حيث ذهب قدّس سرّه إلى البراءة مستدلّا بأنّ النهي عن صرف وجود الطبيعة نفسيّا كان ذلك النهي أم غيريّا لمّا يكون بلحاظ الخارج فلا محالة يرجع إلى النهي عمّا ينطبق عليه هذا المفهوم.

و بعبارة أخرى: إذا كان العدم المناقض لصرف الوجود مطلوبا كان معناه مطلوبيّة مجموع الأعدام المضافة إلى أفراد تلك الطبيعة، فإذا شكّ في فرد أنّه مصداق لها أو لا حصل الشكّ في أنّ عدمه جزء لذلك المجموع المركّب من الأعدام حتّى يكون المطلوب مركّبا من عدم كذا و كذا و كذا، و من عدم هذا المشكوك، أو أنّه مركّب من خصوص تلك الأعدام المعلومة، و هذا هو الترديد بين الأقلّ و الأكثر، غاية الأمر ليست الشبهة مفهوميّة، بل موضوعيّة ناشئة من اشتباه الأمور الخارجيّة، فلا فرق بين اعتبار الطبيعة في جانب النهي بنحو صرف الوجود، أو بنحو كلّ وجود في أنّ حكم العقل في شبهته الموضوعيّة هو البراءة.

و لكن استشكل على هذا المدّعى شيخنا الأستاذ العلّامة ببيان: أنّا نقطع بأنّ عنوان بقاء العدم الأزلي للطبيعة على حاله و عدم انقلابه إلى صرف الوجود ليس عبرة صرفة و إشارة محضة بحيث لا خصوصيّة و موضوعيّة لنفسه في

مقام الحبّ و الطلب أصلا، نظير «هؤلاء» بل للطالب عناية بهذا العنوان، و حينئذ فيقع ذمّة العبد مشغولة بهذا العنوان، و هو مفهوم مبيّن لا إجمال فيه، فلا ينحلّ إلى متيقّن و مشكوك و إن كان ما ينطبق عليه منحلّا إلى ذلك، لكنّ المعيار و المتّبع هو محطّ التكليف، لا شي ء آخر هو منطبق عليه و متّحد معه، فلا محيص عن الاشتغال.

و هذا بخلاف اعتبار الطبيعة بنحو الوجود الساري في كلّ فرد، فإنّه ينحلّ التكليف إلى تكاليف عديدة بعدد الأفراد معلّقة على صدق عنوان العامّ عليها، فكأنّه قيل: هذا إن كان خمرا فلا تشربه، و هذا كذلك و هذا كذلك، و هكذا، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 236

شكّ في خمريّة واحد من الإناءات الخارجيّة فلا محالة يقع الشكّ في التكليف المعلّق عليه في هذا الفرد.

و هذا بخلاف اعتبار صرف الوجود، فإنّه إذا ابتلينا بعدّة إناءات أو إناء واحد و علمنا خمريّتها و كان هناك إناء آخر نشكّ في خمريّته فقد تنجّز في حقّنا خطاب:

أمسك عن صرف الوجود، و لا بدّ من القطع بالفراغ، و هو لا يحصل إلّا بما يقطع بتطبيق العدم المناقض للصرف عليه، و هذا القطع لا يحصل إلّا مع التجنّب عن جميع الإناءات حتّى ذلك الإناء الآخر المشكوك، و اللّٰه العالم.

المقدّمة الرابعة: إنّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالطبائع القابلة للتكرّر في الخارج سواء النفسيّة منها أم الغيريّة

كونها متعلّقة بوجودها الساري مع كلّ فرد، ألا ترى أنّ واحدا من أهل العرف إذا نهى واحدا آخر منهم مثلا عن إيقاع طبيعة الحركة لا يفهمون منه أنّه طالب لبقاء السكون و عدم انخراق سلسلته الاتّصاليّة، بحيث لو انحرق فات المطلوب، فلو تحرّك من بعده بألف حركة ما نقض منه مطلوبا و ما أوجد له مبغوضا، بل يفهمون منه

أنّه يتنفّر عن هذه الطبيعة بمراتبها، بحيث كلّما ازدادت الطبيعة وجودا ازداد المتكلّم تنفّرا، فلو اضطرّ المنهيّ إلى ارتكاب فرد واحد ما ساغ له التعدّي إلى فرد آخر، بل و لو اختار في مقام رفع الاضطرار الفرد الكبير مع إمكان اختيار الأصغر ما ساغ له ذلك.

وجهه أنّهم يفهمون أنّ عرض البغض و النهي ينبسط على الطبيعة في الخارج نحو انبساط آثاره الطبيعيّة اللازمة لوجودها، مثل حرارة النار، فكما أنّ النار الأعظم أعظم حرارة من الأصغر، فكذلك هنا الخمر الأزيد أشدّ مبغوضيّة و نهيا من الخمر الأقلّ و لو فرض كون شربهما في زمان واحد و دفعة واحدة، فإنّه و إن كان لا يتعدّد المعصية على أيّ حال، بل هي معصية واحدة لنهي واحد في كلّ من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 237

الصورتين، إلّا أنّ المعصية في شرب الخمر الأزيد أشدّ و أغلظ منها في شرب الأقلّ، فإذا كان هذا هو المنصرف المتفاهم عند أهل العرف في نواهيهم كان هو المتّبع في النواهي الشرعيّة، و قد عرفت أنّ حكم العقل حينئذ في الشبهة الموضوعيّة هو البراءة.

الخامسة: إنّ الظاهر من الموثّقة التي هي الأصل في الباب هل هو الشرطيّة التقديريّة
اشارة

أعني: أنّه يشترط على تقدير لبس الحيواني كونه من المأكول، أو عدم كونه صرف وجود غير المأكول، أو الشرطيّة المطلقة، أعني: أنّه يشترط مطلقا عدم وقوع الصلاة في جزء غير المأكول؟

فاعلم أنّ هنا ثلاثة احتمالات:
الأوّل: أن يكون وجود غير المأكول مانعا و وجود المأكول شرطا،

و كانت العبارة صدرا و ذيلا مفيدة لمطلبين، الصدر للمانعيّة المطلقة، و الذيل للشرطيّة في تقدير لبس الحيواني، فكأنّه قيل: يعتبر في الصلاة أمران، الأوّل أن لا يقع في شي ء من أجزاء غير المأكول، و الثاني أنّه يعتبر على تقدير لبس الحيواني أن يقع في المأكول، و هذا بعيد عن مساق العبارة، إذ العارف بأسلوب الكلام يظهر له أنّه ما سيق هذا الكلام إلّا لإفادة مطلب واحد و أنّ الذيل يكون تفريعا على الصدر.

و الثاني: أن يكون العبارة- بعد عدم قابليّتها للحمل على إفادة مطلبين

و المفروض أنّ الصدر مفيد لشرطيّة العدم و الذيل لشرطيّة الوجود- محمولة على إفادة الشرطيّة التقديريّة للعدم بأن كان مفروض الكلام لابس الحيواني، ففي هذا المفروض يقال: يعتبر أن لا يكون هذا الحيواني صرف الوجود من غير المأكول، فيتّحد الصدر مضمونا مع التفريع، أعني: قوله عليه السّلام: لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله، فإنّ اشتراط هذا النحو من العدم أعني عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 238

النقيض لصرف الوجود في تقدير لبس الحيواني مساوق مع اشتراط الوجود على التقدير المزبور.

فيكون كلمة «من» في قوله عليه السّلام: ممّا أحلّ اللّٰه أكله باقية على ظاهرها من كونها بيانيّة بواسطة انحصار أفراد الغير، أعني: غير صرف الوجود في ما أحلّ اللّٰه أكله.

الثالث: أن يكون العبارة بعد عدم القابليّة المذكورة مسوقة لبيان الشرطيّة المطلقة،

و يؤيّده أنّه كلام النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله بغير سابقة سؤال، و إنّما ذكره الإمام عليه السّلام في جواب من سأل عن حكم اللابس لغير المأكول على وجه الاستشهاد، فلم يفرض فيه لبس الحيواني، فظهوره في الشرطيّة المطلقة أقوى ممّا إذا وقع عقيب السؤال و إن كان مع الوقوع عقيبه أيضا ظاهرا، و على هذا يتصرّف في الذيل بجعل قوله عليه السّلام: في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله، من باب ذكر المثال، لا من باب التفسير لغيره، فكأنّه قيل: حتّى يصلّى في غير ما لا يؤكل من قبيل ما أحلّ اللّٰه أكله و إن كان ليس منحصرا به، فإنّ من أحد أفراده لباس القطن و الكتّان.

و حاصل ما ذكرنا أنّه بعد القطع بعدم إرادة المطلبين كما هو الوجه الأوّل و القطع بعدم شرطيّة وجود المأكول بنحو الإطلاق، ضرورة صحّة الصلاة في القطن و الكتّان، ينحصر الأمر في

احتمالين يختلف نتيجتهما في الشبهة الموضوعيّة.

الأوّل: رفع اليد عن ظاهر الصدر من الشرطيّة المطلقة و حمله على التقديريّة و على شرطيّة عدم صرف الوجود، لأنّه الذي يصحّ التعبير مكانه باشتراط لبس المأكول، و إلّا فاشتراط عدم الوجود الساري ليس تامّ التطابق مع اشتراط المأكوليّة، فإنّ التعبير الثاني يفيد في الشبهة الموضوعيّة الاحتياط، بخلاف اعتبار عدم الوجود الساري، و ظاهر العبارة أنّ المقام بحيث يصلح فيه التعبير بقولنا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 239

لا يقبل اللّٰه الصلاة حتّى يصلّى في ما يحلّ أكله، و هو ينحصر في شرطيّة عدم صرف الوجود.

الثاني: رفع اليد عن ظاهر الذيل في كون «من» في قوله: ممّا أحلّ اللّٰه أكله مفسّرا و مبيّنا لقوله: «غيره» و جعله ذكرا للمثال، نحو قولنا: من قبيل كذا، و إبقاء الصدر على ظاهره من الشرطيّة المطلقة.

فإن كان الصدر في الشرطيّة المطلقة أظهر من الذيل في التفسيريّة و البيانيّة تعيّن الثاني، فيكون الشبهة الموضوعيّة محكوما بالبراءة.

و إن كان الأمر بالعكس تعيّن الأوّل و تكون الشبهة الموضوعيّة محكومة بالاحتياط.

و إن فرض الإجمال و تساوي ظهوريهما كانت الشبهة المذكورة أيضا محكومة بالبراءة كما لا يخفى وجهه، و الظاهر من هذه الوجوه هو الأوّل أعني: أظهريّة الصدر.

إذا عرفت هذه المقدّمات علمت أنّ الأقوى في المسألة هو البراءة،

لانحلال التكليف إلى المتيقّن و المشكوك و كون الشبهة في التكليف بدويّة، غاية الأمر مع كونها موضوعيّة، و ذلك لاستظهار المانعيّة من الصدر و استظهار كون النهي عن الوجود الساري و منحلّا إلى نواهي بعدد أفراد المتعلّق.

نعم قد عرفت أنّه بناء على توجّه النهي إلى صرف الوجود يكون الأقوى في الأصل العقلي هو الاشتغال، لرجوع الشكّ إلى مقام التطبيق بعد معلوميّة التكليف ثبوتا بحدوده بلا إجمال فيه مفهوما، و لا شكّ

أنّ الحكم حينئذ ليس إلّا الاشتغال عقلا.

بل قد يقال: إنّه لا يمكن التشبّث حينئذ بذيل الأصل الشرعي أيضا من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 240

قبيل: كلّ شي ء حلال، بناء على تعميمه للوضعيّات، و كذا قوله: رفع ما لا يعلمون، فإنّه ليس البناء في مقامات الشكّ في تطبيق المأمور به مع تبيّن مفهومه، كما في صورة الشكّ في الطهارة التي اعتبرت في الصلاة مع عدم الحالة السابقة على جواز الاكتفاء بالمصداق المشكوك اعتمادا على أصالة الحلّ و حديث الرفع بإجرائهما في المصداق المشكوك، فالتمسّك بالحديثين مبنيّ على استظهار التعلّق بالوجود الساري، و قد عرفت أنّ مقتضى الأصل العقلي معه أيضا هو الجواز، هذا ما يقال.

و لكنّ الحقّ خلافه و صحّة التمسّك بكلا الحديثين بناء على عمومهما للوضعيّات، أمّا حديث: كلّ شي ء حلال إلخ، فلأنّه على المبنى المذكور يدلّ بعمومه على حلّية الصلاة في اللباس المشكوك، و هذا أصل حكمي و ليس بموضوعي حتّى يرد عليه الإشكال بأنّه من حيث إثبات التقييد قاصر، نعم يكون موضوعيّا بالنسبة إلى هذا الأثر إذا أجريناه في حيوان شكّ في أنّه مأكول أو لا، و لا إشكال في عدم كونه مثبتا أيضا، و أمّا إذا أجريناه في اللباس بالتقريب المذكور فهو أصل حكمي و هذا واضح.

نعم هنا إشكال من جهة احتمال عدم شمول إطلاق الحديث للحلّية الوضعيّة و إن كان قد أطلق في عدّة مواضع من الأخبار في خصوص الوضعيّة لقيام القرينة، لكن لا يوجب ذلك اندراجها تحت الإطلاق.

و لعلّ هذا هو السرّ في عدم تمسّكهم رضوان اللّٰه عليهم بهذا الحديث في موارد الشكّ في مصداق صرف الوجود المأمور به، مثل ما لو شكّ في ماء الوضوء أنّه مطلق أو

مضاف.

و يمكن أن يكون الوجه في عدم تمسّكهم اختصاص الحديث بناء على العموم للوضعيّات بما إذا دار الأمر بين الحلّية الوضعيّة و الحرمة كذلك، فلا يشمل ما إذا دار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 241

بين الحلّية الوضعيّة و عدمها بعدم الموضوع، و موارد الشكّ في وجود الشرط أو وجود الموضوع من هذا القبيل، فإنّ الإطلاق أمّا محقّق الموضوع، و إمّا من قبيل الشرط، و على كلّ حال فعدم الصحّة في المضاف ليس لأجل نهي منع شرعي.

و الحاصل أنّه يمكن دعوى اختصاص الحديث بموارد الشكّ في المانع، إذ يحتمل فيها المنع الوضعي، دون موارد الشكّ في الشرط.

و أمّا حديث الرفع فلا إشكال في جريانه في المقام بعد البناء على عمومه للوضعيّات و كون المقام من باب مانعيّة الوجود، لا شرطيّة العدم، فإنّه يقال:

إنّ صرف الوجود المانع مشكوك التحقّق في صلاتنا، فيكون مرفوعا برفع أثره الذي هو المانعيّة، و ليس اشتراط العدم إلّا انتزاعا من مانعيّة الوجود لا أصليّا، فلا يستشكل بأنّه لا يثبت بهذا العدم الذي هو الشرط.

و أمّا وجه عدم الاستشهاد بهذا الحديث في موارد الشكّ في وجود الشرط فلأجل أنّ مقتضى التمسّك بالحديث رفع الوجود المشكوك برفع أثره، و هو تأثيره في صحّة الصلاة، و مقتضى ذلك بطلان الصلاة، و هو خلاف الامتنان، و حيث إنّ مساق الحديث مساق الامتنان فاللازم الالتزام بعدم شموله لموارد الشكّ في وجود الشرط، و هذا بخلاف موارد الشكّ في وجود المانع، فإنّ المرفوع تأثيره في البطلان و هو أثر امتناني، فلا مانع من شمول الحديث إيّاه، هذا هو الكلام في أصالة الحلّ و حديث الرفع.

و أمّا الاستصحاب فمع تماميّة أركانه و عدم كونه مثبتا لا إشكال في

جواز الاكتفاء به حتّى لو كان الشكّ في المحصّل و في مقام تطبيق المأمور به كما هو واضح، لكنّ العمدة في المقام إثبات عدم كونه مثبتا.

فنقول: لا إشكال في أنّا لو استفدنا من الموثّقة أنّ اشتراط العدم أخذ في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 242

المصلّى أو في اللباس و كانت الحالة السابقة فيهما هو الاتّصاف لا نتوقّف في صحّة جريان الاستصحاب و جواز الاكتفاء بالصلاة مع المشكوك.

فيقال: إنّ المصلّي كان قبل تلبّس هذا المشكوك غير لابس لغير المأكول، و الآن كما كان، أو أنّ اللباس كان غير مشتمل على جزء غير المأكول إذا شكّ في شعرة واقعة عليه مثلا، لا في جنس نفسه، و الآن كما كان.

و لكن هذا خلاف ظاهر الدليل، لما تقدّم من أنّ قوله عليه السّلام: الصلاة في وبر ما لا يؤكل فاسدة، مساقه مساق قول القائل: الضرب في الدار ممنوع، فكما يتبادر من الثاني أنّ قيد «في الدار» متعلّق بالضرب لا بالضارب فلو ضرب أحدا و كان المضروب خارج الدار و الضارب داخلها بأن يرمي حجارة إليه، لم يصدق أنّه ضرب في الدار، فكذلك المتبادر من العبارة الأولى أيضا أنّ القيد قيد للصلاة، فيعتبر فيها عدم وقوعها في جزء ما لا يؤكل، لا عدم كون المصلّي لابسا لما لا يؤكل، أو عدم كون لباسه مشتملا عليه.

و حينئذ نقول: استصحاب عدم لبس ما لا يؤكل إلى حال الصلاة لا يثبت به اتّصاف الصلاة بكونها غير واقعة في ما لا يؤكل إلّا على الأصل المثبت.

و قد تقرّر صحّة الاستصحاب المذكور بتقريب أنّ المستفاد من الموثّقة كون لبس ما لا يؤكل مانعا، لا أنّ عدمه شرط حتّى يتفحّص عن أنّه شرط الفعل أو

الفاعل أو اللباس.

و الفرق بين هذين أنّ المانع ما لا مدخليّة لوجوده و لا لعدمه في اقتضاء المقتضي، بل إنّما أثره تخريب أثر المقتضي بإيجاد الأثر المضادّ لأثره، بخلاف الشرط، فإنّه عبارة عن وجود أو عدم كان اقتضاء المقتضي بدونه ناقصا، فعلى هذا لا مدخليّة لعدم المانع في صحّة الصلاة، و إنّما أثر وجوده إبطالها، فعدمه معتبر عقلا لئلّا يبطل الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 243

فلا مانع إذن من استصحاب عدم المانع إلى حال الصلاة و إن كان لا يثبت بهذا الاستصحاب تقيّد الصلاة و اتّصافها بهذا العدم المقارن إلّا على الأصل المثبت، لكن لا ضير فيه، لعدم الحاجة إلى إثبات هذا الاتّصاف، لعدم أخذ الصلاة متّصفة بهذا العدم مأمورا بها.

هذا محصّل ما يستفاد من كلام بعض الأساطين «1» في صلاته، و نقله الأستاذ العلّامة عن بعض سادة الأساطين «2»، و قال دام ظلّه: الحدس القويّ إنّهما أخذاه عن سيّد الأساتيد العظام الميرزا الشيرازي قدّس اللّٰه تربتهم الزكيّة.

لكن ناقش هو دام ظلّه في هذا الكلام بأنّا لا نعقل كون المأمور به مطلقا و غير مقيّد بوجود شي ء و لا بعدمه أصلا، و مع ذلك لو أتى به مع هذا الشي ء كان باطلا و غير مجز، فالبطلان و عدم الإجزاء لا محالة يتوقّف على دخالة عدمه في المأمور به إمّا بنحو التركيب و إمّا بنحو التقييد، و حيث إنّ الأوّل في مقامنا مقطوع الخلاف حيث إنّ الصلاة غير مركّبة إلّا من الأجزاء الوجوديّة من الأفعال و الأقوال التي أوّلها التكبير و آخرها التسليم، يتعيّن الثاني.

و أمّا ما ذكر في تقريب عدم التقييد به في المأمور به ففيه أنّ الأمر كذلك في مقام التأثير في الآثار

الخارجيّة مثل إحراق النار، فإنّه ليس عدم الماء دخيلا في جزء المقتضي للإحراق، بل المقتضي هو النار ليس إلّا، إلّا أنّ الماء له أثر مضادّ، فيمانع النار في تأثيرها، و التعبير بأنّ عدم الماء له مدخليّة في الإحراق من باب المسامحة.

______________________________

(1) هو المرحوم العلّامة الحاج آقا رضا الهمداني قدّس سرّه.

(2) هو المرحوم العلّامة الحاج السيّد إسماعيل الصدر الأصفهاني قدّس سرّه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 244

و أمّا في مقام الأمر فحيث إنّ الآمر لا يأمر إلّا بالموضوع المؤثّر النافع فلا محالة لا بدّ أن يخصّ متعلّق أمره بصورة عدم المانع، فيقول مثلا عند طلب الإحراق: ألق على هذا المحلّ نارا غير مصادم بالماء، فلو أتى بالنار المصادم بالماء لم يأت بالمأمور به، للإخلال بقيده العدمي.

فحال الأمر حال الحكم، فكما أنّ الحكم الجزمي بالنافعيّة ليس إلّا مرتّبا على الموضوع مقيّدا بعدم المانع، كذلك الأمر يتعلّق بعين ما تعلّق به النسبة الحكميّة الجزميّة التي محمولها النفع.

و الحاصل أنّا سلّمنا استفادة المانعيّة لما لا يؤكل في الصلاة، لا أنّ عدمه شرط، فالتعبير بشرطيّة العدم انتزاع من مانعيّة الوجود، كما أنّ التعبير بمانعيّة العدم عند شرطيّة الوجود كذلك، لكن عدم ورود التقييد في المأمور به من قبل المانع لا نعقله، فإنّ مقام الأمر غير مقام التأثير.

و حينئذ نقول: بعد ما ثبت أنّ للعدم مدخليّة في المأمور به بنحو التقييد فإن اعتبر العدم في محلّ مفروغ الوجود قيدا للفعل المأمور به صحّ استصحابه بالبيان المتقدّم، لأنّ من أثر اتّصاف المحلّ المذكور بالعدم المذكور شرعا صحّة الفعل المضاف إلى ذلك المحلّ و إجزائه عن المأمور به.

و أمّا إذا اعتبر قيدا في الفعل ابتداء و بلا واسطة محلّ مفروغ عنه فاستصحاب العدم

إلى حال العمل غير واف بإثبات تقيّد العمل به، إذ لا يثبت به أنّ هذا المشكوك الذي وقع فيه الصلاة ما حاله.

و بعبارة أخرى: أنحاء دخل عدم استصحاب غير المأكول منحصرة في ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المأمور به الصلاة في حال عدم كون المصلّي لابسا لغير المأكول.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 245

و الثاني: أن يكون هو الصلاة في حال عدم كون اللباس ممّا لا يؤكل.

و الثالث: أن يكون هو الصلاة في حال عدم وقوعها في ما لا يؤكل.

و المجدي فيه الاستصحاب هو القسمان الأوّلان، و قد عرفت عدم استظهارهما من أدلّة الباب، و الأخير و إن كان مستظهرا منها، لكن لا يجدي فيه الاستصحاب، فإنّ استصحاب عدم لبس ما لا يؤكل إلى حال الصلاة لا يثبت عدم وقوع الصلاة في ما لا يؤكل.

و قد تقرّر الاستصحاب بوجه آخر حكى الأستاذ العلّامة دام ظلّه الاعتماد عليه من بعض الأساطين «1» قدّست أسرارهم، و هو أن يقال: إنّ الصلاة قبل التلبّس بهذا المشكوك كانت غير واقعة في ما لا يؤكل، و نشكّ بعده في بقائها على هذه الصفة العدميّة، فمقتضى الاستصحاب بقاؤها عليها.

و قد يستشكل عليه بأنّه من الاستصحاب التعليقي في الموضوع، و هو في ما إذا كان الموضوع للأثر الشرعي هو المعلّق بصورة التعليق، كما في الصوم الغير المضرّ على تقدير وجوده- فإنّه بهذه الصورة وقع متعلّقا للإيجاب- جار بلا إشكال.

و أمّا في ما إذا كان الموضوع أمرا فعليّا لا تعليق فيه فأردنا استصحابه بنحو التعليق على أمر آخر ثمّ إثبات فعليّته بإحراز المعلّق عليه فهذا غير جائز، لأنّه من الأصول المثبتة، و مقامنا من هذا القبيل، فإنّ الصلاة المقيّدة بلا تعليق على الوجود وقعت متعلّقة

للإيجاب.

و قد يجاب عن هذا الإشكال أوّلا بأنّه ليس من قبيل التعليق، بل المستصحب قضيّة فعليّة لا تعليق فيها، و إن كان الحكم على الموضوع بلحاظ

______________________________

(1) هو المرحوم المحقّق المدقّق العلّامة الميرزا محمّد تقي الشيرازي أعلى اللّٰه مقامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 246

الوجود كما هو الحال في عامّة القضايا المشتملة على الحكم على الماهيّات مثل قولنا:

عقد البالغ صحيح، أو إقرار العاقل البالغ نافذ فإنّ الحكم و إن كان بعناية الوجود الخارجي، إلّا أنّ القضيّة لا تندرج بذلك في سلك التعليقيّة.

ألا ترى أنّ الماهيّة الواقعة متعلّقة للأمر ليست باعتبار المفهوم الصرف، بل مع إشراب الوجود الخارجي، لكن ليس بنحو التقدير و التعليق، و إلّا يلزم طلب الفعل على تقدير الوجود.

فنقول في مقامنا أيضا: إنّ ماهيّة الصلاة الصادرة من هذا الشخص كانت قبل هذا الزمان صلاة غير واقعة في ما لا يؤكل، و الآن أيضا باقية على ما كانت.

و ثانيا: سلّمنا رجوع المقام إلى التعليق لبّا و إن كانت القضيّة بصورة الفعليّة، لكن نقول: الحقّ عدم مثبتيّة الاستصحاب التعليقي في الموضوع و لو في ما أخذ موضوعا للأثر بنحو الوجود الفعلي.

و توضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة و هي: إنّ القضيّة التعليقيّة لا إشكال في اشتمالها على النسبة الحكميّة الجزميّة، ضرورة عدم تحقّق القضيّة بدونها، فهل هذه النسبة متعلّقة بمجموع القضيّة، فيكون مجموع أجزائها تحت النسبة الجزميّة، فالنسبة مطلقة لا تعليق فيها، أو بخصوص الجملة الجزائيّة، فموضوعها موضوع الجزاء و محمولها محموله، فالتعليق قيد لنفس النسبة و الجزم لا للمجزوم به، أو متعلّقة بثبوت الملازمة بين الشرط و الجزاء حتّى يكون موضوعها الملازمة و محمولها الثبوت.

لا إشكال في بطلان الأوّل، فإنّ الجزم المطلق بالأمر المعلّق مستلزم

للجزم بحصول المعلّق عليه، لأنّ الجزم بالمقيّد جزم بالقيد لا محالة، و معلوم أنّ القضيّة التعليقيّة صادقة مع الجزم بعدم المعلّق عليه.

كما لا إشكال أيضا في بطلان الأخير، فإنّ قولنا: الملازمة ثابتة، قضيّة حمليّة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 247

و موضوعها و محمولها مغايران مع قضيّتنا الشرطيّة، فإنّهما غير مذكورين في الشرط و لا في الجزاء، نعم هذه القضيّة ملازمة مع تلك صدقا و كذبا، لكن العينيّة في غاية المنع، فتعيّن الوسط، و هو أن يكون النسبة واقعة بين موضوع الجزاء و محمولة.

فالنسبة على هذا قسمان: نسبة مطلقة و هي واضحة، و نسبة معلّقة و معنى تعليقها أنّه متى لاحظ الإنسان وجود المعلّق عليه في الخارج يرى تحقّق المعلّق و يجزم بثبوته، لا إذا لم يلاحظ.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا قطعنا بأنّ هذا الماء كان في السابق بحيث لو صبّ عليه مقدار ربع منّ كان كرّا، و الآن شككنا في أنّه باق على ما كان أو نقص منه شي ء، فلا يكفيه ربع المنّ للبلوغ إلى حدّ الكرّ، فلا إشكال في أنّ القطع في السابق حسب ما تقرّر في المقدّمة تعلّق بوجود الكرّيّة الغير المعلّقة، غاية الأمر أنّ القطع بها كان معلّقا، فإذا تبدّل هذا القطع المعلّق بالشكّ كذلك و جاء حكم الشارع و تعبّده بمقتضى الاستصحاب بالبناء على بقاء المشكوك كان هذا التعبّد و الحكم الشرعي بوجود الكرّية في مكان قطعنا السابق، فكما كان هو معلّقا، يكون هذا أيضا كذلك، و إثبات فعليّة الحكم المعلّق بفعليّة المعلّق عليه يكون من الآثار العقليّة للأعمّ من الحكمين، نظير وجوب الامتثال.

و أمّا المحكوم به بحكم الاستصحاب فليس الموضوع التعليقي حتّى يستشكل فيه بالمثبتيّة على ما تقدّم، بل هو

الموضوع الفعلي.

نعم يمكن الاستشكال في هذا الاستصحاب من جهة دعوى انصراف أخباره عن اليقين التقديري و تبادر الفعلي منها، كما يقال: إنّ دليل حلّية البيع منصرفة إلى البيوع الفعليّة دون التقديريّة، و أمّا الاستصحابات التعليقيّة في الأحكام فوجه جريانها أنّ اليقين في موردها فعلي، و التعليق إنّما هو في متعلّق القطع، فإنّ الحكم التعليقي قسم من الحكم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 248

[خاتمة:] إجزاء الصلاة في المشكوك بعد تبيّن الخلاف

خاتمة: هل الصلاة في المشكوك محكومة بالإجزاء و عدم الإعادة بعد تبيّن الخلاف أو لا؟ توضيح الحال يحتاج إلى مقدّمة.

فاعلم أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري تارة يؤخذ على وجه الإطلاق، مثل قولنا: المشكوك المسبوق بالحالة السابقة حكمه البقاء، فإنّه أعمّ من أن يكون المشكوك هو الموضوع مثل مشكوك الخمريّة مع سبق الحلّية، و أن يكون هو الحكم، و اخرى يؤخذ مقيّدا بالحكم، مثل قولنا: مشكوك الحلّية محكوم بالحلّية.

فالقسم الثاني سواء في الشبهة الحكميّة أم الموضوعيّة لا يعقل أن يصير مقيّدا للحكم المخالف له المرتّب على الواقع لا بعنوان الشكّ، و لا محيص عن كونه حكما ظاهريّا و ترخيصا مجعولا في مرحلة المعذوريّة عنه لأجل التسهيل، لا في عرضه و معنونا لموضوعه و مخصّصا له بغير صورة الشكّ، فإنّ تقييد الحكم بالعلم بنفسه محال و لو في الشبهة الموضوعيّة، لاستلزامه الدور.

و أمّا القسم الأوّل الذي هو مفاد الاستصحاب و حديث رفع ما لا يعلمون ففي الشبهة الحكميّة الكلام فيه هو الكلام في ما سبق حرفا بحرف، و أمّا في الشبهة الموضوعيّة فيمكن جعله مقيّدا للحكم الواقعي بحيث صارت المانعيّة الواقعيّة في مقامنا مثلا مختصّة بما كان من جلود الأرنب معلوما كونها كذلك، و أمّا المشكوك فخارج عن المانعيّة واقعا.

و يمكن حمله

على الحكم الظاهري، فإنّ المشكوك و إن كان هو الموضوع،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 249

إلّا أنّ الحكم عليه كان بلحاظ مشكوكيّة الحكم لا بلحاظ نفسه مع قطع النظر عن تعلّق حكم به.

و الفرق بين هذا و بين كون المشكوك هو الحكم الجزئي المتحقّق في مورد الشبهة الجزئيّة يكون في موضوع القضيّة، حيث إنّها هنا هو الشكّ في العنوان و الشكّ في الحكم ملحوظ غاية و غرضا، فلا يدخل في عمومه الشكّ في العناوين التي لا ارتباط لها بالحكم، مثل الشكّ في أنّ هذا المرئي شجرة أو منارة.

و بالجملة، فالغرض و إن كان مضيّقا للدائرة لبّا، لكن لا دخالة له في موضوع القضيّة و هذا واضح، و هناك هو الشكّ في الحكم، و كما أنّ جعل الموضوع هو الشكّ في الحكم يوجب كون الحكم عليه حكما ظاهريّا في الرتبة المتأخّرة عن الواقعي الأوّلي، كذلك جعله الشكّ في الموضوع بغرض مشكوكيّة الحكم و بلحاظها يكون موجبا لذلك، و هذا بخلاف جعله الشكّ في الموضوع صرفا بدون لحاظ الحكم أصلا، فإنّه حكم واقعيّ.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا صلّى في اللباس المشكوك ثمّ تبيّن أنّه من غير المأكول يحكم بالإجزاء بناء على جعل الموضوع هو الشكّ في الموضوع الصرف، و بعدمه على قاعدة الحكم الظاهري بناء على جعله الشكّ في الموضوع بملاحظة انتهائه إلى الشكّ في الحكم، نعم لو بنينا على شمول «لا تعاد» لما عدا السهو و النسيان من موارد وجود العذر و الترخيص الشرعي كان الحكم هو الإجزاء على الثاني أيضا.

و لا يتوهّم أنّه بناء على الأوّل يلزم استعمال اللفظ في المعنيين، حيث إنّه بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة يلزم جعل الحكم الظاهري، و بالنسبة إلى الموضوعيّة

جعل الواقعي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 250

لأنّا نقول: أمّا في حديث لا تنقض فالمفاد هو الإبقاء العلمي للمشكوك اللاحق المعلوم في السابق، و هذا معنى واحد إذا لوحظ بالنسبة إلى ما يخالفه في الشبهة الحكميّة يكون حكما عذريّا ظاهريّا، و في الموضوعيّة يكون تضييقا لدائرة موضوع ذلك الحكم بخصوص المعلوم، لكن بلسان الحكومة.

و أمّا في حديث الرفع فالمفاد رفع المشكوك برفع أثره، فإن كان حكما فأثره العقوبة، و إن كان موضوعا فأثره الحكم المرتّب عليه لا بلحاظ الشكّ، و بالجملة لا إشكال في إمكانه.

إنّما الكلام في مقام الاستظهار، و ربما يقال باستظهار كون الحكم في طرف الموضوع أيضا ظاهريّا و غير مغيّر للواقع بملاحظة كونه كذلك في جانب الشبهة الحكميّة و وحدة السياق.

الخامس: من شروط الساتر،

بل و مطلق اللباس أن لا يكون ذهبا للرجال، و الأصل في ذلك موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث قال عليه السّلام:

«لا يلبس الرجل الذهب و لا يصلّي فيه، لأنّه من لباس أهل الجنّة» «1».

و رواية موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «في الحديد أنّه حلية أهل النار، و الذهب أنّه حلية أهل الجنّة، و جعل اللّٰه الذهب في الدينار زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه» «2» الحديث.

و في خبر الجعفي قال: «سمعت أبا جعفر عليهما السّلام يقول: ليس على النساء أذان،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

(2) المصدر، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 251

إلى أن قال: و يجوز للمرأة لبس الحرير و الديباج «1» في غير صلاة و إحرام، و حرم ذلك على الرجال، إلّا في الجهاد، و يجوز أن تتختّم بالذهب

و تصلّي فيه، و حرام ذلك على الرجال إلّا في الجهاد» «2».

و في رواية حنّان بن سدير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «قال النبيّ صلّى اللّٰه عليهما و آلهما: إيّاك أن تتختّم بالذهب، فإنّه حليتك في الجنّة» «3» الخبر.

و في رواية اخرى أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله قال: «لا تختم بالذهب، فإنّه زينتك في الآخرة» «4».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المستفاد من مجموع هذه الأخبار بقرينيّة بعضها لبعض أنّ هنا أمرين متعلّقين بموضوع واحد: الحرمة النفسيّة، و المانعيّة للصلاة، فموضوعهما شي ء واحد و أنّ هذا الشي ء الواحد المتعلّق لهذين الأمرين عبارة عن التزيّن بالذهب، فالتزيّن سواء صدق معه اللبس كما في الخاتم و السوار و الخلخال و القلادة و القلنسوة و نحو ذلك ممّا يصدق عليه اللبس مع دخالته في جمال اللابس أم لم يصدق كالسنّ من الذهب و نحوه، يكون محرّما نفسيّا على الرجال و مانعا عن الصلاة، كما أنّه لو صدق اللبس بدون التزيّن كما في البطانة من الذهب بدون الظهارة و ما يسمّى في الفارسيّة ب (عرقچين) فليس بحرام و لا بمانع.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 251

______________________________

(1) هو من الثياب المتّخذة من الإبريسم سداه و لحمته، فارسي معرّب، مجمع البحرين.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 11.

(4) المصدر، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 252

وجه ذلك أنّ قوله عليه السّلام في رواية ابن أكيل النميري: «الذهب حلية أهل الجنّة و جعل اللّٰه الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه

و الصلاة فيه» يدلّ بقرينة الصدر على أنّ المراد باللبس هو عنوان التزيّن، لأنّه جعل علّة تحريم اللبس على الرجال في الدنيا اختصاص التزيّن به بأهل الجنّة و بالنساء في الدنيا، و المناسب للتفريع على هذا الانحصار و الحصر هو أن يكون التزيّن في الدنيا للرجال محرّما، و أمّا لو كان اللبس بعنوانه محرّما و لو فارق الزينة كان التفريع بلا مناسبة و من باب التعبّد المحض، و هو خلاف المتفاهم العرفي من الكلام.

و أمّا سرّ التعبير باللبس لا بالتزيّن فهو أنّ غالب أفراد التزيّن هو اللبس، بحيث لا نجد موردا يصدق فيه التزيّن بدون اللبس غير مثال السنّ من الذهب، و على هذا فلو لبس الخاتم لكن ستره بساتر، بل أو صبغه بلون آخر، خصوصا لو كان قبيحا فلا بأس به، فإنّ الزينة غير متحقّقة و إن تحقّق اللبس، كما أنّ الصلاة أيضا لا مانع عنها.

و أمّا احتمال أن يكون المحرّم عنوانان: الزينة و اللبس، أمّا الأوّل فلاقتضاء الحصر المستفاد من الصدر، و أمّا الثاني فلأجل حفظ ظهور كلمة اللبس في الموضوعيّة، ففيه ما مرّ من عدم التناسب و كونه خلاف الظاهر.

فإن قلت: لا يمكن هذا المعنى بالنسبة إلى كلمة الصلاة فيه، فهي باقية على موضوعيّتها، و ليس المراد مجرّد المثال، إذ الصلاة ليست من أفراد الزينة، بخلاف اللبس، فهذا قرينة على خصوصيّة عنوان اللبس كعنوان الصلاة.

قلت: لا يخفى أنّ الصلاة و إن كانت ليست من أفراد الزينة، و لكنّ الزينة فيها مطلوبة، لقوله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فعطف الصلاة أيضا يمكن جعله شاهدا على إرادة الزينة من اللبس، فمحصّل المراد- و اللّٰه العالم- أنّ هذه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 253

الزينة مبغوضة للشارع بالنسبة إلى الرجال في الدنيا و نهى عن الصلاة فيها.

و بالجملة، استفادة هذا المعنى من الحديث و كذلك من قوله: «يا عليّ، لا تختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة» ممّا لا ريب فيه ظاهرا.

نعم يرد عليه أنّ اللازم ممّا ذكرنا كون اللبس المفارق عن الزينة مثل الثوب الواقع تحت ثوب آخر غير محرّم و غير ممنوع للصلاة، و هو خلاف الإجماع ظاهرا، لكن إن تمّ الإجماع كان هو دليلا مستقلّا و المقصود عدم الاستفادة من الأخبار.

ثمّ لو فرضنا عنوانيّة اللبس فلا دليل في خصوص الزينة على ممنوعيّتها للصلاة عند مفارقتها عن اللبس، إذ النهي الوارد في الأخبار عن الصلاة إنّما وقع عقيب ذكر اللبس، فلا يشمل الزينة، و من المعلوم أنّ النهي التحريمي للزينة لا يفسد الصلاة.

فإن قلت: قوله عليه السّلام: محرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه، يفيد العموم، فإنّ ضمير «فيه» مثل ضمير «لبسه» راجعان إلى الذهب لا إلى الذهب الملبوس، و إذا حملنا كلمة «في» على المصاحبة القرينة بالظرفيّة يشمل اللباس و غيره من أفراد الزينة.

قلت: بيننا و بينك العرف، و أنت إذا راجعتهم تراهم يحكمون بوحدة موضوع النهيين، و هذه إحدى الدعويين اللتين ادّعيناهما في أوّل المبحث، فإن استفيد من نهي اللبس مبغوضيّة مطلق الزينة يستفاد من نهي الصلاة ممنوعيّة مطلق الزينة في الصلاة، و إن حملناه على عنوان اللبس دلّ نهي الصلاة أيضا على ممنوعيّة اللبس، فيبقى الزينة بلا دليل على ممنوعيّتها في الصلاة، و قد عرفت استفادة مبغوضيّة مطلق الزينة من الروايتين، فإذا استفدنا ذلك من الروايتين تحمل عليهما سائر الأخبار المطلقة، لاتّحاد الجميع في المضمون و المفاد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 254

و قد تحقّق

ممّا ذكرنا عدم الفرق بين الساتر و غيره، فإنّ غالب الأفراد من الزينة غير ساتر، فالتخصيص بالساتر مستلزم للإخراج الغالب عن الإطلاق.

و العجب ممّن فصّل مستدلّا للجواز في ما لا يتمّ به الصلاة بأنّ النهي ليس عن فعل من أفعال الصلاة و لا عن شرط من شروطها.

فإنّ هذا الوجه لو سلّم كان جاريا في ما يتمّ أيضا، فإنّ النهي وقع عن اللبس و هو غير متّحد مع شي ء من الأفعال أو الأقوال الصلاتيّة، و هذا بخلاف النهي في الثوب المغصوب، فإنّه عن مطلق التصرّف، فيتّحد مع الأفعال و إن خدشنا فيه أيضا في ما تقدّم.

و الحاصل أنّا إن أغمضنا عن النهي الوارد عن خصوص الصلاة في الذهب و أردنا إثبات الفساد بمجرّد النهي النفسي عن اللبس لأشكل الحال، بل كان ممنوعا أشدّ المنع في كلّ من الساتر و غيره.

و أمّا مع ملاحظته فلا حاجة لنا إلى هذا التشبّث، و لا فرق حينئذ بحسب إطلاق الدليل بين الساتر و غيره، و ذلك لما عرفت من استظهار وحدة الموضوع في النهيين أعني: النهي عن اللبس و النهي عن الصلاة، و قد استظهرنا رجوع الأوّل إلى محرّميّة عنوان التزيّن، و هو يحصل غالبا بما ليس بساتر، فإنّه لم يعهد إلى الآن من أحد لبس سراويل أو قباء أو رداء أو عمامة من ذهب، و إنّما المتداول في اللباس جعلها معلّمة بالذهب بخياطة ما يسمّى بالفارسيّة ب «گلابتون» عليه.

ثمّ هل النهي عن الصلاة أريد به التحريم التكليفي، فيكون الوضع مستفادا بالتبع لكونه نهيا في العبادة و هو موجب للفساد، أو الوضعي، فمفاده الأوّلي فساد الصلاة فيه؟ و يظهر الثمر في صورة المعذوريّة لغفلة أو نسيان، فإنّه لو قلنا بالأوّل

فلا فساد، لأنّ النهي في العبادة إنّما يوجب فسادها من جهة التنجيز، فمع عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 255

التنجيز لا مانع عن الصحّة، لفرض تماميّة الصلاة بحسب الأجزاء و الشرائط، فلا مانع فيه عن التقرّب مع سقوط الجهة المبعّدة عن التأثير، الظاهر هو الأوّل، فإنّ النهي عن الصلاة وقع عقيب النهي عن اللبس و معطوفا عليه، و مقتضى وحدة السياق كونه في الثاني للتكليف، كما يكون كذلك بالنسبة إلى الأوّل.

ثمّ إنّه يتفرّع على ما ذكرنا من أنّ الموضوع المحرّم و المفسد هو عنوان التزيّن بالذهب أنّ مثل جعل نعل السيف و قائمته ذهبا لا مانع منه، إذ لا يحصل بسببه جمال لصاحبه، و إنّما هو علامة على كثرة تموّله، مثل تحلية سرج الدابّة أو جعل الذهب في جدار البيت، حيث إنّهما علائم على تموّل صاحبها، لا موجبات لجمال و بهاء له، و معيار الزينة المحرّمة أن يحصل للشخص بسببه بهاء و جمال و حسن منظر، و نعل السيف الذي غالبا يخطّ الأرض و يلاصق التراب ليس من شأنه ذلك، و يشهد لما ذكرنا بعض الأخبار الدالّ على عدم البأس بتحلية السيف و المصاحف، نعم شراك السيف ربما يعدّ حلية للحامل.

كما لا مانع من شدّ الأسنان بالذهب لعدم حصول الزينة بسببه، كما يشهد به بعض الأخبار أيضا. فلا بدّ من التفرقة بين الموارد، و الغرض الإشارة.

و يتفرّع أيضا عدم جواز التزيّن بالمموّه بالذهب و الملحّم به، فإنّ عنوان التزيّن بالذهب صادق، و هو المعيار، لا أنّه كون اللباس ذهبا حتّى يقال: إنّ المموّه لا يصدق عليه أنّه لباس من ذهب، بل من حديد و صفر، بخلاف الحال في باب الآنية، فإنّ المموّه و المذهّب

و المفضّض لا بأس بها هناك، لأنّ العنوان المحرّم هو الآنية المصوغة من الذهب و الفضّة، و هو غير صادق في ما ذكر.

و يتفرّع على ما ذكرنا من كون النهي عن الصلاة بقرينة وقوعه عقيب النهي عن اللبس نهيا تكليفيّا و هو يوجب فساد العبادة بواسطة مانعيّته عن التقرّب مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 256

جامعيّة العبادة للشرائط و الأجزاء، أنّه لو فرض ارتفاع الحرمة النفسيّة عن الزينة و صيرورتها مباحة في حال من الأحوال كحال الحرب أو الاضطرار، فلا إشكال في صحّة الصلاة.

و لا يرد الإشكال بأنّ غاية ما دلّ عليه الدليل رفع الحرمة النفسيّة، و أمّا المانعيّة للصلاة فيمكن بقاؤها بحالها.

وجه عدم الورود أنّ الفساد هنا جاء من قبل تحريم الصلاة فيه، و تحريم الصلاة فيه جاء من قبل اختصاص التزيّن به بالنساء بحكم ظاهر كلمة «الفاء» الدالّة على تفريع تحريم اللبس و تحريم الصلاة على الاختصاص المزبور، فإذا ارتفع الاختصاص المزبور في حال من الأحوال و صارت زينة مشتركة ارتفع التحريمان بارتفاع علّتهما، فلا مانع عن الصلاة، نعم يمكن بقاء التحريم الصلاتي و إن ارتفع اللبسي، و لكنّه خلاف الظاهر من تفريعيّتهما على الاختصاص المزبور، هذا.

السادس: من شروط الساتر، بل مطلق اللباس أن لا يكون حريرا محضا للرجال،
اشارة

و الأصل فيه الأخبار المستفيضة من أهل البيت عليهم السّلام، ففي صحيح إسماعيل بن سعد الأحوص «قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام: هل يصلّي الرجل في ثوب إبريسم؟ قال عليه السّلام: لا» «1».

و مثله رواية أبي الحارث «قال: سألت الرضا عليه السّلام: هل يصلّي الرجل في ثوب إبريسم؟ قال عليه السّلام: لا» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث

7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 257

و موثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «قال: و عن الثوب يكون علمه ديباجا؟ قال عليه السّلام: لا يصلّى فيه» «1».

و أمّا رواية إسماعيل بن بزيع «قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصلاة في الثوب الديباج؟ فقال عليه السّلام: ما لم يكن فيه التماثيل فلا بأس» «2» فأمّا محمول على حال الحرب أو الضرورة أو الممزوج بغير الحرير بشهادة الأخبار المفصّلة.

و بالجملة، لا إشكال في فساد الصلاة في المحض منه للرجال في غير حال الحرب و الاضطرار، كما لا إشكال في تحريم لبسه على الرجال نفسا في حال الصلاة و غيرها غير حالتي الحرب و الضرورة، لدلالة الأخبار المستفيضة على النهي عن اللباس الحرير أو عن لبسه.

إنّما الكلام و الخلاف في ما لا تتمّ فيه الصلاة وحده، لصغره، مثل التكّة و الجورب و القلنسوة إذا كانت من حرير محض، فهل يجوز الصلاة في أمثال ذلك أو لا؟ قولان: منشؤهما اختلاف الأخبار.

ففي صحيحة محمّد بن عبد الجبّار «قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب عليه السّلام: لا تحلّ الصلاة في حرير محض» «3».

و في صحيحة أخرى له «قال: كتبت إلى أبي محمّد صلوات اللّٰه عليه أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير محض أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب عليه السّلام: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، و إن كان الوبر ذكيّا حلّت

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث

10.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 258

الصلاة فيه إن شاء اللّٰه» «1».

و بإزائهما خبر الحلبي المتلقّى بالقبول بين الأصحاب في باب النجاسات في العفو عمّا لا يتمّ الصلاة فيه «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكّة الإبريسم و القلنسوة و الخفّ و الزنّار يكون في السراويل و يصلّى فيه» «2».

و لا يخفى أنّ نسبة هذا الخبر إلى كلّ من عمومات المنع عن الصلاة في النجس، أو في الحرير، أو فيما لا يؤكل، أو في الذهب، أو في الميتة و إن كانت عموما من وجه، لكن لهذا الخبر لسان الحكومة، لوضوح أنّه ليس المراد بقوله عليه السّلام: كلّ ما لا يجوز الصلاة فيه وحده، كلّ ما هو أقلّ من الساتر و لو لم يكن فيه مانع، لعدم توهّم منع عن الصلاة، بل المراد هو ما كان كذلك من جنس أحد الموانع الصلاتيّة، فإذن يكون له نظر الشارحيّة إلى العمومات المثبتة لتلك الموانع، لكن هذا حاله مع العمومات.

و أمّا لو ورد بإزائه خاصّ كما في باب الميتة من قوله عليه السّلام: لا تصلّ في شي ء منه و لا شسع، فلا محيص عن التخصيص في عموم الخبر، فلو لم يكن مشتملا على مثال التكّة الإبريسم لقلنا بمثل ذلك في المقام أيضا، أعني بتخصيص عمومه بالصحيحين، لكونهما خاصّين بالنسبة إليه بملاحظة المورد و إن كان الجواب عامّا، بل لعلّ ذلك كان موجبا لأن يستكشف سوق العموم المذكور في خصوص باب النجاسات، و لكنّ الذي أصعب الأمر اشتماله على المثال المذكور، فصارت النسبة بينه و بين

الصحيحين هو التباين، فلا بدّ من التوفيق بينهما.

و قد يقال بحمل الصحيحين على الكراهة، إذ استعمال النهي فيها شائع في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 259

الأخبار، و حمل الخبر على نفي البأس التحريمي الملائم مع ثبوت الكراهة، و هذا في حدّ ذاته و إن كان حسنا، لكنّه لا يتمشّى في المقام بملاحظة أنّ الجواب في الصحيحين وقع بالكبرى الكلّية أعني قوله: لا تحلّ الصلاة في حرير محض، أو في الحرير المحض، و مع هذه الكلّية غير قابل للحمل على الكراهة، و أمّا الحمل على مطلق المرجوحيّة فلا يخلو عن البرودة.

و قد يقال بحمل الصحيحين على التقيّة، و فيه أنّا لو كنّا و الصحيحة الثانية من الصحيحتين كان هذا الحمل في غاية الوجاهة، فإنّ ذيلها و هو قوله عليه السّلام: و إن كان الوبر ذكيّا حلّت الصلاة فيه إن شاء اللّٰه يلوح عليه أمارة التقيّة، و ذلك لعدم اعتبار الذكاة في الوبر و سائر ما لا تحلّه الحياة، و قد اعتبره في وبر الأرانب، و احتمال أن يراد من الوبر خصوص ما لصق بأصوله شي ء من الجلد بعيد، فيقرب كون صدوره للتقيّة، فإذا جرى ذلك في الذيل يسقط الصدر أيضا عن الاعتبار من حيث جهة الصدور، و لكنّ العمدة عدم الانحصار بهذه الصحيحة و خلوّ الأخرى عن هذه التتمّة.

كما أنّ مخالفة خبر الحلبي مع العامّة معلومة، لأنّ المفروض فيه مانعيّة الحرير للصلاة، و الحال أنّ مذهبهم على ما قيل على صحّة الصلاة و حرمة اللبس تكليفا، فلا يمكن حملها أيضا على التقيّة.

و قد

يقال بترجيح الصحيحين بموافقة العمومات الدالّة على تحريم اللبس تكليفا ببيان: أنّها و إن كانت ليست متعرّضة للنهي عن الصلاة في مطلق الحرير، بل للنهي عن لبسه و هو غير مفيد بحالنا، إذ غاية الأمر تحريم اللبس بتلك العمومات، لكن لا ينافي مع صحّة الصلاة، فلا شهادة فيها على صحّة شي ء من طرفي التعارض في مسألة صحّة الصلاة و بطلانها.

لكن نقول: إنّ المستفاد من قوله عليه السّلام في خبر الحلبي: «كلّ ما لا تتمّ الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 260

فيه وحده لا بأس بالصلاة فيه» هو أنّ لبس اللباس المذكور جائز في حال الصلاة، بحيث لو كنّا و هذا الخبر جعلناه مخصّصا لعمومات تحريم لبس الحرير، نظيره ما إذا نهى المولى عن التصرّف في دار الغير بغير رضاه مطلقا، ثمّ قال: لا بأس بالصلاة في الدار المغصوبة، فإنّا و إن جوّزنا اجتماع الأمر و النهي و لذلك احتملنا أن تكون الصلاة المذكورة مشتملة على الإطاعة و المعصية من جهتين، لكنّ القول المذكور يسدّ باب هذا الاحتمال و يرفع البأس عن التصرّف الصلاتي في دار الغير، و يجعل أهل العرف هذا الكلام تخصيصا في قوله: لا تغصب، و إن كان مفاد لا بأس في مقابل النهي الوضعي، لا التحريمي، لكن مع ذلك فرق بين هذا التعبير عن الوضع و بين التعبير بقولنا: صحيحة، فإنّهم لا يجعلون الثاني تخصيصا للنهي عن الغصب، بخلاف التعبير بقولنا: لا بأس و إن كان في مقام تأدية رفع البأس الوضعي، و المرجع في هذا الباب هو العرف فراجعهم.

إذن فنقول: هذا الخبر بحسب هذا المستفاد ينافيه عمومات النهي عن لبس الحرير، و يكفي هذا في كونها مرجّحة للصحيحين، هذا ما

يقال.

و فيه أنّ مصبّ الترجيح السندي بمعنى الأخذ بأحد السندين و طرح الآخر إنّما هو في ما إذا وقع التكاذب و التعارض بين تمام مفاد أحدهما و بين تمام مفاد الآخر، و أمّا لو كان التكاذب في بعض المفاد مع التوافق أو عدم التعارض في البعض الآخر فليس ذلك مصبّا للترجيح المذكور.

و بهذه العلّة نقول في العامّين من وجه بعدم الرجوع في مادّة التعارض إلى المرجّحات السنديّة، فإنّ التقطيع في السند مع وحدته لا يجوز بالنسبة إلى فقرأت أخباره، و مقامنا من هذا القبيل، فإنّ قوله عليه السّلام في الصحيحين: لا تحلّ الصلاة إلخ قضيّة كلّية و إن وردت في الجواب عن القضيّة الشخصيّة، و تعارضها مع خبر الحلبي إنّما هو بالنسبة إلى بعض مصاديق عمومه و هو مورد السؤال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 261

و كذلك خبر الحلبي مشتمل على عموم و هو قوله: كلّ ما لا يجوز إلخ، و على أمثلة، و تعارضه مع الصحيحين إنّما هو بالنسبة إلى بعض مصاديق ذلك العموم، و هو واحد من تلك الأمثلة.

و من هنا يظهر وجه آخر لبطلان حمل أحد الطرفين على التقيّة علاوة على ما تقدّم آنفا، فإنّ تقطيع السند الواحد بحسب الفقرات المشتمل هو عليها غير جائز، لا في مقام الصدور و لا في مقام جهته، بل إمّا نقول بأنّ هذا السند بتماميّته مطروح أو مخدوش الجهة، و إمّا نقول بتماميّته مأخوذ صادر لبيان الواقع، و أمّا الأخذ به بالنسبة إلى البعض و الطرح له بالنسبة إلى آخر فلا يستفاد من الأخبار العلاجيّة على ما تقرّر في محلّه، لا في مقام الصدور و لا في مقام الجهة.

نعم يمكن التقطيع بين فقرأت السند الواحد بالنسبة

إلى تقيّة السائل، لأنّه أيضا حكم واقعي له في تلك الحال، فلا يقدح في الأصل الجهتي، و أمّا تقيّة المتكلّم فلا.

ثمّ مقتضى ما ذكرنا من بطلان جميع الوجوه المتقدّمة هو الحكم بالإجمال في كلّ من الطرفين و الرجوع إلى أصالة جواز الصلاة في ما ذكر و إن كان مقتضى عمومات حرمة اللبس و إطلاقاته حرمة لبسه تكليفا، لكن لا ينافي ذلك صحّة الصلاة فيه بمقتضى الأصل.

جواز لبس الحرير في الضرورة و الحرب

خاتمة: يستثنى من حرمة لبس الحرير المحض للرجال حال الضرورة إلى لبسه لأجل دفع البرد و نحوه و حال الحرب، أمّا الدليل على الأوّل فعموم قوله عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 262

«رفع ما اضطرّوا إليه» «1»، و قوله عليه السّلام: «ما غلب اللّٰه على العباد فهو أولى بالعذر» «2»، و قوله عليه السّلام: «ما من شي ء إلّا و قد أحلّه اللّٰه عند الضرورة» «3».

لكن ليعلم أنّ الضرورة تارة يستوعب جميع أجزاء الوقت بحيث لو نزعه في دقيقة لتضرّر، و هذا لا إشكال فيه لا من حيث ارتفاع الحرمة النفسيّة و لا الغيريّة، إذا الأمر دائر من جهة الثانية بين ترك الصلاة رأسا، أو مع غير الحرير متضرّرا، أو مع الحرير بلا تضرّر، و من المعلوم تعيّن الأخير.

و اخرى، لا يكون كذلك، بحيث لا ضرورة بالنسبة إلى دقيقة واحدة أو دقيقتين أو ثلاث مثلا، و في هذه الصورة أيضا إن لزم من التكليف بالنزع حرج فلا إشكال.

و أمّا إن لم يلزم، كما لو كان اللباس المذكور فوق لباسه و أمكنه نزعه بلا حرج، في هذه الدقيقة أو الدقيقتين أو الثلاث مثلا، فهل يحكم في هذا المقدار أيضا بارتفاع الحرمة النفسيّة أو لا؟ و على تقدير الارتفاع فما

حال الصلاة معه.

أمّا الحرمة النفسيّة فالذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه العالي إنّها مرتفعة للصدق العرفي لعنوان الاضطرار بالنسبة إليه بدون الإضافة إلى الزمان الخاصّ و إن كان لا يصدق معها، و ذلك كما في صدق عنوان إقامة عشرة أيّام في البلد، حيث لا يضرّ بصدقها خروجه إلى حدّ الترخّص لحاجة ثمّ عوده سريعا، و لعلّ السرّ أنّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الجهاد، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6 و 7، و فيه: و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 263

الإقامة في البلد لا ينفكّ بحسب الغالب عن مثل هذا الخروج.

و كذلك التداوي لمرض أو دفع برد و غيرهما من أفراد الضرورة في مقامنا لا ينفكّ غالبا عن التمكّن من النزع و لو بمقدار صلاة ثمّ اللبس، فأوجب ذلك صدق عنوان المضطرّ بقول مطلق عليه حتّى في تلك الحال، و ليس الصدق تجوّزا عرفيّا، بل من باب الحقيقة العرفيّة.

و أمّا الحرمة الغيريّة فيشكل الحكم بارتفاعها، و ذلك لعدم صدق عنوان الاضطرار إلى ترك الصلاة الجامعة للشرائط بعد فرض تمكّنه من فرد واحد منها، فلا يبقى لحكومة حديث الرفع على دليل المانعيّة للصلاة وجه و إن كان حاكما بالنسبة إلى دليل الحرمة النفسيّة.

و من هنا يسري الإشكال إلى حال الحرب أيضا، فإنّه و إن قامت الأدلّة الخاصّة باستثنائها عن الحرمة النفسيّة، و من الواضح عدم انحصارها بحال الاشتغال بالمحاربة، لصدقه بالنسبة إلى حال الفراغ، مثل أوّل الليل مع التمكّن من لباس آخر، و لكن لو أراد الصلاة في تلك الحال

التي يتمكّن من نزعه و لبس غيره فلا دليل يدلّ على جواز ذلك، و إطلاق أدلّة الخاصّة بالنسبة إلى حال الصلاة إنّما ينفع لرفع الحرمة النفسيّة الذاتيّة و إثبات الحلّية كذلك، و يجتمع هذا مع المانعيّة.

لا يقال: كيف يجتمع و الحال أنّه في آخر الوقت يصير اللبس حراما، لكونه مفوّتا للصلاة، فحليّته مطلقا حتّى بالنسبة إلى ذلك الجزء لمن لم يصلّ دليل على عدم المانعيّة.

لأنّا نقول: غاية مفاد الأدلّة المذكورة إثبات الحلّية الذاتيّة مثل حلّية الغنم، و هي تجتمع مع الحرمة العرضيّة، كما تجتمع مع الوجوب العرضي مثل توقّف واجب عليه، و الحاصل ليس لدليل الحلّية إطلاق بالنسبة إلى هذه العناوين العرضيّة أعني

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 264

المفوّتية للواجب أو المقدّميّة له، و هذا واضح.

و لكن يمكن أن يقال في كلا المقامين بصحّة الصلاة من جهة دعوى أنّ ارتكاز الحرمة النفسيّة للبس الحرير يوجب انصراف النهي عن الصلاة معه إلى الحرمة النفسيّة، و ذلك للمناسبة بين المعنيين، أعني: تحريم لباس عند المولى و مبغوضيّة لبسه في حضوره.

و إن أبيت عن الانصراف فلا أقلّ من أنّه يوجب الإجمال، فلا دليل على إثبات المانعيّة المطلقة و لو في غير مورد الحرمة النفسيّة، و الأصل يقتضي عدمها.

و إذن فيكون النهي في هذا المقام أيضا من النهي في العبادة، و من المعلوم أنّه متى ارتفع النهي فلا فساد، كما أنّه لا فساد أيضا مع سقوط النهي عن التنجيز بواسطة الشبهة الموضوعيّة و لو قلنا بالاشتغال في الدوران بين الأقلّ و الأكثر، فمن يقول بالاشتغال في ذلك المقام قائل بالبراءة في مقامنا كما هو واضح.

و قد يتوهّم أنّ من جوّزنا له لبس الحرير في صلاته فغاية هذا التجويز

رفع مانعيّته، و أمّا تقييد الساتر الذي هو شرط للصلاة بكونه غير حرير فلا دليل على سقوطه، فلا بدّ من عدم الاقتصار على لبس الحرير في الصلاة، بل لا بدّ من إضافة لباس آخر من غير الحرير كان قابلا للساتريّة، قضيّة لحقّ الساتر.

و فيه أنّ الأدلّة المانعة عن الصلاة في الحرير يكون في عرض أدلّة اعتبار الساتر، و ليست ناظرة إليها، فكما أنّ الثانية يثبت للصلاة شرطا و هو الساتر، فهي يثبت لها مانعا و هو وجود اللباس الحرير، من غير فرق بين الساتر و غيره، و على هذا فليس من حديث تقييد الساتر بعدم كونه حريرا عين و لا أثر في الأدلّة.

هذا تمام الكلام في ما يتعلّق بشروط الساتر، و بقي هنا بعض المباحث حذفناها للاشتغال بالأهمّ، و اللّٰه تعالى هو الموفّق و الهادي إلى الصواب في كلّ باب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 265

الفصل الثالث في بيان مسائل متعلّقة بالستر و الساتر
الاولى لا إشكال في باب الستر عن الناظر المحترم في تحقّقه بمطلق الساتر

من غير مدخليّة لجنس خاصّ، فيكفي و لو لم يكن من جنس الملبوسات من القطن و الكتّان و الجلود و نحوها كالحشيش و التطيّن بالطين، بل، وضع اليدين.

و أمّا في باب الصلاة فهل يعتبر في الساتر علاوة على الأمور الستّة المتقدّمة كونه من جنس الملبوسات، فلا يكفي اختيارا مثل الحشيش و الطين.

نعم لا فرق في جنس الملبوس بين كونه بالهيئة المتعارفة في الملبوس أو بغيرها، أو لا يعتبر شي ء آخر، فيكفي أمثال ما ذكر في حال الاختيار أيضا؟

وجهان.

و ربما يتمسّك للأوّل بأخبار الإزار و القميص و الدرع و الملحفة الظاهرة في اعتبار الجامع بين هذه الأشياء و هو مطلق الملبوس، مضافا إلى صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق

متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة، كيف يصلّي؟ قال عليه السّلام: إن أصاب حشيشا يستر به

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 266

عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم» «1» فإنّه يمكن دعوى ظهورها في ترتيب التستّر بالحشيش على فقدان جنس الملبوس، فلا يكون في عرضه.

و للثاني بالأصل بعد منع ورود تلك الأخبار في مقام البيان من هذه الجهة أعني: تعيين الجنس، بل هي وردت في مقام بيان أنّ الثوب الواحد إذا كان كثيفا يغني عن المتعدّد، و الحاصل أنّها في مقام اعتبار أن لا يكون حاكيا عمّا وراءه، و ليس في مقام بيان الزائد عن ذلك، كما يعلم بمراجعتها، فالعناوين المذكورة فيها أريد بها المثال لا الخصوصيّة، فالتمسّك بها لاعتبار جنسها ممّا لا وجه له.

و أمّا الصحيحة فإن كان الترتيب المذكور مذكورا في كلام الإمام عليه السّلام كان ظهوره في ما ذكر مسلّم، و لكن ليس كذلك، بل السائل فرض الفقدان فأجابه الإمام عليه السّلام بالتستّر بالحشيش، و استفادة الترتيب من مثله محلّ منع.

و ذهب بعض المشايخ رحمه اللّٰه تبعا لصاحب الجواهر طاب ثراهما إلى التفصيل بين الحشيش و نحوه و بين الطين و سائر اللطوخات مثل الحنّاء، فجعل الأوّل في عرض اللباس اختيارا، و أمّا الثاني فلا يجب للصلاة حتّى حال الاضطرار و إن قلنا بوجوبه من باب الستر عن النظر، مستدلّا في الأوّل بما تقدّم، و في الثاني بصدق العريانيّة عرفا مع التطلية بالطين و الحنّاء و أمثالهما، فلا يصدق عليه الستر المعتبر في الصلاة و إن قلنا بكفايته في باب النظر من جهة أنّ المطلوب في ذلك الباب أعمّ من

الستر، بل هو الاختفاء عن أعين الناظرين و لو بالذهاب في مكان مظلم أو بعيد، أو دخول بيت أو نحو ذلك ممّا يجتمع مع صدق العريانيّة المضرّ في باب الصلاة، فإنّ المطلوب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 267

فيه هو المستوريّة المقابلة بالعريانيّة.

هذا مضافا إلى أنّه يلزم من كونه من الستر المعتبر في الصلاة حمل الأخبار الواردة في كيفيّة صلاة العاري جماعة و فرادى على الفرد النادر، إذ قلّما يتّفق عدم تمكّن العاري من تطلية الطين و لو بمزج فضالة طهوره في مقدار من التراب، هذا محصّل ما يوجد من كلماته الشريفة، أعلى اللّٰه مقامه.

قال شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه تعالى علينا تعالى بركات أنفاسه القدسيّة: أمّا ما ذكره في الشقّ الأول من تفصيله من عدم نهوض الأخبار على اعتبار الخصوصيّة في حال الاختيار فواضح، لكن لا دلالة فيها على العموم و الإطلاق بالنسبة إلى كلّ ما يتحقّق به الستر عرفا، و هو أيضا واضح، فيصير أصل الستر مسلّما و خصوصيّة كونه من جنس اللباس مشكوكا، و بناء على ما هو الحقّ في الدوران بين الأقلّ و الأكثر من البراءة يكون احتمال الخصوصيّة مدفوعا بالأصل.

و بالجملة، ما ذكره في الشقّ الأوّل من التمسّك بالأصل وجيه لا غبار عليه.

و أمّا ما ذكره في الشقّ الثاني من الفرق بين الستر المعتبر في باب النظر و المعتبر منه هاهنا، فالمراد به هناك أعمّ ممّا هو المراد هنا، ففيه أنّ الظاهر بل المتعيّن وحدة المراد بالستر المطلوب في البابين، و هو فيهما عبارة عمّا يقابله العراء و العريانيّة، و لكنّ الفرق بين المقامين أنّه في مقام الستر عن النظر

هذا المعنى مطلوبيّته مشروطة بأمور منها: وجود الناظر، و منها: كونه ناظرا، و منها: عدم الحائل في البين من ظلمة أو ماء كدر أو جدار أو بعد مفرط و نحو ذلك، فبانتفاء كلّ من هذه الأمور ينتفي مطلوبيّة الستر، لا أنّ الستر واجب و حاصل، بل منتف بانتفاء موضوعه.

و أمّا هنا فهذا المعنى أيضا مطلوب بمطلوبيّة مطلقة بلا شرط، بحيث لا يفرق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 268

فيها بين وجود الناظر و عدمه و كونه مبصرا أو أعمى، و وجود الحائل و عدمه، فيكون الستر واجبا على الإطلاق، و على هذا فكلّ ما يكون سترا في باب النظر فهو ستر في هذا الباب أيضا، و الفرق إنّما هو في كيفيّة الوجوب.

إذا عرفت هذا فنقول: إن أراد قدّس سرّه من الطين الذي منع منه في باب الصلاة هو المقدار اليسير الذي يشاهد معه الحجم و إن لم ير اللون فهذا ليس سترا عرفا في شي ء من البابين.

ألا ترى أنّ من طلى عورته بالحنّاء لا يعدّ عرفا إلّا عاري العورة لا مستورها، غاية الأمر يقولون أنّه لوّن عورته لا أنّه سترها، و إن أريد منه ما كان مانعا عن رؤية الحجم أيضا بأن كان كثيرا بحيث كانت العورة مدفونة فيه، فهذا كاف في كلا البابين، فلا وجه للتفرقة بين البابين في شي ء من القسمين.

و أمّا ما ذكره قدّس سرّه من لزوم حمل الأخبار الواردة في صلاة العاري إمّا منفردا و إمّا جماعة على الفرد النادر فهو عجيب، لأنّ المحذور إنّما هو حمل القضيّة المطلقة على فردها النادر، و أمّا انعقاد موضوعها من الابتداء في الفرد النادر بحيث كانت مسوقة لبيان حال الفرد النادر فليس هذا من

المحذور أصلا، و هذه الأخبار من هذا القبيل، فإنّها واردة في حكم العاري، أعني: من فقد جنس ما يستتر به الذي منه الطين و الحنّاء حسب الفرض بتمام أفراده، و وقوع هذا الاتّفاق في الخارج و إن كان نادرا، لكن لا يمنع ندرته من صحّة عقد قضيّته لبيان حكمه.

ألا ترى أنّ الحشيش أيضا ممّا لم ينبّه به في هذه الأخبار مع كونه ممّا يستتر به باعترافه قدّس سرّه، فليس هو إلّا من جهة ما ذكرنا من أنّ فرض السائل صورة فقدان كلّ ما هو ساتر مطلقا و أنّه في هذه الصورة هل الصلاة ساقطة عنه أو ثابتة، و على الثاني فما كيفيّتها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 269

الثانية لو لم يجد ساترا يستر به عورته ففيه أقوال:
اشارة

تعيّن الصلاة عاريا قائما واضعا يديه على عورته، و تعيّنها جالسا، و التفصيل بين الأمن عن المطّلع فيقوم، و عدمه فيجلس، و المنشأ اختلاف الأخبار.

فممّا يدلّ على تعيّن القيام صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال عليه السّلام: إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم» «1».

و ممّا يدلّ على تعيّن الجلوس صحيحة زرارة أو حسنته «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه و لم يجد شيئا يصلّي فيه؟ فقال عليه السّلام: يصلّي إيماء، و إن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها، و إن كان رجلا وضع يده على سوأته، ثمّ يجلسان فيومئان إيماء و لا يسجدان و لا يركعان، فيبدو ما خلفهما تكون صلاتهما إيماء

برءوسهما» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 270

و ممّا يدلّ على التفصيل ما رواه الشيخ بطريق صحيح عن ابن مسكان عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «في الرجل يخرج عريانا فتدركه الصلاة، قال عليه السّلام: يصلّي عريانا قائما إن لم يره أحد، فإن رآه أحد صلّى جالسا» «1».

و ما رواه البرقي في المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمّد بن أبي حمزة عن عبد اللّٰه بن مسكان «عن أبي جعفر عليهما السّلام في رجل عريان ليس معه ثوب؟

قال عليه السّلام: إذا كان حيث لا يراه أحد فليصلّ قائما» «2».

و المشهور على ما حكي عنهم ذهبوا إلى التفصيل بين الأمن عن المطّلع المحترم و عدمه، و استفادة هذا من الأخبار المذكورة يبتني:

أوّلا: على حمل الطائفتين المطلقتين على الطائفة المفصّلة كما هو ديدنهم من حمل المطلق على المقيّد، بل يظهر من بعض كلمات شيخنا المرتضى الأنصاري قدّس سرّه أنّه من باب الورود لتقوّم ظهور المطلق بعدم البيان و لو منفصلا، فالمقيّد و لو كان منفصلا يكون واردا على المطلق، لكونه بيانا.

و ثانيا: على حمل قوله عليه السّلام: إن لم يره، و قوله: إن رآه، على شأنيّة ذلك و معرضيته حتّى ينطبق على تفصيلهم بين الأمن و عدمه، و لو حملناهما على ظاهرهما من الرؤية و عدمها الفعليين لا ينطبق، إذ يحصل حينئذ للمكلّف ثلاث حالات:

العلم بالرؤية حالا أو استقبالا، أعني بأنّه سيجي ء الرائي في أثناء الصلاة، و العلم بعدمه، و الشكّ بينهما، فيتعيّن في الأخير أن يصلّي صلاتين إحداهما قائما

و الأخرى جالسا قضيّة للعلم الإجمالي.

و أمّا على ما ذكروه فليس له إلّا حالتان، فإنّه مع العلم بالعدم مأمون، و مع

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 271

عدمه سواء علم الوجود أو شكّ فليس بمأمون، فيتعيّن عليه القيام في الأوّل و الجلوس في الثاني.

و ربما يوجّه الروايات على وجه ينطبق على هذا التفصيل بأنّ المقصود لمّا كان حفظ الفرج عن النظر، و الحفظ لا يصدق مع الكشف في مورد المعرضية للنظر فيناسب أن يكون المراد بقوله: رآه و لم يره، شأنيّة ذلك.

و لكن فيه أنّ الحفظ لا يدور مدار الجلوس، لتحقّقه مع القيام، لأنّ القبل مستور باليدين و الدبر بالأليتين، و المفروض إيماءه للركوع و السجود، فيبقى كونه لمحض التعبّد و الرعاية لجهة الصلاة.

ثمّ هذا كلّه مع تسليم أصل المبنى من حمل المطلقات الواردة في مقام البيان على المقيّد الوارد منفصلا عنها بمدّة إمّا قبلا أو بعدا، و هو محلّ إشكال و إن اشتهر بينهم، فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة و إن كان ممكنا لمصلحة، إلّا أنّه أمر بعيد لا يصار إليه في غير الضرورة، و هذا بخلاف التصرّف في الهيئة مع حفظ مادّة المطلقات على إطلاقها بأن يقال: إنّ المراد بأوامر القيام و كذا أوامر الجلوس بيان أحد فردي الواجب المخيّر، و المراد بالأخبار المفصّلة بين ما لو رآه أحد و ما لم يره بيان أفضل الفردين بحسب الحالين المذكورين، فإنّه و إن كان تصرّفا في هيئة كلّ من المطلقات و الأخبار المفصّلة، و لكنّه في البعد لا يصل بحدّ تقييد

المطلقات مادّة و الالتزام بأنّه أخفى القيد على السائل المبتلى بالعمل، لا سيّما مثل الصلاة المبتلى بها في كلّ يوم و ليلة خمس مرّات مع كونه موجبا لصدور خلاف الواقع منه كثيرا، فإنّ الإنصاف أنّ هذا في غاية البعد، و لا أقلّ من الإجمال، و المرجع في مقام العمل هو الاحتياط باختيار القيام مع العلم بعدم الناظر فعلا و عدم مجيئه في الأثناء أيضا، و اختيار القعود مع العلم بوجوده في أحدهما، و التكرار مرّة قياما و اخرى جلوسا مع الشكّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 272

فروع ينبغي التنبيه عليها
الأوّل: لا إشكال نصّا و فتوى في أنّه مع الجلوس و الانفراد يومئ للركوع و السجود،

و أمّا في حال القيام فقد اختلف الفتاوى، ففي بعضها اختيار الإيماء، و هو المنسوب إلى الأكثر.

و في آخر اختيار الركوع و السجود كما في حال الاختيار، و به أفتى في نجاة العباد، و قوّاه في الجواهر، و لكن الموجود في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة التصريح بالإيماء قائما، فإنّ قوله عليه السّلام في ذيلها: أومأ و هو قائم، مع مقابلته بقوله عليه السّلام في الصدر: أتمّ صلاته بالركوع و السجود، صريح في ما ذكر، و ليس له معارض.

و اعتمد في الجواهر على ما حكي عنه على أنّ الستر الصلاتي في حقّ الساتر قد الغي و بقي في حقّه الستر عن النظر، و هو لا يكون إلّا مع عدم الأمن، و لهذا أوجب عليه الشارع في حاله ترك الركوع و السجود و رضي بدلهما بالإيماء، و أمّا في حال الأمن فلا موجب لترك الركوع و السجود، لا من جهة الصلاة و لا من جهة الحفظ عن الناظر.

و فيه- بعد الغضّ عمّا ذكره من عدم الستر الصلاتي في حقّه، إذ قد عرفت من البيانات السابقة تحقّقه باليدين و الأليتين

في هذا الباب كما في باب الستر عن النظر- أنّ ما ذكره قدّس سرّه تامّ لو لا النصّ الخاصّ الوارد بتعيّن الإيماء من غير معارض له مكافئ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 273

الثاني: هل الإيماء بالرأس أو بالعين؟

الظاهر الأوّل، فإنّه مضافا إلى التصريح به في رواية زرارة المتقدّمة يكون هو المنصرف من الإطلاق، فإنّ المتعارف عند أهل العرف في تعظيماتهم العرفيّة إذا تعذّر تحطيط الظهر هو الإيماء بالرأس عوضه، نعم لو تعذّر هو أيضا أومؤوا بالعين، فهذه مناسبة عرفيّة موجبة لانصراف هذا الفرد من المطلق الوارد في مقام البدليّة عن الركوع و السجود، و لعلّ أخفضيّة الإيماء للسجود عن الإيماء للركوع أيضا من هذا القبيل.

مضافا إلى التصريح بها في خبر أبي البختري المرويّ عن قرب الإسناد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال عليه السّلام: «من غرق ثيابه فلا ينبغي له أن يصلّي حتّى يخاف ذهاب الوقت يبتغي ثيابا، فإن لم يجد صلّى عريانا جالسا يومئ إيماء يجعل سجوده أخفض من ركوعه» «1».

الثالث: هل يجب عليه الانحناء بالمقدار الممكن بحيث لا يبدو ما خلفه أو لا؟

ظاهر إطلاق الأخبار المكتفية بالإيماء عن الركوع و السجود الثاني، و لكن مال بعضهم إلى الأوّل تمسّكا بالاستصحاب و قاعدة الميسور.

و فيه أوّلا: أنّ الانحناء و الهويّ ليس واجبا إلّا مقدّمة للهيئة الخاصّة الركوعيّة أو السجوديّة، فإذا فرض عدم وجوب تلك الهيئة فلا معنى للتمسّك بالاستصحاب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 52 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 274

أو القاعدة لإثبات وجوب المقدّمة.

و ثانيا: سلّمنا أنّه أيضا معتبر جزء للصلاة، لكن التمسّك بالاستصحاب و القاعدة إنّما يصحّ لو لم يكن في مقابلهما إطلاق النصّ الخاصّ الدالّ على الاكتفاء بالإيماء و عدم وجوب الزائد عليه، و قد عرفت وجوده.

الرابع: هل يجب على من تكليفه الصلاة قائما موميا أن يجلس في حال الإيماء لسجوده ثمّ يومئ له،

أو يكفيه الإيماء له قائما كما يومئ للركوع كذلك؟ ظاهر إطلاق الصحيحة المتقدّمة هو الثاني، و ينسب إلى بعض الأصحاب قدّس سرّهم الأوّل.

فإن كان مستنده قاعدة الميسور ففيه:

أوّلا: أنّه كان مقدّمة لحصول الهيئة السجوديّة، فإذا سقطت سقطت مقدّمتها.

و ثانيا: لا مجال لها مع إطلاق الصحيحة.

و إن كان لرواية زرارة حيث قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه و لم يجد شيئا يصلّي فيه؟ فقال عليه السّلام: يصلّي إيماء، و إن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها، و إن كان رجلا وضع يده على سوأته، ثمّ يجلسان فيومئان إيماء، و لا يسجدان و لا يركعان فيبدو ما خلفهما، تكون صلاتهما إيماء برءوسهما» «1».

بتقريب أنّ قوله عليه السّلام: ثمّ يجلسان فيومان إيماء، يكون المراد به الجلوس مقدّمة للإيماء لا الجلوس للقراءة، بقرينة حكمه عليه السّلام بجعل المرأة يدها على فرجها،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 275

و

الرجل يده على سوأته، فإنّه شاهد على صلاتهما قائمين، إذ الجالس يكون عورته مستورة بأليتيه و بالأرض، فلا يحتاج إلى وضع اليد.

ففيه: أنّه من الممكن أنّ هذا الحكم ليس من جهة الصلاة، بل من جهة الحفظ عن الناظر، لفرض عدم الأمن منه، فيكون المراد بالجلوس الجلوس للقراءة و عدم ذكر التكبيرة و القراءة، لوضوحهما، و التعرّض للإيماء لاحتياجه إلى الذكر و كونه خصيصة هذه الصلاة، فاقتصر على ذكر المختصّات و هي الجلوس و الإيماء، و اكتفى عن المشتركات بوضوحها.

و بالجملة، لا ظهور للرواية في ما ذكره، فيبقى إطلاق الصحيحة السابقة لدفع الاحتمال المذكور محكّما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 276

الثالثة لو وجد الساتر في أثناء العمل

فإمّا أن يكون الوقت ضيّقا بحيث لا يدرك الصلاة مع الستر و لو ركعة لو رفع اليد عن هذه الصلاة، و إمّا أنّه لو تركه يدرك الصلاة كلّها في الوقت، و إمّا أنّه على فرض الترك مدرك منها ركعة.

أمّا القسم الأوّل، فلا إشكال في المضيّ، غاية الأمر لو تمكّن من الستر بلا فعل مناف يبادر إلى تحصيله، و إن توقّف على الفعل المنافي أتمّ الصلاة عاريا.

و أمّا القسم الثاني، فقد يفرق بين ما إذا تمكّن من الستر في هذه الصلاة بدون مناف، فيبادر إليه و تصحّ صلاته، و ما إذا توقّف على المنافي فيجب الاستئناف.

و قد يستشكل فيه بأنّ موضوع الصلاة عاريا لا يخلو إمّا أن يكون هو الغير المتمكّن في مجموع الوقت فيلزم الحكم بالفساد في كليهما، لانكشاف عدم الأمر، بل اللازم ذلك حتّى لو تمكّن منه بعد الفراغ في بعض من الوقت يسع الصلاة، و إمّا أن يكون هو الغير المتمكّن الفعلي، فاللازم الصحّة في كليهما.

أمّا في الأوّل فلأنّ الأجزاء السابقة أتي بها

في حال العجز، و الأجزاء اللاحقة يأتي بها مستورا، و أمّا الآن المتوسّط الذي يشتغل فيه بالستر فهو عاجز عن الستر بالنسبة إليه أيضا، فيكون ساقطا، و أمّا في الثاني فصحّة الأجزاء السابقة لمكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 277

العجز، و أمّا الأجزاء اللاحقة فهو غير متمكّن من الستر فيها، لاستلزامه إيجاد المبطل.

و الإنصاف أنّه توهّم باطل، فإنّ التمكّن و العجز إنّما يعتبران بالإضافة إلى حقيقة الصلاة، لا بالإضافة إلى خصوص الأجزاء الشخصيّة من الصلاة الشخصيّة.

و على هذا فلا بدّ من القول بالبطلان في كلتا المسألتين، أمّا في الثانية فالأجزاء السابقة و إن كانت صحيحة لمكان العجز الثابت فيها عن حقيقة الصلاة التامّة بالستر، و لكن بعد وجدان الساتر ارتفع العجز و تبدّل بالقدرة، فيصدق أنّه قادر على تلك الحقيقة.

نعم لا يصدق بالنسبة إلى شخص هذه الصلاة و أجزائها الباقية، لكن أجزاءها الباقية ليست بمصداق للصلاة، فيخرج عن موضوع الخطاب بالصلاة عاريا، و يدخل في موضوع الخطاب بالصلاة مع الساتر.

و من هنا يظهر الحال في المسألة الأولى، فإنّه و إن كان لا مانع من قبل الأجزاء السابقة المأتيّة في حال العراء، لسقوط الستر حالها، و لا من قبل الأجزاء اللاحقة، لتحقّق الستر حينها، و لكنّ الإشكال كلّه من جهة عرائه في الأثناء حينما يشتغل بالستر، فإنّه كون من أكوان الصلاة و يعتبر فيها الستر كالطهارة و الاستقبال، إذ ليس شرطا لخصوص الأفعال و الأذكار، و المفروض أنّه قادر على حقيقة الصلاة مع الستر في هذا الآن، و لا نعني بقدرته تمكّنه من إيقاع الصلاة مع الستر في هذه الآن، بل بمعنى أنّه ليس الحائل بينه و بينها سوى قدرته، و متى تحقّق للمكلّف هذه

الحالة لا يصحّ منه الصلاة عاريا.

ألا ترى أنّ العاري الذي يتوقّف ستره على مضيّ خمس دقائق للمشي إلى منزله و أخذ الثوب من محلّه و لبسه لا يصحّ منه الصلاة في هذه الخمس الدقائق، لأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 278

قادر، إذ الحائل بينه و بين الستر ليس إلّا المقدّمة المقدورة.

و بالجملة، بعد ما كان الستر شرطا لجميع حالات الصلاة حتّى حال عدم اشتغاله بالفعل أو القول، و المفروض صدق القدرة عليه في هذا الآن بالإضافة إلى حقيقة الصلاة، كان اللازم إخلاله بالستر مع كونه معتبرا في حقّه، فاللازم البطلان في كلتا المسألتين.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا الفرض و بين ما إذا كان عاجزا عن الساتر، و بعد ما صلّى ركعتين مثلا عاريا كساه أحد بغير اختياره، فوجد الساتر في أوّل آنات التفاته للركعتين الباقيتين، فإنّه و إن لم يكن لشي ء من دليلي الاشتراط و الإسقاط إطلاق بالنسبة إلى هذه الصورة، إلّا أنّه يمكن استفادة حكمها ببركة مجموع الدليلين.

و حينئذ فمثله يقال في مقامنا، أعني: أنّه في الأجزاء السابقة و الآن المتخلّل فاقد الساتر، لكنّه معفوّ، و في الأجزاء اللاحقة واجد الساتر، و لكنّه مستور.

قلت: الفرق واضح، فإنّ الشخص المذكور غير متمكّن من الساتر في جميع آنات الأجزاء السابقة، و متى تمكّن كان مستورا، و أمّا في المقام ففي الآن المتوسّط متمكّن و غير مستور، و قد فرضنا أنّا استفدنا من جمع الدليلين أنّ المتمكّن يشترط في صلاته الستر، و معنى تمكّنه لحقيقة الساتر أنّه ليس الواسطة إلّا قدرته، كما في الكون على السطح، لا أنّه يقدر على إيجاده في هذا الآن، و القدرة و العجز مضافان في الأدلّة إلى حقيقة الصلاة، دون

الصلاة الشخصيّة، فلا ينفع صدق عدم القدرة بالنسبة إلى هذا الكون الشخصي من هذه الصلاة الشخصيّة بعد صدق كونه قادرا على الستر بالإضافة إلى حقيقة الصلاة.

لكن هذا كلّه بحسب القاعدة الأوّلية مع قطع النظر عمّا يقتضيه القاعدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 279

الثانوية المجعولة في خصوص باب الصلاة بقوله عليه السّلام: لا تعاد الصلاة إلخ، و أمّا بحسب مفاده فظاهر أنّه ناظر إلى الصلاة الشخصيّة، فيمكن أن يقال: إنّه و إن كان غير مستور في هذا الآن، و لكنّه ليس عن اختياره، و مثله مشمول للحديث.

فإن قلت: نحن نتكلّم قبل مضيّ هذا الآن، لوضوح أنّ الحديث بعد ما سلّمنا شموله للأثناء كما لو نسي الحمد و تذكّر في الركوع فإنّه يمكن الحكم باستفادة حكمة من الحديث، لكن نقول باختصاصه بالنسبة إلى ما مضى، فلا يشمل الأجزاء الحاضرة و لا المستقبلة، فكيف يمكن الحكم بسقوط الستر لأجل هذا الآن الذي لم يمض بعد.

و القول بأنّا نصبر حتّى يمضي ثمّ يجري عليه القاعدة، فيه ما لا يخفى، فإنّه يوجب جواز الدخول في الصلاة لو اتّفق له الساتر في أوّل الصلاة، فيجوز الشروع في تكبيرة الإحرام مع المبادرة إلى الستر.

و بالجملة، لا إشكال في أنّه لا بدّ في إجراء دليل لا تعاد من وجود صلاة أو أجزاء صلاة ماضية و اتّفق خلل غير اختياريّ حتّى يحكم بمقتضاها بعدم الإعادة لما مضى، و هنا لم يمض الآن المذكور، فلا يجري فيه القاعدة.

قلت: نعم يعتبر في إجرائها مضيّ الصلاة أو بعض من أجزائها، فلا نلتزم في المثال الذي ذكرت بإجرائها، و لكن في المقام نقول: يثبت حكومة الحديث على دليل اعتبار الستر بالنسبة إلى هذا الآن ببركة إجرائها في

الأجزاء الماضية ممّا سوى هذا الآن، فنقول: تلك الأجزاء دارت أمرها بين أن يرفع اليد عنها، لعدم إمكان التصاقها بما بقي بواسطة تخلّل هذا الآن، و بين أن لا يرفع عنها اليد و ينتفع بها للصلاة.

فقضيّة القاعدة هو الثاني، و لازمة أن لا يكون من قبل هذا الآن المتخلّل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 280

خلل كما هو واضح، و ليس مفاد القاعدة هو إثبات الصحّة للأجزاء السابقة من حيث نفسها و باعتبار الأثر التعليقي الثابت لأجزاء المركّب، أعني أنّه لو انضمّ إليه الباقي بما يعتبر فيه من الشرائط كان تامّا، كما أنّ هذا مفاد أصالة الصحّة، بل المفاد هو الصحّة الفعليّة، و حيث إنّ القاعدة دليل اجتهادي يكون مثبتها حجّة، و ليس كالأصل حتّى لا يعتنى بمثبته، فاللازم من الصحّة الفعليّة للأجزاء المتقدّمة هو الحكم بعدم اعتبار الستر لهذا الآن المتخلّل.

لا يقال: ما الفرق بين المقام و بين ما إذا نسي القراءة ثمّ تعمّد ترك سجدة واحدة، فإنّه إنّما ينفع القاعدة للحكم بالصحّة من جهة الترك السهوي للقراءة، فلا ينافيه الحكم بالبطلان من جهة الترك العمدي، ففي المقام أيضا الحكم بالصحّة لأجل الأجزاء السابقة لا ينافيه الحكم بالبطلان من جهة هذا الآن المتخلّل المفقود فيه الستر المفروض شرطيّته من الأدلّة الأوّلية.

لأنّا نقول: الفرق واضح، فإنّه في المقام تحقّق فقدان الستر في هذا الآن من غير قبل المكلّف، و الحديث ناظر إلى مثل هذه الأشياء، و هذا بخلاف ما إذا تعمّد ترك الجزء، فهذا خلل وارد على الأجزاء السابقة من قبله، و لا تعرّض للحديث لإثبات الصحّة من حيث هذه الأمور كما هو واضح.

فإن قلت: فعلى هذا يلزم عليك القول بالصحّة في صورة استلزام الستر

في الأثناء إلى فعل المنافي، فإنّ العجز عن الستر ثابت بالنسبة إلى هذه الصلاة الشخصيّة، بمعنى أنّه لا يتمكّن من حفظ سترها بلا طروّ بطلان عليها، و قد فرضتم أنّ الرواية متكفّلة للحكم بالصحّة في أمثال ذلك بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ثمّ ينكشف ببركته إسقاط الشرطيّة بحكومة الحديث بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة.

قلت: الفرق أنّ ترك الستر في هذا الفرض مستند إلى اختياره، غاية الأمر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 281

لأجل المحافظة على عدم ورود البطلان على صلاته.

و الحاصل: فرق بين عدم الستر الذي اختاره المكلّف باختياره و عمده من باب اختيار أخفّ المحذورين و هو المتحقّق في هذا الفرض الذي ذكر في السؤال، و بين عدم الستر الذي لا دخل لاختيار المكلّف في حصوله أصلا، و هو المتحقّق في الفرض المتقدّم، فإذا أجرينا القاعدة في الثاني لا يلزمنا إجراؤها في الأوّل، لمكان الفرق الواضح بينهما.

فتحصّل من مجموع ما ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية هو الحكم بالبطلان في أمثال الفرع المذكور، كما لو انكشفت العورة في الأثناء بواسطة الريح، ثمّ بادر إلى الستر، و كذلك أمثاله، و الالتزام بالبطلان فيها بعيد، و أمّا لو أخذنا بمقتضى الحديث كما ذكرنا ينحلّ الإشكال عن عامّة تلك الفروع، فاغتنم ذلك و استقم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 282

الرابعة اعلم أنّه قد روى شيخ الطائفة قدّس اللّٰه نفسه الزكيّة

بإسناده عن محمّد ابن أحمد بن يحيى، عن أيّوب بن نوح، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: العاري الذي ليس له ثوب إذا وجد حفيرة دخلها و يسجد فيها و يركع» «1».

و قد عرفت الروايات الواردة في باب كيفيّة صلاة العاري، فإنّها بين ما اشتمل على القيام، لكن موميا للركوع و السجود، و بين ما اشتمل

على الجلوس موميا، و بين المفصّل بين ما إذا يراه أحد فالجلوس، و بين ما إذا لم يره فالقيام، و المشهور حملوها على الأمن و عدمه، و حملوا الإطلاقين على هذا التفصيل.

و لكنّا قلنا بأنّ الظاهر هو التخيير بين الأمرين في الحالين، لكنّ القيام أفضل مع الأمن و الجلوس كذلك مع عدمه، فهذه الرواية ربما يقال: إنّه معارض معها، فإنّه إن حملناها على أنّ دخول الحفرة يوجب حصول الأمن لزم طرح

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 283

صحيحة عليّ بن جعفر الحاكمة بالإيماء، مع أنّ الفرض حملها على صورة الأمن، كما أنّه لو أخذ بتلك الصحيحة لزم طرح هذه الرواية الحاكمة بالركوع و السجود، و السند فيها أيضا معتبر و إن كان مرسلا، كما يشهد به ملاحظة جلالة أيّوب بن نوح.

و الذي تفصّى به شيخنا الأستاذ دام علاه في رفع هذا الإشكال أن يقال بتنزيل تلك الروايات على صورتي عدم وجود الناظر و وجوده، و كما أنّ الحفظ عن الناظر تارة بعدم وجوده، كذلك يكون اخرى بدخول الحفيرة، كما أنّه قد يكون بالظلمة أو الدخول في الماء أو الوحل، فالحفظ الذي يتحقّق بمثل هذه الأمور قدّمه الشارع على الحفظ الذي يكون من جهة عدم وجود موضوع الناظر، بمعنى أنّه و إن كان هذه الأمور ليست سترا صلاتيّا في حال الاختيار، لكنّ الشارع جعلها سترا كذلك في حال الاضطرار جمعا بين التحفّظ عن الناظر و بين التحفّظ على أفعال الصلاة من القيام و الركوع و السجود، فتقديم جانب الحفظ عن الناظر على رعاية هذه الأفعال إنّما يراه الشارع في صورة عدم التمكّن من ذلك، فحينئذ

يفصل بين الجلوس و القيام إن كان الرائي موجودا و إن لم يكن.

و بالجملة فليس هذا الأمن الحاصل من الدخول في الحفيرة الضيّقة داخلا في موضوع تلك الأخبار الحاكمة بالصلاة قائما موميا، لأنّ موضوعها الأمن الخاصّ، و هو الحاصل من عدم رؤية أحد، أعني عدم وجود الناظر، و خصوصا إذا أخذنا بمضمون قوله عليه السّلام: إذا كان حيث لا يراه أحد إلخ. أعني: كون المكان ذا استعداد و شأنيّة لعدم عبور أحد هناك.

فهذا وجه جمع بين تلك الأخبار و بين هذا الخبر، مضافا إلى إمكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 284

الاستئناس له بقوله عليه السّلام في صحيحة عليّ بن جعفر: و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم، فإنّه يمكن القول باندراج الحفيرة و نحوها في عموم كلمة «شيئا» لا أن يكون المراد به خصوص الثوب و الورق و الحشيش و أمثالها.

ثمّ إن استفيد أنّ ذكر الحفيرة من باب المثال يتعدّى إلى الفسطاط الضيّق و إلى البيت الضيّق، و كلّ ما كان شبيها بها في إمكان التستّر مع إتيان الأفعال الصلاتية كاملة، و إن لم يستفد فلا أقلّ من القول بذلك في خصوص الحفيرة.

و على كلّ حال فيتحقّق لنا ساتر اضطراري لا ينتقل مع وجوده إلى حكم صلاة العاري، و قد أفتى بذلك جمع من الأصحاب رضوان اللّٰه تعالى عليهم كما يعلم ذلك بمراجعة مفتاح الكرامة، و لا بأس به مع قوّة السند و وجود العامل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 285

الخامسة تشرع الجماعة للعراة بواسطة الدليل الخاصّ الوارد في خصوص العراة،

و لا يعارضه ما في ذيل خبر أبي البختري من قوله عليه السّلام: «فإن كانوا جماعة تباعدوا في المجالس ثمّ صلّوا كذلك فرادى» «1».

فإنّه يمكن الجمع بأنّ هذه

الخصوصيّة المستنكرة أوجبت نقصان فضل الجماعة، و النهي يكون للإرشاد إلى ذلك، أو على وجه المولويّة بتفصيل قرّر في النهي الوارد في العبادات المكروهة، و مع وجود هذا الجمع لا وجه للطرح أو الحمل على التقيّة.

و أمّا كيفيّة جماعتهم فالذي صرّحت به موثّقة إسحاق بن عمّار- «قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: قوم قطع عليهم الطريق و أخذت ثيابهم، فبقوا عراة و حضرت الصلاة، كيف يصنعون؟ فقال عليه السّلام: يتقدّمهم إمامهم فيجلس و يجلسون خلفه، فيومئ إيماء بالركوع و السجود و هم يركعون و يسجدون على وجوههم» «2»-

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 52 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 286

امتياز هذه الصلاة عن الفرادى بأنّ المأمومين يتعيّن عليهم الإتيان بالركوع و السجود، و الإمام يتعيّن عليه الإيماء بدلهما، و ليس كما في الفرادى من كون التكليف في حالي القيام و الجلوس هو الإيماء.

و بالجملة، هذه الرواية خاصّة بالنسبة إلى كلّ من روايتي القيام موميا و الجلوس كذلك، فإنّه متقيّدة بالجماعة، و هما مطلقان، كما هو الحال بالنسبة إلى عموم العلّة المنصوصة في رواية الجلوس للنهي عن السجود و الركوع بقوله عليه السّلام:

و لا يسجدان و لا يركعان فيبدو ما خلفهما.

فهذه الرواية من حيث الدلالة صريحة و غير معارضة بما ذكر، لأجل خصوصيّته و عموم معارضه، و من حيث السند ليس فيه إلّا عبيد اللّٰه بن جبلّة الواقفي و إسحاق بن عمّار الفطحي، و قد وثّقهما أهل الرجال، و بنينا في الأصول على حجّية أخبار الثقات و إن كانوا خارجين عن المذهب الحقّ.

نعم يبقى معارضتها مع ما دلّ على أنّ

العاري مع عدم الأمن من المطّلع يصلّي قائما، فإنّ النسبة بينه و بينها عموم و خصوص من وجه، فيتعارضان في مورد التصادق، أعني: العاري المصلّي جماعة مع عدم الأمن، فمقتضى الموثّقة أنّه يجلس، سواء كان إماما أم مأموما، و مقتضى ذلك الدليل أنّه يقوم كذلك.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الموثّقة ليس لها إطلاق بالنسبة إلى حال عدم الأمن، و أنّ المفروض فيها أنّه ليس في البين غير الإمام و المأمومين، فحكمت في هذا الموضوع بتقدّم الإمام و جلوسهم جميعا و إيماء الإمام دون من خلفه، حتّى أنّه يمكن أن يقال: إنّها ليست بناظرة إلى حال تعدّد الصفوف أيضا، فلا يستفاد منها بالنسبة إلى حال عدم الأمن نفي و لا إثبات، فينحصر معارضها في ما دلّ على تعيّن الإيماء في حال الصلاة جلوسا، و قد عرفت كونها خاصّة بالنسبة إليه مطلقا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 287

السادسة هل يجوز للعاري البدار إلى الصلاة بمحض دخول الوقت

و لو علم بانقطاع العذر في أثنائه، فضلا عمّا لو شكّ أو ظنّ، أو لا يجوز له إلّا مع اليأس عن زوال العذر إلى آخر الوقت، أو يفصّل بين من علم بالانقطاع فيجب عليه الصبر، و بين غيره فيجوز له البدار؟

مبنى الوجه الثاني أنّ اشتراط الستر لم يعلم سقوطه إلّا بالنسبة إلى من استوعب عذره مجموع الوقت، فغيره مشمول لدليل الشرطيّة، فلو صلّى عاريا ثمّ وجد الساتر و لو في آخر الوقت يجب عليه الإعادة، و هذا الوجه مدفوع بإطلاق أدلّة صلاة العاري خصوصا مع قوله فيها: «و حضرت الصلاة» الظاهر في حضور وقتها بدخول أوّله.

و مبنى الأخير دعوى انصراف أدلّة العاري إلى غير من علم بوجدان الساتر إلى آخر الوقت، و لكنّه يشمل الشاكّ و الظانّ و العالم

بالعدم.

و الحقّ هو الوجه الأوّل، لإطلاق أدلّة العاري بحسب المادّة و إن كان يشكّ في إطلاقها بحسب الهيئة في بعض الموارد، و نقطع بعدمه كذلك في بعض آخر.

و تفصيل ذلك أنّه إذا شرع في الصلاة ثمّ وجد فإمّا أن يكون الوجدان بعد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 288

الفراغ، أو في أثناء الصلاة، و في الأخير قد يحتاج لبسه إلى المنافي، و قد لا يحتاج، و على كلّ منهما إمّا يكون في سعة الوقت أو ضيقه، بحيث لو رفع اليد لا يدرك إلّا ركعة واحدة مع الساتر.

ففي الصورة الاولى أعني: ما إذا وجده بعد الفراغ لا إشكال في أنّه مشمول لإطلاق الهيئة أيضا مع يأسه عن الوجدان إلى آخر الوقت، بل و مع رجائه له، و أمّا مع علمه بالوجدان في آخره، فإطلاق الهيئة و إن سلّمنا كونه مشكوكا، لكنّا نتمسّك بإطلاق المادّة.

كما سيتّضح وجهه عند التمسّك به مع القطع بعدم إطلاق المادّة في الصورة الثانية، أعني ما إذا وجده في الأثناء بجميع أقسامها، فإنّا نفهم من الأدلّة المذكورة أنّ هذه القطعة الماضية في حال عدم وجدان الساتر عاريا لم يشترط فيها الساتر و إن كانت هيئة الأمر بالصلاة عاريا الواقعة في الأدلّة غير شاملة له، لأنّها متوجّهة إلى الصلاة التامّة، و لكن بإطلاق المادّة يستكشف أنّه لا فرق في سقوط شرطيّة الستر بين العاري من أوّل الصلاة إلى آخره، و بين العاري إلى وسطه.

ثمّ إن أمكن ضمّ القطعة الباقية من الصلاة إلى الماضية بقاعدة شرعيّة أو عقليّة حكم بصحّة الصلاة بإطلاق المادّتين، فالأوّل أعني: إمكان الضمّ بالقاعدة الشرعيّة كما إذا كان التستّر غير محتاج إلى المنافي و إن كان في السعة، فإنّه قد مرّ

جريان قاعدة لا تعاد في حقّه.

الثاني، أعني: إمكان الضمّ بالقاعدة العقليّة، كما إذا كان التستّر محتاجا إلى المنافي، و لكن دار الأمر بين تفويت الوقت الاختياري و تبديله بالاضطراري أعني إدراك الركعة مع تحصيل الساتر، و بين تفويت الساتر مع إدراك الوقت الاختياري أعني: الأربع ركعات قبل آخر الوقت، فإنّه إن أمكن إحراز أهميّة الوقت الاختياري من الستر تعيّن إتمام الصلاة عاريا، كما أنّه في صورة العكس يتعيّن القطع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 289

و الإعادة متستّرا، و إن لم يحرز شي ء من الأمرين- كما لعلّه الظاهر- كان المكلّف بالخيار، لأنّه من المتزاحمين، حيث إنّ مطلوبيّة كلّ من الأمرين في حدّ ذاته لو لا المزاحمة بالآخر محرز بإطلاق مادّة دليله، و لا يعلم الأهميّة، فيكون مخيّرا في امتثال أيّهما شاء بحكم العقل.

و بالجملة، ففي هاتين الصورتين تكون الصلاة ملفّقة من قطعة يستفاد حكمها من إطلاق مادّة دليل العاري، و من قطعة يستفاد حكمها من لا تعاد بضميمة إطلاق مادّة دليل الستر، أو من إطلاق مادّة دليل الوقت بضميمة عدم إحراز الأهمّية أو إحراز أهمّية الوقت.

فيكون المقام نظير الصلاة الواقعة في السفينة بعضها في الحضر قبل العبور عن محلّ الترخّص، و بعضها في السفر بعد عبوره، كما إذا عبر عنه عند وصوله إلى التشهّد في الركعة الثانية، فإنّ هذه الصلاة غير مشمولة لشي ء من إطلاق هيئة الخطابين، أعني: خطاب الحاضر بأربع ركعات، و خطاب المسافر بركعتين، و لكنّه يعلم حكمها بإطلاق مادّتيهما.

و كذا الصلاة الواقعة عند آخر الوقت في ما إذا بقي منه بمقدار نصف ركعة مثلا، ثمّ وقعت تتمّتها بعد انقضاء الوقت، فإنّها أيضا غير مشمولة لشي ء من إطلاق هيئة خطاب المؤدّي بالصلاة في

الوقت و لو ركعة، و خطاب القاضي بالصلاة في خارج الوقت، و لكنّه يعلم حكمها من إطلاق المادّتين، و هكذا الحال في مقامنا.

و إن لم يمكن ضمّ البقيّة، كما إذا كان في السعة مع احتياج التستّر إلى فعل المنافي فحينئذ لا محيص عن البطلان، لعدم إمكان التتميم بشي ء من القواعد الشرعيّة أو العقليّة، و إلّا فلا محذور من قبل القطعة المتقدّمة، فيعلم من إطلاق مادّة صلاة العاري أنّها ساقطة الشرط لمكان العراء و إن كان الهيئة لا يمكن شمولها، إذ لا يصدر الأمر من العالم بالعواقب، مع أنّه يعلم بأنّه لا بدّ من رفع اليد قبل الإتمام.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 290

السابعة لو اضطرّ إلى لبس ما يمنع عن الصلاة
اشارة

فيه فللمسألة صورتان:

الاولى: أن يكون المضطرّ إليه جنسا واحدا، كما لو اضطرّ إلى لبس النجس أو المغصوب، أو ما لا يؤكل أو نحو ذلك، سواء كان الموجود منه فردين أو أكثر أو فردا واحدا، و لا إشكال في هذه الصورة في دفع اضطراره بلبسه و جواز صلاته فيه، فإنّ الصلاة لا تترك بحال، و المفروض أنّه خائف على نفسه لو نزعه.

الثانية: أن يكون من الجنس المتعدّد، كأن يكون يخاف على نفسه من التلف لو كان عاريا و كان لباسه منحصرا في فردين أحدهما نجس و الآخر مغصوب، و هذه أيضا لها صورتان:

الاولى: أن يكون في كلّ من الطرفين جهة المنع واحدة.

و الثانية: أن يكون في أحدهما واحدة و في الآخر متعدّدة، و في الصورة الأولى تارة يكون جهة المنع في كلّ منهما ممحّضة في الوضع، كأن يدور الأمر بين لبس النجس أو لبس ما لا يؤكل، و اخرى يكون في كلّ منهما ممحّضة في الحرمة النفسيّة كأن يدور بين المغصوب و بين

زيّ الرجال للنساء أو بالعكس، و ثالثة يكون في أحدهما ممحّضة في الوضع، و في الآخر في الحرمة النفسيّة، كأن يدور بين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 291

المغصوب و النجس.

و في الثانية تارة يكون ذو الجهة الواحدة ذا منع وضعي فقط، كما إذا دار الأمر بين الحرير و النجس، و اخرى يكون ذا منع نفسي كذلك، كما لو دار بين الحرير و المغصوب، ففي كلا قسمي الصورة الثانية الثاني أعني: ما إذا كان أحدهما ذا جهة واحدة و الآخر ذا جهتين قد يقال بتعيّن اختيار ذي الجهة الواحدة، سواء كان المنع فيه وضعيّا أم نفسيّا.

أمّا الأوّل فلأنّه لا محيص له عن إتيان الصلاة المقرونة بالمانع، و الفرق أنّه في أحدهما يبتلى بالمبغوض النفسي أيضا، و في الآخر يستريح من ذلك، فيتعيّن تركه، اللّٰهمّ إلّا أن أحرز من الخارج أهميّة جانب المنع الوضعي في ذلك الطرف المتّحد الجهة، بحيث يقوي على كلتا جهتي الطرف الآخر.

و أمّا الثاني فلأنّه لا محيص له عن ارتكاب المبغوض النفسي، و يبقى أنّه لو لبس أحدهما فقد أتى بالصلاة التامّة، و لو لبس الآخر فقد أخلّ بها.

لا يقال: بل معه أيضا أخلّ بها بناء على المنع من اجتماع الأمر و النهي.

لأنّا نقول: إنّما تخلّ لو كان المنع فعليّا حيث إنّ المنع هنا عقلي، و القدر الذي يحكم بمانعيّته العقل هو النهي الفعلي الموجب لاستحقاق العقوبة، فلو فرض سقوط النهي عن درجة الفعليّة بواسطة التزاحم فلا مانع عن المقرّبية في نفس ذوات الأفعال الصلاتية.

فتحقّق أنّ الأمر يدور بين ترك الصلاة التامّة مع الابتلاء بالمبغوض الذاتي للمولى، و بين إتيان المبغوض الذاتي بدون ابتلاء بترك الصلاة التامّة فلا اضطرار بالنسبة إلى ترك

الصلاة التامّة.

نعم لو فرض العلم من الخارج بأهمّية المنع النفسي في الطرف المتّحد الجهة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 292

بحيث يرجّح على كلتا جهتي ذلك الطرف الآخر كان المتعيّن دفع الاضطرار بالطرف الآخر، هذا مع تعدّد جهة المنع في أحدهما و وحدته في الآخر، كما هو الصورة الثالثة.

و لو كانت في كلّ منهما جهة واحدة كما هو الصورة الأولى بأقسامه الثلاثة المتقدّمة فالحكم دائر مدار إحراز الأهمّية، فإن أحرزت فهو، و إلّا يتخيّر، هذا ما ربما يقال في حكم هاتين الصورتين.

و الصواب أن يقال: لا أثر للوحدة و التعدّد في نظر العقل، إذ ربّ واحد لا يقاومه عشرة، و كذا لا أثر للاختلاف من حيث الوضع و التكليف، فإنّ الوضع أيضا ينتهي إلى المطلوب النفسي، أعني المركّب الصلاتي المشتمل على جميع ما يعتبر فيه جزءا و قيدا، وجوديّا و عدميّا، فالأمر يدور بين فوت هذا المطلوب النفسي الذي يكون مبغوضا نفسيّا و بين مبغوض نفسي آخر و هو التصرّف الغصبي مثلا.

و إن شئت توضيح الحال على وجه الكلّية في جميع صور الدوران بين المطلوبين النفسيين للمولى فاعلم أنّه لا إشكال في ما إذا كان المطلوب في أحدهما بحسب المادّة مقيّدة بغير حال الإلجاء و الاضطرار بحيث كان الدليل منوّعا للمكلّف إلى المختار و الملجإ، كالدليل المنوّع إلى المسافر و الحاضر و كان الآخر مطلقا بحسبها، فإنّه حينئذ و إن كان الإلجاء ابتداء لم يتحقّق إلّا بالنسبة إلى الجامع أعني أحد الأمرين دون شخص أحدهما بحيث يتمكّن من دفعه بأيّهما شاء، و لكنّه بعد ملاحظة النهي المطلق المولويّ الموجود في هذه الحالة في أحدهما حسب إطلاق المادّة يصير مقطوع اليد عن هذا الطرف، و هذا

مع ضميمة اضطراره إلى ارتكاب أحدهما يحقّق إلجائه إلى ذاك الطرف الآخر، و قد فرضنا أنّه في موضوع الملجإ ليس في ذاك الطرف مبغوضيّة أصلا، فينحصر بحكم العقل بعد هذه الملاحظة دفع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 293

اضطراره بهذا الطرف، لسلامته عن تفويت غرض المولى، بخلاف العكس.

كما أنّه لو كان الحال في كلّ من الطرفين من حيث إطلاق المادّة و تقييدها على نسق واحد فهنا يدور الأمر مدار إحراز الأهميّة و عدمه.

و لكن لا بدّ هنا من دفع توهّم ربما يتوهّم في المقام و هو أنّه بعد ورود حديث رفع ما اضطرّوا إليه في الشريعة، و هو عامّ للوضعيّات و النفسيّات، فلا يبقى لنا إطلاق مادّة في شي ء من المطلوبات الشرعيّة، بل كلّها متقيّدة و متنوّعة حسب تنوّع المكلّف إلى المسافر و الحاضر.

و لكن هذا التوهّم مدفوع بأنّ اللازم ممّا ذكر من التنوّع الالتزام بما لم يلتزموا به، و هو أنّه لا شكّ و لا شبهة في أنّه لو أكره الظالم صاحب الدار على بيع الدار و أوعده على تركه بكلمة فحش في الملإ كان حكم الإكراه جاريا على بيعه الصادر حينئذ منه لحفظ عرضه، و هكذا الحال في سائر المباحات التي لها آثار وضعيّة كالصلح و الإجارة و غيرها.

و هذا بخلاف الحال في المحرّمات و الواجبات، فلو أكرهه على ارتكاب شرب الخمر أو إتيان الزنا و أوعده على تركه بكلمة فحش في الملإ لما جاز له ذلك، و هذا بخلاف ما إذا أوعده على الترك بإراقة دمه.

و حينئذ فالذي يظهر من ملاحظة هذا التسلّم أنّ الشارع لاحظ في جميع الموارد قاعدة المزاحمة بين الأغراض الواقعيّة مع الأغراض الناشئة من قبل عناوين الإكراه و

الاضطرار، لا أنّه قيّد مطلوباته الذاتيّة الواقعيّة بعدم هذه العناوين و ليس له إعراض من تلك في صورة وجود أحدهما.

فانقدح أنّه لا ينثلم من قبل حديث الرفع إطلاق مادّة المطلوبات الشرعيّة.

و لا يتوهّم أنّ هذا يوجب التقييد في الحديث و رفع اليد عن إطلاق الإكراه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 294

و الاضطرار، لإمكان أن يقال: إنّه تخصّص لا تخصيص.

ألا ترى أنّه لو أكرهه قاهر على شرب الخمر و أوعده على الترك بكلمة فحش و أكرهه قاهر آخر أقوى على ترك الشرب و أوعده على الفعل بعذاب النار فهو عرفا غير مكره على الفعل، بل مضطرّ و مكره على الترك.

ثمّ في قبال التوهّم المذكور توهّم آخر في خصوص باب الصلاة بالنسبة إلى ما عدا مطلق الطهور من شرائطها و موانعها، فيتوهّم أنّ المكلّف متنوّع إلى المختار و الملجإ، فالشرطيّة و المانعيّة الواقعيّتان مخصوصتان بالأوّل دون الثاني، فمتى دار أمر العبد بين التصرّف الغصبي و بين فقدان صلاته لواحد من شروطها أو وجدانها لواحد من موانعها فهذا من صغريات القاعدة التي أشرنا إليها في أوّل الكلام من تعيّن دفع اضطراره باختيار الصلاة الفاقدة للشرط أو المقرونة بالمانع، لإطلاق المادّة في جانب الغصب و تقييدها بعدم الإلجاء في جانب الصلاة التامّة.

و لكنّ الحقّ خلاف هذا التوهّم أيضا، و ذلك لأنّ التكليف و إن كان منوّعا حسب الحالتين، إلّا أنّه ليس من قبيل التنوّع إلى المسافر و الحاضر بحيث جاز للمكلّف تحصيل أحد العنوانين شاء في حقّ نفسه، كما هو الحال في المسافر و الحاضر، بل ليس له هنا تحصيل الاضطرار اختيارا، كأن يذهب إلى مكان يضطرّ بدخوله إلى الصلاة الناقصة.

فيعلم من هذا أنّ الصلاة الناقصة ليست موازية

مع التامّة في المصلحة، بل أنقص، و ما به التفاوت أيضا يكون بحدّ لزوم الاستيفاء.

فانقدح أنّ المادّة من كلا الطرفين أعني: من طرف الصلاة التامّة و من قبل المبغوض النفسي الآخر كالغصب و نحوه مطلقة لا مجال للتقييد بالإلجاء و الاضطرار في شي ء منهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 295

دوران الأمر بين ما له البدل و ما ليس له البدل

إذا عرفت ذلك فنقول: لو أحرز الأهمية من أحد الجانبين فاللازم دفع الاضطرار بالطرف الآخر، و لو لم يعلم أمكن أن يقال بلزوم دفعه باختيار الصلاة الناقصة، فإنّ الأمر دائر بين أحد مبغوضين ذاتيّين للمولى، أحدهما يكون له بدل على تقدير الارتكاب ينجبر به قلب المولى في الجملة، و الآخر ليس له بدل كذلك.

توضيح المقام أنّه لا إشكال مع مساواة المبغوضين في درجة المبغوضيّة عند المولى في كون المتعيّن اختيار مخالفة ما كان له بدل، كما أنّه لا شبهة مع كون مقدار التفاضل بين البدل و المبدل أشدّ اهتماما عند المولى من عدم وقوع المبغوض الآخر في تعيّن اختيار ما ليس له البدل.

إنّما الكلام مع اشتباه الحال و عدم معلوميّة أحد من الأمرين، فالذي رجّحه الأستاذ دام ظلّه أنّه يتعيّن حينئذ اختيار ما له البدل، لأنّ عدم البدل بالنسبة إلى الطرف الآخر مرجّح في حدّ ذاته لو لا أهمّية الآخر، و المرجّح إذا كان في أحد المتزاحمين معلوما بعنوانه و لم يعلم في الجانب الآخر كذلك و إن كان محتملا بنحو الإجمال كان كافيا في الترجيح.

ألا ترى أنّه لو علم في أحد الغريقين أنّه عالم و لم يعلم حال الآخر و أنّه جاهل أو عالم أو أعلم، فالعقل يحكم بتعيّن إنقاذ معلوم العالميّة؟

فمقامنا أيضا من هذا القبيل، فإنّ عدم وجود البدل للمبغوض في مقابل وجوده

للمبغوض الآخر بنفسه لو لا الأهمّية في الجانب الآخر مرجّح ذاتي، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 296

صار معلوما في أحد الجانبين يحكم العقل بلزوم مراعاته، و لا ينفع احتمال الأهميّة في الجانب الآخر.

و حينئذ فنقول: إذا قال الشارع: لا تغصب، و لم يجعل له على تقدير الإلجاء بفعله بدلا، و قال أيضا: لا تصلّ في النجس، لكن قال: عند الإلجاء يكون تكليفك الصلاة في النجس و تقوم هي مقام الصلاة في الطاهر، و دار أمر المكلّف بين أن يرتكب الغصب و يدرك الصلاة مع طهارة الثوب و بين أن يجتنب الغصب و ترك الصلاة مع طهارة الثوب و لكن يأتي بها في الثوب النجس، فالعقل يكشف كشفا قطعيّا بأنّ المولى جعل في حقّه البدل، أعني أنّه يمنعه من ارتكاب الغصب حتّى يصير ملجأ إلى الصلاة في النجس، فيصير البدل في حقّه مجعولا بدليله بعد هذا المنع.

و من هنا تبيّن الحال في مسألة انحصار ماء الوضوء في المغصوب، فإنّ الأمر دائر بين ترك الصلاة مع الطهارة المائيّة، و بين إتيان الغصب، و لمّا علم من الخارج أهمّية الأوّل عند الشارع استكشفنا كشفا قطعيّا بأنّ الشارع يمنعه من ارتكابه، و بعد هذا المنع يندرج المكلّف في موضوع فاقد الماء.

و ينقدح ممّا ذكرنا أيضا حال فرع آخر، و هو ما إذا لم يضطرّ إلى اللبس، و تمكّن من كونه عاريا، و لكنّه اضطرّ إليه من جهة الصلاة و كان اللباس منحصرا في ما يمنع عن الصلاة فيه، فإنّه إن كان المنع في هذا اللباس تكليفيّا تعيّن الصلاة عاريا بالبيان المتقدّم، فإنّ مبغوضيّة الغصب لا بدل لها، و مبغوضيّة ترك الصلاة متستّرا يكون لها بدل، فيستكشف العقل

كشفا قطعيّا عن أنّ المولى جعل في حقّ هذا المكلّف الذي دار أمره بين هذين المحذورين بدلا، بمعنى أنّه منعه عن ارتكاب الغصب حتّى يصير ملجأ إلى الصلاة بلا لباس و عاريا، فيكون داخلا في موضوع من لم يصب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 297

شيئا يستر به عورته فيشمله حكمه.

و إن كان المنع فيه وضعيّا صرفا فالأمر دائر بين الصلاة مع المانع، و بين الصلاة بلا ستر و عاريا، و كلّ منهما ارتكبه المكلّف يكون موافقة لتكليف بدلي، فإنّ الصلاة مع المانع بدل للصلاة بدونه، و الصلاة عاريا بدل للصلاة متستّرا، فلا ترجيح في البين، و معلوم أنّ الشارع لم يرض في حقّه بترك الصلاة رأسا، فيستكشف من ذلك كشفا قطعيّا أنّه جعل في حقّه أحد الأمرين، إمّا الصلاة بلا شرط، و إمّا مع المانع.

و لو اشتبه المحرّم التكليفي بالمحلّل كذلك كالمغصوب بالمباح و لم يكن لباس آخر فهل المتعيّن عليه الصلاة عاريا للمحافظة على عدم الوقوع في المخالفة الاحتماليّة للنهي عن الغصب، أو الصلاة في أحد الثوبين لتحصيل الموافقة الاحتماليّة لكلّ من النهي المذكور و الأمر بالصلاة مع التستّر؟

و الفرق بين هذا و السابق أنّ الدوران هناك كان واقعا بين واقع التكليفين في مرحلة الامتثال، و أمّا هنا فلا مزاحمة و دوران بين الواقعين، و لكن جهل المكلّف بالموضوعين تفصيلا أوجب عدم إمكان جمعه بين الموافقة القطعيّة لكليهما، و بعبارة أخرى الدوران هنا إنّما هو في المقدّمة العلميّة لكلّ من التكليفين، فلا يمكن الإتيان بمقدّمتيهما معا.

فهل يوجب ما ذكرنا في صورة الدوران بين نفس الواقعين من ترجيح ما ليس له البدل في هذه الصورة أيضا ترجيح جانبه، فيترك في المثال جميع الأطراف حفظا

لعدم الوقوع في مخالفته و يصلّي عاريا، لاستكشاف جعل البدل في حقّه شرعا، أو أنّ الأمر هنا ليس على ذلك المنوال، بل العقل لا يرى فرقا بين صلاته في أحد الثوبين حتّى يكون قد أحرز موافقة أحد التكليفين قطعا و موافقة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 298

الآخر احتمالا، لأنّه إن كان الثوب الذي صلّى فيه مباحا واقعا فقد وافق كليهما، و إن كان مغصوبا واقعا فقد وافق أمر الصلاة و خالف نهي الغصب، و بين أن يترك كلا اللباسين و يصلّي عريانا حتّى يكون قد أحرز الموافقة لأحدهما قطعا و المخالفة للآخر كذلك، و لا يرى ترجيحا للثاني حتّى يوجب استكشافه كشفا قطعيّا عن أنّ المولى جعل البدل في حقّه، و ما دام لم يستكشف ذلك فلا ينفع الصلاة عاريا، لأنّ جعلها بيد الشارع دون العقل كما هو واضح.

ففي المسائل المتقدّمة كان الترجيح الذي حكم به العقل طريقا قطعيّا لاستكشافه من جعل البدل الشرعي، و أمّا هنا فحيث لا ترجيح، و بالفرض أنّ المكلّف غير ملجأ إلى العريانيّة، لأنّه واجد الثوب، غاية الأمر لا يعرفه، فلا دليل على تبدّل تكليفه إلى الصلاة عريانا، بل يختار أحد الثوبين و يصلّي فيه و يترك الآخر، هذا من غير فرق بين سعة الوقت و ضيقه.

و أمّا لو اشتبه المحرّم الوضعي الصرف بالمحلّل كذلك، كما لو انحصر اللباس في ثوبين أحدهما من المأكول و الآخر من غيره و اشتبها فلا إشكال في وسعة الوقت في أنّه واجد الثوب الصحيح و قادر على الصلاة فيه أيضا بالتكرار، فيتعيّن عليه ذلك.

إنّما الكلام في صورة الضيق إلّا عن صلاة واحدة فهنا أيضا يجري الكلام في المسألة المتقدّمة، فإنّه إن صلّى في

أحد الثوبين احتمل أنّه أتى بالصلاة التامّة بجميع قيوده و إن احتمل أنّه قد أخلّ ببعضها أيضا، و لكن إن ترك كليهما و أتى بالصلاة عريانا، فإنّه قد خالف الصلاة التامّة قطعا، فلا وجه لاستكشاف تبدّل التكليف في حقّه مع كونه واجدا للثوب الصحيح، غاية الأمر أنّه جاهله، فالمتعيّن أن يصلّي في أحدهما، لا عاريا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 299

و قد تبيّن ممّا ذكرنا حال ما لو اشتبه المحرّم التكليفي و الوضعي كليهما بالمحلّل كذلك كاشتباه الحرير بما ليس حرير، فإنّ حاله حال اشتباه المغصوب بغيره.

و لو كان المشكوك مشكوكا بالشبهة البدويّة و لم يكن لباس آخر غيره ففيه أيضا هذه الأقسام الثلاثة أعني أنّه تارة يكون المشكوك هو الحرمة الصرفة و اخرى الوضع الصرف و ثالثة التكليف و الوضع.

فإن كان الأوّل ارتفع محذور حرمته بأصالة البراءة، فيرتفع محذور مانعيّته الوضعيّة أيضا بطريق القطع، لأنّه تابع لتنجيز الحرمة التكليفيّة، لا للحرمة الواقعيّة و إن لم يكن منجّزة.

و إن كان الثاني بني على الأصل في كلّي مشكوك المانعيّة بالشبهة الموضوعيّة، فإن قلنا فيه بالبراءة فيجوز الصلاة فيه، بل تجب، و إن قلنا بالاشتغال فسيجي ء الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالى.

و إن كان الثالث فإن كان المانعيّة الوضعيّة في عرض الحرمة التكليفيّة كان الحكم فيه على المبنيين المشار إليهما، لأنّه مشكوك المانعيّة بالشبهة الموضوعيّة.

و إن كانت في طولها و لكنّها تابعة لواقعها، لا لها بوصف الفعليّة و التنجّز جازت الصلاة فيه على كلا المبنيين المذكورين بواسطة إحراز الحلّية الظاهريّة الشرعيّة فيه بأصالة الحلّ، فيخرج عن الحرام تعبّدا، و المفروض أنّ المانعيّة كانت من آثار حرمته، فلا مانع من جهة الحرمة التكليفيّة و لا الوضعيّة.

و إن كانت

في طولها و تابعة لها بوصف الفعليّة و التنجّز جازت الصلاة أيضا على كليهما، بل وجبت، لكنّ الفرق أنّ ارتفاع المانعيّة هناك كان بالأصل الموضوعي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 300

الشرعي، أعني: أصالة الحلّ، و لكن هنا يكون ارتفاعا قطعيّا، لأنّ الحرمة ليست منجّزة، و قد فرض أنّ المانعيّة كانت من آثارها بوصف التنجّز.

هذا تمام الكلام في صورة اشتباه اللباس بالممنوع، سواء كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي أم بدوية بناء على ما هو الحقّ من عدم تقييد في الستر المعتبر في الصلاة من قبل الموانع، بل الموانع اعتبرت في عرض اعتبار الستر، فالصلاة مع أحدها واجدة للستر المعتبر، غاية الأمر أنّها واجدة للمانع أيضا.

و أمّا بناء على خلاف التحقيق الذي أشرنا إليه سابقا من أنّه يسري من قبل الموانع قيد في الستر المعتبر فيكون الصلاة مع أحدها مختلّة من جهتين، من جهة فقد الستر المقيّد بفقد قيده، و من جهة وجود المانع، فلا إشكال بناء على هذا المبنى مع تبيّن الحال و انحصار اللباس في المبنيين المانعيّة في تعيّن الصلاة عاريا، لأنّه غير قادر على الستر المعتبر، و دليل المانعيّة أيضا يمنعه عن هذا الثوب، فيتعيّن عليه الصلاة عاريا قهرا، هذا مع تبيّن الحال.

و أمّا مع الاشتباه فإن كان بالشبهة المحصورة و كان الوقت متّسعا تعيّن عليه التكرار، لأنّه واجد للستر الصحيح و قادر على إحرازه مع عدم المانع بواسطة التكرار كما هو واضح.

و إن كان ضيّقا لا يسع إلّا لصلاة واحدة فالحال فيه كما تقدّم في هذا الفرع بناء على المبنى الآخر، أعني عدم التقييد في الستر، بمعنى أنّه إن صلّى في أحد هذين اللباسين يحتمل أنّه وافق كلا القيدين، قيد الستر و

قيد الصلاة، لأنّه يحتمل أن يكون هو الثوب الخالي عن المانع، و لو تركهما و صلّى عريانا فقد فوّت أحد القيدين قطعا و أدرك الآخر كذلك، و لا وجه للترجيح، فلا طريق إلى استكشاف جعل البدل أعني: الصلاة عريانا في حقّه، بل يتعيّن عليه أن يصلّي في أحدهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 301

و إن كان الاشتباه بنحو الشبهة البدويّة فلا إشكال مع كون المشكوك هو الحرمة التكليفيّة الصرفة، لأنّها مرتفعة الفعليّة بالبراءة، و المانعيّة أيضا مرتفعة قطعا بارتفاع الفعليّة.

كما لا كلام أيضا مع كونه الحرمة المستتبعة للوضع، إمّا بذاتها و إمّا بوصف فعليّتها، كما في الحرير، فإنّه على الأوّل يرتفع المانعيّة بالأصل الشرعي و هو أصالة الحلّ، و على الثاني بالقطع بواسطة ارتفاع وصف الفعليّة كما تقدّم.

و إنّما الكلام في ما لو كان المشكوك هو الوضع وحده بدون التكليف أو معه، لكن في عرضه و في قباله، و لا إشكال هاهنا أيضا على البراءة في الشبهة الموضوعيّة للمانع، فإنّه يصلّي في هذا المشكوك، فإنّه من حيث المانع محكوم بالبراءة، و من حيث الشرط أعني الستر المقيّد يكون شاكّا في القدرة، و مقتضى القاعدة فيه الاشتغال، فلا يجوز الصلاة عريانا.

و أمّا لو بنينا على الاشتغال في الشبهة المذكورة تعيّن عليه الصلاة فيه، لا عاريا، فإنّه إن صلّى في هذا المشكوك يحتمل أن يكون قد أدرك كلا القيدين، قيد الستر و قيد الصلاة و إن كان يحتمل أنّه فوّتهما معا، و إن صلّى عاريا يدرك أحدهما قطعا، و يجعل الآخر كذلك، فلا طريق إلى استكشاف جعل البدل في حقّه، أعني: الصلاة عاريا.

و من هنا يظهر الحال بناء على مبنى عدم التقييد، و بالجملة، فحاله حال أحد

أطراف الشبهة عند عدم وسعة الوقت للتكرار.

و لكنّ الحقّ على كلا المبنيين أعني: التقييد و عدمه مع البناء على الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة للمانع هو الاحتياط بإتيان صلاتين، إحداهما عاريا و الأخرى مع المشكوك في سعة الوقت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 302

و الفرق بينه و بين أحد الأطراف في الشبهة المحصورة أنّه هناك واجد للثوب الصحيح، غاية الأمر أنّه جاهله، فليس موضوعا للصلاة عاريا إلّا بجعل الشارع، و لا طريق إلى استكشافه، و أمّا هنا فيحتمل أنّه كان مكلّفا بالصلاة عاريا بناء على التقييد و كون الثوب ممنوعا واقعا، و يحتمل أنّه كان واجدا لقيدي الستر و الصلاة، فيحتاط من أجل كليهما، بإتيان الصلاتين، هذا بناء على التقييد.

و أمّا بناء على عدمه الذي قلنا في صورة التبيّن و معلوميّة كونه ممنوعا بالتخيير بين الصلاة فيه و عريانا، ففي المشكوك لا بدّ له من الاحتياط أيضا، أمّا عريانا فلأجل احتياط المانع، و أمّا مع اللباس المشكوك فلأجل احتياط الشرط.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 303

البحث الرابع في مكان المصلّي

اشارة

و فيه مباحث:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 305

[البحث] الأوّل لا يعتبر في مكان المصلّي إلّا عدم كونه مغصوبا للعالم بغصبيّته،

المختار، سواء كان غاصبا أم غيره.

و مبنى المسألة إن كان هو المسألة الأصوليّة أعني: جواز اجتماع الأمر و النهي مع تعدّد الجهة و عدم الجواز، فقد استوفينا الكلام في المبنى في الأصول و اخترنا الجواز.

كما أنّ الفروع المتفرّعة على كلّ من القولين أيضا ممّا لا يكاد يخفى، فإنّه على الجواز لا إشكال في صحّة الصلاة مع العلم و الاختيار، فضلا عمّا كان معذورا، غاية الأمر أنّه عصى و أطاع من جهتين، كما أنّه بناء على القول الآخر لا بدّ من التفرقة بين صورتي العصيان و المعذوريّة، فيخصّ البطلان بالأولى دون الثانية، فلا مانعيّة فيها واقعا و إن انكشف بعد العمل كونه مغصوبا، فإنّ المانعيّة ممحّضة في الجهة العقليّة أعني: عدم إمكان كون الحركة الواحدة مقرّبا و مبعّدا للعبد مع اجتماع الشرائط الشرعيّة في العمل بتمامها، فإذا ارتفعت تلك الجهة بواسطة المعذوريّة ارتفع المانع عن الصحّة واقعا، فكشف الخلاف في الطريق الظاهري بعد العمل غير مضرّ بالصحّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 306

نعم هذا بناء على ما قلنا من تمحّض مبنى المسألة الفقهيّة في المسألة الأصوليّة، كما هو المستفاد من الفروع الدائرة بين مشايخنا في هذه الأعصار.

و أمّا لو احتملنا ابتناء المسألة على الجهة الشرعيّة إمّا بأن احتملنا أن يكون الإجماع الذي ادّعوه في هذه المسألة شرعيّا، لا مبنيّا على استناد المجمعين إلى المسألة العقليّة، و إمّا بأن قطعنا بكونه شرعيّا، و لكن قلنا: إنّ المتيقّن منه صورة تنجّز الحرمة، ففي هذه الصورة تكون المانعيّة شرعيّة، كما احتملناه في مانعيّة الحرير، فيكون المتحقّق في الحرمة الغير المنجّزة صرف الاحتمال.

فاللازم حينئذ ابتناء المسألة من حيث جواز الدخول ابتداء

في الصلاة مع مشكوكيّة المكان و عدم أصل دالّ على الحلّ على القولين في مسألة الدوران بين الأقلّ و الأكثر، فمن قال هناك بالاشتغال فيجب عليه أن يفصّل في هذا المقام بين الصلاة و بين سائر التصرّفات من الأكل و النوم و نحوهما، فيجوز هذه التصرّفات في هذا المكان، و أمّا الصلاة فلا بدّ أن توقع في خارجه.

و من حيث كشف الخلاف بعد الفراغ عن العمل بعد القول بالاحتياط، لكن جاز الدخول بأصالة الحلّ على جريان حديث لا تعاد في أمثال هذه الموارد من موارد الجري على طبق الحجّة و عدم اختصاصه بموارد السهو و النسيان، فمن قال بالاشتغال و باختصاص الحديث بالسهو و النسيان يشكل عليه تجويز الدخول مع عدم جريان أصالة الحلّ، و على فرض جوازه لجريانها يشكل الإجزاء بعد ما تبيّن الخلاف.

فالذي سهّل الخطب علينا أنّا اخترنا في الأصول البراءة في المسألة المذكورة.

ثمّ بعد البناء على تمحّض المبنى في المسألة الأصوليّة لو كان المصلّي حينما صلّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 307

معتقدا بجواز الاجتماع، أو مقلّدا لمن اعتقده، و بعد الفراغ تبدّل رأيه أو قلّد من يقول بالامتناع فهل يحكم بصحّة الصلاة الواقعة منه في تلك الحال أو لا؟ الظاهر الثاني، إذ الفرض أنّه عاص و مستوجب للعقوبة بالتصرّف في المكان المغصوب و قد اعتقد بعدم إمكان اجتماع القرب و البعد في الحركة الواحدة الشخصيّة، فلا محيص عن البطلان و إن [كان] هو متخيّلا حال العمل خلافه.

و لو صلّى في المكان المباح باعتقاد المغصوبيّة لكن معتقدا للجواز أو مقلّدا لمن يعتقده، و بعد الصلاة انكشف له كون المكان مباحا و تبدّل رأيه، أو قلّد من يقول بالامتناع، فهل الصلاة في تلك

الحالة محكومة بالصحّة أم لا؟ الظاهر ابتناء المسألة على الوجهين في مسألة التجرّي.

فإن قلنا بأنّ القبيح ممحّض في الفعل القلبي و هو العزم و القصد السيّئ من دون سرايته منه إلى الخارج، غاية الأمر أنّ الأخبار وردت بالعفو عن النيّة الخالية عن ترتّب الأثر الخارجي رأسا، و بقي الباقي من دون أن يكون لهذا الأثر الخارجي على فرض إباحته ذاتا مدخليّة في القبح، فالظاهر الحكم بالصحّة، فإنّ القبح الفاعلي حصل بالقصد و هو أمر باطني، فلا ينافي حصول الحسن الفاعلي من جهة العمل الخارجي، و المفروض خلوّه عن الجهة المبعّدة ذاتا.

و إن قلنا بسراية المقبّحية إلى الخارج بمعنى أنّ العزم الخالي غير مقبّح، بل الفعل الخارجي منشأ لصيرورة الفاعل قبيح الوجه لدى المولى بواسطة تلك النيّة السيّئة فالظاهر الحكم بالبطلان، لأنّه حينئذ يشترك العمل مع العصيان في أنّ الفاعل يصير بسببه قبيحا، و كما أنّ العبادة محتاجة إلى الحسن الفعلي محتاجة إلى الحسن الفاعلي أيضا، فكيف يجتمع الجهتان في الحركة الواحدة الشخصيّة، فتدبّر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 308

ثمّ إنّ الميزان في البطلان هو اتّحاد الكون الصلاتي مع التصرّف المحرّم، و المرجع في تشخيص مصداق هذا المفهوم أعني الحكم بتحقّقه في أيّ موضع و بعدمه في آخر هو العرف، فمتى تحقّق التصرّف في المغصوب عند العرف و كان متّحدا مع الأكوان الصلاتيّة تحقّق البطلان، و إلّا فلا.

مثلا في المصبّ المغصوب لماء الوضوء إن قلنا بأنّ صبّ الماء على العضو إذا أريد به الغسل الوضوئي يكون حرمته من باب كونه مستلزما و جزء أخير للعلّة للتصرّف في الآنية المغصوبة، لا أنّه بنفسه يعدّ تصرّفا فيها، فلا بدّ من التفرقة بين صورة إمكان إيجاد المانع بعد الصبّ،

و صورة عدم الإمكان.

و إن قلنا بأنّ نفس هذا الصبّ على الوجه و اليد محاذيا بهما للآنيّة يعدّ عرفا تصرّفا فيها، كما في ما يسمّى في الفارسيّة «لگن» مقابلا لما يسمّى فيها «آفتابه» فإنّه موضوع لهذا المعنى، أعني: جعل اليد و الوجه محاذيا له حين غسلهما و صبّ الماء عليهما لئلّا ينصبّ على الفرش، فحينئذ لا يفرق بين الصورتين، فإنّ نفس هذا الفعل الوضوئي متّحد مع الغصب المحرّم في الصورتين، فلا بدّ من البطلان فيهما.

و من هنا يظهر الحال في الخيمة المغصوبة المنصوبة في الأرض المباحة، فإنّه يمكن أن يقال ببطلان الصلاة الواقعة تحتها بملاحظة أنّ الخيمة موضوعة لأجل هذه الأكوانات تحتها من القيام و القعود و الركوع و السجود و نحوها، و يكون هذا عند العرف استعمالا لها و تصرّفا فيها.

و هذا بخلاف السقف المبنيّ من الآجر المغصوب على الجدران و الأرض و الهواء المملوكة كلّها، فإنّ الغرض من بناء السقف ليس هو التمكّن تحتها، بل الاستقرار فوقها، كما هو الحال في السرير، و لهذا لو كان سرير مغصوب موضوعا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 309

على أرض مباحة جازت الصلاة و القيام و القعود تحته لمالك الأرض، إذ لا يعدّ أمثال ذلك استعمالا للسرير و لا تصرّفا فيه عرفا.

و أمّا لو كان تمام جدران البيت و سقفه ملتئمة من الآجر الغصبي مع كون الأرض و الهواء مباحين فلا يبعد أن يكون مثل ما إذا كان الخيمة نصفها مغصوبا و نصفها مباحا، فإنّ البيت كالخيمة، فكما أنّ القيام و القعود و الركوع و السجود و نحوها تصرّفات عرفا للخيمة فكذلك للبيت، فإنّه أيضا كالخيمة في الموضوعيّة لأجل أمثال هذه الأكوانات تحته.

و هذا بخلاف ما

إذا كانت الجدران للدار متّخذة من الآجر المغصوب مع كون الفضاء و الأرض مباحين، فإنّه لا يبعد أن يقال بصحّة الصلاة الواقعة في وسط تلك الدار، إذ لا يعدّ هذا تصرّفا في ذلك الجدار، إذ لا يفرق الحال في هذه الأكوان بين كون تلك الأجزاء مبنيّة على شكل الجدار، أو موضوعة بعضها على بعض بدون استعمالها في البناء.

و بالجملة لا بدّ في كلّ مقام من ملاحظة حكم العرف و أنّه هل يعدّ هذه الأكوانات الصلاتيّة تصرّفات في الشي ء المغصوب عند العرف أو لا؟ فإن عدّت كذلك يحكم بالبطلان، و إلّا فلا.

و لو كان المصلّي مشغولا بالصلاة في الأرض المباحة فنصبت عليه قهرا الخيمة المغصوبة و هو في صلاته فلا إشكال حسب ما مرّ في أنّ بقيّة صلاته يعدّ تصرّفا في الخيمة المغصوبة.

و لكنّه يمكن أن يقال بعدم البطلان في هذه الصورة من جهة أنّ ممنوعيّة الإنسان عن حقّ نفسه بواسطة وضع شخص آخر شيئا مغصوبا هناك ممّا لا يمكن الالتزام به.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 310

ألا ترى أنّه لو ألصق شخص الآجر المغصوب في تمام سطح دار الإنسان بحيث لا يمكن رفعها أبدا فهل يمكن الالتزام بأنّه يجب عليه رفع اليد عن داره بالمرّة لكون دخوله و مشيه و سائر أكوانه فيه تصرّفا في آجر الغير بغير رضاه، و هل نفهم من مذاق الشرع ذلك؟

و بالجملة، لا يفهم من الأدلّة المنع من مثل هذا التصرّف المستلزم لمنعه عن حقّه مع عدم قصده إلّا استيفاء حقّ نفسه، دون التصرّف في ملك غيره، غاية الأمر أنّه لا ينفكّ استيفاء حقّ نفسه عن ذلك.

ثمّ إنّه قد حقّقنا في الأصول أنّه بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر و

النهي لا وجه للموازنة بين مصلحة الأمر و مفسدة النهي و ترجيح ما هو الغالب منهما و تقديمه على غيره، بل اللازم مطلقا ترجيح جانب النهي على الأمر و لو فرض مصلحة الأمر أضعاف مفسدة النهي، و ذلك لأنّ النهي مقتض تعيينيّ للخصوصيّة، بمعنى أنّه مقتض لعدم وجود الخاصّ بخصوصيّته في الخارج، و أمّا الأمر فلا اقتضاء له إلّا بالنسبة إلى صرف الوجود، و لا فرق فيه بين هذا الخاصّ و الخاصّ الآخر، فلا معنى لمزاحمة اللامقتضي مع المقتضي، بل اللازم على المولى بملاحظة الجمع بين غرضيه تخصيص أمره بغير مورد النهي، و هذا بمكان من الوضوح.

نعم لو فرض المزاحمة و الدوران و عدم إمكان الجمع صحّ حينئذ الموازنة و تقديم ما هو الأقوى ملاكا من الأمر و النهي.

و لكن هذا- أعني: تقييد الأمر و الإرادة بمورد السلامة عن الابتلاء بالمحرّم و المبغوض التعييني جمعا بين الغرضين- إنّما هو في ما إذا كان المبغوض التعييني قابلا للردع، و أمّا إذا سقط عن قابليّة ذلك مع بقاء أثر النهي من استحقاق العقوبة، كما إذا توسّط الأرض المغصوبة، حيث إنّ المكث بمقدار أقلّ زمان الخروج ممّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 311

لا بدّ منه و يكون المكلّف مضطرّا إليه فلا يقبل الردع عنه، لكنّه معاقب عليه من أثر النهي السابق عن الدخول، لا بمعنى أنّه بسبب ذلك النهي يترتّب العقوبة على هذه الحركات الخروجيّة، بل بمعنى أنّ عقوبة هذه الحركات تترتّب على الدخول المنهيّ.

و بالجملة، لا إشكال في كون هذه الحركة مبغوضة تعيينا، و لكنّه لا مانع من تطبيقها على الأفعال الصلاتيّة في الفريضة في صورة ضيق الوقت بحيث لا يتمكّن من إتيان الصلاة في خارج

الأرض مع حفظ الشرائط الاختياريّة من الاستقرار، و مع وجدانه للشرائط المطلقة مثل الطهور و القبلة المطلقة، أو في النافلة مطلقا.

لا يقال: يلزم اتّحاد المحبوب و المبغوض في الشي ء الواحد الشخصي و قد فرضنا استحالته.

لأنّا نقول: بوجه العرضيّة سلّمنا استحالته، و لكنّا نقول هاهنا باجتماعهما على وجه الترتّب، بمعنى أنّه بعد سقوط المبغوض التعييني عن التأثير في نفس المولى للردع لا مانع في تأثير الجهة المحسّنة الصلاتيّة في نفسه الشريفة للأمر و البعث.

ألا ترى في الموالي و العبيد العرفيّة أنّه لو كان مطلق أكوان عبد في دار مخصوصة مبغوضا لمولاه فألقى العبد نفسه في تلك الدار بحيث لا يمكنه الخروج منها أبدا فهو في هذا الحال و إن كان يعاقب على جميع أكوانه حتّى على تحريك يده، و لكنّه لو اشتغل بخياطة الجبّة للمولى مع كمال حاجته إلى الجبّة فهل ترى من نفسك أنّه لا يمكن من المولى محبوبيّة هذه الخياطة لكونها متّحده مع المبغوض التعييني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 312

و أيضا لو ألقى المكلّف نفسه من شاهق إلى الأرض، و لكنّه يمكنه أن يلقي نفسه إلى الأرض المباحة مع إمكان إلقائه إلى المغصوبة فهل ترى من نفسك أنّ المولى يرفع اليد من هذا الغرض الممكن التحصيل أيضا بمجرّد اختيار العبد بعصيانه تفويت غرض آخر منه، أعني: إقدامه على هلاك نفسه.

و أيضا لو ألقى المكلّف نفسه في دار مغصوبة بحيث لا يمكنه الخروج منها إلى آخر العمر، فهل ترى أنّ الصلاة ساقطة منه إلى آخر العمر؟

فتحقّق من مجموع ما ذكرنا أنّ المبغوضيّة التعيينيّة إنّما يوجب صرف الأمر عن موردها ما دامت قابلة للاستيفاء للمولى بتوسّط الردع و النهي، و أمّا بعد سقوطها عن ذلك

و لو بسوء اختيار العبد فلا جهة لسقوط الجهة الأخرى المحسّنة عن التأثير في أحداث الأمر، فهو مأمور مع كونه معاقبا على هذه الحركة الشخصيّة، و قد اجتمعت المحبوبيّة و المبغوضيّة على نحو الترتّب.

و الحاصل:

أنّ الإنسان ربّما يبعث الغير إلى ما هو مبغوض له تعيينا، ألا ترى أنّك إذا أبغضت كون شخص في دارك بجميع أنحائه و لكنّه دخل فيها فإنّك تبعثه بكمال الشدّة نحو الخروج، مع أنّه مبغوضك، و كذلك مع شدّة بغضك لوصول يد الأجنبي إلى بدن زوجتك أو بنتك أو سائر محارمك لو أشرفت واحدة منهنّ على الغرق في الماء، فأنت تبعث الأجنبي إلى أخذ بعض أعضائها بيده و إخراجها من الماء، إلى غير ذلك ممّا ليس بعزيز.

و لعلّ هذه المسألة كسابقتها، أعني: تقييد مورد الأمر بغير مورد النهي في صورة إمكان استيفاء المولى كليهما من العبد من البديهيّات، فليس في تلك مجال الموازنة، كما أنّه ليس في هذه مجال التقييد للأمر و الإمساك عنه و عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 313

انقداحه في نفس المولى و إن صدر الخلاف في كليهما عن بعض الأساطين قدّس اللّٰه أسرارهم.

هذا كلّه في صورة عصيانه من أوّل الدخول.

و أمّا لو كان الدخول بإذن المالك و نهاه عن الكون بعد ذلك فلا إشكال في جواز تطبيق الحركة الخروجيّة على فعل النافلة الذي يجوز ترك الاستقرار فيه اختيارا و لو في سعة الوقت.

و أمّا الفريضة فلا بدّ من التفصيل فيها بين السعة و الضيق:

فمع الأوّل لا يجوز، لاشتراط الاستقرار.

و أمّا مع الثاني فالكلام فيها ما تقدّم حرفا بحرف في صورة الدخول العصياني، فلا احتياج إلى الإعادة.

و لو شرع في الصلاة في دار الغير بإذنه العامّ أو

الخاصّ ثمّ عدل في أثناء الصلاة عن الإذن و نهاه عن الكون، فإن كانت نافلة جاز إتمامها في حال الخروج، و إن كانت فريضة، فإن كان الوقت واسعا فالأمر دائر بين أن يبقى مستقرّا في ملك الغير بغير رضاه محافظة على إتمام العمل و ترك قطعه و على الاستقرار المعتبر في حال الاختيار، و بين أن يصلّي خارجا محافظة على ترك المكث المحرّم و ترك القطع كذلك، و بين أن يقطع و يأتي بالصلاة في خارج الدار محافظة على ترك المكث المحرّم و رعاية للاستقرار المعتبر في حال الاختيار.

و الظاهر من هذه الوجوه هو الأخير إمّا لعدم الدليل على أصل حرمة الإبطال، و إمّا لأنّ المتيقّن منه صورة إمكان الإتمام مع الشرائط المعتبرة التي منها الاستقرار، و الظاهر من الوجهين هو الثاني.

و إن كان الوقت ضيّقا فلا سبيل إلى الإبطال، لأنّه يوجب فوت الوقت،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 314

فيدور بين أن يصلّي خارجا محافظة على حرمة الغصب، أو مستقرّا محافظة على شرطيّة الاستقرار، و الظاهر هو الأوّل، لما أشرنا إليه في بعض مباحث الساتر من أنّه متى دار الأمر بين الغرضين للمولى و كان لأحدهما بدل و لا بدل للآخر تعيّن اختيار ما له البدل بأن ينتقل إلى بدله، و هنا كذلك، فإنّ الاستقرار له بدل، بخلاف الغصب، فيتعيّن عليه الصلاة خارجا، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 315

المبحث الثاني هل يشترط في صلاة كلّ من الرجل و المرأة عدم محاذاة الآخر
اشارة

مطلقا، أو بشرط عدم تقدّمه، و إلّا فالمتأخّر يختصّ بالبطلان، أو لا يشترط مطلقا و إنّما الثابت مجرّد الكراهة؟ قولان منشؤهما اختلاف الأخبار في الجواز و المنع، بل في نفس

أخبار المنع أيضا اختلاف، فإنّها بين طوائف:
الأولى: ما ظاهره الفساد و الأمر بصلاة أحدهما أوّلا ثمّ الآخر بعده،

كصحيحة العلاء عن محمّد عن أحدهما عليهما السّلام «قال: سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصلّيان جميعا؟ فقال عليه السّلام: لا، و لكن يصلّي الرجل، فإذا فرغ صلّت المرأة» «1».

و الثانية: ما ظاهره المنع إلّا مع وجود الحاجز بينهما

الظاهر في كونه مانعا عن الرؤية في تمام الحالات، و لا محالة لا بدّ أن يكون بمقدار القامة، كرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السّلام في «المرأة تصلّي عند الرجل؟ قال عليه السّلام: إذا كان بينهما حاجز فلا بأس» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 316

و الثالثة: ما ظاهره المنع إلّا مع وجود الحائل قصيرا كان أم طويلا

و لو بمقدار شبر، بل كلّ ما يكفي لأجل المنع عن المارّة مثل السبحة و العصا إذا كان موجودا بينهما جازت صلاتهما بأيّ كيفيّة كانت كرواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام «قال:

سألته عن الرجل هل يصلح أن يصلّي في مسجد قصير الحائط و امرأة قائمة يصلّي و هو يراها و تراه؟ قال عليه السّلام: إن كان بينهما حائط طويل أو قصير فلا بأس» «1».

و من هذا القبيل رواية ليث المرادي «قال: سألته عن الرجل و المرأة يصلّيان في بيت واحد، المرأة عن يمين الرجل بحذاه؟ قال عليه السّلام: لا، إلّا أن يكون بينهما شبر أو ذراع، ثمّ قال عليه السّلام: كان طول رحل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ذراعا و كان يضعه بين يديه إذا صلّى يستره ممّن يمرّ بين يديه» «2».

فإنّ الاستشهاد بطول رحل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله المراد به ارتفاعه عن الأرض شاهد على إرادة مقدار الشبر و الذراع الواقعين في الصدر بحسب الطول و أنّ كونه ذراعا أيضا لا مدخليّة له، بل الملاك هو أو الشبر، بل يمكن أن يقال: إنّه لو استفدنا من الأخبار الواردة في كفاية مثل السبحة و العصا لأجل الممانعة عن

المارّة نحكم بمقتضى هذا الاستشهاد بكفاية فصله بين الرجل و المرأة في مسألة المحاذاة أيضا.

هذا إن فهمنا كون المناط في الذراع و الشبر كونهما ساترا للمارّة، و إن لم نفهم العلّية فاللازم الاقتصار بهذا المقدار الطولي، لكن هذا مقتضى ظاهر الخبر و إن كان لم يفت بذلك أحد، أعني بكفاية هذا المقدار من الحائل لرفع المنع و الفساد.

و لو لا ملاحظة معارضة أخبار المنع بأخبار الجواز كان هذا وجه جمع حسن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 317

بين اختلاف نفس أخبار المنع بأن يقال: إنّ الرافع للمنع أحد أمور:

الأوّل: الحائل البالغ بمقدار القامة، و الثاني: الحائل البالغ طولا بمقدار الشبر أو الذراع، و الثالث: البعد بمقدار عشرة أذرع كما هو أيضا مفاد بعضها و إن كان في بعض آخر التعبير بأكثر من عشرة، و لكن مقتضى الجمع أنّ اعتبار الزيادة لأجل المقدّمة العلميّة، حيث إنّ تحصيل العلم بحصول البعد بمقدار العشرة متوقّف غالبا على الفصل بالزيادة، لندرة العلم بذلك المقدار بلا زيادة أصلا، و الرابع: أن يتقدّم الرجل بمقدار صدره، كما هو مفاد بعضها الآخر.

و لكنّ العمدة ملاحظة مقابلتها بأخبار الجواز، كمرسلة عليّ بن فضّال عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل و المرأة تصلّي بحذاه؟ قال عليه السّلام:

لا بأس» «1».

و كصحيحة جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال: لا بأس أن تصلّي المرأة بحذاء الرجل و هو يصلّي، فإنّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله كان يصلّي و عائشة مضطجعة بين يديه و هي حائض

و كان صلّى اللّٰه عليه و آله إذا أراد أن يسجد غمز رجليها فرفعت رجليها حتّى يسجد» «2».

و التعليل بفعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و إن لم نفهم وجه مناسبته لا يمنعنا عن استفادة أصل الحكم من صدرها، فإنّها صريحة في جواز محاذاتهما حال الصلاة، أو نقول: إنّ وجه المناسبة أنّ وجه توهّم المنع عن المحاذاة أو تقدّم المرأة على الرجل توجّه حواسّ الرجل إلى جانب المرأة، و هذا المعنى لا تفاوت فيه بين اشتغال المرأة بالصلاة و عدمه، فلو كان مانعا عن صحّة الصلاة لما كان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله مصلّيا مع اضطجاع عائشة أمامه.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 318

و على كلّ حال فالرواية خالية عن الخدشة سندا، لاعتباره، و دلالة، لصراحته في الجواز، فمقتضى الجمع هو حمل ما تقدّم على الكراهة، و أمّا تقييد هذا الإطلاق بصورة وجود الحائل أو البعد ففيه ما تقدّم منّا سابقا «1» من أنّ التصرّف في هيئة المقيّد أهون من التصرّف في مادّة المطلق الوارد في مقام البيان.

نعم في بعض روايات المنع الحكم بإعادة صلاة المرأة التي صلّت بحيال الرجل الذي كان مصلّيا قبلها، و هو في البطلان أظهر من سائر الأخبار المشتملة على صرف النهي أو وجود البأس، و هو رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهما السّلام «قال: سألته عن إمام في الظهر، فقامت امرأته بحياله تصلّي و هي تحسب أنّها العصر، هل يفسد ذلك على القوم؟ و ما حال المرأة في صلاتها و قد كانت صلّت الظهر؟

قال عليه السّلام: لا يفسد ذلك على القوم و تعيد المرأة» «2».

و في الرواية احتمالات:

الأوّل: أن يكون منشأ سؤال السائل عن صلاة القوم و عن صلاة المرأة اقتدائها العصر بالظهر، و هذا قد علمنا من الخارج أنّه غير مضرّ لا بصلاة المرأة و لا بصلاتهم، فلا يمكن حمل السؤال و الجواب عليه، لمنافاة الأدلّة الخارجيّة.

و الثاني: أن يكون منشؤه وقوف المأموم بحيال الإمام مع اعتبار وقوفه متأخّرا عنه، و هذا أيضا و إن كان لا يأبى عنه الجواب، لكن جلالة السائل تأبى عن احتمال فساد صلاة القوم بمجرّد وقوف مأموم واحد بحيال الإمام.

و الثالث: أن يكون المنشأ وقوف المرأة في صلاتها بحيال الرجل، و هذا يصلح له السؤال و الجواب معا.

______________________________

(1) تقدّم في الأخبار الواردة في كيفيّة صلاة العاري، منه عفي عنه.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 319

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فوجه التفرقة بين المرأة و الرجل في البطلان و العدم هو تقدّم صلاة الرجل على صلاة المرأة، فتكون الرواية دليلا على أنّ المتأخّر هو المخصوص بالبطلان، هذا.

و لكن بعد ملاحظة إمكان أن تكون الإعادة مستحبّة لأجل استيفاء الصلاة الخالية عن المنقصة فلا توجب هذه الرواية قدحا في الجمع الذي ذكرنا، مضافا إلى تأيّده باختلاف الأخبار المانعة في التحديد بالعشرة أذرع أو بمقدار الشبر، أو بمقدار الذراع، فإنّه بعد ملاحظة أخبار الجواز يصير هذا المعنى أعني: اختلاف مراتب هذه الدرجات في الكراهة أظهر من المعنى الذي ذكرناه سابقا من حمل الذراع و الشبر على الحائل البالغ طوله هذا المقدار و إن كان لولاها كان ذلك أحسن لرفع الاختلاف عمّا بينها، و لكن

بعد الحمل على الكراهة كان هذا الاختلاف محمولا على مراتب الكراهة، بل و أمارة عليها، كما جعلوا من أمارات استحبابيّة أوامر النزح الواردة في باب البئر اختلاف الأخبار في المقدار المنزوح.

و قد يستشهد لهذا القول بصحيحة الفضيل المرويّة عن العلل عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: إنّما سمّيت مكّة بكّة، لأنّه تبكّ فيها الرجال و النساء، و المرأة تصلّي بين يديك و عن يمينك و عن يسارك و معك و لا بأس بذلك، و إنّما يكره في سائر البلدان» «1».

و الحقّ أنّ الاستشهاد بها للقول بالكراهة مبنيّ على إحدى مقدّمتين، إمّا الالتزام بظهور مادّة الكراهة في الأخبار في المعنى المصطلح، أو ثبوت الإجماع على عدم الفصل في البطلان و الصحّة بين مكّة و سائر البلدان، فإنّه حينذاك لا بدّ من حمل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 320

قوله عليه السّلام: «يكره» على المعنى الاصطلاحي، إذ حمله على الحرمة ينافي الإجماع المذكور.

و أمّا لو منعنا كلتا المقدّمتين فلا شهادة فيها أصلا، غاية الأمر أنّها تصير مخصّصة لسائر الأخبار المانعة بغير بلدة مكّة زادها اللّٰه شرفا و تعظيما، سواء حملنا المنع فيها على التحريم أو الكراهة.

و ممّا يدلّ على الجواز أيضا خبر عيسى بن عبد اللّٰه القمّي «سئل الصادق عليه السّلام عن امرأة صلّت مع الرجال و خلفها صفوف و قدّامها صفوف؟ قال: مضت صلاتها و لم تفسد على أحد و لا تعيد» «1».

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأوّل: هل البطلان على القول به مختصّ في صورة التعاقب بالمتأخّر أو يعمّه و المتقدّم،

كما في صورة التقارن؟

قد يقال بالأوّل مستندا إلى أنّ الموجب للبطلان في صلاة كلّ من الرجل و المرأة إنّما هو الصلاة الصحيحة الصادرة من الآخر بحذاء صاحبه، دون الأعمّ منها و من

الباطلة، و حينئذ فهذا الملاك موجود في صلاة المتقدّم، فإنّها صلاة صحيحة، فتصير مانعة عن صحّة صلاة المتأخّر، فإذا صارت صلاة المتأخّر باطلة خرجت عن قابليّة إبطالها لصلاة المتقدّم، و تصير كصلاة المحدث.

و لكن فيه من الفساد ما لا يخفى، فإنّا لو استفدنا من الأخبار كون المحاذاة من

______________________________

(1) لم نظفر بهذا الخبر بعد الفحص عنه في مظانّه من كتب الأخبار، و إنّما نقلناه من بعض الكتب الفقهيّة لبعض الأجلّة الأخيار، قدّس أسرارهم، منه عفي عنه و عن والديه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 321

موانع الصلاة فكما يعتبر عدمها في أوّل الصلاة كذلك يعتبر عدمها في أثنائها، كما هو الحال في سائر الموانع من الحدث و غيره، و إذن فكيف يأتي المتقدّم ببقيّة صلاته و الحال أنّه قد تحقّقت المحاذاة بالنسبة إليها.

و بالجملة، حال هذه البقيّة حال ابتداء الصلاة إذا اتّفق مع المحاذاة، فكما أنّا نحكم ببطلان الابتداء، كذلك نحكم ببطلان هذه البقيّة.

و الحقّ أن يقال: الصحّة المعتبرة هي الصحّة مع قطع النظر عن المحاذاة، و هي متحقّقة في صلاة كلّ من المتقدّم و المتأخّر، لكن لا يستفاد من الأخبار إلّا فساد عنوانين:

أحدهما: صلاة الرجل و المرأة متقارنين، كما هو المستفاد من قولهم:

«لا يصلّيان».

و الثاني: صلاة المتأخّر، كما هو المستفاد من النهي الوارد عن صلاة واحد من الرجل و المرأة إذا كان الآخر مشتغلا بالصلاة، فإنّ المستفاد من هذا النهي فساد صلاة المتأخّر دون المتقدّم، فصلاة المتقدّم تبقى خارجة عن كلا العنوانين، فتكون صحيحة بمقتضى أصالة البراءة عند الشكّ في القيد و الجزء كما قوّيناها في محلّه.

نعم إن قلنا بأنّ قوله: «يصلّيان» مطلق بالنسبة إلى صورة التعاقب كان دليلا على فساد صلاة المتقدّم أيضا، و

لكن في إطلاقه منع، بل هو منزّل على صورة المقارنة، لا بمعنى أن يكون همزة «اللّٰه أكبر» من كلّ منهما و «راؤه» مقارنين لهما من الأخرى حتّى يكون فردا نادرا، بل و لو على نحو المقارنة في الإمام و المأموم، فإنّه لا إشكال في صدق أنّهما يصلّيان معا بذلك، و أمّا بالنسبة إلى غير هذه الصورة ممّا إذا لم يصدق المقارنة عرفا فلا إطلاق للعبارة، و العبارة الأخرى أيضا لا يستفاد منها إلّا النهي عن صلاة المتأخّر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 322

و حينئذ فاستثناء صورة الفصل بعشرة أذرع أو وجود الحائل لا بدّ و أن يتعلّق بما استفيد ممنوعيّته، و قد عرفت أنّه في صورة المقارنة، كلاهما، و في صورة التعاقب، خصوص الأخيرة، فكأنّه قيل: في صورة المقارنة، كلتاهما فاسدة إلّا مع الفصل أو الحائل، و في صورة المعاقبة، الأخيرة فاسدة إلّا مع أحد الأمرين، فلو فرض ارتفاع الحائل في أثناء الصلاة فإن أمكن تحصيله بسرعة دخل في كبرى المسألة المتقدّمة من التكشّف في الأثناء، و قد قلنا بعدم استبعاد جريان «لا تعاد» فيه، و إن لم يمكن إلى آخر الصلاة و كان الوقت متّسعا فالمنع في صورة مقارنة الصلاتين يعمّهما، و في صورة المعاقبة يختصّ المتأخّرة شروعا، فإنّه قضيّة ما ذكرنا من أنّ الاستثناء مخصوص بما استفيد من الأخبار ممنوعيّته و هو خصوص الأخيرة في صورة المعاقبة، فلو ارتفع الحائل فالأخيرة هي التي قد تحقّق مانعها، و أمّا السابقة شروعا فلم يجعل لها مانع حتّى يقال بتحقّق المانع بالنسبة إليها، فتدبّر.

الثاني: النهي في هذا الباب إن كان من قبيل النهي في العبادة،

بمعنى أنّ العبادة من حيث الأجزاء و القيود المعتبرة في ماهيّتها شرعا كانت تامّة، و إنّما المانع من جهة عدم حصول القرب

المعتبر فيها، فإنّ مع وجود النهي و كونه موجبا للعقوبة و البعد لا يمكن حصول القرب، فلا إشكال أنّ الحكم بالبطلان يختصّ بصورة تنجّز النهي بالعلم به موضوعا و حكما، و عدم الغفلة و النسيان بشي ء منهما، إذ مع الجهل إمّا بالموضوع أو بالحكم مع كونه على وجه يعذر فيه أو الغفلة أو النسيان بواحد من الأمرين لا عقوبة و لا بعد، و المفروض تماميّة العبادة بحسب ما يعتبر في ماهيّتها خارجا من الأجزاء و القيود الشرعيّة، فلا مانع من الصحّة بوجه.

و أمّا إن كان من قبيل النواهي الوضعيّة التي تكون للإرشاد إلى المانعيّة مثل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 323

النهي عن الصلاة في ما لا يؤكل و نحوه فلا إشكال في أنّه مع الغفلة و النسيان و الجهل موضوعا أو حكما تكون الصلاة مقرونة بالمانع واقعا، فيتوقّف الحكم بالصحّة على القول بشمول حديث لا تعاد لجميع هذه الأقسام، أو عموم حديث الرفع في ما لا يعلمون بالنسبة إلى الموضوع و الحكم.

و الأوّل يظهر منهم رضوان اللّٰه عليهم عدم الالتزام بشموله للجهل و الغفلة و النسيان للحكم، بل و عدم شموله لغير النسيان، للموضوع، و لا يبعد دعوى الانصراف فيه بالنسبة إلى الموضوع، أمّا اختصاصه بخصوص النسيان فلا، كما أنّه على فرض تسليم الاختصاص بنسيان الموضوع فاستفادة الإجزاء في غفلة الموضوع من حديث الرفع في ما لا يعلمون مشكلة، و شموله للجهل به و إن كان مسلّما لكن على وجه الحكم الظاهري الغير المفيد للإجزاء، كما هو المدّعى، و قد أشير إليه في بعض المباحث المتقدّمة.

الثالث: لو شكّ في تحقّق المحاذاة المانعة في حال الصلاة

فلهذا الشكّ صورتان:

الاولى: أن يكون حاصل قبل الفراغ، و الثانية: أن يكون بعده، و لا إشكال في الثانية

في جريان قاعدة الفراغ، إلّا إذا قطع بالغفلة حال العمل، فيتّحد حكمه حينئذ مع ما قبل الفراغ.

و محصّل الكلام في ما قبل الفراغ الذي هو الصورة الاولى أنّه تارة يكون الشكّ في أصل تحقّق المحاذاة مع المرأة المصلّية إمّا بأن يشكّ في أصل وجود المرأة، أو في كونها مصلّية بعد الفراغ عن وجودها، أو في وصف المحاذاة بعد الفراغ عن الوجود عن الصلاة، أو في حصول البعد المعتبر مع الفراغ عن الصلاة و المحاذاة.

و اخرى يكون في حصول المقارنة أو السبق و اللحوق، و على الثاني في تميّز

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 324

السابق عن اللاحق، كأن يلتفت في أثناء الصلاة أنّ امرأة قامت بحذائه يصلّي و لكن لا يعلم أنّها قارنته أو سبقته أو لحقته.

أمّا الصورة الأولى بتمام أقسامها فالمرجع فيها أصالة عدم المانع إذا فرض قيدا للمصلّي، فإنّ المحاذاة الخاصّة مشكوكة الوجود مع سبقها بالعدم، نعم لو فرض اعتبار عدمها قيدا في الصلاة فليس لهذا الاتّصاف حالة سابقة متيقّنة، كما ليست لنقيضه أيضا، فلا محيص عن الاحتياط، و أمّا أصالة عدمها بلا اتّصاف ثمّ حمل هذا المستصحب على الصلاة الوجدانيّة فهي من الأصول المثبتة.

و أمّا الصورة الثانية فإن قلنا بأنّ موضوع المانعيّة هو الصلاة الصحيحة للمرأة إذا وقعت في محاذاة الرجل فأصالة الصحّة في صلاة المرأة حينئذ حاكمة على أصالة عدم المانع في صلاة الرجل، و لو قلنا بجريانها في ذاتها بأن جعلناه قيدا في المصلّي فإنّ الشكّ في وجود المانع و عدمه مسبّب عن الشكّ في صحّة صلاة المرأة و بطلانها، فإذا حكمنا بأصالة الصحّة بصحّة صلاتها ارتفع الشكّ المسبّب، فلا مجال لأصالة عدم المانع، فنحكم ببطلان صلاة الرجل.

و أمّا إن

قلنا بأنّه لم يؤخذ في الموضوع الصحّة الفعليّة و من جميع الجهات فالمشكوك حينئذ تحقّق المحاذاة الخاصّة بخصوصيّة المقارنة أو سبق صلاة المرأة، فالأصل عدم الخصوصيّة، و لا يعارض بأصالة عدم سبق الرجل، لأنّه لا أثر له، إذ الأثر مرتّب على وجود المقارنة أو سبق الامرأة، فينفى بنفي هذا الموضوع، و سبق الرجل من جملة المقارنات، لعدم الموضوع و ليس بنفسه موضوعا.

و بالجملة، فجريان أصل عدم المانع أعني: السبق أو المقارنة مبنيّ على أخذ عدم هذين قيدا في المصلّي، و أمّا إذا أخذا وصفا للصلاة فلا، كما تقدّم، نعم لا بأس بالتمسّك بالاستصحاب التعليقي المتقدّم نظيره في مسألة الشكّ في اللباس و عدم العلم ممّا يؤكل أو غيره، فراجعه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 325

المبحث الثالث في خصوص مسجد الجبهة من مكان المصلّي، و الكلام فيه في طيّ مقامات:
[المقام] الأوّل يشترط في مسجد الجبهة كونه طاهرا،
اشارة

بخلاف موضع سائر بدن المصلّي حتّى مساجده، فهنا دعويان:

الاولى: اعتبار الطهارة في مسجد الجبهة.

و الثانية: عدمه في موضع سائر البدن.

أمّا الدليل على الاولى- فمضافا إلى ما نسب إلى جمله من الأصحاب دعوى الإجماع عليه- صحيحة ابن محبوب عن الرضا عليه السّلام أنّه «كتب إليه يسأله عن الجصّ يوقد عليه العذرة و عظام الموتى يجصّص به المسجد، أ يسجد عليه؟

فكتب عليه السّلام: إنّ الماء و النار طهّراه» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 326

تقريب الدلالة أنّه يظهر منها- سؤالا و جوابا- ارتكازيّة اشتراط طهارة موضع الجبهة في الأذهان، حتّى أنّه بعد الفراغ عن ذلك كان الاشتباه ممحّضا في خصوص هذا الجصّ و أنّه هل يصير بذلك نجسا حتّى لا يصحّ السجود عليه أو لا، فالسؤال إنّما هو عن تحقّق الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى، و الإمام عليه السّلام أيضا

قرّره على هذه الكبرى و أجاب بحصول الصغرى بواسطة تطهير الماء و النار إيّاه، و نحن و إن لم نأخذ بهذا التعليل أعني: تطهير الماء و النار للشي ء النجس، و لكنّه لا ينافي الأخذ بذلك الأمر الذي فهمناه من تسالم السائل و الإمام عليه السّلام، بل و من الجواب من مفروغيّة اعتبار طهارة موضع الجبهة.

و يحتمل أن يكون المراد من التطهير بهما أنّ المفروض أنّه لم يصل إلى الجصّ المذكور غير الماء و النار، و هما لا ينجسان، بل من شأنهما أن يكونا مطهّرين، و على كلّ حال لا إشكال في استفادة ما ذكرنا من تسالم المتخاطبين عليه و إن لم نفهم المراد المطابقي من الكلام، هذا.

و أمّا الثانية فيدلّ عليها الأخبار المستفيضة، منها: صحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام أنّه «سأله عن البيت و الدار لا يصيبهما الشمس و يصيبهما البول و يغتسل فيهما من الجنابة، أ يصلّي فيهما إذا جفّا؟ قال عليه السّلام: نعم» «1».

و صحيحته الأخرى «عن البواري يصيبها البول، هل يصحّ الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال عليه السّلام: نعم لا بأس» «2».

و صحيحته الأخرى أيضا «قال: سألته عن البواري يبلّ قصبها بماء قذر،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 327

أ يصلّي عليها؟ قال عليه السّلام: إذا يبست فلا بأس» «1».

و موثّقة عمّار «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر، هل يجوز الصلاة عليها؟ فقال عليه السّلام: إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها» «2».

و صحيحة زرارة عن أبي

جعفر عليهما السّلام: «قال: سألته عن الشاذكونة عليها جنابة أ يصلّي عليها في المحمل؟ قال عليه السّلام: لا بأس» «3».

و خبر ابن أبي عمير «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أصلّي على الشاذكونة و قد أصابتها الجنابة، قال عليه السّلام: لا بأس» «4».

و يعارض هذه الأخبار موثّقة ابن بكير «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الشاذكونة يصيبها الاحتلام، أ يصلّي عليها؟ قال عليه السّلام: لا» «5».

و موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: سئل عن الموضع القذر يكون في البيت و غيره فلا تصيبه الشمس، و لكنّه قد يبس الموضع القذر؟ قال عليه السّلام:

لا يصلّى عليه و اعلم موضعه حتّى تغسله، و عن الشمس هل تطهّر الأرض؟

قال عليه السّلام: إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثمّ يبس الموضع فالصلاة في الموضع جائزة، و إن أصابته الشمس و لم ييبس الموضع القذر و كان رطبا فلا تجوز الصلاة حتّى ييبس، و إن كان رجلك رطبا أو جبهتك رطبة أو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 328

غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلّ على ذلك الموضع حتّى ييبس، و إن كان غير الشمس أصابه حتّى ييبس فإنّه لا يجوز ذلك» «1».

و خبر زرارة «قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن البول يكون على السطح أو

في المكان الذي يصلّى فيه؟ فقال عليه السّلام: إذا جفّفته الشمس فصلّ عليه فهو طاهر» «2».

و في خبر آخر سأل زرارة و حديد بن الحكم أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: «السطح يصيبه البول أو يبال عليه يصلّى في ذلك المكان؟ فقال عليه السّلام: إن كان تصيبه الشمس و الريح و كان جافّا فلا بأس به إلّا أن يكون يتّخذ مبالا» «3». هذا.

و لكن مقتضى الجمع حمل هذه على الكراهة، لصراحة ما تقدّم في الجواز.

ثمّ إنّ التقييد بالجفاف الواقع في أخبار الجواز يحتمل فيه وجهان:

الأوّل: أن يكون لأجل مراعاة طهارة البدن و اللباس و عدم سراية النجاسة من الموضع النجس إليهما، فلا يكون مسوقا لتضييق موضوع الحكم المذكور في القضيّة، بل لأجل تنبيه المخاطب على حفظ مطلوب آخر كان هو ارتكازيّا له و هو طهارة البدن و اللباس، نظير ما يقوله واحد من المتشرّعة للآخر، حيث يقيّد جواز الصلاة في المكان النجس بالجفاف لأجل ملاحظة هذا الأمر المرتكز بين الطرفين، لا لإفادة قيد زائد.

و الثاني: أن يكون لأجل تضييق موضوع الحكم في القضيّة أعني: أنّ جواز الصلاة في المكان النجس مشروط بكونه جافّا، فيكون حاله حال قيد الجفاف

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 329

الواقع في دليل مطهّرية الأرض للقدم و النعل، حيث إنّه لا مطهّرية مع الرطوبة، فكذلك ها هنا لا جواز مع الرطوبة.

و تظهر ثمرة الوجهين في مقامين:

الأوّل: في ما إذا كان الموضع النجس رطبا برطوبة غير مسرية، فعلى الأوّل لا بأس بالصلاة فيه،

لأنّ المفروض عدم سراية النجاسة إلى الثوب و البدن، و على الثاني لا يجوز، لأنّ المفروض تقييد الجواز بالجفاف، و هو غير حاصل، و لهذا نقول بعدم مطهّرية الأرض الرطبة بالرطوبة الغير المسرية.

و الثاني: في ما إذا كان الموضع نجسا بنجاسة معفوّ عنها كأقلّ من الدرهم من الدم، و كما إذا أوجب نجاسة ما لا يتمّ به الصلاة من الثوب، فإنّه لا مانع من الصلاة على الأوّل بخلاف الثاني، للإطلاق.

و الحقّ من الوجهين هو الأوّل، إذ أوّلا ارتكازيّة لزوم طهارة الثوب و البدن في أذهان السائلين يمنع عن انسباق تضييق الموضوع إلى الذهن من ذكر قيد الجفاف، بل المنسبق إلى الذهن هو كونه لمراعاة هذا الأمر المرتكز.

و ثانيا: سلّمنا عدم انصراف ذلك، و لكنّه لا أقلّ من الإجمال و تساوي الاحتمالين، فلا يكون دليلا على التقييد و التضييق، فيبقى ما دلّ على الجواز بنحو الإطلاق بحاله سليما عن المقيّد.

بقي في المقام أمور:
أحدها: هل المعتبر في مسجد الجبهة طهارة جميع ما يقع عليه السجود،

أو يكفي طهارة مقدار الواجب من السجدة و إن كان الزائد نجسا؟ الذي يستفاد من الدليل- و هو الإجماع و الارتكاز، و لا يستفاد الزائد عليه- هو الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 330

و أمّا التمسّك للأوّل بإطلاق كلماتهم في معقد الإجماع حيث ادّعوا الإجماع على طهارة مسجد الجبهة و لو فرضنا وقوع هذه اللفظة أو ما يؤدّي مؤدّاها في رواية معتبرة لكان مقتضى إطلاقه اعتبار الطهارة في جميع ما يقع عليه السجود، و المفروض أنّ معقد الإجماع أيضا بحكم الرواية، غاية الأمر لا بألفاظه، بل بمضمونه، ففيه أنّه فرع استفادة القطع بصدور هذا المضمون من المعصوم عليه السّلام، و هو أوّل الكلام، و إنّما المتيقّن اعتبار الطهارة بنحو الإجمال في موضع السجدة، و من المعلوم

أنّ المتيقّن من هذا المجمل ليس إلّا اعتبار طهارة مقدار الواجب من سجود الجبهة و يبقى الزائد عليه بلا دليل.

فنحكم بمقتضى إطلاق الأخبار المتقدّمة الدالّة على جواز الصلاة على الموضع النجس الشامل لموضع السجود بجواز نجاسة الزائد، و على فرض عدم الإطلاق فالمرجع هو الأصل العملي و هو البراءة، كما هو الحال في كلّ قيد أو جزء مشكوكين على ما حقّق في الأصول.

و قد يقال بالفرق بين التعبير بأنّه يعتبر في محلّ السجدة كذا و بين التعبير بأنّه يجب السجود على كذا، فمفاد الأوّل اشتراط ذلك الشرط في تمام المحلّ، و مفاد الثاني كفاية مقدار ما يتحقّق به السجود، و هذا هو الفارق بين المقام و بين اعتبار عدم كونه مأكولا و ملبوسا، فالتعبير الواقع في المقام في معاقد الإجماعات هو اعتبار الطهارة في مسجد الجبهة، و في ذلك المقام هو اعتبار وقوع السجود على غير المأكول و الملبوس من نبات الأرض أو نفس الأرض، و لهذا يكتفى بالسجود على المأكول و غيره معا، و لا يكتفى بالسجود على الطاهر و النجس كذلك.

مثلا: تارة يقال: اضرب زيدا و يكفي في امتثاله وقوع الضرب على الزيد و العمرو معا، و اخرى يقال: ليكن محلّ ضربك زيدا و لا يكفي إلّا أن يكون تمام محلّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 331

الضرب زيدا، من دون مشاركة الغير.

هذا ما يستفاد من كلام بعض الأساطين قدّس سرّه في هذا المقام تأييدا لاعتبار طهارة تمام موضع السجود بناء على المعاملة مع معقد الإجماعات معاملة متون الروايات.

و لكن استشكل فيه شيخنا الأستاذ دام ظلّه العالي بما حاصله عدم الفرق بين التعبيرين المذكورين، بل المعيار أمر آخر و هو أنّه إن كان

السجود على المأكول في ذلك المقام و على النجس في ما نحن فيه منهيّا عنه فاللازم عدم الاكتفاء باتّصاف بعض الموضع في كلام المقامين.

مثلا: إذا قيل: ليكن مسجدك نظيفا و لا بدّ أن لا يكون نجسا، و كذلك قيل:

ليكن مسجدك أرضا أو نباتا غير مأكول و لا ملبوس و لا بدّ أن لا يكون مأكولا أو ملبوسا، أو قيل: يجب إيقاع السجود على الشي ء النظيف أو على غير المأكول، لا على النجس أو المأكول، فلا بدّ من عدم الاكتفاء بالسجدة على الأمرين في كلا المقامين على كلا التعبيرين، كما أنّه لو لم يكن نهي عن غير المتّصف فاللازم الاكتفاء في كليهما على كلا التعبيرين.

و الذي ينبغي أن يقال: إنّ المعيار هو القصد، فإن قصد السجدة على مجموع الأمرين فلا يتحقّق الامتثال على كلا التعبيرين، إذ كما لا يصدق أنّ محلّ السجدة غير المأكول أو شي ء نظيف لا يصدق أيضا أنّه سجد على غير المأكول أو على النظيف، نعم يصدق أنّ مسجده مشتمل على ذلك أو أنّه سجد على شي ء مشتمل عليه، و لكنّ المفروض أنّ الدليل دلّ على لزوم كون المسجد كذا، أو وقوع السجود على كذا، و هو غير كونه مشتملا على كذا.

و إن قصد السجدة على خصوص الطاهر منهما أو الغير المأكول كذلك فيتحقّق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 332

الامتثال، من غير فرق بين التعبيرين، إذ كما يصدق أنّه سجد على الطاهر أو الغير المأكول يصدق أنّ محلّ سجوده الطاهر و غير المأكول، و لا يصدق أنّ محلّ سجوده النجس و المأكول أيضا، أو أنّه سجد عليهما أيضا.

وجه [ذلك] أنّ عنوان السجود كعنوان الخضوع و التعظيم من العناوين التي يتقوّم وجودها في

الخارج بالقصد، ضرورة أنّ مجرّد إصابة الجبهة الأرض من دون قصد أو بقصد الحكّ مثلا لا يسمّى سجودا أو خضوعا قطعا، و هذا غير قصد القربة المعتبر من حيث العباديّة، بل هو معتبر في السجدة المحرّمة كالسجدة للصنم أيضا، و هو واضح.

و حينئذ فنقول: إذا قصد بتحطيط الجبهة الخضوع بوقوعها على التراب الطاهر دون غيره ممّا بجنبه من غير التراب و من التراب النجس فهو و إن وصل جبهته بذلك الشي ء الغير التراب أو التراب النجس، لكن لا بعنوان السجود و الخضوع، و الذي تحقّق فيه هذا العنوان إنّما هو مماسّة الجبهة للتراب الطاهر، فإنّه الذي فرضنا توجّه القصد نحو إيقاع الجبهة عليه بعنوان الخضوع، فمطلق إصابة الجبهة و إن كان صدقه مشتركا بين الطاهر و النجس و التراب و غيره، و لكن بعنوان السجوديّة لا يصدق إلّا على خصوص التراب الطاهر دون ما بجنبه.

فلو فرض أنّ لسان الدليل الأمر بالسجود على التراب الطاهر و النهي عن السجود على غير التراب و على النجس لكان الامتثال حاصلا أيضا، كما هو واضح.

نعم لو فرض أنّ لسان الدليل هو الأمر بإصابة الجبهة حال السجود التراب الطاهر و النهي عن إصابتها غير التراب و غير الطاهر لما حصل الامتثال في مفروض البحث، و لكنّه خلاف الواقع، و على فرضه أيضا لا فرق بين التعبير بالاشتراط في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 333

المسجد أو في السجود.

فحاصل الكلام أنّا بعد البناء على المعاملة مع معقد الإجماع معاملة المتون لا بدّ أن لا نفرّق بين التعبيرين، سواء على ما ذكرنا من الاعتبار بالقصد كما هو الحقّ، أم على غيره، فتدبّر، و عرفت أنّ الحقّ عدم المعاملة أوّلا، و الدوران مدار

القصد بعد التسليم ثانيا، و اللّٰه هو العالم بحقائق الأحكام.

الأمر الثاني: إنّ المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس

إذا كان بين أطراف محصورة مع سائر الشرائط المقرّرة في محلّها، و أمّا المشتبه بين أطراف غير محصورة فلا بأس به، كما حقّق تفصيل ذلك أيضا في الأصول.

الأمر الثالث: إذا لم يتمكّن إلّا من السجود على الموضع النجس،

فهل ينتقل من السجود إلى الإيماء، أو يغتفر نجاسة موضع السجود حينئذ و يجب عليه السجود على النجس؟

لا إشكال في تعيين الثاني إن قلنا بأنّ طهارة الموضع شرط في الصلاة في عرض اعتبار السجدة فيها جزءا، فيعتبر في الصلاة أمور منها السجود و منها طهارة موضعه، فإنّه إذا تعذّر رعاية هذا الأمر الأخير فحيث إنّ الصلاة لا تترك في حال يتعيّن الإتيان بالبقيّة، و هي الصلاة مع السجدة على النجس، و لا حاجة على هذا إلى التشبّث بذيل قاعدة الميسور، بل نفس القطع بعدم سقوط الصلاة بحال كاف في المطلوب كما هو واضح.

و أمّا إن قلنا باعتباره طهارة المسجد في السجود الذي هو جزء الصلاة، فالذي أخذ جزء للصلاة ليس هو مطلق السجود، بل السجود الخاصّ، و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 334

السجود مع طهارة المحلّ، فمع تعذّر هذه الخصوصيّة يتعذّر ما هو الجزء للصلاة.

فتارة يقال بأنّ الدليل الدالّ على اعتبار الطهارة ليس له إطلاق شامل لحال عدم التمكّن، بل المتيقّن منه حال التمكّن، فيبقى إطلاق ما دلّ على جزئيّة السجود بحاله، فلا إشكال على هذا أيضا في السجود على النجس من دون وصول النوبة إلى قاعدة الميسور.

و اخرى يقال بأنّ الدليل المذكور مطلق شامل لجميع الأحوال، فلو لم يكن لدليل جزئيّة السجدة إطلاق شامل لهذا الحال ننتقل إلى الإيماء بلا حاجة إلى التشبّث بالقاعدة المذكورة أيضا.

نعم إنّما نحتاج إلى التشبّث بذيلها إذا قلنا بكلا الإطلاقين، أعني: إطلاق شرطيّة الطهارة و إطلاق جزئيّة السجدة، فإنّ

من المقطوع عدم محفوظيّة كلا الإطلاقين، إذ اللازم من محفوظيّتهما ارتفاع التكليف بالصلاة و هو مقطوع العدم، فنعلم إمّا بارتفاع اعتبار الذات، أو بارتفاع اعتبار القيد، فيكون المعيّن للثاني أحد أمرين، إمّا استصحاب بقاء وجوب السجدة، حيث إنّ الموضوع العرفي باق و لم يتغيّر، أو قاعدة الميسور، حيث إنّ الفاقد يعدّ عرفا ميسورا للواجد.

و لكن في كليهما نظر، أمّا الاستصحاب فلما تقرّر في الأصول من عدم حفظ وحدة الموضوع إذا كان من المفاهيم الكلّية الغير المتلبّسة بالوجود الخارجي، و توضيح ذلك يطلب من محلّه.

و أمّا قاعدة الميسور فهي و إن كانت سليمة عن الإشكال المذكور في الاستصحاب فإنّا نقول في كيفيّة التمسّك بها على حسب ما استفدناه من كيفيّة استشهاد الإمام عليه السّلام بآية نفي الحرج لإسقاط قيد المباشرة في المسح في باب الوضوء حيث إنّ المستفاد من استشهاده عليه السّلام أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ أيّ شي ء من أجزاء

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 335

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 335

الوضوء و قيوده نشأ من قبله الحرج فلا بدّ من نفيه و إبقاء الباقي، و هو في موضع السؤال قيد المباشرة، فهو المرفوع دون أصل المسح، فكذلك نقول في المقام: إنّه عند تعذّر طهارة المسجد فالصلاة الجامعة للأجزاء و الشرائط غير مقدورة، و لكنّ العجز عنها ليس مسبّبا إلّا عن العجز عن قيد طهارة المسجد، فلا بدّ من رفع اليد عن هذا القيد فقط، مع إبقاء أصل السجود بحاله.

و بالجملة، فالاستشهاد على فرض السلامة عن الخدشة الآتية لا إشكال فيه.

و لكنّ العمدة هو الخدشة في التمسّك بالقاعدة لأمثال هذه المقامات، إذ من المحتمل

كون المراد بها عدم سقوط ما ثبت استقلالا، لا ثبوتا مقدّميا، و هو إنّما ينفع في المطلوبات المستقلّة، بمعنى أنّه إذا فرض العجز عن واحد منها فلا يوجب سقوط الباقي، فيكون إرشادا إلى ما يحكم به العقل، لا حكما شرعيّا، و لم يعلم في الفقه موضع كان مستند فتوى الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم منحصرا في هذه القاعدة دون غيرها حتّى يستكشف عن ثبوت قرينة دالّة على إرادة المطلوبات المقدّمية و الحكم التعبّدي الشرعي من الكلام المزبور و خفيت علينا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 336

المقام الثاني لا يجوز السجود على غير الأرض و نباتها و القرطاس
اشارة

كالجلود و الصوف و الشعر و الوبر و الريش و نحوها، و يستثنى من جواز السجود على النبات ما أكل أو لبس، فهنا أربع دعويات:

الاولى: جواز السجود على الأرض.

و الثانية: جوازه على نباتها، إلّا المأكول و الملبوس.

و الثالثة: جوازه على الكاغذ.

و الرابعة: عدم جوازه على غير هذه.

أمّا الدليل على الأوليين فصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال له: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه و عمّا لا يجوز، قال عليه السّلام: السجود لا يجوز إلّا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلّا ما أكل أو لبس» «1».

و عن الصدوق في العلل نحوه، و زاد عليه: «فقلت له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال عليه السّلام: لأنّ السجود خضوع للّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يكون على

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 337

ما يؤكل و يلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة اللّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على

معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها، و السجود على الأرض أفضل، لأنّه أبلغ من التواضع و الخضوع للّٰه عزّ و جلّ» «1».

و خبر الأعمش المرويّ عن الخصال عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين «قال: لا يسجد إلّا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلّا المأكول و القطن و الكتّان» «2». إلى غير ذلك، فلا إشكال في جواز السجود على الأرض و نباتها.

في تعيين ما يراد بالأرض

إنّما الكلام في تعيين ما يراد بالأرض، فإنّ لهذا اللفظ إطلاقات عند العرف، فتارة يطلق و يراد به ما يقابل السماء و جهة العلوّ، كما يقال: سقط على الأرض، أو ضربه على الأرض، و لا يفرق في هذا الإطلاق بين المفروش بالفرش و نحوه و غير المفروش و المخلوط بالأجزاء الغير الأرضيّة مثل الصوف و الشعر و نحوها، و غير المخلوط، ففي جميع هذه الأفراد يصدق بهذا الإطلاق.

و اخرى يطلق و يراد به ما يتعارف في مقام المشي عليه، فإنّه يكون غير

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، و 1 من الباب 17 من هذه الأبواب.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 338

مفروش بالفرش و نحوه، و لكن مخلوط بالتبن و الحبوبات و الشعر و الخرق و الريش و نحوها، فإذا قيل: الأرض يطهّر بعضه بعضا، بمعنى أنّ النعل و القدم النجسين يطهران بالمشي على الأرض.

و ثالثة يطلق و يراد به نفس الأرض الخالصة عن كلّ ما سواه، و هو المراد في باب التيمّم و في هذا الباب، و المعيّن من هذه الوجوه هو القرينة الخارجيّة، و هي في المقام المنع

عن السجود على الريش و الشعر و الوبر و غير ذلك، أو يقال: إنّ الأرض حقيقة في الخالصة، و إنّما يراد به أحد الأوّلين بالقرينة، فلا يحتاج إرادة الثالث في المقام إلى إقامة القرينة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المرجع في تشخيص أنّ أيّ شي ء أرض و أيّ شي ء ليس بها هو العرف، كما هو الحال في تشخيص النبات أيضا، و لا إشكال مع الجزم بأحد الطرفين و لو فرض صدق عنوان المعدن أيضا، فإنّ المعدن في هذا الباب ليس له عنوان كما في باب الخمس، فلا مهمّ لنا في تشخيص أنّه في أيّ مقام يصدق هذا العنوان و في أيّ مورد لا يصدق، بل ندور مدار صدق اسم الأرض، فمعه لا نبالي بصدق المعدن كما في طين الأرمني و ما يسمّى بالفارسيّة «گل سر شور» و مع عدم صدق الاسم لا يجوز السجود كما في الذهب و الفضّة و نحوهما و لو فرض عدم صدق المعدنيّة.

أمّا لو شككنا في الصدق العرفي من جهة الشكّ في سعة دائرة المفهوم و ضيقها، لا من جهة الأمور الخارجيّة، كما إذا شككنا في الآجر و الخزف و نحوهما أنّهما هل خرجا بواسطة طروّ الحالة الثانويّة العارضة عليهما بواسطة الطبخ عن الحقيقة الأوّلية و صارا شيئا آخر و موضوعا مغايرا كمغايرة الحيوان مع النطفة، و الحاصل أنّه هل تحقّق فيهما الاستحالة و تبدّل الحقيقة، أو أنّهما باقيان على حقيقتهما الأوّلية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 339

و إنّما الحادث تغيير بعض أوصافهما، فهل الأصل يقتضي جواز السجود أو عدمه، و كذلك لو حصل هذا الشكّ بالنسبة إلى النبات.

قد يقال بالجواز تارة بواسطة استصحاب بقاء الحقيقة الأوّلية الأرضيّة أو النباتيّة و

عدم تحقّق الاستحالة، و اخرى بواسطة أصالة البراءة بعد تسليم عدم جريان الاستصحاب، فإنّ المقام من موارد الشكّ في القيد الزائد، فإنّ المتيقّن الأخذ في المكلّف به هو الأعمّ ممّا يشمل الخزف و الآجر مثلا، و أمّا خصوص ما لا يشملهما فالتقييد به مشكوك، فمنفي بالأصل على ما هو الحقّ في الدوران بين المطلق و المقيّد.

و قد يدفع الأوّل بأنّ المفروض هو الشكّ في بقاء الهذيّة المحفوظة في الحالتين، و إلّا فلو فرض القطع ببقائها لما احتجنا إلى الاستصحاب، بل نحكم بمقتضى إطلاق الدليل الدالّ على السجود على الأرض، فإنّ المفروض احتمال حصول الاستحالة على نحو استحالة النطفة حيوانا، فلو كان هكذا فالمتحقّق عند العرف وجود حدث بعد أن انعدم وجود آخر، و لا يقولون: هذا كان نطفة في قطعة من الزمان فصار حيوانا، فلا يرون مشارا إليه محفوظا بين الحالتين، و إذا شكّ في هذا فقد شكّ في الموضوع، فلا مجرى للاستصحاب، و الحاصل أنّ الهيولى الذي يراه العقل لا يراه العرف.

و يدفع الثاني بأنّ المورد الذي يقول فيه القائل بالبراءة في المسألة المذكورة إنّما هو خصوص ما إذا كان الجامع واقعا تحت الخطاب و شكّ في أنّه هل وقع الخصوصيّة تحته أيضا أو لا، فمقتضى الأصل عدم لزوم الخصوصيّة.

و أمّا إذا شكّ في أنّ العنوان الذي وقع تحت الخطاب هل هو عبارة عن واجد الخصوصيّة أو أعمّ منه و من فاقدها، كما لو علمنا بأنّ الخطاب تعلّق بمفهوم الحيوان،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 340

و لكن شككنا في أنّه بحسب مفهومه هل أخذ فيه خصوصيّة الناطقيّة أو لا؟ فليس لنا أن نقول: إنّ القدر المتيقّن من هذا الخطاب هو الجامع، و الخصوصيّة مشكوكة،

فينفى بالأصل، بل الشكّ ممحّض حينئذ في مقام الامتثال، فإنّ الجامع نقطع بأنّه لم يتعلّق به خطاب أصلا على تقدير كون المفهوم مأخوذا فيه الخصوصيّة إلّا بنحو الاندماج و الاندكاك، كاندماج الحيوان في مفهوم الإنسان.

فإن قلت: ما الفرق بينه و بين مفهوم الصلاة إذا تردّد بين المركّب من العشرة أو التسعة؟

قلت: إن كان مفهومها عبارة عن الأمر البسيط فهو أيضا مثل ما نحن فيه، و أمّا إذا كان عبارة عن نفس المركّب من الأجزاء فليس ما يشار إليه و يقال: إنّه مقطوع و مردّد بين العشرة و التسعة إلّا لفظ الصلاة، و أمّا المعنى فليس إلّا التسعة المقطوعة و الزائد المشكوك.

و الحاصل: إنّه فرق بين وقوع الخطاب أوّلا على المركّب أو المقيّد فشكّ في جزء أو قيد، فالانحلال في متعلّق الخطاب إلى المقطوع و المشكوك حاصل، و يكون مجرى للبراءة، و بين توجّهه إلى العنوان البسيط المنتزع من المركّب أو المقيّد، فإنّ الانحلال في متعلّق التكليف حينئذ غير ثابت، فلا يمكن أن يقال: هذا المقدار متيقّن و الزائد مشكوك.

نعم الانحلال في مقام تطبيق ذلك العنوان البسيط، فلا يعلم أنّه منطبق على المقيّد أو على الأعمّ منه و من الفاقد، أو على المركّب التامّ، أو الأعمّ منه و من الناقص، و لا شكّ أنّ الجاري حينئذ هو الاشتغال.

نعم، لو فرض كون التكليف متعلّقا بالطبيعة بنحو الاستغراق كما لو قال:

أكرم كلّ فاسق فتردّد الأمر بين أنّه خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منه و من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 341

مرتكب الصغيرة فالأفراد المرتكبة للكبيرة مقطوعة، و الأفراد المرتكبة للصغيرة فقط مشكوكة فيرجع إلى البراءة.

و أمّا إذا كان متعلّقا بنحو صرف الوجود كما إذا تعلّق إرادته بإكرام

الفاسق بهذا النحو فلا يجوز الاكتفاء في مقام الامتثال بإكرام مرتكب الصغيرة فقط، بل لا بدّ من الاحتياط بإكرام مرتكب الكبيرة الذي هو المقطوع المصداقيّة.

و سرّ ذلك ما ذكرنا من الفرق بين ما إذا كان الجامع بنحو الاندماج في العنوان البسيط متعلّقا للخطاب، و بين وقوعه مستقلا متعلّقا له، غاية الأمر نشكّ في انضمام ضميمة إليه أيضا أو لا، فالذي يحكم بالبراءة فيه في المسألة المذكورة هو الثاني، و أمّا الأوّل فلا محيص فيه عن الاشتغال.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الأرض عنوان بسيط نشكّ في أنّ قيد عدم الطبخ بحدّ الخزفيّة أو الآجريّة مأخوذ فيه أو لا، و التكليف متعلّق بالسجود عليه بنحو صرف الوجود، فلا بدّ في مقام الخروج عن عهدته [من] الاقتصار على ما هو المصداق له قطعا، هذا كلّه حكم الشكّ.

و أمّا الكلام في الخزف و الآجر فالظاهر عدم الشكّ فيهما، لعدم خروجهما عن صدق اسم الأرض، فإنّهما تراب طبخ، و كما أنّ اللحم المطبوخ لا يخرج بالطبخ عن اسم اللحم فكذا هذان، و من المعلوم أنّ المراد بالأرض أعمّ من القطعة المنفصلة منها، و لا يختصّ بأجزائها حال الاتّصال بها.

و لهذا كان مولانا الصادق صلوات اللّٰه عليه لا يسجد إلّا على تربة الحسين عليه السّلام على ما في الوسائل عن إرشاد الديلمي، و ورد الأخبار بجواز السجدة على الخمرة المعمولة من سعف النخل.

و الحاصل: إنّ الأرض في هذا الباب و في التيمّم واحد، و يراد بها في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 342

الموضعين الأعمّ من الاتّصال و الانفصال، و بعد عدم إيجاب الطبخ خروج الشي ء عن حقيقته فاللازم جواز التيمّم و السجود على الخزف و الآجر، و

على فرض الشكّ فالاستصحاب فيهما جار بلا إشكال، لبقاء الموضوع العرفي، أعني: استصحاب جواز السجدة قبل الطبخ.

و من هنا يظهر حال في الجصّ و النورة «1»، سواء في الجصّ قبل الطبخ أم بعده، فإنّهما أوّلا: غير مشكوك كونهما أرضا و إن صدق عليهما اسم المعدن أيضا، لأنّك عرفت أنّ المعدن في هذا الباب و في التيمّم لا موضوعيّة له، و إنّما نقول في الجواهر و الملح و الزجاج بالمنع، للخروج عن اسم الأرض، لا لكونها معدنا، و ثانيا: على فرض الشكّ نجري الاستصحاب الحكمي.

و لا إشكال في عدم جواز السجدة على الصاروج باعتبار اشتماله على الرماد، و هو و إن خرج عن النبات، و لكن لا يسمّى باسمه و ليس الأجزاء الأرضيّة متميّزة عن غيرها، و قد ورد المنع عن السجود عليه في بعض الروايات أيضا.

و كذا الحال في الزجاجة، فإنّها و إن خرجت عن الأرض، و لكنّها استحالت إلى حقيقة أخرى كالذهب و الفضّة و أمثالهما.

و لكن الإشكال في معنى رواية وردت فيها، و هي ما رواه الكليني و الشيخ رحمهما اللّٰه عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين أنّ «بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الماضي صلوات اللّٰه عليه يسأله عن الصلاة على الزجاج، قال: فلمّا نفذ كتابي إليه تفكّرت و قلت: هو ممّا أنبتت الأرض و ما كان لي أن أسأل عنه، قال: فكتب عليه السّلام إليّ: لا تصلّ على الزجاج، و إن حدّثتك نفسك أنّه ممّا أنبتت

______________________________

(1) آهك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 343

الأرض، و لكنّه من الملح و الرمل و هما ممسوخان» «1». و في رواية كشف الغمّة:

قال: فإنّه من الرمل و الملح مسخ.

و الإشكال بناء على الرواية

الاولى من جهات:

الاولى: تقريره عليه السّلام السائل في زعم أنّ الزجاج من قسم النبات، و الثانية:

أنّ المستفاد منها عدم جواز السجود على الرمل، و الثالثة: كونهما ممسوخين، فإن كان المراد من المسخ خروجهما عن الصورة الأرضيّة فهو في الملح واضح و لا يصحّ في الرمل.

و يمكن أن يكون المراد من قوله عليه السّلام: و لكنّه إلخ نفي توهّم النباتيّة، فالمعنى أنّه ليس الأمر كذلك، لأنّه من الملح و الرمل، فيتوجّه الإشكال بأنّه و إن كان ليس نباتا، و لكنّه من الأجزاء الأرضيّة، فأجاب بقوله عليه السّلام: و هما ممسوخان، يعني أنّه مع ذلك لا يجوز السجود عليه، لأنّهما ليسا باقيين على الصورة الأرضيّة، أمّا الملح فواضح، و أمّا الرمل فلصيرورته زجاجا، فالمراد من مسخ الرمل إنّما هو بالنسبة إلى الحالة الفعليّة، و اللّٰه تعالى هو العالم.

و كيف كان فالرواية الأخرى خالية عن الإشكال رأسا.

و أمّا القير فلا إشكال في خروجه عن اسم الأرض و صيرورته حقيقة أخرى، و لكن اختلفت الأخبار في جواز السجود عليه و عدمه.

فمن المجوّزة: خبر عمرو بن سعيد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام «قال:

لا تسجد على القير و لا على القفر و لا على الساروج» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 344

و صحيح زرارة «قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: أسجد على الزفت يعني القير؟

فقال عليه السّلام: لا و لا على الثوب الكرسف، و لا على الصوف، و لا على الشي ء من الحيوان، و لا على طعام، و لا على شي ء من ثمار الأرض، و لا على

شي ء من الرياش» «1».

و من المانعة: خبر معاوية عمّار «قال: سأل المعلّى بن خنيس أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا عنده عن السجود على القفر و على القير، فقال عليه السّلام: لا بأس به» «2».

و مثله خبره الآخر «3»، و خبره الثالث «4»، و خبر إبراهيم بن ميمون «5»، و في خبر منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: القير من نبات الأرض» «6».

و لو لا مخافة الإجماع المنقول و الشهرة المحقّقة على خلاف الأخبار المجوّزة لكان مقتضى الجمع العرفي هو الحمل على الكراهة، و هو أولى من حمل أخبار الجواز على تقيّة السائل و ضرورته، فإنّ ذلك مضافا إلى عدم الشاهد ينافيه ما في الخبر الأخير من التعليل بأنّه من نبات الأرض الذي يراد به إمّا الحقيقة، فيكون شارحا للمراد من النبات في الأخبار الأخر و أنّه كلّ ما يخرج من الأرض كخروج النبات، و لازمة جواز السجدة على الماء المنجمد، فإنّه أيضا يخرج من الأرض مع استقرار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 5.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 6.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 7.

(6) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 345

الجبهة عليه، و إمّا التعبّد و الإلحاق الحكمي.

و الحاصل أنّ العمدة مخالفة أخبار الجواز للمشهور، و بذلك يسقط عن درجة الاعتبار و الحجّية.

هذا كلّه

هو الكلام في الأرض.

و أمّا نباتها [الأرض]

فقد عرفت النصّ الدالّ على جواز السجود عليه مع استثناء ما أكل منه أو لبس، و لكن في بعض الأخبار استثناء الثمرة من النبات، فيقع التعارض بين العقد الإثباتي لكلّ منهما و بين العقد السلبي في موردي الافتراق، فإنّ مقتضى العقد الإثباتي في الأوّل جواز السجود على غير المأكول و إن صدق عليه الثمرة، كالحنظل و نحوه، و مقتضى العقد السلبي في الثاني عدمه. و مقتضى العقد الإثباتي في الثاني جوازه على غير الثمرة و إن كان مأكولا كالخسّ و نحوه، و قد كان مقتضى العقد السلبي في الأوّل عدمه، فيقع بين الطائفتين في الحنظل و ثمر الشوك و في الخسّ و شبهه، و حينئذ ففي مقام الجمع يحتمل وجوه:

الأوّل: تقييد كلّ من العنوانين بالآخر، فيقيّد المأكول بما إذا كان ثمرة، و الثمرة بما إذا كان مأكولا، فالذي لا يجوز السجود عليه هو ما اجتمع فيه الأمران، و ما تخلّف فيه أحدهما يجوز السجود عليه و إن تلبّس بالآخر.

الثاني: أن يجعل أحدهما أصلا و الآخر معرّفا له و من باب المثال لأجله، و هذا يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يكون الأصل هو المأكول، و إنّما أريد بالثمرة في الأخبار الثانية الإشارة إليه بملاحظة انحصار أفراد المأكول من النبات بحسب الغالب في الثمار، و أمّا الاسفناج و الخسّ و البقول فمن الأفراد النادرة، و الباذنجان و البطّيخ و الخيار و نحوها و الحبوبات كلّها داخلة في قسم الثمار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 346

و الثاني: أن يكون الأصل في المنع هو الثمرة، و إنّما عبّر في الأخبار الأول بالمأكول بملاحظة انحصار أفراد الثمار غالبا في المأكول، و ندرة ما كان منها غير مأكول.

و

يمكن أن يمنع شمول كلمة الثمرة في لغة العرب لمطلق ما تحمله الشجرة و لو كان ممّا لا ينتفع به، بل خاصّة بما كان ممّا ينتفع به فائدة معتدّا بها، فليس الشوك و الحنظل من أفراد هذا المفهوم.

و يؤيّد ذلك استعمالاته المجازيّة كما يقال: فلان ثمرة فؤادي، أو أنّ الأمر الفلاني مثمر لكذا، و كلّ ذلك يستعمل في مقام الاستفادة و الاستنفاع بالشخص أو بالشي ء.

و على هذا فلفظة «الثمرة» أخصّ مطلقا من المأكول، فإنّ مفاد أحد الخبرين أنّ ما لا يجوز السجود عليه من النبات منحصر في المأكول، و مفاد الآخر أنّه منحصر في الثمر، و الثاني أخصّ مطلق من الأوّل، فمقتضى القاعدة تخصيص الأوّل بالثاني.

اللّٰهمّ إلّا أن يتشبّث بذيل التعليل المتقدّم عن العلل لعدم جواز السجدة على المأكول و الملبوس بأنّ «أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة اللّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها» «1».

فإنّ مفاد هذه العلّة أنّ كلّ ما كان مأكولا لا يجوز السجود عليه و إن لم يكن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، و الباب 17 من هذه الأبواب، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 347

ثمرة كالخسّ و الاسفناج و البقولات، فهذا يوجب أن يكون المقصود من ذكر الثمرة التمثيل للمأكول بواسطة الغلبة، كما مرّ في الوجه الثاني.

الفرق في الحكمة في جانب الوجود و العدم

لا يقال: ليست هذه بأزيد من حكمة، و هي ليست بمطّردة، فلا يمكن جعلها شاهدة.

لأنّا نقول: شأن الحكمة و إن كان عدم الاطّراد، لكن في خصوص جانب العدم، أعني: لا يدور عدم الحكم مدار عدمها، و

أمّا في جانب الوجود فلا يمكن أن لا يدور مدارها بأن لا يوجد الحكم مع وجودها، فيمكن أن يوجد الحكم في الأعمّ بالملاك الأخصّ، و أمّا وجوده في الأخصّ بالملاك الأعمّ فغير جائز، فإذا كان الملاك في هذا الباب للمنع هو المعبوديّة لأهل الدنيا و هو موجود في جميع المأكولات حتّى في مثل الخسّ، فلا يجوز تخصيص حكم المنع بما عدا الخسّ.

و بالجملة فجعل هذه الحكمة شاهدة لترجيح أخبار استثناء المأكول من النبات خال عن الإشكال.

ثمّ إنّ المراد بالمأكول ما كان مأكولا للنوع و لو لم يكن للشخص، و أمّا إذا كان مأكولا عاديا للشخص دون النوع فلا يضرّ حتّى بالنسبة إلى الشخص المعتاد به، و ذلك لانصراف المأكول إلى ما كان مضافا إلى نوع الناس، نعم يكفي كونه مأكولا لأهل صقع في ممنوعيّته حتّى بالنسبة إلى سائر الأصقاع، فإنّه يصدق عليه أنّه مأكول الإنسان أو مأكول الناس، كما هو المنصرف إليه الإطلاق، هذا.

و لا يلزم كونه مأكولا فعليّا بلا حاجة إلى علاج من طحن و خبز و نحوهما،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 348

بل يعمّ ذلك و ما يحتاج إلى العلاج، فالمراد هو المعدّ لأكل الإنسان و لو بعد العلاج، فينطبق على الحنطة المكتسية بالقشر الأعلى، فإنّها ليست معدّة لغير الأكل من حوائج الإنسان. نعم الشعير معدّ لأكل الدوابّ أيضا، أمّا لحاجة الإنسان فلا يعدّ إلّا لأكله بحيث يعدّ غيره في جنبه نادرا، فالمعيار هو الإعداد لأكل الإنسان، بمعنى أنّه لا ينفع الإنسان به في غير الأكل إلّا نادرا.

و هكذا الكلام في جانب الملبوس الذي ورد استثنائه أيضا في النصوص عن النبات، فالمراد به أيضا هو ما أعدّ للباس الإنسان، و لكنّ الفرق أنّه

لا يصدق على القطن و الكتّان قبل الغزل أنّه معدّ للّباس، بل هو ممّا أعدّ له و لغيره كالافتراش و نحوه، فالإنسان ينتفع بهما في ما عدا اللباس أيضا بطريق الشيوع و الكثرة، فلا يكون معدّا لخصوص لبس الإنسان.

و هكذا الكلام بعد الغزل، فإنّه أيضا غير معدّ لحاجته اللبسيّة خاصّة، بل يشترك فيه هي و الحاجة الفرشيّة و غيرهما، و بعد الغزل و النسج يمكن الفرق بين أنواعه، فبعض المنسوجات لا يعدّ إلّا للفرش بحيث يكون لبسه نادرا، و بعضها بالعكس، و بعضها قد يكون لبسا و قد يكون فرشا، و ليس ممحّضا لشي ء منهما.

و بالجملة، فالعبرة بصدق الإعداد لخصوص لبس الإنسان، و هو في القطن و الكتّان غير مسلّم، بل و فيهما بعد الغزل، بل و بعد بعض أقسام النسج، نعم يصدق في بعض أنواعه، حيث إنّه معدّ لخصوص اللباس، بحيث يكون سائر الانتفاعات غير ملحوظ فيه إلّا نادرا أو تبعا، لا في عرض اللباس.

و من هاهنا يمكن لنا طريق جمع بين الأخبار المتعارضة في خصوص القطن و الكتّان بالمنع عن السجود عليهما و التصريح بالجواز مع عدم التقيّة و الضرورة، فإنّ الجمع بينهما بالكراهة مع تسليم كونهما مصداقين للملبوس بعيد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 349

و الجمع بحمل المجوّزة على حال تقيّة السائل ينافيه تصريح السائل بالسؤال عن حكم غير هذه الحالة، و بحملها على تقيّة الإمام عليه السّلام يبعّده أنّه في معنى الطرح، و هو بعد عدم إمكان الجمع، و هو ممكن بمثل ما قلنا أعني: حمل أخبار المنع على ما أعدّ منهما للّبس، و أخبار الجواز على غير المعدّ، كنفس القطن و الكتّان أو المغزولين أو المنسوجين ببعض الأنواع المعدّ لغير

اللبس أو المعدّة للأمرين أو الأمور بشهادة ما وقع الاستثناء فيه بالملبوس من النصوص.

و يمكن أن يقال بأنّ النسبة بين ما دلّ على المنع من السجود على الملبوس من النبات و ما دلّ على جوازه على القطن و الكتّان و إن كان عموما من وجه، لافتراق الأوّل في الملبوس النباتي من غير القطن و الكتّان و الثاني في القطن و الكتّان الغير المنسوجين، إلّا أنّ ظهور الأوّل في مادّة الاجتماع أعني: منسوجهما أقوى، فإنّ إخراجه عنه يوجب تقييده بالفرد النادر، بل لعلّه كان معدوما في زمان الصدور، و إنّما حدث في هذه الأزمنة.

و هذا بخلاف تقييد دليل الجواز في القطن و الكتّان بغير الملبوس منهما، فإنّه فرد شائع، فيكون حال دليل المنع عن الملبوس حال الخاصّ المطلق بالنسبة إلى الدليل المذكور، فيخصّص عموم الدليل المذكور بما عدا الملبوس منهما.

و حينئذ فإن قلنا: إنّ العامّ المخصّص إنّما يعارض العامّ الآخر المنافي معه بمقدار حجّيته و هو ما بقي بعد التخصيص فالنسبة بين الدليل المذكور و ما بقبالة من مطلقات المنع في القطن و الكتّان نسبة الخاصّ المطلق إلى العامّ، فيخصّص به دليل المنع بخصوص الملبوس.

و إن قلنا: إنّ النسبة لا تنقلب، بل هما يعدّان عرفا من المتباينين، غاية الأمر لأحدهما مخصّص منفصل، فالمعيار في تعيين النسبة هو الحجّية الذاتيّة، و هي منعقدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 350

في كلّ منهما بالنسبة إلى العموم.

فحينئذ نقول: إنّ الخاصّ المنفصل في المقام أعني: الدليل المانع عن الملبوس كما أنّه خاصّ بالنسبة إلى مطلقات الجواز بالتقريب المتقدّم، كذلك له هذه النسبة أعني: الخصوص بملاحظة اشتماله على الحصر الدالّ على جواز السجود فيما عدا الملبوس بالنسبة إلى مطلقات المنع، فكما

يخصّص المطلقات الأوّل بمفاد عقده السلبي، كذلك يخصّص المطلقات الثانية بمفاد عقده الإثباتي، فكأنّه قيل: لا يجوز السجود على الملبوس من النبات، و يجوز على غير الملبوس منه، فالمفاد الأوّل مخصّص لمطلقات الجواز، و الثاني لمطلقات المنع.

إن قلت: ما ذكرت في تقريب أظهريّة المفاد السلبي من مطلقات الجواز من لزوم التقييد بالفرد النادر لو قيّد الملبوس بما عدا القطن و الكتّان غير جار في المفاد الإثباتي، فإنّ النسبة بينه و بين مطلقات المنع هو العموم من وجه كما مرّ، و كما يمكن تقييد المطلقات المذكورة بخصوص الملبوس من القطن و الكتّان بدون لزوم التقييد بالفرد النادر، كذلك يمكن تقييد المفاد الإثباتي المذكور أيضا بما عدا القطن و الكتّان من سائر النباتات و إخراج غير الملبوس منهما عن تحته من غير لزوم التقييد بالفرد النادر كما هو واضح، فأيّ مرجّح للأوّل على الثاني؟

قلت: لو كان المفادان منفصلين في عبارتين كان ما ذكرته حقّا، و أمّا إذا كان المفاد الإثباتي فرعا على السلبي و حاصلا بانحلال الحصر الموجود في السلبي فلا مجال لما ذكرت، فإنّ ظهور الحصر غير ظهور العموم، و بعبارة أخرى: ليس حال الحصر مع العموم حال العامّين بأن يكون الأمر دائرا بين أحد التخصيصين، بل يدور بين التخصّصين أو رفع اليد عن حقيقيّة الحصر و حمله على الإضافيّة، و هذا أبعد من رفع اليد عن العموم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 351

و إن أبيت إلّا عن أنّه أيضا عامّ آخر في قبال عامّ فنقول: لا أقلّ حينئذ من سقوط دليل المنع عن الحجّية بواسطة طروّ الإجمال، فإنّه لو سلّمنا عدم أظهريّة الحصر فلا أقلّ من صيرورته موجبا لسقوط دليل المنع و كونهما مجملين، كما

هو الحال في كلّ عامّين من وجه.

و حينئذ فلا مانع من الأخذ بدليل المنع في ما أعدّ للّبس من القطن و الكتّان، فإنّ عدم جواز السجود عليه قدر متيقّن من دليل المنع و إن فرض إجماله بالنسبة إلى غير ما أعدّ، كما أنّه لا مانع من الأخذ بدليل الجواز في ما لم يعدّ، بعد فرض تخصيصه في ما أعدّ، فيرتفع التعارض بين دليلي المنع و الجواز، لانحصار مورد حجّية الأوّل بما أعدّ، و مورد حجّية الثاني بغيره.

و حاصل ما ذكرنا أنّه يمكن الجمع بين الأخبار الثلاثة أوّلا بحمل الأظهر على الظاهر، و النتيجة عدم الجواز على المعدّ للّبس، و الجواز على غيره من القطن و الكتّان، و ثانيا على فرض الإجمال من جهة التردّد في أظهريّة الحصر بالنسبة إلى العموم لأوله إلى العموم أيضا بالأخذ بالقدر المتيقّن من مطلقات المنع، و ما بقي بعد التخصيص من مطلقات الجواز، و بعبارة أخرى: الأخذ بما بقيت كلتا الطائفتين فيه على الحجّية، أعني: الحكم بعدم الجواز في ما أعدّ الذي هو المتيقّن من أخبار المنع، و بالجواز في غيره الذي هو الباقي بعد التخصيص تحت أدلّة الجواز.

و إن أبيت عن كلّ ذلك و قلت: بل مطلقات الجواز و مطلقات المنع من قبيل المتعارضين و لا يخرجان عن موضوع التعارض العرفي بهذه الوجوه فنقول: إنّ حكم المتعارضين إمّا التخيير و إمّا الترجيح، و نحن على كلّ تقدير يلزمنا الحكم بعدم الجواز بالنسبة إلى ما أعدّ للّبس من القطن و الكتّان، فإنّه لو تخيّرنا مطلقات الجواز أو رجّحناه فلا بدّ من تخصيصها بما دلّ على استثناء الملبوس من النبات بعد ما تقدّم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 352

من تفسيره

بما أعدّ للّبس و أنّه غير موجود في القطن و الكتّان قبل النسج، بل و في بعض أقسام النسج، فإنّ الدليل المذكور على هذا بضميمة عدم وجود المصداق الملبوس النباتي في ذلك الزمان إلّا القطن أو الكتّان يصير كالخاصّ المطلق بالنسبة إلى طرفي التعارض، فلا يحسب في شي ء منهما، فهو سليم عن المعارض على كلّ تقدير.

نعم هذا كلّه بناء على الأساس الذي أسّسنا من تفسير الملبوس بما أعدّ للّبس و أنّ القطن و الكتّان على قسمين، قسم منهما معدّ له و قسم غير معدّ.

و أمّا بناء على القول بأنّ القطن و الكتّان من أوّل إنباتهما من الأرض يصدق عليهما عنوان الملبوس، فيكون دليل استثناء الملبوس أيضا من أطراف التعارض، لما عرفت من كونه نصّا في إرادة القطن و الكتّان، لمعدوميّة غيرهما في ذلك الزمان، بحيث لو حمل على غيرهما كان لغوا بلا مورد.

و يمكن جعل هذا مؤيّدا لما أسّسنا، فإنّه بناء عليه لا يبقى هذا الاستثناء بلا مورد في شي ء من التقادير الثلاثة المتقدّمة أعني: الجمع الدلالي أو الإجمال الدلالي أو التعارض، و أمّا على خلافه فيبقى الاستثناء المذكور بلا مورد لو أخذ بأخبار الجواز و رجّحت على مطلقات المنع.

لا يقال: هذا الاستثناء أيضا مثل مطلقات المنع، فكما طرحت هي، يطرح هذا.

لأنّا نقول: كلّا، فإنّ الاستثناء غير قابل للطرح مع فرض الأخذ بالمستثنى منه، فإنّهما خبر واحد لا يقبلان التفكيك في السند، و المفروض أنّ المستثنى منه أعني: جواز السجود على الأرض و نباتها لا معارض له، فلا بدّ من أخذه، فكيف يطرح المستثنى مع ذلك؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 353

و من هنا نقول: لو لم يكن في أخبار المنع غير خبر الاستثناء، بمعنى

أنّه لم يكن لنا خبر دالّ بالاستقلال على منع السجود على القطن و الكتّان، بل كان منحصرا في ما دلّ عليه بصورة الاستثناء، أو ببعض الفقرات مع دلالة سائر فقرأته على مطلب آخر فلا يمكن إدراج أخبار المسألة تحت الأخبار العلاجيّة، لأنّ مصبّها ما إذا كان الأمر دائرا بين الأخذ بهذا في تمام المفاد، و طرح ذاك رأسا، و بين العكس، و في ما إذا كان أحد طرفي التعارض بعض فقرأت خبر و إن كان الطرف الآخر خبرا مستقلّا لا يكون الأمر كذلك، فهو كالعامّين من وجه، حيث ليسا داخلين في الأخبار العلاجيّة في مادّة التعارض لأجل ما ذكر.

فالوجه الذي أفادوه لإخراج العامّين من وجه قاض بإخراج ما نحن فيه أيضا، غاية الأمر أنّه موجود هناك في كلا الطرفين، و هاهنا في طرف واحد، فلا بدّ من المعاملة معهما على حسب ما يقتضيه القاعدة في كلّ تعارض بين الفردين من الأمارة و هو التساقط و الرجوع إلى الأصل، فيؤخذ حينئذ بالمستثنى منه في أخبار المنع أعني: جواز السجود على الأرض و نباتها، و يرجع بالنسبة إلى المستثنى و هو القطن و الكتّان بعد تساقط الدليلين إلى مقتضى الأصل العملي و هو البراءة على ما هو التحقيق في الشكّ في القيود، هذا.

و أمّا لو كان لنا علاوة على ما ذكر في بعض فقرأت الخبر الواحد بصورة الاستثناء أو غيره خبر مستقلّ آخر دالّ بتمامه على المنع عن القطن و الكتّان فهل يمكن القول حينئذ بكون هذا الخبر مع الخبر المستقلّ الآخر المجوّز للسجود عليهما من موضوع الأخبار العلاجيّة أو لا؟

الذي رجّحه شيخنا الأستاذ دام ظلّه العالي هو الثاني، بملاحظة أنّ مصبّها هو الخبران اللذان كلّ واحد

منهما في حدّ ذاته لو لا المعارض كان أركان الحجيّة فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 354

تامّة، و هاهنا ليس كذلك، إذ الأخبار المجوّزة لو فرض عدم المعارض لها لم يكن بحجّة بملاحظة الاستثناء الدالّ على المنع عن القطن و الكتّان، فهو كان معارضه موجودا أم لا غير حجّة، لطروّ الإجمال عليه من قبل هذا الاستثناء المنفصل.

و بعبارة أخرى: الخبر المشتمل على الاستثناء لا معارضة له مع أخبار المنع، لتوافقهما في المفاد، فأخبار المنع يتمّ أركان الحجّية فيها، سواء كان معارضها هو أخبار الجواز أم لم يكن، أمّا على الثاني فواضح، و أمّا على الأوّل فلأجل أنّ ذلك المعارض معارض بالاستثناء.

فإن قلت: لم لا يكون الاستثناء أيضا مع أخبار المنع في عرض واحد معارضين لأخبار الجواز، فإنّ المفروض هو القول بكون عنوان ما لبس متّحدا مع القطن و الكتّان، و الإغماض عن أخصّيته عنهما بالبيان المتقدّم، و من المعلوم أنّ تعدّد أفراد الخبر في أحد طرفي التعارض و وحدته في الآخر لا يوجب خروج المورد عن الأخبار العلاجيّة.

قلت: هذا الذي ذكرت إنّما يتمّ في ما إذا كان الأخبار المستقلّة الدالّة على المنع متعدّدة، و ليس هكذا محلّ الكلام، فإنّ الاستثناء جزء من الخبر المشتمل على فقرأت، و ليس خبرا على حدة مجزّى عن سائر الفقرات، و على هذا فلا يمكن احتسابه مع سائر الأخبار في عرض واحد.

هذا ما استفدته من إفادات شيخنا الأستاذ دام ظلّه، و لكن لم يتّضح لي وجه لما أفاده دام ظلّه، فإنّه إن كان وجه تعيّن الأخذ بأخبار المنع هو الأخبار العلاجيّة فقد فرضنا خروج أخبار الجواز منها، و معه كيف يتحقّق موضوعها و هو مجي ء الخبرين المتعارضين، و إن

كان الوجه مقتضى قاعدة باب التعارض مع قطع النظر عن الأخبار العلاجيّة، فلا شكّ أنّه ليس مقتضاها إلّا تعارض الطوائف الثلاث من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 355

دون تقدّم لإحداها على الأخرى، فيطرأ الإجمال على الجميع، و هو دام ظلّه أعرف بما أفاد، و قد استشكل بذلك فضلاء المجلس أيضا، كثّر اللّٰه أمثالهم.

و يجوز السجود على الكاغذ و ادّعي عليه الإجماع، و يدلّ عليه صحيحة عليّ بن مهزيار «قال: سأل داود بن فرقد أبا الحسن عليه السّلام عن القراطيس و الكواغذ المكتوبة هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب عليه السّلام: يجوز» «1».

و صحيحة صفوان الجمّال «قال: رأيت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام في المحمل يسجد على القرطاس» «2».

و صحيحة جميل بن درّاج «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه كره أن يسجد على قرطاس عليه كتابة» «3»، حيث يدلّ بظاهره على عدم الكراهة مع عدم الكتابة، هذا.

و لكنّ الشأن كلّه في إثبات أنّ الكاغذ و القرطاس مأخوذان بعنوانهما موضوعين للحكم، حتّى أنّه لا يختلف باختلاف المصاديق بحسب الأزمنة، كما هو الحال في الخمر، حيث علمنا أنّ الحكم معلّق على عنوانه، فلو فرض أنّ مصاديقها في زمن الخطاب كانت متّخذة من العنب و في ما بعده من الزمان يتّخذ من شي ء آخر نقول ببقاء الحكم بواسطة بقاء العنوان و عدم تبدّله و إن تبدّلت مصاديقه، أو أنّ العنوان جعل عبرة لمصاديقه الموجودة في زمن الخطاب، و حيث كانت المصاديق في ذلك الزمان واجدة لخصوصيّة خاصّة و لم يكن المتعارف في ذلك الزمان فاقدة لها، فلهذا أطلق الحكم و لم يحتج إلى التقييد، و لعلّ المصاديق في هذا الزمان غير واجدة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة،

الباب 7 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 356

لتلك الخصوصيّات.

و مع هذا الاحتمال لا يبقى لنا مجال للتمسّك بالإطلاق، فإنّه فرع الحمل على إرادة العنوان بما هو هو، و أمّا مع جعله عبرة و إشارة إلى الأفراد الموجودة في زمن الخطاب فلا مجال لهذا التمسّك.

إن قلت: الظاهر من العناوين المجعولة تحت الأحكام كونها بوجه الموضوعيّة لا المعرّفية.

قلت: ليس وجه المعرّفية معنى مجازيّا، بل اللفظ قد استعمل معه أيضا في معناه الحقيقي، أ لا ترى أنّك لو تلفّظت بالماء و جعلته عبرة لما هو الموجود في الخارج منه من المياه العذبة لما استعملت اللفظ إلّا في معناه، نعم إذا أردت الدوران مدار العنوان فلا بدّ من تقييده بالعذوبة أو عدم الملوحة.

و الحاصل: إنّا لا نسلّم أنّ اللفظ بعد كونه بكلّ من الوجهين مستعملا في معناه الحقيقي و غير خارج عنه يكون ظاهرا في وجه الموضوعيّة، بحيث يحتاج الخروج عنه إلى التماس الدليل و نصب القرينة، بل لا بدّ في حمله على كلّ منهما من التماس القرينة الخارجيّة، فمع العدم يكون اللفظ مجملا مردّدا بينهما، و اللّٰه العالم.

و الحاصل أنّ التمسّك بإطلاق دليل جواز السجود على الكاغذ فرع استفادة الموضوعيّة، و أمّا إذا أنكرنا ظهوره فيها و احتملنا أنّه سيق لأجل الإشارة إلى تمام الأفراد المتعارفة في زمن الصدور، فلا يبقى لنا إطلاق، فلعلّ تمام الأفراد في ذلك الزمان كانت مأخوذة من النبات أو من القطن و الكتّان قبل النسج، فليس لنا التعدّي إلى القراطيس المعمولة من

الصوف و الإبريسم و غير ذلك ممّا لا يصحّ السجود عليه، بل القدر المتيقّن هو الكاغذ الذي قطعنا بكون أصله ممّا يصحّ السجود عليه، و في غيره ممّا نقطع بكونه من غيره أو نشكّ، فلا يجوز السجود عليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 357

المقام الثالث لو تعذّر عليه السجود على الأرض و نباتها و القرطاس

فلا إشكال في عدم سقوط أصل السجود و عدم الانتقال إلى الإيماء، فإنّ قاعدة الميسور يقتضي وجوب الوضع بعد عدم التمكّن من خصوصيّته، و لكن ليس لشي ء ممّا يوضع الجبهة عليه بعد الثلاثة المذكورة خصوصيّة مرجّحة له على ما عداه حتّى يكون هو بدلا اضطراريّا عن الثلاثة المذكورة، فيساوي ظهر كفّه و ثوبه و المعدن و أجزاء الحيوان و غير ذلك من أفراد ما لا يصحّ السجود عليه، لكن هذا لو لم يكن لنا إلّا قاعدة الميسور.

و أمّا إذا كان لنا أخبار مجوّزة لخصوص الثوب فيمكن حينئذ القول ببقاء غيره من سائر أفراد ما لا يصحّ السجود تحت إطلاق المادّة لدليل المنع، مثلا الفيروزج و الياقوت و العقيق قد ورد النهي عن السجود عليها، فإطلاق المادّة المفيد لاشتراط السجود بعدم تلك يعمّ حال الاضطرار أيضا.

نعم في خصوص الثوب علم من النصّ تقييد مانعيّته و اشتراط عدمه بحال الاختيار دون الاضطرار، فلا يجوز لنا رفع اليد عن إطلاق المانعيّة في غيره، هذا مع الشكّ في كونه مرخّصا فيه من باب أحد الأفراد التي يجوز السجود عليها في هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 358

الحال، أو أنّه لأجل خصوصيّة فيه و جعله بدلا اضطراريا، و لم يكن للدليل ظهور به في شي ء من الطرفين، كما هو الحال في الأخبار التي ورد الجواب فيها ب «لا بأس» بعد سؤال السائل عن السجود على

كمّه أو بعض ثوبه عند الاضطرار.

و فيه أنّ قاعدة الميسور قاضية بتساوي جميع الأفراد بعد فرض كونها متساوية في صدق الميسور على كلّ واحد منها على حدّ سواء، غاية الأمر أنّ عموم القاعدة مؤيّد و معتضد في خصوص الثوب بالخبر الخاصّ، و ذلك لا يوجب رفع اليد عن عمومها في سائر الأفراد، هذا.

و لكن يمكن ادّعاء الظهور في الخصوصيّة من بعض الأخبار، و هو خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: قلت له: أكون في السفر فتحضر الصلاة و أخاف الرمضاء على وجهي، كيف أصنع؟ قال عليه السّلام: تسجد على بعض ثوبك، فقلت: ليس عليّ ثوب يمكّنني أن أسجد على طرفه و لا ذيله، قال عليه السّلام: اسجد على ظهر كفّك، فإنّها إحدى المساجد» «1».

و خبره الآخر «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: جعلت فداك، الرجل يكون في السفر، فيقطع عليه الطريق، فيبقى عريانا في سراويل و لا يجد ما يسجد عليه، يخاف إن سجد على الرمضاء أحرقت وجهه، قال عليه السّلام: يسجد على ظهر كفّه، فإنّها إحدى المساجد» «2».

فإنّ التعليل للأمر بالسجود على ظهر الكفّ بقوله: فإنّها إحدى المساجد، يبعد أن يراد به أنّه أحد أفراد ما أمر بالسجود عليه في هذا الحال، فإنّه كالتعليل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 359

لحرمة الخمر بقولك: لأنّها إحدى المحرّمات و يكون شبه المصادرة، فالظاهر أنّ الضمير راجع إلى الكفّ، و المراد أن الكفّ لمّا يكون أحد المساجد السبعة، فاللازم عند الاضطرار هو السجود عليه، فهذا يناسب التعليل التعبّدي للحكم،

و لو كان مورد التكليف حينئذ أحد الأفراد من غير فرق بينها أصلا لما كان لهذا التعليل مجال، فهو نصّ في الخصوصيّة، و كذا في خصوصيّة الثوب الذي رخّص فيه في المرتبة المتقدّمة.

بقي الكلام في أنّ المعتبر في الثوب الذي يجوز السجود عليه اضطرارا كونه من القطن و الكتّان، أو يكفي و لو كان صوفا و نحوه؟ مقتضى إطلاق الأخبار الواردة في مقام البيان هو الثاني.

و مقتضى بعض الأخبار هو الأوّل و هو ما رواه منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج، أ فنسجد عليه؟ قال عليه السّلام: لا، و لكن اجعل بينك و بينه شيئا قطنا أو كتّانا» «1».

و ما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام «قال: سألته عن الرجل يؤذيه حرّ الأرض و هو في الصلاة و لا يقدر على السجود، هل يصلح له أن يضع ثوبه إذا كان قطنا أو كتّانا؟ قال عليه السّلام: إذا كان مضطرّا فليفعل» «2».

لكنّ الرواية الثانية غير صالحة لتقييد تلك المطلقات بملاحظة عدم كون الشرطيّة في كلام الإمام عليه السّلام، و إنّما هي في كلام المسائل.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 360

و أمّا الأولى، فهي ظاهرة في حدّ ذاتها في التعبّد، لوقوعه في كلام الإمام عليه السّلام، و لكن ارتباطه بما نحن فيه مبنيّ على جعل قول السائل: إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج. بيانا لحال الاضطرار، كما في قولك: لو ابتليت بأرض الثلج فما ذا

أصنع للسجود، و أمّا لو أريد به كون بلاده باردة يكثر فيها الثلج و أنّه إن أراد أن يصلّي في الصحراء مع وجود الثلج فما ذا يصنع، فهي أجنبيّة عمّا نحن فيه، إذ هي على هذا من الأخبار الدالّة على الجواز في القطن و الكتّان حال الاختيار، فإنّه مع تمكّن السائل من الذهاب إلى المنزل و عدم اضطراره إلى السجود على الثلج، أجابه بما ذكر، فلا ربط له بما نحن فيه، و لا يبعد دعوى ظهورها في هذا الاحتمال، لما يستفاد من قوله: «إنّا نكون» من الدوام و الاستمرار.

و لو سلّم ظهورها في الأوّل نقول: إنّها و إن كان ظاهرها التقييد، لكن بعد المعارضة بتلك المطلقات الواردة في مقام البيان التي يستبعد التزام التقييد فيها مع شيوع ثياب الصوف و الشعر و الوبر و الجلد يصير الظهور المذكور موهونا.

و الحاصل أنّه يدور الأمر بين رفع اليد عن المطلقات الواردة في مقام البيان و الالتزام بأنّ القيد قد أخّر بيانه عن وقت الحاجة، و بين رفع اليد عن ظهور القيد في القيديّة للمطلوب الأوّلي إمّا بحمله على بيان أحد الأفراد لقوله: «شيئا» للإشارة إلى أنّ المراد ليس عمومه الشامل لغير الثوب، بل خصوص الثوب، و إنّما خصّهما بالذكر لندرة عدم تمكّن المصلّي منهما، و إمّا بحمله على الأفضليّة، فهو قيد في المطلوب الثانوي، و لا يخفى أنّ الثاني أرجح من الأوّل.

و يؤيّده رواية القاسم بن الفضيل عن أحمد بن عمر «قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يسجد على كمّ قميصه من أذى الحرّ و البرد أو على ردائه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 361

إذا كان تحته مسح «1» أو غيره ممّا لا يسجد

عليه؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «2».

و هذه الرواية أظهر من سائر المطلقات في الإطلاق، لوقوع السؤال فيها عن السجود على الرداء الذي بطانته مسح أو غيره ممّا لا يسجد عليه، و الظاهر أنّ غرضه صورة قلب الرداء بحيث يقع السجود على باطنه، كما هو المتعارف في بسط العباء للصلاة أو الجلوس عليه، إذ احتمال إرادة السجود على الظهارة لتوهّم إضرار البطانة بعيد غايته.

و كيف كان، فلو سلّم تقييد المطلقات فهل القاعدة يقتضي عند تعذّر المقيّد الانتقال إلى ظهر الكفّ أو إلى الثوب الآخر الذي ليس من القطن و الكتّان من أنّ المتيقّن من التقييد حال التمكّن من القيد، فيبقى المطلقات بحالها بالنسبة إلى حالة تعذّره، و من أنّ إطلاق المادّة في المقيّد يقتضي بقاء القيديّة حال التعذّر أيضا، فيقيّد به إطلاق المطلقات.

و الأوّل أظهر، فإنّ إطلاق المقيّد بالنسبة إلى حال التعذّر يمكن منعه أو التردّد فيه و صيرورته مجملا، و ذلك لأنّ القدرة و التمكّن غالب الحصول بالنسبة إلى القيد، إذ قلّما يتّفق عدم تمكّن المصلّي و لو من قطعة صغيرة من القطن و الكتّان، و إذا كان القيد غالب الوجود في الخارج يصير إطلاق المطلق موهونا، لعدم حصول نقض غرض لو أراده المتكلّم بالمطلق.

و إذن فيبقى إطلاقات الثوب سليمان عن المقيّد بالنسبة إلى حال تعذّر القطن و الكتّان، فيكون الثوب من غيرهما مقدّما على ظهر الكفّ، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) المسح- بالكسر فالسكون- يعبّر عنه بالبلاس.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 362

و لا يجوز السجود على الوحل الذي هو لسيلانه مانع عن استقرار الجبهة عليه، و هذا الحكم مضافا إلى ورود النصّ

به مطابق للقاعدة، فإنّه لا يخلو إمّا أن يسجد على نفس الوحل و قد عرفت أنّه يفوت معه الاستقرار و إن كان الوحل من الأرض، و إمّا أن يسجد على الأرض تحته بغرق جبهته في الوحل، و هذا أيضا غير جائز، لعدم صدق أنّه سجد على الأرض، فإنّه مثل ما إذا ألصق قطعة من التراب على جبهته ثمّ وضعها مع تلك القطعة على الأرض، فإنّه ليس وضعا للجبهة على الأرض، بل وضع للأرض على الأرض، و لا فرق بين حصول ذلك من ابتداء الهويّ للسجود و بين حصوله في أثنائه كما فيما نحن فيه، حيث إنّه من حين مماسّة الجبهة للوحل يلصق بجبهته أجزاء الوحل إلى أن يصل إلى الأرض، فهو قد وضع أجزاء الوحل الملصقة بجبهته على الأرض، لا أنّه وضع جبهته عليها.

و لو اضطرّ إلى السجدة على الوحل و لم يقدر على ما يستقرّ عليه الجبهة من الأرض أو النبات أو الكاغذ فمقتضى قاعدة الميسور مع قطع النظر عن الخبر الخاصّ لزوم إيصال الجبهة إلى الوحل بدون استقرار، أو غرقها حتّى تصل الأرض مع استقرار، لكن مع الحائل، لأنّه ميسور السجود مع الاستقرار بلا حائل.

و لكن دلّ الخبر الخاصّ بأنّه يومئ للسجود حينئذ و هو قائم، و هو موثّق عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في «الرجل يصيبه المطر و هو في موضع لا يقدر أن يسجد فيه من الطين و لا يجد موضعا جافّا؟ قال عليه السّلام: يفتتح الصلاة، فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صلّى، فإذا رفع رأسه عن الركوع فليؤم بالسجود إيماء و هو قائم يفعل ذلك حتّى يفرغ من الصلاة و يتشهّد و هو قائم، ثمّ يسلّم» «1».

______________________________

(1)

الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 363

و لا إشكال في دلالته على جواز الاكتفاء بالإيماء، لكن هل يكون ذلك على وجه الرخصة أو العزيمة؟ يمكن ترجيح الأوّل، إذ الظاهر أنّ الملحوظ في جعل الإيماء لزوم الحرج من تكليفه بالسجود بواسطة تلطّخ بدنه و ثيابه بالطين و الوحل، لا أنّ الملحوظ فوات الاستقرار المعتبر.

بل يمكن استفادة جواز الإيماء حتّى في صورة التمكّن من السجود مع الاستقرار كما في حال الاختيار، لكن مع التلطّخ المذكور، إذ ليس في كلام السائل قرينة دالّة على عدم تمكّنه من السجود بالكيفيّة المعتبرة، بل الظاهر من قوله:

و لا يجد موضعا جافّا، ملاحظة الحرج عليه و لو مع تمكّنه من السجود المعتبر، و لا شبهة أنّ الحكم بالإيماء في هذه الصورة لا يفهم منه إلّا كونه على وجه الرخصة مع كفاية السجود على حسب مفاد الأدلّة الأوّلية.

فكذلك نقول بالنسبة إلى حال عدم التمكّن من الاستقرار المعتبر في السجود:

يجوز له السجود بمعنى إيصال الجبهة إلى الوحل بدون استقرار على حسب مفاد قاعدة الميسور، فحال القاعدة في هذه الصورة حال الأدلّة الأوّلية في صورة التمكّن من الاستقرار، حيث إنّ الخبر لوقوعه في مقام الامتنان برفع الحرج ليس دالّا على أزيد من الحكم الترخيصي، لا جعل البدل التعييني.

فمقتضى الجمع بينه و بين إطلاق الأدلّة الأوّلية في صورة إمكان الاستقرار و إطلاق القاعدة في صورة عدمه هو جواز الإيماء مع السجود الاختياري في الاولى، و مع السجود بلا استقرار على الوحل في الثانية.

و الحاصل أنّ الأمر في هذا المقام لا يدلّ على أزيد من الجواز، لكونه واردا في مقام توهّم الحظر.

و حاصل المقام أنّ من المسلّم

في محلّه أنّه إذا ورد قيد منفصل و شكّ في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 364

رجوعه إلى المادّة اللازم منه رجوعه إلى الهيئة أيضا، أو إلى الهيئة فقط مع بقاء إطلاق المادّة بحاله يقتصر على المتيقّن من تقييد الهيئة دون المادّة.

و على هذا الأصل المسلّم في محلّه نقول في المقام: لو أغمضنا عن ظهور دليل الأمر بالإيماء في كونه للترخيص لا للتعيين فلا أقلّ من الإجمال، فأمره دائر بين أن يكون للتعيين اللازم منه تقييد إطلاق كلّ واحد من الهيئة و المادّة للدليل الأوّلي الآمر بالسجود الاختياري، أو الثانوي الآمر بالسجدة على الوحل، و أن يكون للترخيصي حتّى يلزم التقييد في خصوص هيئتهما مع بقاء المادّة على حالها حتّى يكون السجود الاختياري أو على الوحل واجدين لمصلحته الذاتيّة.

فلا بدّ على حسب ذلك الأصل من الاقتصار على تقييد الهيئة و حفظ إطلاق المادّة، و مقتضاه جواز الأمرين للمصلّي في المقامين، أعني: ما إذا تمكّن من السجود التامّ، و ما إذا لم يتمكّن إلّا من الناقص، لكنّ الأحوط له الاقتصار على مفاد الدليل من الإيماء قائما، لأنّه بلا شبهة على كلّ حال، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 365

المبحث الرابع يعتبر في مكان المصلّي كونه قائما قارّا

على وجه لا يفوت عنه الاستقرار الواجب على المصلّي فيه، فلو صلّى اختيارا في سفينة أو على دابّة و نحوهما بحيث لم يكن مستقرّا حين الصلاة بطلت، و يأتي ذكر أدلّة وجوب الاستقرار في الصلاة بعد ذلك إن شاء اللّٰه تعالى.

و اعلم أنّ مجرّد كون السفينة سارية جارية لا يضرّ بصدق الاستقرار المعتبر في بدن المصلّي، نعم لو كانت بواسطة موج الماء مضطربة بحيث يوجب حركة بدن المصلّي كان منافيا معه، و أمّا مجرّد حركته

بتبع حركتها خالية عن التلاطم و الاضطراب فلا يضرّ، و لا نحتاج في جوازه اختيارا إلى التماس دليل، بل الصحّة مطابقة للقاعدة.

و كذا لا كلام في الصحّة في السفينة المتلاطمة المضطربة مع الاضطرار و عدم القدرة على الخروج أو الصلاة فيها مطمئنّا، فإنّ الصلاة فلا تترك بحال.

إنّما الكلام في الصلاة فيها مع اضطرابها المنافي مع الاستقرار في حال الاختيار و التمكّن من الخروج إلى الساحل، فقد اختلفت الأخبار.

ففي بعضها التصريح بصحّة الصلاة مع القدرة على الخروج، مثل ما رواه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 366

الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن جميل بن درّاج أنّه «قال لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: تكون السفينة قريبة من الجدّ «1» فأخرج و أصلّي؟ قال عليه السّلام: صلّ فيها، أما ترضى بصلاة نوح» «2».

و ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن المفضّل بن صالح «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في الفرات و ما هو أضعف منه من الأنهار في السفينة؟ قال عليه السّلام: إن صلّيت فحسن و إن خرجت فحسن» «3».

و ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن عن جدّه عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام «قال: سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي في السفينة الفريضة و هو يقدر على الجدد؟ «4» قال عليه السّلام: نعم لا بأس» «5».

و في آخر التصريح بأنّه مع القدرة على الخروج يصلّي خارجها و لا يصلّي فيها، مثل ما رواه الكليني قدّس سرّه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد بن عيسى «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يسأل

عن الصلاة في السفينة فيقول: إن استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا، فإن لم تقدروا فصلّوا قياما، فإن لم تستطيعوا فصلّوا

______________________________

(1) الجدّ- بضمّ الأوّل-: الساحل.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 11، مع اختلاف في العبارة.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 7.

(4) الجدد- بالفتحتين-: الأرض المستوية.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 13.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 367

قعودا و تحرّوا القبلة» «1».

و مضمرة عليّ بن إبراهيم «قال: سألته عن الصلاة في السفينة؟ قال: يصلّي و هو جالس إذا لم يمكنه القيام في السفينة، و لا يصلّي في السفينة و هو يقدر على الشطّ» «2»، الحديث.

و حينئذ فهل يعامل مع هاتين الطائفتين معاملة المتعارضين، أو يحمل الاولى على الصحّة في السفينة، و الثانية على أفضليّة الخروج، أو يحمل الاولى على صورة إمكان استيفاء الأفعال و الشروط، أعني: الركوع و السجود و القيام و الاستقرار، و الثانية على صورة عدم التمكّن من ذلك.

تقريب ذلك أنّ السائل في الأولى فرض القرب من الجدّ أو الجدد، أو كون السفينة في نهر كالفرات و ما هو أصغر منه و أضعف، و هذا يحتمل وجهين:

الأوّل: إنّه توطئة لبيان التمكّن من الخروج و عدم الاضطرار إلى الصلاة في السفينة، و الجواب حينئذ عامّ لجميع موارد التمكّن و لو في غير ما فرضه السائل.

و الثاني: إنّه أراد بذلك بيان قلّة الماء و أنّ السفينة بواسطة ذلك ساكنة غير مضطربة في حال سيرها، حيث إنّ القريب من الشطّ يقلّ فيه الماء، و كذا نهر الفرات ليس بمثابة يوجب الاضطراب في السفينة، و الجواب على هذا ليس عامّا لجميع موارد التمكّن من الخروج،

بل يختصّ بمواضع سكون السفينة و مأمونيّتها عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب القبلة، الحديث 14.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب القبلة، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 368

الاضطراب، و قد عرفت أنّ الصحّة في هذه الصورة مطابقة للقاعدة، و إذا جاء الاحتمالان كان القدر المتيقّن هو صورة الأمن من الاضطراب و يبقى غيرها بلا دليل.

و أمّا الطائفة الثانية فالأمر فيها بالعكس، بمعنى أنّ المتيقّن منها صورة معرضيّة السفينة للحركات العنيفة و الاضطرابات الشديدة بقرينة ما ذكر فيها من التفصيل بين القيام عند إمكانه و القعود مع عدمه، فإنّ عدم إمكان القيام إنّما يكون لأجل اضطراب السفينة شديدا، فالمتيقّن من مورد الكلام هو السفينة المضطربة، ففيها حكمت بأنّه مع القدرة على الخروج بتوسّط آلة كالبلم يجب عليه الخروج و الصلاة في الشطّ، و إلّا فيصلّي فيها إمّا قائما و إمّا قاعدا.

و لعلّ عدم ذكر القيام مع الاستقرار من المراتب و الاقتصار على القيام و القعود أيضا شاهد على إرادة الاضطراب، فإنّه لا ثالث لهذين على هذا الفرض، و إلّا فكان اللازم أن يقول: يصلّي قائما مطمئنّا، و إن لم يمكن فمتزلزلا، و إن لم يمكن فجالسا، فإسقاط الأوّل ليس إلّا لأجل أنّ مفروض الكلام صورة التزلزل و الاضطراب، و لا أقلّ من أنّه القدر المتيقّن من هذه الطائفة، فيبقى صورة الطمأنينة و الاستقرار خاليا عن الدليل على المنع.

لا يقال: إنّ ما ذكرت من القدر المتيقّن في الطائفتين لا يضرّ بالأخذ بإطلاقهما على ما قرّرت في الأصول من عدم إضرار ذلك بمقدّمات الأخذ بالإطلاق.

لأنّا نقول: إنّما لا يضرّ إذا كان في البين إطلاق، و أمّا إذا لم يكن إلّا كلام

واحد ذو وجهين، فليس لنا إطلاق حتّى يؤخذ به، و الحاصل أنّ ما نحن فيه من باب إجمال الدلالة، لا من باب وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 369

الغير المضرّ بالإطلاق.

لا يقال: ينافي ما ذكرت من كون القدر المتيقّن في أخبار الجواز صورة الطمأنينة و الاستقرار مرسلة الصدوق في الهداية «قال: سئل الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون في السفينة و تحضر الصلاة أ يخرج إلى الشطّ؟ فقال عليه السّلام: لا، أ يرغب عن صلاة نوح، فقال: صلّ في السفينة قائما، فإن لم تهيّأ لك من قيام فصلّها قاعدا، فإن دارت السفينة فدر معها و تحرّ القبلة جهدك، فإن عصفت الريح و لم تهيّأ لك أن تدور إلى القبلة فصلّ إلى صدر السفينة» «1»، الخبر، فإنّه من أخبار الجواز مع فرض السائل القدرة على الخروج، و مع ذلك يكون المتيقّن منه صورة عدم التمكّن من الاستقرار بنحو ما مرّ في أخبار المنع.

لأنّا نقول: نعم الأمر كما ذكرت، و لكنّ الخبر غير صالح للاستناد بواسطة الإرسال، فلا ينافي مع ما ذكرنا في وجه التوفيق بين الطائفتين، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

______________________________

(1) الهداية: 148، باب صلاة السفينة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 370

المبحث الخامس هل يعتبر في الصلاة أن لا تكون واقعة أمام قبر الإمام عليه السّلام أو لا يعتبر؟
اشارة

نسب إلى المشهور الثاني مع الكراهة، بل حكي عن الحدائق أنّه لم يقف على من قال بالتحريم سوى شيخنا البهائي طاب ثراه، ثمّ اقتفاه جمع ممّن تأخّر عنه منهم شيخنا المجلسي و هو الأقرب عندي، انتهى.

و مستند المنع ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده عن محمّد بن أحمد بن داود عن أبيه عن محمّد بن عبد اللّٰه الحميري «قال: كتبت إلى الفقيه عليه السّلام أسأله عن الرجل يزور

قبور الأئمّة عليهم السّلام: هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا، و هل يجوز لمن صلّى عند قبورهم عليهم السّلام أن يقوم وراء القبر و يجعل القبر قبلة و يقوم عند رأسه و رجليه، و هل يجوز أن يتقدّم القبر و يصلّي و يجعله خلفه أم لا؟ فأجاب عليه السّلام و قرأت التوقيع، و منه نسخت: و أمّا السجود على القبر فلا يجوز في نافلة و لا فريضة و لا زيادة، بل يضع خدّه الأيمن على القبر، و أمّا الصلاة فإنّها خلفه و يجعله الأمام، و لا يجوز أن يصلّي بين يديه، لأنّ الإمام عليه السّلام لا يتقدّم و يصلّى عن يمينه و شماله» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 371

و رواه الطبرسي في الاحتجاج عن محمّد بن عبد اللّٰه الحميري عن صاحب الزمان عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال عليه السّلام: «و لا يجوز أن يصلّى بين يديه و لا عن يمينه و لا عن شماله، لأنّ الإمام عليه السّلام لا يتقدّم و لا يساوى» «1».

و ما رواه ابن قولويه قدّس سرّه في المزار على ما في الوسائل بإسناده عن عبد اللّٰه الأصمّ عن الهشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث طويل قال: «أتاه رجل فقال له: يا ابن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله هل يزار والدك؟ قال عليه السّلام: نعم و يصلّى عنده، و قال عليه السّلام: يصلّى خلفه و لا يتقدّم عليه» «2».

و الإشكال في سند الأولى تارة من حيث عدم ذكر الشيخ قدّس سرّه طريقه إلى محمّد بن أحمد بن داود، و اخرى

من حيث إنّ الفقيه في عرف الرواة يراد به أبو الحسن الماضي عليه السّلام، و الحميري غير معاصر له عليه السّلام، فإمّا أنّ الواسطة كانت في البين و حذفت، و قوله: كتبت مقول قول الواسطة، و إمّا أنّه جرى في هذه الكلمة على خلاف الاصطلاح، و حينئذ إرادة المعصوم عليه السّلام منه غير معلوم، فلعلّه أراد به واحدا من فقهاء الإماميّة رضوان اللّٰه عليهم.

مدفوع أمّا الأوّل فبأنّ الشيخ قد عيّن طريقه إلى الراوي في فهرسته على المحكيّ في جماعة ثقات، و أمّا الثاني فبأنّ حذف الواسطة خلاف الظاهر، كما أنّ إرادة غير المعصوم من لفظ الفقيه يأبى عنه جلالة الحميري، حيث لا يسأل عن غير المعصوم و لا سيّما مع تسمية كتابه توقيعا، فالظاهر أنّ الرواية من قسم الصحاح.

نعم، الإشكال في الدلالة متّجه، حيث إنّ «لا يجوز» و إن كان ظاهرا في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

(2) المصدر: الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 372

التحريم، إلّا أنّ التعليل يوهنه، و ذلك لأنّه إن قرئ قوله عليه السّلام: و يجعله الأمام (بفتح الهمزة) مرادا به ما هو إحدى الجهات فلا بدّ أن يراد من الإمام في قوله عليه السّلام: لأنّ الإمام لا يتقدّم عليه، هو أحد المعصومين عليهم السّلام.

و حينئذ لا يصلح التعليل للوجوب، لأنّ عدم التقدّم على الإمام لو كان واجبا لوجب في غير حال الصلاة، و هو مقطوع العدم، فلا بدّ أن يراد به الأدب الغير الواجب، فيكون المعلّل أيضا حكما غير إلزامي.

نعم إن قرأنا «الإمام» في قوله: و يجعله الإمام- بكسر الهمزة- مرادا به إمام الجماعة، بمعنى أنّ القبر ينزّل منزلة إمام الجماعة، لا في

جميع الخصوصيّات، بل في خصوص عدم التقدّم، فيراد من الإمام في قوله: لأنّ الإمام إلخ أيضا إمام الجماعة، و حينئذ يصلح التعليل للحكم الإلزامي، إلّا أنّ هذا الاحتمال لو لم نقل بمرجوحيّته بالنسبة إلى الأوّل فلا أقلّ من مساواته معه و حصول الإجمال بذلك المسقط عن الاستدلال، و المتيقّن حينئذ مطلق المرجوحيّة للتقدّم في الصلاة على قبر الإمام عليه السّلام.

و أمّا الروايتان الأخريان فبعد الغمض عن سندهما يشكل حملهما على التحريم بعد تصريح الرواية الأولى بجواز الصلاة في اليمين و الشمال، فالنهي عنهما في الاولى من الأخيرتين و الأمر بالخلف في الأخيرة منهما لا يمكن أن يحملا على الإلزام، بل للكراهة و الندب، فالنهي عن التقدّم لوقوعه في تلو المكروه أو المستحبّ يضعف عن إثبات التحريم.

ثمّ إنّ القول بتحريم التقدّم مبنيّ- على ما عرفت- على قراءة الإمام في صحيح الحميري في الموضعين بكسر الهمزة مرادا به إمام الجماعة، و حينئذ فالعبرة بنفس القبر، لا بالمقبر فيه، فلو اشتمل القبر على الثياب و الشبّاك فاليمين و الشمال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 373

و القدّام و الخلف يلحظ بالنسبة إلى المجموع، فإذا كان في أحد الجانبين بملاحظة المجموع و متقدّما بالنسبة إلى المدفون فيه فلا حرمة.

و أمّا إذا قرأناه في الموضع الأوّل بالفتح فالعبرة بالمدفون فيه، فلا بدّ من ملاحظة عدم التقدّم عليه في التخلّص عن الكراهة، هذا هو الكلام في قبور الأئمّة عليهم السّلام.

حكم الصلاة بين القبور و عليها و إليها
اشارة

و أمّا سائر القبور فالمعروف كراهة الصلاة بينها و عليها و إليها.

أمّا الأوّل:

فللجمع بين موثّقة عمّار الناهية عن الصلاة بين القبور إلّا إذا كان بينه و بينها في كلّ واحدة من الجهات الأربع عشرة أذرع، و بين الصحاح الأربع الناصّة بالجواز من غير تقييد بالبعد المذكور.

و لا يخفى أنّها غير قابلة للتقييد بالموثّقة، لأنّه يلزم التقييد بالفرد النادر، فإنّ الغالب من الصلاة بين القبور كونها قريبة من المصلّي غير بعيدة عنه، خصوصا بهذا المقدار من كلّ جانب، فلا محيص عن التصرّف في الموثّقة بحملها على الكراهة.

و من هنا يعلم أنّ الصلاة إلى القبور أيضا يعلم جوازها و عدم حرمتها من جهة الغلبة المذكورة أعني: أنّ الغالب من أفراد عنوان الصلاة بين القبور مشتمل على الصلاة إلى القبر، كما على الصلاة عن يمينه و عن شماله و في قدّامه، فإذا حكم بعدم الحرمة بعنوان البينيّة يعلم عدمها بواحد من تلك العناوين الأربعة أيضا، فإنّ الترخيص في الشي ء ترخيص في ملازماته الغالبيّة، نعم لا يستفاد الكراهة إلّا بالنسبة إلى عنوان بين القبور دون شي ء من تلك و لو انفكّ عن البين كما لو صلّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 374

في نقطة الانتهاء.

و أمّا الثاني:

فيدلّ عليه قول النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: «الأرض كلّها مسجد، إلّا الحمّام و القبر» «1».

و رواية يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نهى عن الصلاة على القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه» «2».

و النهي و إن كان ظاهرا في التحريم، إلّا أنّ عطف المكروه عليه أو عطفه على المكروه يوهن ظهوره، فالمتيقّن مطلق المرجوحيّة.

و أمّا الثالث: أعني الصلاة إلى القبر فقد استدلّ على كراهتها بصحيحة معمّر بن خلّاد عن الرضا عليه السّلام

«قال عليه السّلام: لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتّخذ القبر قبلة» «3».

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: قلت له: الصلاة بين القبور؟

قال: بين خللها، و لا تتّخذ شيئا منها قبلة، فإنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نهى عن ذلك و قال:

لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «4».

و مرسلة الصدوق «قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ لعن اليهود حيث اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «5».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 8.

(3) المصدر: الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 5.

(5) المصدر: الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 375

و الاستدلال بهذه الأخبار مبنيّ على تفسير الاتّخاذ قبلة بكون الصلاة في قبال القبر و بحذاه، و هذا بعيد غايته، حيث لا يطلق بمجرّد محاذاة شي ء لإنسان و مواجهته إيّاه أنّه قبلة له، فضلا عن صدق اتّخاذه قبلة، مضافا إلى عدم مناسبة التعليل بلعن اليهود بهذا العمل مع الكراهة، بل المناسب له التحريم، و إلى معارضتها على هذا التفسير بالأخبار الكثيرة الواردة في باب زيارة الحسين و سائر الأئمّة صلوات اللّٰه عليه و عليهم المشتملة على استحباب الصلاة خلف قبورهم عليهم السّلام و ترتّب الثواب عليها.

و ارتكاب التخصيص بما عدا قبورهم عليهم السّلام ينافيه ما في صحيح زرارة و المرسل المتقدّمين من نهي النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله من اتّخاذه قبره صلّى اللّٰه عليه

و آله قبلة، و التفصيل بين قبره صلّى اللّٰه عليه و آله و قبورهم عليهم السّلام نقطع بعدمه، فهذه الأخبار منافية مع تلك بناء على التفسير المذكور، سواء على التحريم أم الكراهة.

فالحقّ أن يقال تفصّينا عن جميع ذلك بحرمة عنوان اتّخاذ القبر قبلة، لكن بمعنى جعله كالكعبة، لا على سبيل الاستقلال بأن يصلّي إليه و لو مستدبرا للكعبة المشرّفة، فإنّه أمر لا ينقدح في ذهن أحد من المسلمين و لو كان من أضعف العوام، حيث إنّ اشتراط الكعبة في الصلاة صار في المغروسيّة في الأذهان بمثابة لا ينقدح في ذهنهم خلافه حتّى يحتاج إلى النهي و الردع، بل على سبيل المشاركة، بأن يصلّى نحو الكعبة، لكن مع توجّه خاطره إلى القبر الشريف أيضا بأن يجعله كالكعبة المشرّفة وجها للّٰه تعالى.

فكما أنّ استقباله للكعبة بعنوان أنّه وجه اللّٰه، كذلك كان متوجّها إلى القبر الشريف بهذا النظر بحيث يجمعهما في الوجهيّة للّٰه تعالى.

فهذا المعنى أمر يمكن أن ينقدح في بعض الأذهان العواميّة، كما انقدح نظيره

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 376

فيهم، فلهذا احتيج إلى الردع عنه حين ما رخّصوا عليهم السّلام في الصلاة بين القبور حتّى لا يرتكبه أحد بالنسبة إلى قبر من قبور الأئمة عليهم السّلام أو الصلحاء الأبرار إذا كان في سمت قبلة المصلّي.

و بالجملة، فالظاهر إرادة هذا المعنى، و يناسبه التعليل أيضا، و لا ينافيه الأخبار المشار إليها أيضا، لأنّها ناظرة إلى مجرّد كون الصلاة خلف القبر بدون الاتّخاذ المذكور، لكن على هذا يبقى كراهة الصلاة إلى القبر بلا دليل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 377

البحث الخامس في الأذان و الإقامة

اشارة

و فيهما مباحث:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 379

المبحث الأوّل لا إشكال في أنّهما مشروعان مؤكّدا في الفرائض الخمس اليوميّة،
اشارة

إنّما الكلام في أنّها على وجه الوجوب إمّا شرعا أو شرطا في كليهما، أو في خصوص الإقامة مطلقا، أو في بعض الصور، أو على وجه الاستحباب مطلقا.

فقد اختلفت الأقوال في ذلك لاختلاف الأنظار في وجه الجمع بين متشتّتات الأخبار، إلّا أنّ المشهور على ما قيل على استحبابهما في الجميع مطلقا، سفرا و حضرا، أداء و قضاء، جماعة و فرادى، و لنقدّم الكلام في الإقامة، لأنّ القول بوجوبها في جميع الفرائض الخمس أكثر، ثمّ نتبعه إن شاء اللّٰه تعالى بالتكلّم في الأذان.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ مقتضى الأصل لا شبهة أنّه مع إجمال الأدلّة و الترديد في وجوبها بأيّ من القسمين أعني شرعيّا كان أم شرطيّا هو البراءة و عدم الوجوب بناء على أنّ الشكّ في الشرط مرجعه البراءة كما قرّر في الأصول،

فالقائل بالوجوب لا بدّ له من إقامة الدليل،
اشارة

فالذي يمكن أن يكون مستندا له في هذا الباب أحد أمور:

الأوّل: ما ورد في موثّقة عمّار

من قول الصادق عليه السّلام في مقام التعليل لعدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 380

سقوط الأذان و الإقامة عن المريض و إن كان شديد الوجع: «لأنّه لا صلاة إلّا بأذان و إقامة» «1».

و ظاهر هذا التركيب كون النفي راجعا إلى الحقيقة، و رجوعه إلى الكمال خلاف الظاهر.

و فيه أنّه بعد لزوم إرجاعه إلى الكمال بالنسبة إلى الأذان لوجود الأخبار الأخر المصرّحة بنفي وجوبه و عدم البأس بتركه في السفر و الحضر بنحو الإطلاق من دون تفصيل- كما في صحيحة الحلبي- لا يمكن حفظ هذا الظهور بالنسبة إلى الإقامة فقط، بل إمّا يحمل على نفي الكمال بالنسبة إليهما، فيكون الموثّقة شاهدا على استحباب الإقامة لا وجوبها، أو على الجامع بين نفي الكمال و الصحّة، فلا دلالة لها بالنسبة إلى الإقامة حينئذ لا على الوجوب و لا الاستحباب، و على كلّ حال لا يمكن التمسّك بها للوجوب.

الثاني: ما ورد في مقام تعليل اعتبار عدم التكلّم في الإقامة

من قول الصادق عليه السّلام في خبر أبي هارون المكفوف: «يا أبا هارون الإقامة من الصلاة، فإذا أقمت فلا تتكلّم و لا تؤم بيدك» «2».

و مثله ما في خبر يونس الشيباني من قول الصادق عليه السّلام: «إذا أقمت الصلاة فأقم مترسّلا، فإنّك في الصلاة» «3»، و في خبر آخر: «فإنّه إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 12.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 9.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 381

فإنّ التعبير بكونها من الصلاة أو: إنّك في

الصلاة ربما يستفاد منه علاوة على وجوبها كونها دخيلة فيها على وجه الشرطيّة بحيث يفسد الصلاة بدونها، و لهذا اعتبر فيها ما اعتبر في الصلاة.

و لكن فيه أنّه بعد القطع بتفاوت أفراد الصلاة كمالا و نقصانا، فمن المحتمل أنّ الإقامة كالقنوت موجبة لكمال الصلاة و صحّ اعتبار كونها من الصلاة، فإنّ أجزاء الصلاة الكاملة و شروطها يصحّ أن يقال: إنّها بعض الصلاة حقيقة، و لا سيّما بعد ما ورد في مقام تحديد أفعال الصلاة من أنّ أوّلها التكبير و آخرها التسليم، و أمّا اشتراط ما يشترط في الصلاة من الطهارة و الاستقبال و عدم التكلّم فعلى القول به لا يدلّ على الوجوب، إذ ربّ مستحبّ يشترط في صحّته الطهارة و سائر الشروط الصلاتيّة.

الثالث: ما ورد من تجويز قطع الفريضة عند نسيان الإقامة لتداركها،

فإنّه لو لم تكن الإقامة واجبة لما جاز لأجل تداركه قطع الصلاة الذي هو أمر محرّم في نفسه.

و فيه أنّه من المحتمل أن يكون جواز ذلك المحرّم لأجل الأمر الغير الواجب من جهة قصور مقتضيه و اختصاصه بعدم طروّ ذلك الأمر، و بعبارة أخرى: من باب فوات الموضوع لذلك المحرّم، لا من باب المزاحمة، كما وقع نظيره في السورة، فإنّ وجوبها مقصور بعدم الاستعجال لأجل حاجة و لو دنيويّة، فالحاجة الدنيويّة موجبة لفوات موضوع الوجوب و ملاكه، لا أنّها يزاحم الواجب مع تحقّق موضوعه.

الرابع: ما ورد من التعبير بأنّه: «يجزيك في الصلاة إقامة واحدة»

«1»، أو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب الأذان و الإقامة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 382

«إقامة بدون أذان» «1».

تقريب الاستدلال أنّ لفظ الإجزاء في حدّ ذاته لا ظهور له في الوجوب، بل يختلف حسب كون النظر في استعماله إلى أداء الأمر الاستحبابي أو الوجوبي، و هو فيهما مستعمل في معناه بدون تجوّز فيه أصلا، و لكن في خصوص المقام يمكن استظهار الوجوب منه بملاحظة أنّ مجموع الأذان و الإقامة ليسا متعلّقين لأمر واحد بحيث يكون امتثاله متوقّفا على إيجاد كليهما، فلو لم يأت بواحد لم يمتثله أصلا، بل كلّ واحد له أمر مستقلّ منحاز عن الآخر، فلا معنى للإجزاء في شي ء منهما بالنسبة إلى أمر الآخر، كما أنّ الإجزاء عن أمر نفسه بديهيّ لا يحتاج إلى البيان، فلو كان الأمران استحبابيّين لما كان لهذا الإطلاق وجه إلّا لدفع توهّم المخاطب ارتباطهما في الأمر الاستحبابي و بيان أنّهما متعلّقين لأمرين مستقلّين، و لكنّه توهّم بعيد.

و هذا بخلاف ما لو كان أمر الإقامة وجوبيّا و الأذان ندبيّا، فيصحّ دفعا لتوهّم كونهما معا مأمورا بهما بأمرين وجوبيّين الإطلاق المذكور، يعني يجزيك

في مقام الامتثال للأمر الوجوبي الإقامة الواحدة، فإذا فعلتها فقد فرغت عمّا تعلّق بعهدتك وجوبا، و إنّما فات منك الفضل.

و الحاصل: لو كان الأذان و الإقامة بجمعهما عنوان واحد و كانا مستحبّين بذاك العنوان الواحد المنطبق عليهما على وجه الارتباط و كان ذلك العنوان تشكيكيّا بحيث كان مرتبته الأعلى متقوّمة بهما معا، و الأدنى حاصلة بواحد منهما، أو كان في البين توهّم ذلك كان لإطلاق الإجزاء في الإقامة وحدها وجه.

و أمّا إذا كان حكاية الارتباط بينهما حتّى في المرتبة غير ثابتة و لا محتمل، بل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب الأذان و الإقامة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 383

كان مقطوعا أنّهما أمران منحاز كلّ منهما عن الآخر فلا محالة يكون الكلام المذكور للإرشاد إلى تميّز الواجب منهما عن المندوب، هذا.

مضافا إلى أنّ التتبّع في الروايات يشهد بأنّ الإقامة كانت عند السائلين مفروغا عنها، بحيث لم يقع سؤال عن تركها كما وقع السؤال عن ترك الأذان، و أيضا في موارد السقوط مثل المزدلفة و عرفة لم يرخّص شرعا إلّا في ترك الأذان دون الإقامة، فيشهد ذلك بأنّ الإقامة من الأمور المفروغ عنها، بحيث لا يرفع اليد عنها بحال، كسائر الأفعال الواجبة الصلاتيّة، نعم مجرّد ذلك لا يدلّ على أنّه تعبّدي أو شرطي.

لكنّ الذي يبعّد الوجوب الشرطي في الإقامة ما ورد مستفيضا من أنّ: «من صلّى بأذان و إقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة، و من صلّى بإقامة بغير أذان صلّى خلفه صفّ واحد» «1».

فإنّ التعبير عن شرطيّة شي ء للصلاة ليس إلّا ببطلان الصلاة بدونه، كقوله:

لا صلاة إلّا بكذا، و ما يؤدّي مؤدّاه، و لا يتعارف التعبير عنها ببيان الثواب على فعله و أنّ

من فعل كذا كان له من الأجر كذا و إن كان ذلك في الواجبات المستقلّة متعارفا.

فالإنصاف منافاة هذه الأخبار مع وجوبها الشرطي دون التعبّدي.

و يمكن أن يقال بأنّا نستفيد استحباب الإقامة من أخبار اقتداء الملائكة صفّا أو صفّين، لا لمجرّد أنّ الترغيب إلى عمل بذكر الثواب يستشمّ منه رائحة الاستحباب، بل لمقدّمتين مستفادتين من هذه الأخبار.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الأذان و الإقامة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 384

الاولى: أنّ الأذان و الإقامة ليسا بأجنبيّين عن الصلاة و مطلوبين مستقلّين بحيالهما، بل يحدث بسببهما خصوصيّة و مزيّة في الصلاة، فالصلاة المقرونة بهما أو بالإقامة ذات مزيّة مفقودة في الصلاة الفاقدة، لا أنّ الصلاة على حال واحد في الحالين و إنّما الفرق بإدراك مطلوب آخر معها و فواته.

و سبب استفادة ذلك منها حكمها بأنّ الأذان و الإقامة موجبان لأهليّة في الصلاة و ارتفاع منزلة فيها حتّى تصير قابلة لاقتداء الملائكة بها، فهما نظير خصوصيّة الكون في المسجد و سائر الأمور الموجبة لحدوث خصوصيّة في الصلاة المقرونة بها، و يعبّر عنها بالشروط، غاية الأمر إمّا الشرط الوجوبي أو الاستحبابي، فمطلوب الشارع هو الصلاة معهما.

كما نقول: مطلوبه الصلاة مع الطهارة، فكما أنّ الوضوء مطلوب مقدّمي لتحصيل هذه الخصوصيّة المتقوّمة بها مطوبيّة الشارع في الصلاة، فكذا الأذان و الإقامة أيضا مطلوبان مقدّميان لتحصيل الخصوصيّة الخاصّة المتقوّمة بها، إمّا أصل المطلوبيّة المتعلّقة بالصلاة، و إمّا مرتبة كاملة منها.

فعلى التقدير الأوّل هما شرطان للصحّة، و على الثاني شرطان للكمال، نعم يحتمل أن يكونا مضافا إلى هذه المطلوبيّة المقدّميّة مطلوبين نفسا أيضا، و لكن مطلوبيّتهما نفسا لا دليل عليها، فيكون مجرى للأصل.

و يظهر الثمر في ما لو ترك الصلاة

و تركهما أيضا، فعلى الأوّل لا يستحقّ إلّا عقوبة الصلاة، و على الثاني يستحقّ عقوبتين، و بالجملة، الذي يمكن جعل هذه الأخبار دليلا عليه ليس بأزيد من الطلب المقدّمي، فيبقى النفسي على صرف الاحتمال الخالي عن الحجّة.

و الثانية: أنّه بعد استظهار عدم الطلب النفسي، و إلّا لكان المناسب ظهور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 385

الأثر في نفس الإقامة كان قيل: من أقام أمام صلاته وقع مورد تحسين صفّ من الملائكة في إقامته، و من أذّن و أقام وقع مورد تحسين صفّين فيهما.

فحيث رتّبه على الصلاة و أنّ الصلاة تصير لائقة بأن يقتدي بها الملائكة كان هذا قرينة على أنّ مطلوبيّتها على وجه الشرطيّة للصلاة، لا النفسيّة نقول: الصلاة المأخوذة في القضيّة- و المفروض لها حالتان: كونها مع الإقامة تارة، و مع الأمرين اخرى- يحتمل فيها ثلاثة احتمالات:

الأوّل: الصلاة الجامعة لشرائط الصحّة كلا و من جميع الجهات.

الثاني: الأعمّ من الصحيحة و من الفاسدة مطلقا و لو بعدم الطهارة و نحو ذلك.

و الثالث: الصحيحة من غير جهة الإقامة، فالاحتمال الوسط لا يحتمله أحد، إذ الملك لا يقتدي بالفاسدة قطعا، و أمّا الأخير فيبعّده أنّ الإقامة إذا كانت شرطا للصحّة و كانت الصلاة بدونها فاسدة كالطهارة فأوّلا لا اختصاص بهذا الشرط في اقتداء الملك، بل لا بدّ من ذكر القبلة و الطهور و غيرهما من الشروط أيضا، و ثانيا لا اختصاص للملك بكون ذلك شرطا لاقتدائه، بل أدنى مصلّ من البشر أيضا يتوقّف اقتداؤه على وجود شرائط الصحّة في صلاة المقتدي (بالفتح) فما وجه التخصيص لذلك بالملك.

مضافا إلى أنّ إطلاق الصلاة منصرف إلى الوجه الأوّل أعني: الجامعة لتمام الشرائط، كما في قولك: من تصدّق أمام صلاته بدرهم

كانت صلاته مشرقة مضيئة، فإنّ الإنسان يفهم من لفظ «صلاته» ما هو الجامع لتمام الشرائط المفروغ عنها في هذا الكلام، و لا محالة ليس التصدّق بدرهم من جملتها.

نعم لو ثبت من دليل خارجي شرطيّة التصدّق و ارتباطه بالصلاة من حيث الصحّة لا الكمال صار ذلك قرينة على إرادة خلاف الظاهر أعني: الصلاة الصحيحة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 386

من غير هذه الجهة، و لكن ما لم يثبت من الخارج ذلك كان نفس الكلام ظاهرا في سلب ارتباطه عن الصلاة صحّة و إن ارتبط بها كمالا.

و يشهد لما ذكر من عدم إرادة الصحّة لو لا الإقامة أنّ المراد بالنسبة إلى الأذان قطعا هو الصلاة الصحيحة من جميع الجهات، فلو كان بالنسبة إلى الإقامة هو الصحيحة من غير جهتها لزم اختلاف السياق، مع أنّ الظاهر كونها على نسق واحد بالنسبة إليهما، فإمّا أريد من الصلاة هو الصحيحة من جميع الجهات بالنسبة إلى كليهما، و إمّا الصحيحة من غير جهة الإقامة و الأذان، فحيث إنّ الثاني مقطوع العدم، للقطع بعدم دخالة الأذان في الصحّة، يتعيّن الأوّل، و لازمة عدم دخالة الإقامة أيضا في الصحّة كالأذان.

هذا مضافا إلى أنّا لم نعهد في شي ء من أدلّة الأجزاء و الشرائط المعتبرة في صحّة المأمور به إفادة الجزئيّة أو الشرطيّة بلسان ذكر الثواب، كان يقال: من قرأ الفاتحة في صلاته كان له كذا و كذا من الأجر، نعم يعهد ذلك في أدلّة الواجبات و المستحبّات المستقلّة و كذا في المستحبّات التي لها دخل في كمال الطبيعة المأمور بها مع الفراغ عن صحّتها، و حيث إنّ الإقامة ليست من قبيل الأوّلين بحكم المقدّمة الأولى تعيّن أن يكون من الأخير.

و يشهد لهذا أيضا

قوله عليه السّلام في ذيل بعض أخبار الصفّ و الصفّين: اغتنم الصفّين، حيث أطلق الغنيمة على صفّ الإقامة كصفّ الأذان، فكما أنّ الثاني غنيمة، كذلك الأوّل، و لا يخفى ظهور لفظ الغنيمة في عدم الوجوب، هذا.

و يمكن أن يستدلّ أيضا على عدم وجوب الإقامة و استحبابها بما في صحيح صفوان من قوله عليه السّلام: «و الأذان و الإقامة في جميع الصلوات أفضل» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 387

تقريب الاستدلال أنّه عليه السّلام عبّر بالأفضليّة بالنسبة إلى الأذان و الإقامة كليهما، لا بمعنى اجتماعهما، إذ العطف بالواو ليس لاجتماع المعطوف و المعطوف عليه في الوجود، بل لاجتماعهما في الحكم و إن كانا بحسب الوجود مختلفين غير مجتمعين.

ألا ترى صحّة قولك: جاءني زيد و عمرو إذا جاءا متعاقبين لا متقارنين؟

فكذا هاهنا إذا قيل: الإقامة و الأذان أفضل، معناه أنّ الإقامة أفضل و الأذان أفضل، فالصلاة مع تركهما أيضا له فضل، لكن مع فعلهما أو فعل أحدهما يصير أفضل، و هذا التعبير و إن وقع في موثّق سماعة بالنسبة إلى الأذان فقط، و لكن قد جمع بينهما في هذا التعبير في صحيحة صفوان.

ففي الأولى: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: لا تصلّ الغداة و المغرب إلّا بأذان و إقامة و رخّص في سائر الصلوات بالإقامة، و الأذان أفضل» «1».

و في الثانية: «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الأذان مثنى مثنى، و الإقامة مثنى مثنى، و لا بدّ في الفجر و المغرب من أذان و إقامة في الحضر و السفر، لأنّه لا يقصّر فيهما في حضر و لا سفر، و يجزئك إقامة بغير أذان في

الظهر و العصر و العشاء الآخرة، و الأذان و الإقامة في جميع الصلوات أفضل» «2».

و إرجاع الكلام إلى أنّ ضمّ الأذان إلى الإقامة في الجميع أفضل خلاف ظاهر لا يصار إليه بغير ضرورة تلجأ إليه، بل يستفاد من الكلام أنّ الأذان و لو منفكّا عن الإقامة أفضل من تركه، كما أنّ الإقامة منفكّة عن الأذان أفضل من تركها، فيستفاد مشروعيّة الأذان فقط بدون الإقامة أيضا كالعكس مضافا إلى مشروعيّة الصلاة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 388

بدونهما، و اللّٰه العالم.

إن قلت: الأفضليّة إنّما لوحظت بالنسبة إلى التبعيض بين الصلوات بإتيان الأذان و الإقامة معا في الفجر و المغرب و الاقتصار على الإقامة في الثلاثة الباقية، فالمفضّل عليه هذا، و المفضّل هو الإتيان بهما معا في جميع الصلوات، و على هذا فيكون من باب أفضليّة أحد أفراد الطبيعة المأمور بها، نحو قولك: التصدّق بهذا الدرهم واجب، و بهذا و ذاك أفضل، و ليس في هذا مخالفة ظاهر في كلمة الواو.

قلت: في هذا المثال أيضا لم يفد الواو المعيّة في الوجود، بل في الحكم، غاية الأمر أنّ الأفضليّة حكم للتصدّق لا للدرهمين، و حكمهما هو التصدّق.

و إن شئت المثال المناسب للمقام فلاحظ قولك: إكرام زيد و إكرام عمرو أفضل من إكرام بكر، فهل ترى أنّ معنى الكلام أنّ مجموع الإكرامين من حيث الاجتماع أفضل، أو أنّ المعنى أنّ كلا منهما أفضل؟ لا أظنّك تقول بالأوّل.

و حينئذ نقول في المقام: إنّ المفضّل عليه هو الصلاة الخالية عن الأذان في حكم أفضليّة الأذان، و الصلاة

الخالية عن الإقامة في حكم أفضليّة الإقامة.

و القرينة على هذا موثّقة سماعة حيث قال عليه السّلام بعد الحكم بنظير ما في صحيح صفوان: و الأذان أفضل، و لا شكّ أنّ معنى هذه الكلمة ليس أنّ ضمّ الأذان أفضل حتّى يكون المفضّل عليه هو الصلاة مع الإقامة بلا ضمّ الأذان، بل المعنى أنّ نفس الأذان بالنسبة إلى الصلاة الخالية عنه أفضل، فإذا عطفنا على الأذان الإقامة و قلنا:

الأذان و الإقامة أفضل، و راعينا ظهور كلمة الواو في الاشتراك في الحكم لا المعيّة في الوجود صار المعنى أنّ الإقامة أيضا حالها كالأذان في أنّها أفضل بالنسبة إلى خلوّ الصلاة عنها، فكلّ من الأمرين إنّما فضّل على فقدان نفسه في الصلاة بدون ملاحظة صاحبه، فكأنّه قيل: الأذان في جميع الصلوات أفضل من حالة خلوّ الصلاة عنه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 389

و كذا الإقامة، و لا تتركهما في الغداة و المغرب و رخّص لك بالاكتفاء بالإقامة في الثلاثة الباقية.

و الحاصل أنّه بعد إمكان حفظ ظهور الواو و عدم منافاة لسائر أجزاء الكلام معه و عدم إشكال في أصل هذا الظهور لا وجه لرفع اليد عنه.

و يشهد للاستحباب أيضا في الجملة الخبر المرويّ عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام «قال: لا بأس بأن يصلّي الرجل بنفسه بلا أذان و إقامة» «1».

كلام حول كتاب دعائم الإسلام

و أمّا اعتبار هذا الكتاب و مؤلّفه أعني: أبا حنيفة القاضي نعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيوان الذي كان منصوبا بالقضاوة من طرف خليفة عصره من الخلفاء الإسماعيليّة فربما يخدش فيه تارة من حيث اشتماله على الفتاوى الغير المفتي بها عند الأصحاب، كعدم انفعال الماء القليل و تحريم نكاح المتعة.

و اخرى من حيث خلوّه

عن الرواية عن الأئمّة من بعد الصادق عليه السّلام و اقتصاره عليه و من تقدّمه عليهم السّلام، و هذا يناسب مذهب الإسماعيليّة القائلين بإمامة إسماعيل بن جعفر بعد أبيه عليه السّلام و أنّه حيّ غائب.

و ثالثة من حيث عدم اشتهاره بين أصحاب الحديث و عدم نقلهم عنه، مع نقلهم عن فاسد العقيدة في المذهب إذا كان موثّقا، و ما ذاك إلّا لعدم كونه معتمدا عندهم.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 390

و رابعة من حيث إرساله و حذفه أسانيد الأحاديث المنقولة فيه.

و لعلّه من هذه الجهات أو بعضها ذكر العلّامة المجلسي في البحار أنّ أخباره يصلح للتأييد و التأكيد.

و أمّا المؤلّف: فقد قال في ترجمته في أمل الآمل: أبو حنيفة نعمان بن أبي عبد اللّٰه محمّد بن منصور بن أحمد بن حيوان، أحد الأئمّة الفضلاء المشار إليهم، ذكره الأمير مختار المسحي في تأريخه، فقال: كان من الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد عليه، و له عدّة تصانيف، منها: كتاب أصول المذهب و غيره، انتهى. و كان مالكي المذهب، ثمّ انتقل إلى مذهب الإماميّة و صنّف كتبا و كتاب الأخبار في الفقه، و كتاب الاقتصار في الفقه أيضا، و قال ابن زولاق في كتاب أخبار مصر في ترجمة أبي الحسن علي بن النعمان المذكور و كان أبوه النعمان بن محمّد بن القاضي في غاية الفضل من أهل القرآن و العلم بمعانيه و عالما بوجوه الفقه و علم اختلاف الفقهاء و اللغة و الشعراء الفحل و المعرفة بأحوال الناس مع عقل و إنصاف و ألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن

تأليف و أملح سجع، و عمل في المناقب و المثالب كتابا حسنا، و له ردود على المخالفين، له ردّ على أبي حنيفة و مالك، و على الشافعي، و كتاب اختلاف الفقهاء، و ينتصر فيه لأهل البيت عليهم السّلام، و له القصيدة ألقبها بالمنتخبة، و كان أبو حنيفة المذكور ملازما صحبة المعزّ تميم بن المنصور لمّا وصل من إفريقيّة إلى الديار المصريّة، كان معه و مات سنة 363 بمصر، ذكر ذلك كلّه ابن الخلّكان، انتهى كلام أمل الآمل.

نعم ذكر ابن شهر آشوب في معالم العلماء أنّه ليس بإمامي، و كتبه حسان.

و عن العلّامة الطباطبائي في رجاله في ضمن كلام له في ترجمة القاضي المذكور: و كتاب الدعائم كتاب حسن جيّد يصدق ما قيل فيه، إلّا أنّه لم يرو فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 391

عمّن بعد الصادق عليه السّلام من الأئمة عليهم السّلام خوفا من الخلفاء الإسماعيليّة، حيث كان قاضيا منصوبا من قبلهم بمصر، لكنّه قد أبدأ من وراء ستر التقيّة مذهبه بما لا يخفى على اللبيب.

و قال صاحب المقاييس في ذكر القائلين بعدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة:

و ذهب إليه من القدماء صاحب دعائم الإسلام، كما يظهر من كلامه في هذا الكتاب، و ساق بعض ما رواه فيه و بيّنه و شرحه، ثمّ قال: و هذا الرجل كما يلوح في كتابه من أفاضل الشيعة، بل الإماميّة و إن لم يرو في كتابه إلّا عن الصادق و من قبله من الأئمة عليهم السّلام.

و قال: و ما في معالم السروي من نفي كونه إماميّا منظور فيه، و قد ذكر السروي أنّ له كتبا حسانا في الإمامة و فضائل الأئمّة عليهم السّلام و غيرها، و عدّ منها كتابا

في المناقب إلى الصادق عليه السّلام، و لعلّ الوجه في اقتصاره عليه سلام اللّٰه عليه ما سبق من احتمال كون من نسبه من العامّة إلى الإماميّة أنّه من الشيعة، لكنّه خلاف الظاهر، و اللّٰه يعلم.

و أكثر الأخبار التي أوردها في الدعائم موافقة لما في كتب أصحابنا المشهورة، و قال في أوّله أنّه اقتصر فيه على الثابت الصحيح ممّا جاء عن الأئمّة من أهل بيت الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله من جملة ما اختلف فيه الرواة عنهم و أنّه إنّما أسقط الأسانيد طلبا للاختصار، إلّا أنّه مع ذلك خالف فيه الأصحاب في جملة من الأحكام المعلومة عندهم، بل بعض ضروريّات مذهبهم كحلّية المتعة، فربما كان مخالفته لهم هنا و بقاؤه على مذهب مالك من هذا الباب.

و لعلّه لبعض ما ذكر و لعدم اشتهاره بين الأصحاب و عدم توثيقهم له و عدم تصحيحهم لحديثه أو كتابه لم يورد صاحب الوسائل شيئا من أخباره و لم يعدّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 392

الدعائم من الكتب التي يعتمد عليها، و قال صاحب البحار: إنّ أخباره يصلح للتأييد و التأكيد، مع أنّ أخبار كثير من الأصول و المصنّفات يعتمد عليها و إن كان مؤلّفوها فاسدي المذهب كابن فضّال و غيره، فلتعرف ذلك. انتهى.

أقول: أمّا اشتماله على الفتاوى الغير المفتي بها عند الأصحاب فقد اعتذر عنه العلّامة النوري قدّس سرّه في خاتمة كتاب مستدرك الوسائل بوجوه:

الأوّل: أنّه لم يخالف في موضع إلّا لما ساقه الدليل من ظاهر كتاب أو سنّة، و لم يتمسّك في موضع بالقياس و الاستحسان و الاعتبارات العقليّة و المناطات الظنّية.

الثاني: أنّه لم يكن الأحكام في تلك الأعصار بين فقهاء أصحابنا منقّحة متميّزة.

الثالث: أنّه ما خالف

في فرع غالبا إلّا و معه موافق معروف، نعم في مسألة المتعة لا موافق له، إلّا أنّي بعد التأمّل ظهر لي أنّه ذكر ذلك على غير وجه الاعتقاد و إن استند للحرمة إلى أخبار رواها تقيّة أو تحبّبا إلى أهل بلاده، فإنّها عندهم من المنكرات العظيمة.

و الشاهد على ذلك- مضافا إلى بعد خفاء حلّيتها عند الإماميّة عليه- أنّه ذكر في كتاب الطلاق في باب إحلال المطلّقة ثلاثا ما لفظه: و عنه يعني جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه «قال: من طلّق امرأته أي ثلاثا، فتزوّجت تزويج متعة لم يحلّها ذلك له» و لو لا جوازها و عدم كونها الزنا المحض لم يكن ليوردها في مقام ما اختاره من الأحكام الثابتة عنهم عليهم السّلام بالأثر الصحيح، و هذا ظاهر و الحمد للّٰه، و مثله ما ذكره في باب ذكر الحدّ في الزنا ما لفظه: و عن عليّ صلوات اللّٰه عليه: «و لا يكون الإحصان بنكاح متعة» و دلالته على ما ادّعيناه أوضح.

الرابع: بعد محلّ إقامته عن مجمع العلماء و المحدّثين و الفقهاء الناقدين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 393

و تعسّر اطّلاعه على زبرهم و تصانيفهم و آرائهم و فتاواهم، لطول المسافة و صعوبة السير و قلّة التردّد، خصوصا بعد تعدّد الخليفة، فإنّه كان في مصر و كان تحت ملوك الفاطميّين، و الأصحاب في أقطار العراق و العجم و كانت في تصرّف العباسيين.

و من هنا يظهر الجواب عمّا ذكر من عدم اشتهاره، فإنّه لعدم اطّلاعهم عليه و عدم حاجتهم إليه، و صاحب الوسائل الظاهر أنّه لم يعثر على هذا الكتاب، فإنّه قال في آخر كتاب الهداية و هو مختصر الوسائل في ذكر الكتب التي لم ينقل

عنها إمّا لقلّة ما فيها من النصوص، أو لعدم ثبوت الاعتماد عليه، و عدّ منها فقه الرضا و طبّه عليه السّلام، أو ثبوت عدم اعتباره، و عدّ منها مصباح الشريعة.

و قال في أمل الآمل: و عندنا أيضا كتب لا نعرف مؤلّفها، و عدّ منها عشرة، و ليس لهذا الكتاب ذكر في الموضعين، و من البعيد أنّه كان عنده و لم يشر إليه، لأنّه إن عرف صاحبه و أنّه هو القاضي نعما، فقد مدحه في أمله، فينبغي ذكره في ما اعتمد عليه و نقل عنه و إن لم يعرفه، فذكره في الكتب المجهولة أولى من ذكر طبّ الرضا عليه السّلام و الكشكول الذي ليس فيه حكم فرعيّ أصلا.

و أمّا خلوّه عن الرواية عن الأئمة بعد الصادق عليهم السّلام فقد ذكر العلّامة المذكور في الكتاب المزبور أنّه وجد في كتاب الوصايا من الدعائم رواية عن ابن أبي عمير أنّه «قال: كنت جالسا على باب أبي جعفر عليه السّلام إذ أقبلت امرأة فقالت: استأذن لي على أبي جعفر عليه السّلام، قيل لها: و ما تريدين منه؟ قالت: أردت أن أسأله عن مسألة، فقيل لها: هذا الحكم فقيه أهل العراق فاسأليه، قالت: إنّ زوجي هلك و ترك ألف درهم و كان لي عليه من صداقي خمسمائة درهم، فأخذت صداقي و أخذت ميراثي، ثمّ جاء رجل فقال: لي عليه ألف درهم و كنت أعرف له ذلك، فشهدت بها، فقال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 394

الحكم: اصبر لي حتّى أتدبّر في مسألتك و أحسبها و جعل يحسب، فخرج إليه أبو جعفر عليه السّلام و هو على ذلك، فقال: ما هذا الذي تحرّك به أصابعك يا حكم؟

فأخبره، فما أتمّ الكلام حتّى

قال أبو جعفر عليه السّلام: أقرّت له بثلثي ما في يديها و لا ميراث لها حتّى يقضيه» «1».

و المراد به أبو جعفر الثاني عليه السّلام قطعا، لأنّ ابن أبي عمير لم يدرك الصادق عليه السّلام فضلا عن الباقر عليه السّلام، بل أدرك الكاظم عليه السّلام و لم يرو عنه، و إنّما هو من أصحاب الرضا و الجواد عليهما السّلام، و هو من مشاهير الرواة، بل الفقهاء العظام الذين لا يخفى عصرهم و زمانهم و طبقتهم على مثله من أهل العلم و الفضل.

و في كتاب الوقوف عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام: «إنّ بعض أصحابه كتب إليه: أنّ فلانا ابتاع ضيعة و جعل لك في الوقف الخمس» «2». إلى آخر الخبر المرويّ في الكافي و التهذيب و الفقيه مسندا عن عليّ بن مهزيار «قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام إلخ» «3» و عليّ من أصحاب الجواد و الرضا عليهما السّلام لم يدرك قبلهما من الأئمة عليهم السّلام أحدا.

و في كتاب الميراث عن حذيفة بن منصور «قال: مات أخ لي و ترك ابنته، فأمرت إسماعيل بن جابر أن يسأل أبا الحسن عليّا صلوات اللّٰه عليه عن ذلك،

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2: 361، الحديث 1315، و عنه مستدرك الوسائل: كتاب الوصايا، الباب 25 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 1.

(2) دعائم الإسلام 2: 344، الحديث 1290، و عنه مستدرك الوسائل: كتاب الوقوف و الصدقات، الباب 4، الحديث 1.

(3) الكافي 7: 26/ 30، و التهذيب 9: 130/ 557، و الفقيه 4: 178/ 628.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 395

فسأله، فقال: المال كلّه لابنته» «1».

و أيضا ذكر في آخر أدعية التعقيب ما لفظه: «و روينا عن الأئمة عليهم السّلام

أنّهم أمروا بعد ذلك بالتقرّب بعقب كلّ صلاة فريضة، و التقرّب أن يبسط المصلّي يديه ..

إلى أن ذكر الدعاء و هو: اللّٰهمّ إنّي أتقرّب إليك بمحمّد رسولك و نبيّك و بعليّ وصيّه وليّك، و بالأئمة من ولده الطاهرين الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ و جعفر بن محمّد، و يسمّي الأئمة إماما إماما حتّى يسمّي إمام عصره ثمّ يقول إلخ».

و روى في ذكر العقائق عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه نهى عن أربع كنى، إلى أن قال:

و أبي القاسم إذا كان الاسم محمّدا، نهى عن ذلك سائر الناس و رخّص فيه لعليّ عليه السّلام، و قال صلّى اللّٰه عليه و آله: المهدي من ولدي يضاهي اسمه اسمي و كنيته كنيتي.

و أيضا كثير من متون أخباره مطابق لما في الجعفريّات، بحيث تطمئنّ النفس أخذها منها، و الحال أنّ سند أخبارها ينتهي إلى موسى بن جعفر عليهما السّلام و حاله عليه السّلام عند الإسماعيليّة معلوم.

و أيضا في رسالة شريفة في فهرست كتب الشيخ الفقيه أبي الفتح محمّد بن عثمان ابن عليّ الكراجكي عملها بعض معاصريه ما لفظه: مختصر كتاب الدعائم للقاضي النعمان عمله و هو من جملة فقهاء الحضرة كتاب الاختيار من الأخبار، و هو اختصار كتاب الأخبار للقاضي النعمان، يجري مجرى اختصار الدعائم، و الظاهر أنّ المراد منه شرح الأخبار، و فيه من الدلالة على جلالة قدره ما لا يخفى.

قال العلّامة النوري قدّس سرّه: و لم أعرف صاحب الفهرست، إلّا أنّ في موضع منها

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الفرائض و المواريث، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 396

هكذا: كتاب

غاية الإنصاف في مسائل الخلاف يتضمّن النقض على أبي الصلاح الحلبي رحمه اللّٰه في مسائل خلف كذا بينه و بين المرتضى نصر فيها رأي المرتضى و نصر والدي رحمه اللّٰه. و في موضع آخر جواب رسالة الحازميّة في إبطال العدد و تثبيت الرؤية، و هي الردّ على أبي الحسن بن أبي حازم المصري تلميذ شيخي رحمة اللّٰه عليه عقيب انتقالي من العدد أربعون ورقة، و من ذلك يظهر أنّه و والده من فقهاء عصرهما.

و أمّا احتمال كونه إسماعيليا كما في كلام الفاضل الآميرزا عبد اللّٰه في رياض العلماء في ترجمته حيث قال: من أين علم أنّه كان من أصحابنا و أنّه اتّقى الخلفاء الإسماعيليّة، فهل هذا إلّا مجرّد دعوى و احتمال؟ إذ ما الدليل على أنّه لم يكن إسماعيليّا حقيقة من بين مذاهب الإماميّة، فتأمّل، انتهى.

أو استظهار عدم كونه إماميّا، كما في كلام صاحب الروضات حيث قال:

الظاهر عندي أنّه لم يكن من الإماميّة الحقّة و إن كان في كتبه يظهر الميل إلى طريقة أهل البيت عليهم السّلام و الرواية من أحاديثهم من جهة مصلحة وقته و التقرّب إلى السلاطين من أولادهم، و ذلك لما حقّقناه مرارا في ذيل تراجم كثير ممّن كان يتوهّم في حقّهم هذا الأمر بمحض ما يشاهد في كلماتهم من المناقب و المثالب اللتين يجريهما اللّٰه تعالى على ألسنتهم الناطقة لطفا منه بالمستضعفين من البريّة، و أنت تعلم أنّه لو كان لهذه النسبة يعني: ما ذكره صاحب الوسائل في أمل الآمل واقعا لذكره سلفنا الصالحون و قدماؤنا الحاذقون بأمثال هذه الشئون، و لم يكن يخفى ذلك إلى زمان صاحب الأمل الذي من فرط صداقته يقول بشيعيّة أبي الفرج الأصبهاني الخبيث.

ففيهما- مضافا إلى

ما تقدّم- أنّه يكذبهما ملاحظة سخافة مذهب الإسماعيليّة و كمال مباينته مع هذا العالم الجليل، بحيث لا يرضى المنصف بأن ينسب ذلك المذهب السخيف إليه، فإنّ من جملة ما ذهبوا إليه على ما صرّح به الشيخ الجليل الحسن بن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 397

موسى النوبختي في كتاب الفرق أنّهم أنكروا موت إسماعيل في حياة أبيه و قالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنّه خاف تغيّبه عنهم، و زعموا أنّ إسماعيل لا يموت حتّى يملك الأرض يقوم بأمر الناس، و أنّه هو القائم، هذا مذهب الخالصة منهم.

و أمّا الباطنيّة منهم فمقالاتهم أفظع و أشنع، فزعموا- كما في الكتاب المذكور- أنّ اللّٰه عزّ و جلّ بدا له في إمامة جعفر عليه السّلام فصيّرها في محمّد بن إسماعيل، و زعموا أنّه حيّ لم يمت و أنّه يبعث بالرسالة و شريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمّد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و أنّه من اولي العزم، و أولو العزم عندهم سبعة، نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد و عليّ صلوات اللّٰه عليهما و آلهما و محمّد بن إسماعيل.

و زعموا أنّ اللّٰه تبارك و تعالى جعل له جنّة آدم، و معناها عندهم الإباحة للمحارم و جميع ما خلق في الدنيا، و هو قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ كُلٰا مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لٰا تَقْرَبٰا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ موسى بن جعفر بن محمّد و ولده عليهم السّلام من بعده من ادّعى الإمامة منهم.

و زعموا أنّه خاتم النبيّين الذي حكاه اللّٰه عزّ و جلّ في كتابه، و أنّ جميع الأشياء التي فرضها اللّٰه عزّ و جلّ على عباده و سنّه نبيّه

و أمر بها فله ظاهر و باطن، و أنّ جميع ما استعبد إليه العباد في الظاهر من الكتاب و السنّة فأمثال مضروبة و تحتها معان هي بطونها و عليها العمل و فيها النجاة، و أنّ ما ظهر منها ففي استعمالها الهلاك و الشقاء، و هي جزء من العذاب الأدنى عذّب اللّٰه به قوما، إذ لم يعرفوا الحقّ و لم يقولوا به، إلى غير ذلك من مقالاتهم الشنيعة التي نسبها إليهم في الكتاب المذكور و غيره من تصانيفهم في هذا الباب.

و ليس في كتاب الدعائم ذكر لإسماعيل و لا لمحمّد أصلا في موضع منه، حتّى في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 398

مقام إثبات الإمامة و ردّ مقالات العامّة و أئمّتهم الأربعة، مع أنّ خلفاء عصره الذين كان هو في قاعدة سلطنتهم و منصوبا للقضاوة من قبلهم المدّعين انتهاء نسبهم إلى محمّد بن إسماعيل المستولين على بلاد المغاربة و مصر و الإسكندريّة و غيرها كانوا في الباطن من الباطنيّة، كما صرّح به العالم الخبير البصير السيّد مرتضى الرازي في كتاب تبصرة العوامّ، و مع ذلك فإنّه صرّح في كتابه بكفر الباطنيّة و ضلالتهم و خروجهم عن الدين، و من أراد فليراجع المستدرك حيث نقل هذا الموضع من كلامه.

ثمّ إنّ الظاهر من كتب المقالات أنّ الإسماعيليّة كلّهم منكرون للشرائع، تاركون للفرائض، مستبيحون للمحارم.

و من ذلك ظهر أنّ نسبة هذا العالم الجليل صاحب هذا المؤلّف الشريف إلى هذا المذهب السخيف افتراء عظيم، فإنّ الكتاب المذكور قد ألّف على طريقة العلماء الإماميّة، بل هو من أجلّ ما ألّفوا و أحسن ما دوّنوا من تقديم ما يحتاج إليه الفقه من مسائل الإمامة على أبدع نظم و ترتيب، كما لا يخفى

على الناظر اللبيب.

و على هذا فنقول: إن كان القدح في المؤلّف (بالكسر) من جهة كونه إسماعيليّا فالقرائن المتقدّمة من كتابه شاهد بكونه إماميّا اثنا عشريّا، و إن كان في ستر التقيّة من الخلفاء الإسماعيليّة.

و إن كان من جهة عدم توثيق الرجاليّين إيّاه و عدم تصحيحهم حديثه و كتابه فكم له من نظير في جملة الثقات المعتمدين الذين قد أهملهم الرجاليّون إمّا للغفلة، أو عدم الاطّلاع، أو العجلة، كجعفر بن أحمد القمّي، و فرات بن إبراهيم الكوفي صاحب التفسير، و محمّد بن عليّ بن إبراهيم صاحب العلل، و الحسن بن عليّ بن شعبة صاحب تحف العقول، و السيّد عليّ بن الحسين بن باقي صاحب اختيار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 399

المصباح، و الحسن بن أبي الحسن الديلمي صاحب إرشاد القلوب و غرر الأخبار و غيرها، و سبط الطبرسي صاحب مشكاة الأنوار و غيرهم.

و إن كان من جهة تفرّده بالفتوى في بعض الفروع و مخالفته لسائر الأصحاب فكم له في ذلك أيضا من نظير، كفضل بن شاذان، و يونس بن عبد الرحمن، و قد قال الشيخ المفيد في المقالات: و لم يوحشني من خالف فيه، إذ بالحجّة لي أتمّ انس و لا وحشة من حقّ، و قال السيّد المرتضى في بعض رسائله: لا يوجب أن يوحش من المذهب قلّة الذاهب إليه و العاثر عليه، بل ينبغي أن لا يوحش منه إلّا ما لا دلالة له تعضده و لا حجّة تعمده.

و إن كان من جهة إفتائه بتحريم المتعة الذي خلافه ضروري المذهب فقد عرفت أنّه قد اتّقى في هذا المقام، مع أنّه أظهر في خفايا كلامه ما هو الثابت الصحيح عنده، و قد ذكرنا لك موضعه.

و إن

كان من جهة مجهوليّة حاله من حيث الوثاقة و الأمانة- و لو فرض كونه شيعيّا إماميّا اثنا عشريّا- فقد عرفت أوّلا: شهادة التتبّع في كتابه الدعائم و شرح الأخبار الذي هو من نفائس الكتب على كثرة فضله و طول باعه و خلوص ولائه، و أمّا دعائمه فكلّه في فقه الإماميّة و فروعها و أحكامها مستدلّا عليها بأخبار أهل البيت عليهم السّلام على أحسن نظم و ترتيب، بل ليس في أيدينا من علماء تلك الأعصار ما يشبهه في الوضع و التتبّع مفتتحا بمسائل في الإمامة و شروطها و فضائل الأئمة عليهم السّلام و وصاياهم و شرح عدم جواز أخذ الأحكام الدينيّة عن غيرهم كسائر كتب أصحابنا في هذا الباب.

و ثانيا: أنّ مثل العلّامة الكراجكي قد لخّص كتاب دعائمه على ما تقدّم من فهرست كتب الكراجكي، و كفى بذلك في جلالته و وثاقته، و كذلك شهادة المسحي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 400

صاحب تأريخ مصر بأنّه كان من العلم و الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد عليه، و قول ابن دولاق أنّه من أهل القرآن، إلى قوله: مع عقل و إنصاف كما تقدّم كلامه، و قول ابن خلّكان أنّه من الفضلاء المشار إليهم.

و الحاصل أنّه داخل في الموثّقين المعتمدين من أفاضل العلماء الاثنا عشريّة.

و أمّا إرسال أحاديث كتابة أعني: دعائم الإسلام فيرفع قدحه تصريحه في أوّله بأنّ بناؤه فيه على الاختصار و الاقتصار على الثابت الصحيح ممّا رواه عن الأئمّة من أهل بيت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أجمعين من جملة ما اختلف فيه الرواة عنهم، هذا.

و قد نقل شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه أنّ سيّد أستاذه السيّد محمّد الأصفهاني

قدّس اللّٰه تربته الزكيّة عند بحثه عن اشتراط القبض في الرهن و عدم تماميّة دلالة الآية الشريفة فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ و انحصار المدرك في هذا الباب بخبر الدعائم: «لا رهن إلّا بالقبض» راجع في اعتبار سنده إلى العلّامة النوري قدّس اللّٰه فسيح تربته الزكيّة، فصرّح هو بوثاقته و اعتباره، فقنع السيّد العلّامة المذكور قدّس سرّه بتوثيقه و استراح في المسألة المذكورة بهذا الخبر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 401

المبحث الثاني حكموا بسقوط الأذان في موارد:

منها: لعصر يوم الجمعة، و لم نظفر بدليل يدلّ عليه، نعم استدلّ عليه بما رواه الشيخ في الصحيح عن رهط منهم: الفضيل و زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام «إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جمع بين الظهر و العصر بأذان و إقامتين، و جمع بين المغرب و العشاء بأذان واحد و إقامتين» «1».

و بما روي عن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام «قال عليه السّلام: الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة» «2».

و الرواية الثانية على فرض صحّة السند و كون المراد بالأذان الثالث أذان العصر بناء على أنّ الأوّل أذان الصبح و الثاني أذان الظهر، أو أنّ الأوّل أذان إعلام الظهر، و الثاني أذان إعظامه حسن الدلالة على المطلوب، لكنّ الكلام في مقدّمتيها، أمّا السند فضعيف، و أمّا الدلالة فمن المحتمل أن يكون المراد ما اخترعه عثمان على

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 36 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 49 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1 و 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 402

نقل، و معاوية على آخر من الأذان الثالث لصلاة الجمعة، لبعد المسافة بين منزله و بين المسجد، فالخبر تعريض بهذه البدعة.

و أمّا الأولى:

فربما يقال: إنّه لا دلالة فيها على سقوط الأذان للعصر في صورة الجمع، لا مطلقا، و لا في خصوص يوم الجمعة، و إنّما يدلّ على جواز الجمع بين الفريضتين بأذان واحد في يوم الجمعة و غيره، فعمومات استحباب الأذان لكلّ صلاة كقوله عليه السّلام: «و الأذان و الإقامة في جميع الصلوات أفضل» «1» سليمة عن المخصّص.

فكما لا منافاة في هذه الرواية و ما يفيد مفادها مع أدلّة استحباب النافلة، فكذلك مع أدلّة استحباب الأذان.

و لكنّ الإنصاف أنّا إذا رأينا من الشارع في موارد مختلفة أنّه فرّق بين عنوان الجمع و بين أذان واحد و إقامتين، سواء في موارد جعل الجمع فيها مستحبّا كيومي الجمعة و العرفة و عشاءي المزدلفة أم لا، كقاضي الصلوات و السلس يفهم من المجموع أنّ لعنوان الجمع خصوصيّة بحيث لم يبق عموم قوله عليه السّلام: «و الأذان في جميع الصلوات أفضل» على حاله بدون تخصيص.

فإذا فهمنا ذلك فإمّا نقول: إنّه لا يستفاد منه أزيد من تخصيص حكم الأفضليّة في صورة الجمع بين الفريضتين مؤدّاتين أم مقضيّتين، و أمّا أنّ هذا التخصيص راجع إلى حيث تأكّد الفضل، فأصل الفضل باق في حال الجمع بلا تأكّد، أو أنّه راجع إلى أصل الفضل و المشروعيّة فلا دليل على شي ء من الأمرين، و يكفي حينئذ في عدم المشروعيّة الأصل.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 403

و إمّا نقول: إنّ ظاهر قوله: جمع بينهما، أو أجمع بينهما بأذان و إقامتين كقولك:

جمعت صلاتي الظهر و العصر بوضوء واحد كون الأذان واقعا لكلتا الصلاتين لا لخصوص الظهر حتّى يبقى العصر بلا أذان.

و حينئذ فحاله حال المأموم الذي

يكتفى بأذان الجماعة عن أذان آخر لصلاته، و على هذا فالدليل دالّ على عدم المشروعيّة و جواز الإتيان برجاء المطلوبيّة على كلا الوجهين، أمّا على الأوّل فواضح، فإنّ الحرمة الذاتيّة غير محتملة أو مدفوعة بالأصل، و التشريعيّة منفيّة مع الاحتياط، و أمّا على الثاني فلأنّه و إن قامت الحجّة على نفي المشروعيّة، لكن مع ذلك يحتمل خلافه، و يجوز إدراكا لهذا الاحتمال الإتيان برجاء المطلوبيّة.

لكنّك خبير بأنّه على كلا الوجهين لا يبقى خصوصيّة ليوم الجمعة بالنسبة إلى سائر الأيام، بل الحكم عامّ لجميع أفراد الجمع، يوم الجمعة كان أم غيره، مستحبّا كان أم جائزا، كما أنّه اتّضح أنّ تركه يكون على وجه العزيمة لا الرخصة، بمعنى جواز إتيانه بقصد التوظيف، لكن كان الأفضل تركه و كان الفعل أقلّ فضلا، كما هو الحال في العبادات المكروهة.

و يمكن استفادة عدم المشروعيّة من بعض الأخبار الذي دلّ على أنّ الجمع بين الصلاتين يكون في ما إذا لم يكن بينهما تطوّع، فإن كان بينهما تطوّع فلا جمع، بتقريب أنّ من المعلوم أنّه ليس نظر الشارع في هذه القضيّة بيان مفهوم الجمع، بل المنظور هو أثره الثابت له شرعا، كما هو الحال في قوله لو قال: لا سفر في ما دون المسافة، أو لا كثرة في ما دون الكرّ من الماء.

و حينئذ نقول: إنّا نقطع بأنّ الجمع بما هو جمع لا أثر له شرعا غير مرجوحيّة الأذان معه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 404

فإن قلت: التفريق بين الصلاتين مستحبّ، فالجمع مكروه، بمعنى أنّه خلاف المستحبّ.

قلت: التفريق و لو كان كلتا الصلاتين في وقت واحد غير معلوم الاستحباب و إنّما المعلوم هو التفريق المحصّل للفضل الوقتي، و في الحقيقة ليس الفضل

للتفريق بما هو هو، بل لإدراك الوقت الخاصّ المضروب للفضيلة، و إذن فالأثر الذي يمكن أن يكون محطّا للنظر في القضيّة المذكورة ليس إلّا المرجوحيّة للأذان.

و حينئذ نقول: المرجوحيّة المتصوّرة فيه على نحوين:

الأوّل: المرجوحيّة المصطلحة بمعنى رجحان الترك المطلق من الفعل.

و الثاني: المرجوحيّة العباديّة، و هي على نحوين أيضا:

الأوّل: أن يكون بمعنى أنّ هناك فعلا آخر لا يجتمع وجودا مع فعل العبادة، و هو أرجح من العبادة، ففعل العبادة بالقياس إلى تركها راجح، و لكن بالقياس إلى ذلك الأمر المضادّ معه مرجوح.

و الثاني: أن يكون في الخصوصيّة القائمة بالعبادة في فردها الخاصّ حزازة، فمعنى مرجوحيّتها أنّها بالقياس إلى الفرد الآخر الخالي عن تلك الخصوصيّة مرجوحة، لا أنّ تركها راجح على فعلها.

فنقول في المقام: لا يحتمل أن يكون المرجوحيّة الثابتة للأذان في حال الجمع بين الصلاتين من قبيل القسم الثاني، أعني: أن يكون بالقياس إلى ضدّ أرجح، فإنّه و إن كان يحتمل أن يكون في عشاء المزدلفة و عصر العرفة كذلك، بمعنى أن يكون المبادرة إلى الصلاة الثابتة في ذلك المكان و ذلك الموسم ذات فضل أرجح من الأذان، و على هذا التقدير لا ينسلب أصل الفضل عن الأذان، لكن في كلّ مكان و كلّ زمان يقع فيه الجمع لا يحتمل ذلك فيه، بل لا يحتمل أصل الرجحان في الجمع بين الصلاتين و المبادرة إلى الصلاة الثانية، فضلا عن كون ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 405

أرجح من فعل الأذان.

فالأمر دائر بين أحد الآخرين، فإن كان الأوّل منهما أعني: المرجوحيّة المصطلحة فواضح أنّ لازمة سلب أصل الرجحان عن فعل الأذان، و إن كان الثاني فكذلك، لأنّ الخصوصيّة التي أوجبت في العبادة أعني: الصلاة الثانية مع

الأذان عند مجامعتها مع الأولى هي كونها مصحوبة مع الأذان، و معنى ذلك المرجوحيّة المطلقة في فعل الأذان، و ذلك لأنّ الأذان ليس عبادة نفسيّة، بل مقدّميّة، و معناه أنّ الصلاة المقيّدة به عبادة ذات كمال بسبب استصحابه معه، فالكراهة العباديّة عند الجمع- على تقديرها- للصلاة الثانية المقيّدة لا محالة.

و أمّا وجه أنّ الأذان ليس كالتعقيب مستحبّا نفسيّا، غاية الأمر في محلّ مخصوص، فقد تقدّم وجه استفادته من أخبار اقتداء الصفّ و الصفّين من الملائكة، فراجع.

فثبت أنّ الأثر الذي يرتفع بفعل النافلة بين الصلاتين و أفاد الخبر أنّه لا أثر للجمع بين الصلاتين معها إنّما هو المرجوحيّة المطلقة للفعل، و هذا معنى كون السقوط عزيمة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الدليل على كون سقوط الأذان مع عنوان الجمع مطلقا في أيّ مقام حصل بطريق العزيمة- بمعنى عدم المشروعيّة و كونه حراما تشريعيّا لو أتي به بعنوان التعبّد لا بمعنى كونه محرّما ذاتيّا، إذ لا يحتمل ذلك في هذا المقام، و لا بوجه الرخصة، بمعنى أنّ الفعل راجح، و لكن الترك أرجح- أمران:

أحدهما: كلمة الباء في قول الإمام عليه السّلام في مقام النقل عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في مواضع متفرّقة: جمع بين الصلاتين بأذان و إقامتين، حيث إنّ ظاهرها دخالة ذلك الأذان في كلتا الصلاتين، فيكون له لسان الحكومة على ما دلّ على أنّ الأذان لكلّ صلاة أفضل، لأنّه مع تسليم ذلك نقول: إنّ أذان الصلاة الثانية عند الجمع قد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 406

حصل، فلا مجال للإتيان ثانيا، و ليس هذا بمثابة نقل الراوي بهذه الكلمة فعل الجمع عن النبيّ أو الإمام صلّى اللّٰه عليه و آله حتّى يقال: إنّه

ليس بأزيد من نقل فعل، و لا نعلم على أيّ وجه وقع، و لعلّه كان للتسهيل.

مضافا إلى ما ورد في خصوص عشاء المزدلفة من أنّ هذا أعني: الاكتفاء بأذان المغرب لها و إتيانها معجّلا بعدها هو السنّة، و على هذا فيكفي في عدم رجحان الأذان مطلقا للصلاة الثانية في مطلق صور الجمع عدم الدليل.

و الثاني: ما ورد من المضمون المتقدّم، أعني: أنّ الجمع يكون فيما إذا لم يكن تطوّع، و إذا كان فلا جمع بالتقريب المتقدّم، و منه يظهر أيضا المراد بالجمع الذي موجب لسقوط الأذان عن الرجحان و أنّه ينتفي بمجرّد فعل النافلة، نعم بفعل التعقيب فقط لا ينتفي ما لم يحصل الفصل الطويل الذي يصدق معه التفريق عرفا.

و لكن ليعلم أنّ قضيّة كلا الأمرين ليس إلّا عدم الرجحان للفعل، لا الحرمة الذاتيّة، فالإتيان به عند الجمع لا بقصد التعبّد لا مانع منه على كلّ حال، لكن في غير السلس و المستحاضة، فالاحتياط فيهما يكون بالترك و لو فرض عدم الدليل على عدم المشروعيّة، و لهذا يكون الاحتياط في حقّهما هو الترك في الإقامة أيضا، بل في الأذان و الإقامة معا للصلاة الاولى، و لكلتا الصلاتين في صورة التفريق، و ذلك لأنّ الحكم بعدم الحدثيّة على بول السلس و دم المستحاضة القدر المتيقّن منه حال الصلاة، فيبقى ما كان منه في حال الأذان و الإقامة بلا دليل على عدم الحدثيّة.

لكن هذا مع عدم الترخيص بفعل الأذان و الإقامة، و قد ورد في حقّ السلس الترخيص بإتيان الصلاتين جمعا بأذان و إقامتين، و أمّا بالنسبة إلى المستحاضة فلم نعثر على النصّ، فالاحتياط بالنسبة إليها يقتضي المبادرة بعد غسلها إلى الصلاة الأولى، بلا تخلّل أذان و

إقامة، و كذلك بعدها إلى الصلاة الثانية كذلك، بل و بلا تخلّل وضوء بين الصلاتين، لما ذكر من الوجه، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 407

المبحث الثالث يسقط الأذان و الإقامة عمّن دخل في مكان أقيم فيه الجماعة
اشارة

و بقي أهلها و لم يتفرّقوا.

و قبل التكلّم في تفصيل المسألة ينبغي التيمّن بذكر أخبارها،

فنقول و على اللّٰه التوكّل:

منها: ما رواه ثقة الإسلام و شيخ الطائفة بطريقهما إلى أبي بصير «قال: سألته عن الرجل ينتهي إلى الإمام حين يسلّم؟ فقال عليه السّلام: ليس عليه أن يعيد الأذان، فليدخل معهم في أذانهم، فإن وجدهم قد تفرّقوا أعاد الأذان» «1».

و منها: ما رواه الشيخ بطريق عن أبي بصير أيضا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: الرجل يدخل المسجد و قد صلّى القوم، أ يؤذّن و يقيم؟ قال عليه السّلام:

إن كان دخل و لم يتفرّق الصفّ صلّى بأذانهم و إقامتهم، و إن كان تفرّق الصفّ أذّن و أقام» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 408

و منها: ما رواه أيضا بطريقين عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام «قال عليه السّلام: دخل رجلان المسجد و قد صلّى الناس، فقال لهما عليّ عليه السّلام: إن شئتما فليؤمّ أحدكما صاحبه و لا يؤذّن و لا يقيم» «1».

و منها: ما رواه أيضا عن السكوني عن جعفر عليه السّلام عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام أنّه عليه السّلام كان يقول: إذا دخل رجل المسجد و قد صلّى أهله، فلا يؤذّنن و لا يقيمنّ و لا يتطوّع حتّى يبدأ بصلاة الفريضة، و لا يخرج منه إلى غيره حتّى يصلّي فيه» «2».

و منها: ما رواه رئيس المحدّثين و شيخ الطائفة بطريقهما عن أبي علي «قال: كنّا عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فأتاه رجل فقال: جعلت فداك صلّينا في المسجد الفجر فانصرف بعضنا

و جلس بعض في التسبيح، فدخل علينا رجل المسجد فأذّن، فمنعناه و دفعناه عن ذلك، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: أحسنت ادفعه عن ذلك و امنعه أشدّ المنع، فقلت: فإن دخلوا فأرادوا أن يصلّوا فيه جماعة؟ قال عليه السّلام:

يقومون في ناحية المسجد و لا يبدو بهم إمام، الحديث» «3». هذا بحسب رواية الشيخ.

و مثله رواه الصدوق رحمهما اللّٰه، إلّا أنّه «قال: أحسنتم ادفعوه عن ذلك و امنعوه أشدّ المنع، فقلت له: فإن دخل جماعة، فقال عليه السّلام: يقومون في ناحية المسجد و لا يبدر لهم إمام» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 409

و منها: المحكيّ عن كتاب زيد النرسي عن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السّلام:

«إذا أدركت الجماعة و قد انصرف القوم فوجدت الإمام مكانه و أهل المسجد قبل أن يتفرّقوا أجزأك أذانهم و إقامتهم، فاستفتح الصلاة لنفسك، و إذا وافيتهم و قد انصرفوا صلاتهم و هم جلوس أجزأ إقامة بغير أذان، و إن وجدتهم تفرّقوا و خرج بعضهم من المسجد فأذّن و أقم لنفسك» «1».

و بإزاء هذه الأخبار خبران:

الأوّل: ما رواه الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن معاوية بن شريح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال عليه السّلام: إذا جاء الرجل مبادرا و الإمام راكع أجزأته تكبيرة واحدة، إلى أن قال: و من أدركه و قد رفع رأسه من السجدة الأخيرة و هو في التشهّد

فقد أدرك الجماعة، و ليس عليه أذان و لا إقامة، و من أدركه و قد سلّم فعليه الأذان و الإقامة» «2».

و الثاني: موثّق عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «في الرجل أدرك الإمام حين سلّم؟ قال عليه السّلام: عليه أن يؤذّن و يقيم و يفتتح الصلاة» «3».

إذا سمعت الأخبار فاستمع لما يتلى عليك في وجه الجمع و التوفيق لرفع التعارض عمّا بين الأخيرين و ما قبلهما، حيث يستفاد ممّا قبلهما كون الأذان و الإقامة مستنكرين حتّى يقال في حقّ فاعلهما: ادفعوه عن ذلك و امنعوه أشدّ المنع، و منهما كونهما مستحسنين بمثابة يصلح التحريض و الترغيب نحوهما بمثل قولنا:

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 410

عليك فعلهما، و بين هذين المضمونين كمال التهافت و التنافر، فما يقال في وجه التوفيق أمران لا يصلح شي ء منهما للمصير إليه.

الأوّل: تقييد الأخيرين بما بعد التفرّق، و هما آبيان عنه، بل يمكن عدّهما ناصّين في أنّ المفروض إدراك الإمام متّصلا بسلامه و لم يتفرّق الجماعة، فلا يصلح للتقييد بما بعد تفرّقها.

و بالجملة، فتقييدهما بما بعد التفرّق في البعد بمثابة تقييد ما قبلهما بما قبل السلام، فكما أنّها نصّ في ما بعده و قبل التفرّق، فكذا هما أيضا ناصّان في عين هذا الموضوع.

و الثاني: حمل ما تقدّمهما على الكراهيّة العباديّة و حملهما على أصل الرجحان و الاستحباب المتقوّم به عباديّتهما، فإنّ العبادات المكروهة ليست عبارة عمّا يترجّح تركها المطلق على فعلها، كما هو

المراد بالكراهيّة المصطلحة، كيف و هذا لا يجامع عباديّتها المتوقّفة على رجحان الفعل على الترك، بل عبارة عن مضادّة وجودها مع مستحبّ آخر هو آكد منها، و هو ملازم مع تركها، فمرجوحيّتها إنّما هي بالقياس إلى ذاك المستحبّ الأهمّ.

و على هذا فنقول في هذا المقام:

إنّ ترك الأذان و الإقامة لمن دخل على الجماعة بعد السلام ملازم مع أمر وجودي يكون مطلوبا للشارع بمطلوبيّة آكد و أهمّ من مطلوبيّة فعلهما له، مثل احترام إمام الجماعة السابقة أو الإمام الراتب، فبملاحظة إدراك ذاك الأهمّ ورد في الأخبار السابقة التأكيد و المبالغة في المنع عنهما، و بملاحظة كونهما في حدّ ذاتهما راجحين و مستحبّين ورد في الخبرين الأخيرين الحثّ و التحريض إلى فعلهما، هذا ما قد يقال في وجه الجمع و دفع المنافاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 411

و لكنّ الحقّ أنّه أيضا قريب من الوجه الأوّل في البعد، لا لأنّا لا نحتمل بحسب مقام الثبوت عن أن يكون في البين مزاحم أهمّ ملازم مع تركهما، بل هذا محتمل هنا بحسب الثبوت على خلاف المقام السابق، حيث قلنا: لا يحتمل أن يكون الجمع بين الصلاتين و المبادرة إلى الصلاة الثانية راجحا أصلا فضلا عن أن يكون أرجح من الأذان.

و لكن لأجل عدم مناسبة ذلك مع التعبير بكلمة الحثّ و التحريض فإنّ المستحبّ المزاحم بمستحبّ آخر أقوى و أهمّ منه لا نضايق أن يرد فيه الترخيص أو الأمر الذي مفاده أيضا ذلك، لوقوعه في مقام توهّم الحظر، و أمّا الحثّ و التحريص نحوه فنضايق عنه، فإنّ المقام غير لائق به، و حاله حال الترخيص في فعل الواجب الذي زاحمه واجب آخر أهمّ منه، فكما لا يصحّ الترخيص نحوه بنحو

الإطلاق بل بنحو الترتّب على مذاق من يصحّح الترتّب و إلّا فلا يصحّ مطلقا، فكذا حال الترغيب و التحريص بكلمة «عليك» و نحوه التي معناها الملازمة و عدم الانفكاك في المستحبّ الذي زاحمه مستحبّ آخر أهمّ منه.

و حينئذ فالإنصاف أنّ عدّ المقام من باب تعارض الخبرين الذي لا جمع عرفي بينهما أولى من هذه التجشّمات.

و حينئذ نقول: لا مقاومة للخبرين بالنسبة إلى ما تقدّمهما، لأنّ الأصحاب تلقّوا تلك بالقبول و أفتوا بمضمونها، و قد أعرضوا عن هذين، و هذا يوجب وهنهما بحسب السند و خروجهما عن موضوع الحجّية رأسا، فتكون تلك سليمة عن المعارض الحجّة.

إذا عرفت فلنشرع في تفصيل المسألة بحسب ما يستفاد من النظر في تلك الأخبار و أنّ السقوط هل هو على وجه الرخصة أو على وجه العزيمة، و على كلّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 412

حال هل يخصّ المسجد أو يعمّه و غيره، و هل يخصّ مريد الجماعة أو يعمّه و غيره، و هل يخصّ من يريد إقامة الجماعة، أو يعمّه و غيره، و أنّ الملاك في التفرّق الذي يسقط معه السقوط و يثبت مع عدمه ما ذا، فهل المراد بعدم التفرّق بقاء هيئة الصفوف بحالها بحيث لو خرج واحد كفى في حصول التفرّق، أو أنّ المراد بالتفرّق حصوله بالنسبة إلى جميع الآحاد، فلا بدّ من تفرّق كلّ واحد منهم عن مكانه، فلو بقي واحد كفى في عدم التفرّق.

و هل المراد بقاؤها بهيئة الجماعة،

فلو قام عدّة من مكانهم و لكن بقوا في ذلك المكان بهيئة الاجتماع كفى في عدم التفرّق، أو أنّ المراد البقاء على حالة الصفّية، و على هذا أيضا يكفي البقاء بهيئة الصفّ و لو اشتغلوا بشغل آخر أجنبيّ عن الصلاة مثل المباحثة

و نحوها، أو لا بدّ من بقائهم في التعقيب و لواحق الصلاة؟

لا بدّ في تشخيص الحقّ في جميع هذه التفاصيل من النظر إلى ما يستفاد من الأخبار.

فنقول و على اللّٰه التوكّل:

أمّا كون السقوط رخصة أو عزيمة فالحقّ هو الثاني بالبيان الذي تقدّم في وجه عدم الجمع بين الخبرين الأخيرين مع سائر الأخبار، فإنّ كونه على وجه الرخصة معناه هنا منحصر كما عرفت في كون الأذان في الجماعة منافيا مع أمر وجودي أهمّ منه في المطلوبيّة، و لا شكّ أنّ الندب إلى المستحبّ المزاحم بالمستحبّ الأهمّ لا يصحّ، بل الصحيح أمّا النهي إرشادا إلى إدراك الأهمّ، و إلّا فالترخيص لفعله، و أمّا الندب و الترغيب إليه فلا يصلح مع فرض مفوّتيّته لما هو أرجح منه.

إذا عرفت هذا فنقول: ما تقدّم في أدلّة مشروعيّة الأذان و الإقامة من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 413

العمومات و الإطلاقات و أنّ من فعلهما اقتدى بصلاته صفّان من الملائكة، و من أقام اقتدى بها صفّ واحد، ثمّ الأمر في بعض الأخبار عقيب ذلك بقوله: فاغتنم الصفّين لا يصلح مع هذه النواهي الواردة في أخبار مسألتنا أعني: ما عدا الخبرين الأخيرين الذين بنينا على طرحهما، سواء كانت إرشاديّة أم مولويّة.

أمّا على الثاني فواضح، حيث إنّ النسبة هو العموم و الخصوص، و قاعدة ذلك هو التخصيص و إخراج الخاصّ عن تحت حكم العامّ، فلا يبقى للأذان قبل تفرّق الجماعة حثّ و تحريص، و لا دليل غيره، فيبقى أصل مشروعيّته بلا دليل.

و أمّا على الأوّل أعني: كون النواهي إرشاديّة فلأنّه ليس في أنفسها إشارة إلى أنّ ذلك لأجل إدراك المطلوب الآخر الأهمّ، و لا أنّ هناك إطلاق مادّة آخر يدلّ على وجود مطلوب

آخر للمولى قد عجزنا في مقام الامتثال عن الجمع بينه و بين المطلوب الأذاني حتّى يكون مقتضى إطلاق مادّة الخطابين بقائهما بوصف المطلوبيّة الذاتيّة مع قطع النظر عن الشرائط العقليّة من قبيل القدرة و تحمّل النهي الوارد عن الأذان في حال المزاحمة بينهما على الإرشاد إلى أهميّة ذلك المطلوب الآخر.

و إنّما الثابت و المتحقّق إطلاق خطابات الأذان، و هذه النواهي عن الأذان في مورد الجماعة الغير المتفرّقة أهلها، و هذان عند عرضهما على العرف لا يعاملون معهما إلّا معاملة التخصيص و التقييد.

نعم يحتمل بحسب مقام الثبوت أن يكون الأمر كما ذكر، أعني: من باب المزاحمة بالأهمّ، إلّا أنّه لا دليل عليه بحسب الإثبات، لا من جهة الهيئة، و لا من جهة المادّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 414

أمّا الأوّل فواضح، حيث إنّ هيئة لا تفعل مضادّة مع هيئة افعل، و أمّا الثاني فلأنّ إطلاق المادّة ليس وراء إطلاق الهيئة، بل هو هو، لأنّ المراد بإطلاق المادّة أنّ الهيئة مع الإغماض عن الشرائط العقليّة قد سيقت ممحّضة لما يتعلّق بالأغراض الشرعيّة، فإذا فرضنا أنّ العمومات قد اشتملت على غاية الحثّ إلى الفعل فلا يلائم هذا الحثّ بل مطلق الحثّ مع المرجوحيّة بمعنى الابتلاء بالمزاحم الأهمّ، و لازم ذلك أنّ ذلك الحثّ لا محالة مخصّص بغير هذا المورد، فيبقى أصل المشروعيّة في هذا المورد بلا دليل عليه أصلا.

و أمّا المراد بالتفرّق الذي أنيط السقوط بعدمه و الثبوت بوجوده فتارة نتكلّم مع قطع النظر عن خبر أبي علي و الخبر المحكيّ عن كتاب زيد النرسي و بحسب ما يستفاد من بقيّة الأخبار السابقة المشتملة على عنوان التفرّق، و أمّا لو كنّا و هذه فالمستفاد منها ما ذا؟

و اخرى

نتكلّم مع ملاحظة ذينك أيضا.

أمّا الكلام بحسب الأوّل فنقول: إنّ الأخبار المذكورة بين ما أضيف فيه التفرّق إلى الجماعة بواو الضمير، و بين ما أضيف فيه ذلك إلى الصفّ، و الأوّل فيه احتمالان:

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 414

الأوّل: أن يكون المراد بالواو هو العموم الاستغراقي، و لازمة توقّف صدق العنوان على حصول التفرقة بين كلّ واحد واحد عن جميع من عداه من أهل تلك الجماعة المنعقدة، فما دام اثنان منهم موجودين لم يصدق أنّهم تفرّقوا، نعم لو بقي واحد فقط صدق ذلك لأنّ هذا الواحد تفرّق عن جميع من عداه، و كذا كلّ واحد واحد ممّن عداه.

أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلأنّه يكفي في حصول الافتراق بين الاثنين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 415

حركة أحدهما و انتقاله إلى مكان آخر و إن بقي الآخر في مكانه.

ألا ترى صدق الافتراق الذي هو غاية خيار المجلس بانتقال واحد من المتبايعين و لو بقي الآخر؟ كذلك في المقام.

و أمّا ما ترى من إطلاق «تفرّقوا» في ما إذا كان المتخلّف نفرا يسيرا مضمحلّا في جنب المتفرّقين فهو من باب المسامحة و تنزيل النادر منزلة المعدوم، لا أنّه مصداق حقيقة بنظر العرف دون العقل.

و الحاصل أنّه لا اختلاف في تشخيص مصداق «تفرّقوا» مشيرا إلى جماعة خاصّة بين العقل و العرف في أنّ اللازم ثبوته بالنسبة إلى جميعهم من دون استثناء، كما هو الحال في نظائره من «ضربوا» و «صلّوا» و غير ذلك، و هذا واضح، و من المعلوم أنّ المعيار في ترتّب الأحكام هو المصاديق الحقيقيّة العرفيّة، دون ما يطلقون عليه اللفظة مسامحة و عناية.

و الثاني: أن يكون

المراد بها العموم المجموعي و لوحظ التفرّق فيه بملاحظة تركّبه من الأبعاض، و يكفي في صدق التفرّق في الكلّ صيرورته بعضين بأن بقي بعضه و خرج بعضه و لو كان البعض الخارج واحدا، و هذا أيضا لا اختلاف فيه بين العقل و العرف.

و أمّا ما ترى من إطلاق عدم تفرّق الكلّ بهذا المعنى بخروج واحد أو نفر يسير يعدّ معدوما في جنب المتخلّفين، فهو أيضا من المسامحات العرفيّة مع اعترافهم بكونه غير مصداق حقيقة لعدم التفرّق و كونه مصداقا للتفرّق. هذا في الصنف الأوّل من الأخبار.

و أمّا الثاني أعني: ما أضيف التفرّق فيه إلى الصفّ ففيه ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن يراد بالصفّ هو الأمر الواحد المستطيل كالخطّ المستطيل،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 416

فيلاحظ كلّ صفّ كأنّه شخص واحد، و لا بدّ حينئذ من ملاحظة التفرّق بين الصفوف، فإذا حصل ذلك بأن يخرج صفّ و لو واحدا و يتفرّق عن الصفوف الباقية كفى في صدق العنوان.

و الثاني: أن يراد بالصفّ أهله، و حينئذ تارة يراد العموم المجموعي، و اخرى الاستغراقي على حسب ما مرّ في الصنف المتقدّم، هذه هي الاحتمالات التي يتصوّر و بحسب مقام الثبوت، و أمّا بحسب الاستظهار فالظاهر هو إرادة العموم الاستغراقي من «واو» الضمير و أهل الصفّ من الصفّ بإرادة الاستغراق أيضا، و قد عرفت أنّ لازمة صدق عنوان التفرّق عند بقاء واحد و عدم صدقه عند بقاء ما زاد عليه و لو كان اثنين.

و يدلّ عليه أيضا رواية أبي علي حيث قال الراوي: انصرف بعضنا و جلس بعض في التسبيح، و مع ذلك قال الإمام عليه السّلام: أحسنت ادفعه عن ذلك و امنعه أشدّ المنع «1»، و لم يستفصل عن أنّ

البعض الجالس كان بأيّ مقدار.

لا يقال: فاللازم منه كفاية بقاء الواحد أيضا، و هو خلاف مقصودك.

لأنّا نقول: لا يلزم منه، لأنّ كلام الراوي حيث قال: فدخل علينا رجل و أيضا قال: فمنعناه و دفعناه، يظهر منه كون الجالس أكثر من واحد، فلم يحتج إلى الاستفصال من هذه الجهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ ما يقال في هذا المقام من احتمال آخر في هذه الروايات المشتملة على عنوان التفرّق من كون المراد بالتفرّق زوال الهيئة الصلاتيّة و تبدّلها بالهيئة الأخرى، و لو كانت الجماعة بأجمعها باقية في أمكنتهم مستقبلين القبلة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 417

كما لو جلسوا على هيئتهم بعد الفراغ من الصلاة و التعقيب لاستماع الموعظة أو المرثية أو غير ذلك بحيث انقلبت هيئة المجلس إلى هيئة أخرى، و بالجملة فالمعيار تفرّق الهيئة الصلاتيّة، غاية الأمر أنّه كما يحصل هذا تارة بتفرّق أبدان المصلّين عن أمكنتها يحصل اخرى مع اجتماع أبدانهم و بقائها في أمكنتها، كما في المثال المذكور، ليس له وجه و إن كان يظهر من بعض الكلمات اختياره، و ذلك لأنّ عنوان التفرّق لا يصحّ إضافته إلّا إلى متعدّد، و الهيئة الصلاتيّة أمر واحد لا يصحّ نسبة التفرّق إليها، نعم يصحّ نسبة التبدّل و الانقلاب و الزوال و نحو ذلك إليها.

فالذي يمكن احتماله في الروايات المشتملة على التفرّق منحصرة في الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة التي ذكرنا لازم كلّ منها، و على كلّ من تلك الثلاثة لا يفرق الحال بين بقاء الهيئة الصلاتيّة في المتخلّفين و انقلابها إلى الضدّ، فإنّ المعيار بناء عليها إمّا تفرّق الأشخاص و عدم تفرّقها بأحد الوجهين من

الاستغراق أو المجموعيّة، أو تفرّق الصفوف و عدم تفرّقها، و كلّ ذلك يلائم مع بقاء الهيئة الأوّلية الصلاتيّة في المتخلّف و عدم بقائها كما هو واضح، فالاحتمال المذكور يبقى بلا مدرك رأسا، و اللّٰه العالم.

بقي الكلام في رواية كتاب زيد النرسي، و الإنصاف أنّها مشوّشة المتن، فإنّها قد قسّم المسألة على ثلاثة أقسام، و لكن لم يعلم أيّ فرق بين القسمين الأوّلين، فإنّ القسم الأوّل: عبارة عمّا إذا انصرف القوم و وجد الإمام مكانه و أهل المسجد قبل أن يتفرّقوا.

و الثاني عبارة عمّا إذا وافيتهم و قد انصرفوا عن صلاتهم و هم جلوس، و أنت خبير بأنّ قوله: و هم جلوس عبارة أخرى عن قوله في القسم الأوّل قبل أن يتفرّقوا، اللّٰهمّ إلّا أن يحمل الأوّل على موضوعيّة الجلوس، و يحمل الشقّ الأوّل على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 418

عدم التفرّق مع القيام.

و أمّا حمل قوله: و هم جلوس على ما بعد الفراغ من التعقيب، و قوله: قبل أن يتفرّقوا على ما قبله فهو جمع بلا شاهد عليه في الكلام و يكون اقتراحا صرفا، فالأولى أن يقال: إنّا لا نفهم معناها و نردّها إلى أهلها، مضافا إلى أنّ التقسيم إلى ثلاثة أقسام ممّا اتّفقت الروايات الأخر على خلافه و أنّ الأمر بين أمرين: إمّا ثبوتهما معا، و إمّا سقوطهما كذلك، و اللّٰه العالم.

و أمّا الكلام في اختصاص الحكم بالمسجد أو عمومه لغيره

فالظاهر الأوّل، لأنّ أخبار المسألة بين ثلاثة أصناف، فصنف يكون السؤال فيه مشتملا على ذكر المسجد، و صنف يشتمل جواب الإمام عليه السّلام فيه على ذكره بطريق القضيّة الشرطيّة، و صنف يكون السؤال و الجواب كلاهما خاليين عن ذكره، و لا كلام في أنّ الصنف الأوّل لا يستفاد منه الاشتراط و

لا الإطلاق.

و أمّا الثاني فهو و إن ذكر فيه قيد المسجد بصورة القضيّة الشرطيّة، و لكن حيث إنّه قيد غالبي و سوق القضيّة الشرطيّة لنكتة الغلبة أيضا يكون متعارفا، فلا يكون دليلا على الاشتراط، فيبقى الصنف الثالث، فإن أمكن منه استفادة الإطلاق فحيث إنّه دليل منفصل لا يضرّه إجمال الصنفين الأوّلين، بل بإطلاقه يرفع الإجمال عنهما.

و لكنّ الإنصاف عدم اطمينان النفس بإطلاق هذا الصنف أيضا، و ذلك لقول السائل فيه: الرجل ينتهي إلى الإمام حين يسلّم، و حيث إنّ الإمام في تلك الأزمنة كان منصبا لشخص معيّن كالقضاوة و كان محلّه معيّنا في المسجد فلا أقلّ من كونه مجملا و مشكوكا في إطلاقه، إذ يحتمل قريبا أن يكون اللام فيه للعهد و الإشارة إلى الإمام المنصوب، لا إلى إمام الجماعة، نعم لو قال: إلى إمام، بهيئة التنكير، أو علم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 419

أنّ اللام للإشارة إلى الجنس كان الإطلاق صحيحا، و لكنّ الجزم بذلك مشكل، و الشكّ كاف في عدم جواز رفع اليد عن مطلقات أدلّة الأذان.

و لو علم أنّ الجماعة أقيمت بدون أذان و لا إقامة،

فإن علم أنّ ذلك لم يكن لاكتفائهم بسماعهما ممّن يؤذّن و يقيم أو بأذان الجماعة الأولى المنعقدة قبل انعقادها فلا إشكال في عدم السقوط، و أمّا لو علم بأحد الأمرين فلا إشكال في عدم عموم أخبار المسألة، لأنّها بين ما اشتمل على الاجتزاء بأذانهم و إقامتهم الظاهر في كونهم مباشرين لهما، و بين مطلق، و لكن حيث إنّ الجماعة بغير أذان و إقامة في غاية الندرة يكون المنصرف منه صورة وجودهما، فالذي يمكن أن يقال: إنّ دليل تنزيل السماع منزلة الأذان و الإقامة، و كذلك تنزيل أذان الجماعة الأولى منزلة أذان الثانية ناظر إلى عموم

الآثار التي منها هذا الأثر، و هذا أيضا الجزم به في غاية الإشكال، فيبقى السقوط في الفرعين بلا دليل.

و كذا لا إشكال في ما إذا لم يكن إمام الجماعة راتبا،

لقوّة احتمال أن يكون مصبّ الأخبار هو الراتب و أن يكون الحكمة في هذا الحكم مراعاة جانبه، و ليس في الأخبار إطلاق بحيث يشمل مطلق ما يصدق عليه إمام الجماعة، كما قلنا: إنّه ليس فيها إطلاق شامل لغير المسجد.

و كذا الكلام في صورة عدم اتّحاد الفرضين

إمّا بالأدائيّة و القضائيّة، أو باختلاف نوعهما، بأن يكون صلاة الجماعة ظهرا أو صلاة الداخل عليهم عصرا، أو بالعكس، فإنّ المنصرف من الأخبار صورة الاتّحاد في الأدائيّة و القضائيّة و في جنس الفريضة.

ففي مثل زماننا حيث تعارف فيه الجمع بين فريضتي الظهر و العصر لو ورد الداخل بعد إتمام عصر الجماعة و أراد الظهر و العصر فهنا احتمالات

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 420

الأوّل: السقوط لكلتا الصلاتين، و الثاني: عدمه لكلتيهما، و الثالث: التفصيل بين الظهر بعدم السقوط و العصر بالسقوط.

و الذي يسهّل الخطب في جميع هذه الفروع أنّا اخترنا كون السقوط في مورده على وجه العزيمة بمعنى عدم الأمر، لا بمعنى الحرمة الذاتيّة، فإذن لا بأس بالإتيان بهما في جميع موارد الشكّ بعنوان الرجاء و الاحتياط، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 421

المقصد الثاني في أفعال الصلاة

اشارة

و هي واجبة و مسنونة.

و في الواجبات منها أبحاث:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 423

[البحث] الأوّل في النيّة
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 425

و لا إشكال في البطلان بنقيصتها عمدا كانت أم سهوا،

و الكلام في كونها معتبرة على نحو الجزئيّة أو على وجه الشرطيّة مستغنى عنه بعد عدم ترتّب ثمرة عمليّة عليه و إن كان الحقّ أنّه على وجه الشرطيّة، لعدم تعقّل معنى لجزئيّتها، فإنّ الجزء عبارة عمّا اعتبر في المأمور به في عرض سائر الأجزاء، بحيث كان الأثر المترتّب عليه هو الصحّة التأهليّة، بمعنى أنّه بحيث لو انضمّ إليه سائر الأجزاء كان الأثر مترتّبا، و لو لم ينضمّ إليه البقيّة لما كان نقص من قبل هذا، كما أنّه لو لم يكن هذا لما كان نقص من قبل البقيّة.

و الأمر هاهنا ليس بهذا المنوال، فالنيّة لا بدّ منها في قوام حقيقة تمام الأجزاء، فالسجود لا يتقوّم حقيقته إلّا بها، و كذلك الركوع، و كذلك الحمد، فلو قرأ الفاتحة بنيّة إهداء الثواب إلى الميّت لما كان حمدا صلاتيّا.

و الحاصل أنّه في صورة انعدام النيّة ليس النقصان مستندا إلى عدمها فقط، بل إلى عدمها و عدم سائر الأجزاء أيضا، و هذا معنى عدم عرضيّتها معها، بل هي في طولها، و هذا معنى الشرطيّة.

و أمّا شرح حقيقتها
اشارة

فيحتاج إلى بسط في المقال، و على اللّٰه التوكّل في كلّ حال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 426

فنقول: لا بدّ من ملاحظة قطعيّاتنا في باب العبادة و أنّها ما هي، و ما زاد منها ما هو، و هل الدليل دلّ على اعتبار الزائد أو لا؟

فاعلم أنا نعلم إجمالا بديهة أنّ الصلاة من جملة العبادات دون التوصّليّات التي يكتفى بوقوعها في الخارج كيف ما اتّفق.

و نعلم أيضا بأنّ العبادة لا بدّ فيها وقوع الفعل من المكلّف بصفة الاختياريّة، فلو وقع بنحو الاضطرار كفعل النائم و الساهي فلا يكفي.

و نعلم أيضا أنّ الاختياريّة بمجرّدها غير كافية، فإنّ أفعالنا

الاختياريّة كثيرة، و ليس تمامها عبادة بصرف ذلك، بل لا بدّ مع ذلك من أن يكون القصد الداعي و الباعث نحو العمل جهة من الجهات التي يرجع إلى المولى بنحو من الرجوع و لو لم تكن هي إطاعة أمره، بل خوفه و هيبته أو الطمع منه.

و لهذا نرى تمشّي العبادة بمفهومها من عبدة الأصنام، مع أنّه لا أمر للأصنام حتّى يكون الداعي العبادي إطاعته، فليس المعتبر إلّا ما ذكرنا من كون الداعي جهة لها رجوع إلى المولى و تعلّق بساحته.

ثمّ لو كنّا نحن و مفهوم العبادة فلا يعتبر في تحقّقها غير هذين الأمرين، و هما كما ترى يجتمعان مع المبغوضيّة الفعليّة أيضا، بمعنى أنّ حالها حال التوصّلي، فكما أنّه يمكن حصوله مع الاجتماع مع المبغوض و لو بناء على امتناع الاجتماع، كذلك العبادة أيضا بمفهومها اللغوي ممكن التحقّق مع المبغوضيّة بأن كان العبادة مع كونها عبادة مبغوضة للمولى، كما لو أبغض المولى حضور عبده في صفّ سلامه مع هيئة منفّرة خاصّة، بحيث يتنفّر عن نفس سلامه و عبادته بواسطة وقوعها في هذه الحالة، مثل صلاة الحائض و صوم يوم العيد.

و لكن قد تحقّق لنا في الشريعة اعتبار أمر ثالث أيضا في العبادات الشرعيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 427

زيادة على ما يعتبر في تحقّق مفهومها و هو كون الفعل يقع خارجا على وجه يتقرّب الفاعل بسببه لدى المولى و يصير صاحب وجاهة، و لا نعني بذلك كونه ذا منزلة و رتبة عنده، بل مجرّد أن يكون بين الفاعل و التارك فرق عند المولى و لو لم نسمّ ذلك الفرق باسم الرتبة و المنزلة، فهذا المعنى قام الدليل على اعتباره في العبادة شرعا، و هو

لا يلائم إلّا مع عدم المبغوضيّة الفعليّة في الفعل، فإنّه حينئذ يوجب البعد عن ساحة المولى، فلا يصلح لأن يتقرّب به.

إذا عرف ما ذكرنا فلنبحث في أنّه بم يتحقّق هذه الأمور؟

فاعلم أنّ المعتبر في باب الاختياريّة كون العمل منبعثا عن الإرادة المنبعثة عن تصوّر ذات الفعل و تصوّر منفعته الملاءمة و الشوق نحوها إلى أن ينجرّ الأمر إلى إحداث الإرادة المحرّكة سمت الفعل في النفس، فمتى تحقّق هذا المعنى صحّ إطلاق الاختياريّ على الفعل، ثمّ انقداح هذين التصوّرين أعني: إخطار صورة العمل تفصيلا و كذلك صورة منفعته حتّى يحدث بسببهما الشوق المنتهي إلى الإرادة قد يكون مقارنا لأوّل جزء من أجزاء العمل، و قد يكون مقارنا لأوّل مقدّمة من مقدّماته، و قد لا يكون هذا و لا ذاك، بل يكون مقارنا لفعل آخر أجنبيّ معه.

ثمّ يتبدّل صورة التفصيل في كلّ من هذه الثلاثة إلى الصورة الإجماليّة الارتكازيّة الكامنة في النفس التي نظيرها في العلم هو العلم الارتكازي الذي يستفتي الإنسان أحيانا من نفسه بملاحظة هذا الإجمالي الارتكازي و غيبوبة التفصيل عن ذهنه، فيستفيد من خزانة خياله، و التأمّل في ارتكازه صورة العلم التفصيلي.

فنقول: شبه هذا الإجمال و التفصيل موجودان في الإرادة أيضا، فالتفصيل هو حضور صورة الفعل و فائدته في الذهن مفصّلا، و الإجمال هو الثبوت الإجمالي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 428

الارتكازي في النفس في قبال العدم الصرف، بحيث لو لا هذا الإجمال و الارتكاز لوقف عن الحركة من بعد ذلك، فوقوع الحركة بعده يحتاج إلى إرادة جديدة أو قسر قاسر، فما دامت الحركة حاصلة بدون صورة جديدة أو قسر قاسر فالمؤثّر و المحرّك ذلك الإجمال، حتّى أنّه قد يتّفق أنّ الإنسان في

أثناء الحركة يلتفت إلى نفسه و أنّه إلى أيّ مقصد يتحرّك فيتأمّل، فيصير تفصيليّا له صورة المقصد و لو لم يلتفت أيضا كان متشاغلا بها بذاك الداعي الإجمالي.

و بالجملة، لا كلام في اتّصاف الفعل بالاختياريّة و خروجه عن الاضطراريّة القسريّة بمجرّد استناده بهذا القسم من الإرادة و انبعاثه منه، من غير فرق بين مقارنة الإرادة التفصيليّة لأوّل أجزاء العمل أو أوّل مقدّماته أو عدم المقارنة لشي ء منهما بأن يكون حصولها في أثناء العمل الخارجي الأجنبيّ عن هذا العمل، كما لو تصوّر في أوّل النهار فعل شراء اللحم من السوق و طبخه ثمّ المشي إلى عيادة مريض من أصدقائه، و تصوّر فائدتهما و حصل له الشوق إلى أن تحقّق العزم له إلى فعلهما، فمشى عقيب هذا إلى السوق و اشترى اللحم و طبخه، ثمّ مشى متّصلا بذلك بدون تخلّل إرادة تفصيليّة و تصوّر تفصيلي إلى بيت ذلك الصديق المريض، فإنّه لا يشكّ أحد في أنّ وقوع العيادة منه يتّصف بالاختياريّة و لو لم يقارن النيّة التفصيليّة شيئا من أجزائها و لا شيئا من مقدّماتها.

و لا فرق في ذلك بين تكرّر ذلك أعني: وقوع العملين الأجنبيّين منه مرارا عديدة بحيث يحصل له عادة بإتيانهما بإرادة تفصيليّة واحدة، أو كان ذلك في أوّل مرتبة من صدوره منه، فإنّه كما يتصوّر في المرّة العاشرة و ما فوقها مثلا، كذلك قد يتّفق ذلك في أوّل الوهلة بأن كان هذا اليوم أوّل مشيه إلى عيادة هذا المريض، كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 429

إذا عرفت ذلك فالقائل بالإخطار إن أراد بالإخطار هذه الصورة التفصيليّة التي قد عرفتها و عرفت عدم اعتبار مقارنتها في الاتّصاف بالاختياريّة، و لا حاجة إليها

لغير ذلك أيضا، فلا وجه لما ذكروه من اعتبار المقارنة.

و إن أراد أمرا آخر غير ما ذكرنا و هو حديث النفس المستطيل المقارن أوّله لهمزة «اللّٰه» و آخره لراء «أكبر» فإن أراد أنّه المعتبر دون غيره ممّا ذكرنا فهو بديهي الفساد، و إن أراد أنّه أيضا لازم مضافا إلى ما ذكرنا فنطالبه بدليله، و إذ ليس فليس.

كلام للشيخ الأنصاري قدّس سرّه في كتاب الطهارة

ثمّ إنّ لشيخنا المرتضى قدّس سرّه في بحث النيّة من كتاب طهارته كلاما على خلاف ما ذكرنا، قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: لم أفهم المراد منه، فقال قدّس سرّه بعد ذكر كفاية القصد الإجمالي في ما عدا الجزء الأوّل من أجزاء الفعل ما لفظه:

ثمّ المراد بأجزاء الفعل ما كان مربوطا به بجامع بحكم العادة النوعيّة أو الشخصيّة، مثلا إذا تصوّر المختار المشي إلى السوق لأجل شراء اللحم فقام للبس ثيابه و نعله كفى القصد التفصيلي في أوّل قيامه، و أمّا لبس ثيابه و نعله فضلا عن أوّل جزء من المشي، فيكفي فيها الأمر المركوز في الذهن و إن ذهل عن هذه الأفعال تفصيلا، لكنّها أفعال اختياريّة صادرة عن قصد و اختيار يترتّب عليها ما يترتّب على الفعل الاختياري لو فرض صدوره من أوّله إلى آخره بالقصد و التصوّر التفصيليّين، نعم لو لم يكن الحركة اللاحقة مرتبطة بالسابق لم يكتف بقصد المجموع في أوّل الأمر بعد تصوّره، فمن أراد شراء اللحم ثمّ زيارة مؤمن لم يكتف في صدور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 430

زيارة المؤمن التصوّر و القصد المتعلّقان في أوّل الشروع بالشراء و الزيارة، بل لا بدّ عند الاشتغال بالمشي للزيارة من تصوّر و قصد متجدّدين، انتهى كلامه، رفع في الفردوس مقامه.

و قد تلخّص ممّا قدّمنا أنّ

الحقّ مع القائلين بكفاية الداعي بالمعنى الأعمّ من الأمر الارتكازي الذي ذكرنا، و أنّ القول بالإخطار بمعنى حديث النفس الممتدّ الزماني على تقدير إرادة الاكتفاء به في أوّل العمل و لو عرض الغفلة المحضة و زالت الصورة الارتكازيّة في الأثناء بديهي الفساد، و على تقدير إرادة لزومه مضافا إلى ما مرّ لا دليل عليه، فإنّ أصل اعتبار النيّة في العبادة ليس عليه دليل لفظي، فضلا عن أن يكون دالّا على اعتبار معنى الإخطار.

نعم، لو كان هناك لفظ دالّ على اعتبارها أمكن أن يدّعى أنّ لفظة النيّة بحسب اللغة يراد بها الإخطار القلبي دون مجرّد القصد الخالي عن الإخطار، و لهذا لا يقال: نوى إليه، كما يقال: أراد إليه.

و الحاصل أنّ القائل المذكور يحتاج في إثبات مرامه إلى مقدّمتين: إحداهما:

وجود الدليل اللفظي على اعتبار النيّة بهذه اللفظة، و الأخرى: أنّ هذه اللفظة غير مرادفة مع لفظة القصد و الإرادة و ما شابههما، و المقدّمة الأولى ممنوعة و الثانية غير مسلّمة.

و أمّا قوله عليه السّلام: «لا عمل إلّا بنيّة» «1» و قوله عليه السّلام: «إنّما الأعمال بالنيّات» «2» و قوله عليه السّلام: «إنّما لكلّ امرئ ما نوى» «3» فمن الواضح عدم ارتباطها بمقامنا أعني:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 10.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 431

اعتبار النيّة المعتبرة في باب العبادة، كيف و لو كان هذا مرادا منها لزم تخصيص الأكثر، لكثرة الأعمال الغير المحتاجة إلى هذه النيّة مع إباء سياقها بملاحظة الحصر عن أصل التخصيص، فضلا عن كثرته، فيتعيّن

أن تكون ناظرة إلى مقام آخر و هو أنّ العمل الذي يكتب لبني آدم أو عليهم من الخيرات و الحسنات و من الشرور و السيّئات لا يكون كذلك إلّا بالنيّة، فإن نشأ من نيّة الخير يكتب خيرا، و إن صدر من نيّة السوء يكتب شرّا، فكأنّه قيل: صيرورة العمل خيرا أو شرّا ليس إلّا بالنيّة، و أنّ معيار الثواب و العقاب هو النيّة، فلا ربط لها بما نحن فيه، هذا كلّه هو الكلام في ما به يتحقّق الاختياريّة.

و أمّا الكلام في ما به يتحقّق المقرّبيّة

التي قلنا إنّها من الأمور المعتبرة في العبادة بالاتّفاق مع عدم اعتبارها في مفهومها فاعلم أنّ الميزان فيها كون العمل منبعثا عن داع إلهي منسوب إلى اللّٰه تعالى، و له بحسب اختلاف درجات العابدين كمالا و ضعفا مراتب مندرجة في الكمال و الضعف.

الاولى: أن لا يكون نظر العابد إلى نفع عائد إلى نفسه أصلا و لو بالمرتبة الأقصى منه أعني: القرب من اللّٰه تعالى، بل كان نظره ممحّضا على أهليّة اللّٰه تعالى للعبادة، و هذه المرتبة كما قاله شيخنا المرتضى قدّس سرّه: لا ينبغي دعواها إلّا لمن ادّعاها و أحد عشر من أولاده المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين، حيث قال صلوات اللّٰه عليه: «ما عبدتك طمعا في الجنّة، و لا خوفا من النار، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

الثانية: أن يكون الداعي له إلى الامتثال صرف كونه مقرّبا لدى المولى، لا شيئا آخر من جنّة أو فرار من نار.

و الثالثة: أن يكون نظره في الامتثال حصول القرب، و لكن لم يكن القرب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 432

أقصى الدواعي له، بل كان الداعي الأقصى له حصول النعمة الدنيويّة أو الأخرويّة له أو اندفاع الضرر الدنيوي أو الأخروي

عنه، و هذه هي التي وقعت محلا للكلام بين الأعلام في كفايته في حصول القرب المعتبر في العبادة و عدمها.

و الحقّ هو الكفاية، فإنّه و إن كان أقصى دواعيه نفعه النفساني الشهواني، إلّا أنّه بطمعه من إنعام المولى و إحسانه فهو كالعبيد الظاهريّة إذا أخلصوا الخدمة و أحسنوا المودّة لمواليهم الظاهريّة بغرض أن يكمل لهم الوجاهة عنده حتّى يصير ذلك سببا لمزيد إنعام المولى عليهم و زيادة إحسانه إليهم، فإنّه لا شكّ في أنّ ذلك أمر حسن يوجب قربهم لديهم، فإنّ نفس الطمع من يد المولى و النظر إلى باب إحسانه أمر مرغوب مطلوب في ذاته، فالداعي الأوّلي في هذا القسم أمر حسن.

نعم لو كان المقصود ابتداء حصول المنفعة أو دفع المضرّة بلا توسيط القربة كما هو الشأن في الخواصّ الطبيعيّة للأفعال فيصلّي مثلا صلاة الليل و كان نظره إلى حصول خاصيّة درّ الرزق كما يفعل بعض الأوراد و المناتر لأجل بعض ما يترتّب عليها من الخواصّ، فليس هذا عبادة أصلا.

و أمّا القسم الثالث، أعني: ما كان المقصود أوّلا حصول القرب لدى المولى، ثمّ بواسطته حصول المنفعة بإفضال المولى و ترشّحات جوده و كرمه، فهذا عبادة نوع المسلمين المصلّين، حيث إنّ القسم الأوّل لا حظّ منه لأحد غير المعصومين عليهم السّلام، و القسم الثاني أيضا مخصوص بالأوحدي من غيرهم، فيبقى المتعارف الغالب من أفراد المصلّين، فعباداتهم طرّا من القسم الثالث، فيلزم على تقدير عدم كفايته الحكم ببطلان صلاة الجميع من الطائفة الثالثة، مضافا إلى [أنّ] الحثّ و الترغيب بإيعاد الثواب، و التخويف بتوعيد العقاب أيضا لا ثمرة لهما أيضا إلّا الفعل بداعي الوصول إلى الأوّل و الحذر عن الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 433

و

قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ ميزان حسن العمل و مقدار حسنه هو الداعي الأقصى، أعني: ما هو داعي الدواعي في نفسه، فإن كان أمرا راجحا صار موجبا لمزيّة العمل و رجحانه، و إن كان قبيحا رديّا صار موجبا لقبحه و رداءته، و إن كان لا حسن فيه و لا قبح فلا حسن و لا قبح في العمل، و إن كان الداعي المتوسّط بين العمل و بين الداعي الأقصى حسنا، مثلا لو أوعده إنسان بمال كثير لو صلّى امتثالا لأمر اللّٰه تعالى ففعل بداعي وصوله إلى ذلك المال فهو و إن تحقّق في نفسه حقيقة امتثال أمر اللّٰه، و لكن لمّا كان الداعي الأقصى الذي هو المحرّك الأصلي له هو الوصول إلى المال و هو أمر مباح فلا يتحقّق حقيقة العباديّة في حقّه.

و على هذا فلا يرد النقض بالصلاة عن رياء، فإنّ الداعي الأقصى للمرائي هو الرياء، و هو غير مربوط بالمولى، و قد كان المعيار هو ارتباطه، نعم يبقى الكلام في العبادات الاستيجاريّة و كيفيّة تصحيحها، و هو موكول إلى مقام آخر.

هذا تمام الكلام باعتبار نفس النيّة التي هي أمر بسيط.

و أمّا كيفيّتها باعتبار المنويّ
اشارة

فلا إشكال في لزوم قصد التعيين، أعني: تعيين المأمور به، لأنّه إن لم يتصوّره معيّنا بقيوده و مشخّصاته لما يدعوه إلى العمل أمره المتعلّق بخصوصه، و هذا واضح.

و لا يخفى أنّ اللازم أعمّ من التعيين التفصيلي و الإجمالي، كما إذا قصد في صورة اتّحاد الواجب في ذمّته ما هو الواجب عليّ في الحال، مثلا إذا كان عليه درهم واحد و لا يعلم أنّه من زيد أو من عمرو فيعطيه ممّن هو وكيلهما بقصد أداء ما في ذمّته في الحال، فيقع عنه أيّا ما كان

واقعا، و لا إشكال في هذا أيضا.

إنّما الكلام هنا في مقامات: الأوّل في تعيين الظهريّة و العصريّة، و الثاني: في تعيين الأدائيّة و القضائيّة، و الثالث: في تعيين الوجوب و الندب، و الرابع: في قصد التمييز.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 434

المقام الأوّل [تعيين الظهرية و العصرية]:

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إذا كان للمأمور به ميز واقعي عن مأمور به آخر و كان محصّل ذلك الميز هو القصد مع الاشتراك في الصورة بحسب الخارج كما إذا كان قصد الظهريّة أو العصريّة جاعلا للأربع ركعات حقيقة مغايرة لحقيقة الآخر، و كان الذمّة مشتغلة بهما معا، فلا إشكال في لزوم القصد و التعيين القصدي للمأمور به، إذ ما لم يقصد لم يتحقّق المأمور به ذاتا، و ما لم يتحقّق الذات لم يتعلّق الأمر به، و بالفرض هو قاصد للأمر و امتثاله، نعم يكفيه الإشارة الإجماليّة، مثلا إذا كان في ذمّته ظهر أدائي و عصر قضائي يكفيه أحد الأمرين، إمّا قصد الظهريّة و العصريّة، أو قصد الأدائيّة و القضائيّة.

و أمّا إذا لم يكن بينهما ميز أصلا إلّا بتعدّد الوجود مثل درهم و درهم آخر إذا كان أحدهما واجبا و الآخر مستحبّا، فأوّلا: هل يعقل اشتراك التكليف في الزمان الواحد بهذا النحو أو لا يعقل، بل الزمان الأوّل أبدا مشغول بالتكليف الإيجابي، و يختصّ الزمان الثاني أعني: بعد أداء الدرهم الوجوبي بالتكليف الاستحبابي، كما هو مختار شيخنا المرتضى قدّس سرّه.

و ثانيا: على فرض التعقّل هل يلزم هنا قصد و تعيين بأن يقصد هذا الذي أعطيه هو الدرهم الوجوبي، أو أنّه الاستحبابي؟

الحقّ في المقام الأوّل هو المعقوليّة، فإنّا نرى بالوجدان أنّ الإنسان يأمر في الزمان الواحد عبده بأن يضرب الشخص الكذائي سوطا بطريق الوجوب

و سوطا آخر بطريق الندب، و كلا الطلبين متمشّ منه في زمان واحد، نعم لمّا يكون فصل الوجوب عدم الرضا بالترك فإذا حصل السوط الواحد فقد حصل المطلوب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 435

الوجوبي، أعني: ليس في نفسه قهرا عدم الرضا بالترك، فهذا تطبيق قهري للواجب على المأتيّ به الأوّل، لا أنّ الوجوب يختصّ بالزمان الأوّل و الاستحباب بالثاني.

و من هنا ظهر الحقّ في المقام الثاني و أنّ القصد غير مفيد فضلا عن كونه واجبا، بمعنى أنّ المصداق الأوّل قهريّ الانطباق على الواجب، و لا يعقل تشخيص كونه مصداقا للمستحبّ بالقصد و التعيين في النيّة، و هذا أيضا واضح.

و على هذا فنقول: إن كان في ذمّته أربع ركعات بعنوان الظهريّة، و أربع بعنوان العصريّة و قلنا بأنّهما حقيقتان مختلفتان و محقّقهما القصد كسائر العناوين القصديّة مثل التعظيم و شبهه، فإن كانا معا أدائيين أو قضائيين فلا إشكال في لزوم القصد التعييني و الإشارة إلى خصوصيّة الظهريّة أو العصريّة في الذهن، و هذا نظير ما لو كان في ذمّتك درهم لزيد و درهم لعمرو و أردت إعطاء الدرهمين لشخص واحد هو وكيل من جانبهما، فإنّه لا بدّ من قصد و إشارة إلى خصوصيّة كونه من الزيد أو من العمرو و لو بنحو الإشارة الإجماليّة، و هكذا لو كان لشخص عليك درهم من باب ضمان ما تلف من ماله في يدك، و آخر من جهة ثمن مال باعه منك، فلا بدّ من قصد التعيين، و لا يكفي إعطاؤك إيّاه درهما، و هذا واضح.

و محصّل الكلام في هذا المقام أنّ الذمّة متى اشتغلت بفعلين مشتركين في الجهات الخارجيّة جميعا فهذا على قسمين:

الأوّل: أن يكونا من باب حقيقتين

متمايزتين، و لكن مميّزهما القصد و الإشارة الذهنيّة كالتأديب و الإساءة و التعظيم و التوهين، أو فردين من حقيقة واحدة بحيث كانا متمايزين بالمميّزات الفرديّة مع كون المميّز من الأمور القصديّة الذهنيّة، كتعظيم الزيد و تعظيم العمرو، فإنّهما من حقيقة واحدة، لكن تمايزهما الفردي أيضا يكون بالقصد كالنوعي، و هذا لا إشكال في صورة تعدّد المكلّف به في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 436

الذمّة في الاحتياج إلى التعيين الذهني و لو الإجمالي، بل و كذا مع عدم التعدّد، لأنّ المأمور به متخصّص بالفرض بخصوصيّة لا يتحصّل إلّا بالقصد إليها.

و الثاني: أن يكون الفعلان كما هما مشتركان صورة، غير متمايزين واقعا أيضا بغير حيثيّة الوجود، بمعنى أنّهما ليسا في مرتبة الذات و الماهيّة لا نوعا و لا فردا متمايزين أصلا، بل التمايز جاء من قبل الوجود فقط مثل ضرب و ضرب آخر، و صلاة ركعتين و ركعتين أخريين، و هكذا.

و هذا القسم ممّا وقع إنكار إمكانه في كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه في غير صورة كون التكليفين وجوبيين، لأنّ التكليف إن كان وجوبا رجع إلى التكليف بصوم اليومين مثلا و هكذا، و ليس هذا من باب الاختلاف الموضوعي المحوج إلى قصد المميّز.

و إن كان أحدهما وجوبا و الآخر ندبا فإن كانا تدريجيّين كان الواجب هو الوجود الأوّل، و المندوب هو الوجود الثاني، فلا اشتراك في الزمان الواحد، و إن كانا يمكن إيجادهما دفعة مثل إعطاء الدرهم و درهم آخر، رجع إلى أنّ الأمر متعلّق بالدرهم اللابشرط عن الزيادة، فيكون إعطاؤه مع الزيادة من أفضل أفراده، فيصير كصورة التدريجيّة في اختصاص الوجود الأوّل بالوجوب و الثاني بالاستحباب.

و قد عرفت أنّ المختار في هذا القسم أيضا إمكان

كون أحدهما وجوبا و الآخر ندبا كصورة كونهما وجوبين، لما مرّ من الوجه فراجع، و في هذا القسم لا اختلاف موضوعي محوج إلى قصد التميّز و التعيين، و هذا أيضا لا إشكال فيه.

و حيث عرفت أنّ حيث الظهريّة و العصريّة من القسم الأوّل أعني:

الاختلاف الموضوعي مع التشابه و التشارك الصوري احتاجا إلى قصد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 437

خصوصيّتهما و لو بنحو الإجمال، مثل ما هو الواجب في الحال أو في الحال أو في الذمّة، كذلك إذا كان ما في الذمّة متّحدا، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني [في تعيين الأدائية و القضائية]:

لا إشكال في لزوم نيّة الأداء و القضاء إذا توقّف عليهما نيّة التعيين، كما لو كان في ذمّته ظهر و عصر إحداهما أداء و الأخرى قضاء و نشكّ في التعيين، فإنّ المعيّن حينئذ قصد ما هو الأداء و ما هو القضاء، كما أنّه لو علم بالتعيين يكفي له أحد الأمرين، إمّا قصد الأداء و القضاء، و إمّا قصد الظهر و العصر مع إهمال قصد الأداء و القضاء.

إنّما الكلام في صورة تعدّد المكلّف به أحدهما أداء و الآخر قضاء من دون اختلاف بالظهريّة و العصريّة بأن كانا معا ظهرا أو معا عصرا، فهل اللازم عليه إتيان أربع ركعات مرّتين مع قصد الظهريّة بلا حاجة إلى قصد الأداء و القضاء، أو يلزم القصد إلى هاتين الخصوصيّتين.

و بعبارة أخرى: هل الأداء و القضاء أيضا كالظهريّة و العصريّة حقيقتان مختلفتان حتّى يحتاجا إلى المميّز الذهني، أو أنّهما وجودان من حقيقة واحدة كالقصر و التمام مع زيادتهما عليهما بعدم المميّز الخارجي أيضا بخلافهما.

فإن كان الأوّل فلا بدّ من التعيين و لو إجمالا كما في الظهر و العصر، و إن كان الثاني

فلا حاجة إليه، بل و مع قصد أحدهما و كان الواقع بخلافه يلغو القصد، كما في قصد القصر أو الإتمام في أحد مواضع التخيير، حيث إنّ له إلغاء القصد المذكور قبل التجاوز عن الركعة الثانية، لكنّ الظاهر من كلمات العلماء رضوان اللّٰه عليهم هو الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 438

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن تقريبه بعد مقدّمتين قطعيّتين:

إحداهما: أنّ التكليف بالأداء و القضاء ليس كالتكليفين المتوجّه أحدهما بالمقيّد و الآخر بالمطلق، كما لو تعلّق تكليف بعتق الرقبة المؤمنة، و تكليف آخر بمطلق الرقبة، حيث إنّ الجمع في الامتثال حينئذ ممكن كالتفريق، فإنّا نقطع بأنّ التكليف ليس بظهر مقيّد بالوقت و آخر بمطلق في خارج وقته الأوّلي، و إلّا كان اللازم جواز جمعهما في الامتثال كالمثال، و هو مقطوع الفساد.

الثانية: أنّه لو كان الأمر القضائي و الأدائي من باب التكليف بالفعل بصرف وجوده و بذلك الفعل بوجوده الثاني لزم ملاحظة ذلك، أعني: حيث كون الفعل وجودا ثانويّا في لحاظ الآمر، و نحن نقطع بأنّ تكليف صلّ الظهر الأدائي بالنسبة إلى من هو في أوّل البلوغ و بالنسبة إلى من هو مشغول بالقضاء الظهري يكون على نسق واحد لا مزيّة لأحدهما على الآخر، و ليس الملحوظ في حقّ الثاني: صلّ ظهرا آخرا، بل: صلّ الظهر، كما هو الحال بالنسبة إلى الأوّل.

و الحاصل أنّه أمر ممكن، و لكنّه محتاج إلى العناية الزائدة التي يدفعه الأصل في الخطابات اللفظيّة، فإذا ضممنا هذا الأصل اللفظي إلى تلك المقدّمة القطعيّة ينتجنا أنّ الأداء و القضاء أمران مختلفان بحسب الذهن و القصد.

و حينئذ فيحتمل أن يكون المميّز في كلّ منهما قصده بعنوانه الخاصّ الوجودي، و يحتمل أن يكون في جانب

الأداء قصد عنوانه الوجودي، و في طرف القضاء عدم هذا القصد، و يحتمل العكس، و لا معيّن لشي ء من هذه الثلاثة.

و الحاصل أنّا لو كنّا و الظواهر الأوّلية للخطابات لحملناهما على المطلق و المقيّد، و لكن صرفنا عن هذا الظاهر المقدّمة الأولى القطعيّة، و حينئذ يدور الأمر بين أمرين لا ثالث لهما، أحدهما: أن يكونا من قبيل وجودين لموضوع واحد،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 439

و الثاني: أن يكونا داخلين في موضوعين، و حيث إنّ الأوّل ينافيه المقدّمة الثانية يتعيّن الأمر في الثاني، فإنّه لا منافاة فيه معها أصلا، كما هو واضح.

المقام الثالث [في تعيين الوجوب و الندب]:
اشارة

هل اللازم في باب العبادة كون الداعي إلى العبادة هو الأمر الشخصي بالفعل المخصوص، بحيث كان خصوصيّة كون الأمر وجوبيّا أو ندبيّا و كون العمل فعل الجمعة أو الظهر مثلا معلوما تفصيلا حين العمل للفاعل عند التمكّن منه، فلو فعله لا بهذا الداعي إمّا للجهل التفصيلي في وصف الأمر و أنّه الوجوب أو الندب، و إمّا للجهل التفصيلي بمتعلّقه و أنّه الظهر أو الجمعة مثلا، فلا يكون مجزيا، كما لو أخلّ بأصل داعويّة الأمر و أتى بداع شهواني؟

و المقصود بالبحث في هذا المقام هو الجهة الاولى، أعني: اعتبار العلم التفصيلي بوصف الطلب من الندبيّة و الوجوبيّة، و أمّا الجهة الثانية فنبحث عنها إن شاء اللّٰه تعالى في المقام الرابع.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: لا نرى من وجداننا مانعا عن حصول القرب المعتبر في باب العبادة للفاعل التارك مع التمكّن للفحص عن خصوصيّة كون أمر المولى بالفعل الكذائي وجوبيّا أو ندبيّا، و لكنّه أتى بذلك الفعل إمّا بداعي شخص الأمر الواقعي المعلوم عند اللّٰه، إن ندبا فندب، و إن وجوبا فوجوب، أو بداعي جامع

الطلب و الرجحان المعلوم عنده أيضا، فإنّه عند العقلاء يكون مطيعا ممتثلا لأمر المولى، و لا يجعل جهله الممكن إزالته مانعا عن حصول الإطاعة و الامتثال، فإنّه متحرّك بتحريك الأمر، و يكفي هذا في احتساب العمل إطاعة.

نعم ربما يقال: إنّ عدّه إطاعة بهذا الوجه إنّما يصحّ لو أحرز من حاله أنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 440

لو حصل له العلم بكيفيّة الأمر لكان داعيا له إلى العمل على أيّ تقدير، سواء كان وجوبا أم ندبا، و أمّا لو كان بحيث لو علم بكونه ندبا لتقاعد عن العمل و لا يصير الأمر مؤثّرا في نفسه فلا يصحّ أن يكون الجامع داعيا و محرّكا له، و كذا شخص الأمر الواقعي بقول مطلق، و لا بدّ في حصول الامتثال كونه الداعي بقول مطلق، لا على تقدير خاصّ دون غيره.

و لكنّ الحقّ كفاية هذا العمل و وقوعه امتثالا على كلتا الصورتين المفروضتين، أمّا على الاولى فواضح، و أمّا على الثانية فلأجل أنّه و إن كان على تقدير معلوميّة كونه ندبيّا لا ينبعث نحو العمل، إلّا أنّه عند الشكّ و الترديد و احتمال كونه وجوبا يحضر نفسه للإجابة و الإطاعة بقول مطلق لأجل استراحة خاطره، فيبني في قلبه على الإطاعة المطلقة و الاستماع إلى نداء هذا الأمر الشخصي كيف ما كان، أو جامع الطلب المتحقّق في ضمنه، و لا ملازمة بين عدم حضور النفس في صورة تفصيليّة الندب و بين عدم الحضور في صورة الإجمال و الترديد.

فالأقوى أنّه لو أثّر في نفسه الأمر الشخصي بمجهوليّته التفصيليّة أو الأمر الجامع و أتى بالعمل بتأثّره، كفى ذلك في صدق الامتثال.

الفرق بين التقييد و التجريد في النيّة

بقي الكلام في فرع مرتبط بالمقام و هو أنّه لو اعتقد

الأمر الوجوبي ندبيّا أو بالعكس و تحرّك نحو العمل بداعي خصوص ما اعتقده على خلاف الواقع، فهل يجزي في الامتثال و حصول العبادة أو لا؟

المشهور في ألسنة المشايخ قدّس سرّهم هو الفرق بين ما إذا كان الداعي هو الصورة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 441

الاعتقاديّة بطريق التقييد، و بينه بطريق التجريد و الانحلال، كما ذكروه في مسألة الاقتداء بمن اعتقده زيدا و كان عمروا، فقالوا بالصحّة مع التجريد و الانحلال، و بالفساد مع التقييد.

و المقصود من التجريد أن يكون الحاضر في ذهنه عند عقد الاقتداء و نيّته صورة الإمام، و لكن مع تجزئة هذائيّته عن زيديّته، بأن يجعله في الذهن منقسما إلى موضوع و هو هذا، و محمول و هو زيد، فيجعل مورد اقتدائه هو الموضوع أعني:

هذا، فيكون لهذا الموضوع محمولان، أحدهما الزيديّة، و الآخر المقتدائيّة، و لهذا لا يبطل الاقتداء عند كشف عدم الزيديّة، إذ لا يبقى بلا موضوع.

و المقصود من التقييد أن يكون الحاضر في الذهن هو الصورة المذكورة بلا تجزئته و جعله على قسمين، بل على ما هو عليه في الخارج من الاندماج بين هذائيّته و زيديّته و عدم الميز لأحدهما عن الآخر، فيشار إليه ذهنا أيضا بطريق لا يمتاز الهذائيّة عن الزيديّة شبه الخارج، و لازم هذا أنّه لو بطل اعتقاد الزيديّة يبقى الاقتداء بلا موضوع واقعي، بل كان موضوعه أمرا وهميّا خياليّا، فما كان واقعيّا لم يقصد الاقتداء به و هو العمر و ما قصد به الاقتداء كان مجرّد الوهم و الخيال بلا واقع له و لا خارج.

و قد يتخيّل أنّ المراد بالتقييد هو أنّه لو بان له أنّ الإمام عمرو لم يقتد به، و بالتجريد خلاف ذلك و

أنّه لو انكشف الواقع عنده اقتدى، و لكنّه فاسد، بل الحقّ ما ذكرنا، فلو كانت الصورة الحاضرة هو الزيد الحاضر بوجه الاندماج ما صحّ الاقتداء و إن فرض كونه بحيث لو انكشف له أنّه عمرو يقتدي به، و لو كانت الصورة الحاضرة هو الزيد الحاضر بامتياز هذائيّته عن زيديّته كان صحيحا و إن فرض أنّه لا يقتدي على تقدير ظهور الحال عنده، و الوجه واضح ممّا قرّرنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 442

إذا عرفت ذلك ففيما نحن فيه أيضا يجري هذا التفصيل بعينه، فتارة يكون المؤثّر في نفسه ذات أمر المولى مع تجزئته في الذهن عن وصف ما اعتقده عليه من الوجوبيّة أو الندبيّة، فيجعله داعيا لنفسه و نصب عينه عند الحركة سمت الفعل، و لازم ذلك هو الصحّة و عدم بقاء عمله بلا داع واقعيّ.

و اخرى يكون المؤثّر هو الأمر الوجوبي على نحو الاندماج، كما هو عليه في الخارج، و لازم هذا بقاء حركته بلا داع خارجيّ و كونه بدعوة الأمر الوهمي الخيالي، و لا يكفي هذا في الامتثال، هذا ما هو المشهور في ألسنة المشايخ قدّس سرّهم.

و قد استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام ظلّه في هذا المقام مع تسليمه منهم في مسألة الاقتداء، و حاصل ما استشكله أنّا لسنا في باب العبادة ندور مدار صدق الامتثال حتّى يرد الكلام المزبور في صورة التقييد و نحكم بأنّه لا يصدق الامتثال، لأنّ ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد، بل باب العبادة يكفيه التحرّك بملاك الأمر و لو لم يكن أمرا أصلا، كما في الضدّ العبادي المزاحم بالضدّ الأهمّ، حيث يقول القائل بعدم إمكان الأمر بالضدّين ترتّبا بأنّ العبادة مع ذلك صحيحة إذا

أتى بها بداعي الرجحان الذاتي.

فالمعتبر في باب العبادة أمران: أحدهما: كون الفعل ذا جهة محسّنة يصلح لأن يتقرّب به، و هذا بالفرض موجود في المقام، و الأمر الثاني: أن يكون الفاعل آتيا بالفعل على وجه يوجب القرب له، و هو في المقام حاصل، و ذلك لأنّ اعتقاده الوجوب ليس بأضعف من احتماله الوجوب، و كما أنّه لو انبعث باحتمال الوجوب و أتى بالفعل احتياطا بهذا الاحتمال و لم يكن واقعا وجوب كان موجبا للقرب الانقيادي.

فالاعتقاد في ما نحن فيه يؤثّر في القرب الفاعلي الانقيادي بطريق أولى،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 443

و بالجملة، القرب الفاعلي متحقّق بلا شكّ، و الفعل أيضا واجد للجهة المقرّبة، و هما منضمّين كافيان قطعا لحصول العبادة و إن لم يصدق عنوان الامتثال، و اللّٰه العالم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّه لو قصد الأمر الوجوبي ندبا بعنوان التشريع أو بالعكس كذلك فالحقّ هنا جريان التفصيل المتقدّم، بمعنى أنّه لو كان المؤثّر في نفسه ذات الأمر و جعل ما شرّعه هو من وصف الوجوبيّة أو الندبيّة عرضا عليه في عرض الداعويّة فاللازم هو الصحّة، لأنّه قد تحرّك بالأمر الواقعي، و الكيفيّة التشريعيّة لم يؤثّر في نفسه شيئا.

و إن كان المؤثّر هو الذات مع الكيفيّة التشريعيّة على وجه التقييد فاللازم البطلان، لأنّ التحرّك بالأمر التشريعي لا يوجب القرب.

المقام الرابع [في قصد التمييز]:

اعلم أنّ الوجه المتصوّر الذي يمكن أن يكون اتّكال القائل بلزوم تفصيليّة العمل المتعلّق للأمر عند التمكّن منه في حصول الامتثال في باب العبادة عليه أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ.

أحدهما: منع صدق الامتثال و القرب مع كونه متساهلا في السؤال و إتيانه بعملين أو أعمال، فإنّه لا يعدّ بهذا العمل التساهلي مطيعا و لا يصير مقرّبا،

بل يعدّ مستهزئا و لاغيا.

و الثاني: أنّ قصد التمييز يحتمل أن يكون كقصد الأمر ممّا له دخل في الغرض، و لا يمكن للآمر أخذه في متعلّقه، للدور المقرّر في محلّه، و كلّ ما كان من القيود مشكوكا في هذه المرحلة فالأصل فيه يقتضي الاشتغال و إن قلنا في القيود المشكوكة الممكنة الأخذ في المأمور به بالبراءة، لأنّ الشكّ هناك عند القائل بالبراءة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 444

في مرحلة الثبوت، و في هذا المقام في مرحلة السقوط بعد القطع بالثبوت، فإنّ المأمور به معلوم بحدوده و قيوده.

و الحقّ بطلان كلا الوجهين على ما حقّق في الأصول، و إجماله أنّا لا نرى مانعا من أنفسنا من حصول القرب إذا كان الداعي له إلى التكرار و ترك التتبّع و الفحص و السؤال أمرا عقلائيّا صحيحا، فإنّه حينئذ لا يعدّ لاغيا مستهزئا، بل مطيعا لأمر المولى ممتثلا.

و أمّا ما ذكر من الوجه الثاني ففيه أوّلا: إنّا نقطع بعد كون هذا القيد ممّا يغفل عنه أذهان عامّة المكلّفين، و ما هذا شأنه لا بدّ على تقدير دخله في الغرض من نصب الأدلّة عليه بأزيد ممّا لا بدّ في غيره من القيود التي ينقدح في أذهان العامّة احتمال دخلها، مع أنّا لا نرى في الكتاب و السنّة و غيرهما عينا و لا أثرا من اعتبار هذا القيد، بأنّ هذا القيد ممّا لا مدخليّة له.

و ثانيا: لو فرضنا الشكّ و عدم القطع المزبور نقول: الكلام في هذه القيود هو الكلام في قيود المأمور به، و قولك: إنّ الشكّ هناك في الثبوت و هنا في السقوط في محلّ السقوط، فإنّ الشكّ هناك أيضا في السقوط.

ألا ترى أنّه لو كان المأمور به

واقعا عتق الرقبة المؤمنة، فعتق الكافرة يوجب سقوط الأمر المذكور؟ كلّا و حاشا، و لكنّ القائل بالبراءة يقول: ليس على عهدة العبد إلّا التحرّك سمت الأمر بمقدار علمه، و الزائد ليس عليه، لقبح العقاب بلا بيان.

و هذا الوجه بعينه قائم في المقام، فإنّ هذا القيد ليس علينا عقاب لو تركناه، لأنّ العقاب عليه على تقدير دخله واقعا يكون عقابا بلا بيان، فإنّه و إن كان درجة في المأمور به غير ممكن، و لكن إعلانه بالبيان المنفصل بمكان من الإمكان، و اللّٰه هو الموفّق و عليه التكلان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 445

مسألة لو ضمّ إلى نيّة التقرّب إرادة شي ء آخر
اشارة

فلا يخلو إمّا أن يكون مباحا، كما لو ضمّ المتوضّي نيّة التبرّد أو التسخّن أو النظافة و غير ذلك من المقاصد، أو يكون محرّما كالرياء و السمعة أو غير ذلك من المحرّمات، أو يكون راجحا شرعا، فالكلام في مقامات ثلاثة.

أمّا المقام الأوّل [أن يكون الضميمة مباحا]

اعلم أنّه لا إشكال في الصحّة في ما إذا كان المؤثّر في أصل الطبيعة المأمور بها منحصرا في داعي أمرها من دون داع إليه غيره أصلا، و لكن بعد ما صار المكلّف ملجئا حسب دعوة الأمر إلى إيجاد الطبيعة كان بعض أفرادها أوفق بطبعه من غيره من الأفراد، فاختار ذلك الأوفق، كما لو لم يكن له غرض شهواني في إصابة الماء للبدن أصلا، و ألجأه إليه أمر الشارع بالغسل أو الوضوء، و لكن بعد هذا الإلجاء يرى أنّ استعمال الماء البارد أوفق بحاله من الحارّ أو بالعكس، فاختار الوضوء الخاصّ أعني: بالبارد أو بالحارّ، فإنّه ما دعاه إلى إيجاد الطبيعة إلّا أمر المولى من غير شركة لشي ء آخر معه، و الشي ء الآخر إنّما أثّر في اختيار الخصوصيّة، فالخاصّ و إن يحصل من داعيين: الأمر و الشي ء المباح، إلّا أنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 446

غير متعلّق للأمر، و الذي هو المأمور به أعني: أصل الطبيعة لم يؤثّر فيه إلّا الداعي الإلهي، بل الأوامر المتعلّقة بالطبائع لا تزال مقرونة بدواع أخر متعلّقة بالخصوصيّات، ضرورة أنّها لا يعقل داعويّتها بغير ما تعلّقت به، و هذا واضح.

فلا ينبغي الإشكال في حصول القرب المعتبر في العبادة في هذا القسم، و كذا لا ينبغي الإشكال أيضا في ما إذا كانت الطبيعة المأمور بها حاصلة بدعوة الأمر و كانت هناك طبيعة أخرى نسبتها معها نسبة العموم من وجه، و كانت

هي موردا لغرض من الأغراض المباحة، فأوجد المكلّف المصداق الذي هو مجمع العنوانين بدعوة هذين الداعيين، فإنّ إيجاد هذا المجمع أيضا و إن كان لشركة الداعيين، إلّا أنّ كلّا منهما له محلّ ممتاز عمّا هو محلّ الآخر، فمحلّ الآخر طبيعة، و محلّ ذلك الغرض المباح طبيعة أخرى و إن اجتمعا في الوجود الخارجي.

كما لو كان له غرض في إصابة الماء البارد جسده و إن لم يكن هناك أمر بالتوضّؤ أو بالغسل، و لكن لا يفرق بين أنحاء الإصابة من كونها في خصوص الوجه و اليدين بالكيفيّة الخاصّة، و لكن يعتبر في حصوله برودة الماء، و أمّا أمر الشارع بالتوضّؤ فقد اعتبر فيه خصوصيّة الوجه و اليدين مع الكيفيّة المقرّرة بدون اعتبار برودة الماء، فإذا أتى بالغسل بالوجه المقرّر في الوضوء بالماء البارد فقد أثّر كلّ من الداعيين في محلّ مخصوص به، أمّا الأمر الوضوئي فقد أوجد إتيان الغسل الوضوئي مع نيّة التقرّب، و ذلك الغرض المباح أوجد إصابة البدن للماء البارد.

و بالجملة فهذا الخاصّ الموجود في الخارج مجمع لعنوانين، و أحد العنوانين مأمور به و لم يؤثّر فيه غير أمر الشارع، و العنوان الآخر الذي حصل بغير الداعي الإلهي ليس بمأمور به.

إن قلت: نعم، و لكنّ الجامع المشترك بين العنوانين و هو مطلق إصابة الماء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 447

للبدن قد اجتمع فيه داعيان و لم يتأثّر من الداعي الإلهي فقط، و قد كان من المعتبر إيجاد المأمور به بجميع ما له دخل فيه من الطبيعة و كلّ خصوصيّة أخذت معها في تعلّق الأمر بالداعي الإلهي بلا شركة لداع غيره، و هذا بخلاف الحال في القسم الأوّل، فإنّ الطبيعة جاءت من قبل الأمر،

و الخصوصيّة من قبل الهوى، و أمّا هنا فكلّ من الأمر و الهوى قد أثّر في خاصّ غير الخاصّ المتأثّر من الآخر، و لكن بين الخاصّين جهة عامّة مشتركة، و هي لا محالة جاءت بتأثير كليهما، فقد سقط الأمر عن وصف الاستقلال في الداعويّة بالنسبة إلى هذا الجزء من المأمور به.

قلت: كلّا، إنّه مع ذلك محفوظ الاستقلاليّة في تمام الخاصّ المأمور به، أ لا ترى أنّه يمكن ثبوت وصف التأثير الاستقلاليّة لكلّ من الخاصّين بأن أثّر كلّ من الخاصّين لا الخصوصيّتين أثرا خاصّا به مغايرا لأثر الآخر، فكما يمكن التأثير الاستقلالي فيهما يمكن أن يقعا موردين لتأثير مؤثّرين استقلاليين أيضا بلا فرق، و هكذا يمكن أن يقع أحدهما موردا لعرض المحموليّة و الآخر للموضوعيّة، إلى غير ذلك ممّا أشير إليه في مبحث اجتماع الأمر و النهي، فإذن لا ينبغي الإشكال في هذا القسم أيضا.

و بالجملة، لا يحتاج المؤثّران الاستقلاليّان إلى تعدّد المحلّ بأزيد من احتياج الضدّين، فكما تصوّرنا اجتماع الضدّين في مبحث الاجتماع بواسطة تعدّد موردهما في ما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه، فكذلك يكفي هذا المقدار في اجتماع المؤثّرين الاستقلاليّين أيضا بلا فرق.

و حاصل الكلام في المقام أنّ الداعي الغير الإلهي المباح على قسمين:

الأوّل: أن يكون داعويّته في غير ما يكون الداعي الإلهي داعيا إليه.

و الثاني: أن يكون داعيا إلى عين محلّ دعوة الداعي الإلهي، و القسم الأوّل على قسمين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 448

الأوّل: أن يكون محلّ دعوته ترجيح الخصوصيّة الفرديّة من بين الخصوصيّات بعد ما صار الداعي الإلهي محرّكا له إلى تحصيل صرف الوجود للطبيعة المأمور بها، فإنّ الأمر لا يقتضي أزيد من صرف الوجود، فلا محالة تكون

الخصوصيّات الفرديّة مفوّضة إلى اختيار المكلّف، فإذا لم يكن في نفسه داع إلى استعمال الماء بوجه و لكن بعد ما صار ملجئا بتحريك الأمر الوضوئي إلى استعماله فاختار فردا خاصّا من الماء لأجل بعض دواعيه النفسانيّة لم يضرّ ذلك بداعويّة الأمر و صدق الإطاعة و الامتثال في حقّه و إن كان هذا الوجود الواحد الخارجي إنّما حصل ببركة داعيين: أحدهما أثّر في الصرف المتحقّق فيه، و الآخر في خصوصيّته، لكن هذا المقدار ممّا لا يضرّ و لا يوجب سقوط الأمر عن الاستقلال في الداعويّة أيضا لو قلنا باعتباره في صدق الإطاعة على كلام يأتي فيه إن شاء اللّٰه تعالى في القسم الثاني من القسمين الأوّلين.

و الثاني: أن يكون محلّ دعوته طبيعة مغايرة مفهوما مع الطبيعة المأمور بها و إن كانا قد يجتمعان في الوجود الخارجي، كما إذا توجّه خاطره إلى تحصيل عنوان التبريد المجامع مع القعود في السرداب، و مع غسل بعض بدنه أو تمامه بالماء، و مع وضع خرقة مرطوبة على جسده بحيث لم يتفاوت في غرضه شي ء من ذلك، و كان كلّ منها ممكنا له بلا فرق، و تعلّق به أمر الشارع بالوضوء، و هو مقتض لصرف الوجود المجامع مع عنوان التبريد و بدونه، فدعاه هذا الأمر إلى إيجاد الوضوء، لكن في خصوص فرده الخاصّ المتحقّق بالماء البارد تحصيلا لذلك الغرض التبريدي.

فهذا أيضا حاله كالقسم الأوّل في عدم الإشكال في الصحّة، فإنّ هذا الوجود الواحد و إن تركّب في إيجاده داعيان، لكن كلّ منهما أثر في شطر منه، فبعض في إيجاد وضوئيّته، و آخر في إيجاد تبريديّته، نعم بين عنواني الوضوء و التبريد جامع و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 449

عنوان

العمل، و لكن مجرّد هذا لا يوجب اجتماع الداعيين فيه، فإنّ هذا الجامع غير مقصود، و إنّما ينتزعه العقل بعد وقوعه و صدوره.

و الحاصل أنّ الجامع بين العنوانين تارة شي ء مستقلّ باللحاظ، سواء كان بينهما عموم من وجه، كما في عنوان الصلاة في الحمّام و صلاة الصبح، فإذا أمره الشارع بصلاة الصبح و كان في نفسه داع إلى الصلاة في الحمّام بمجموعه من الذات و القيد فقد تحقّق اجتماع الداعيين في عنوان الصلاة.

و كذلك إذا كان بينهما الإطلاق و التقييد، كما لو دعاه الأمر النفساني إلى إيجاد طبيعة الصلاة، و الأمر الشرعي إلى خصوص صلاة الصبح، فيجتمع الداعيان في عنوان الصلاة، فيجي ء في هاتين الصورتين بالنسبة إلى الجامع الذي تلفّق فيه الداعيان الكلام الآتي في القسم الثاني من مجي ء الأقسام الأربعة فيه.

و اخرى: صرف انتزاع عقلي بدون استقلال له في اللحاظ بأن كان المفهومان متغايرين بتمام المفهوم و إن كانا يتصادقان بحسب الوجود أحيانا، سواء كان بينهما عموم من وجه، كالصلاة و الغصب، حيث ليس بينهما جامع إلّا مفهوم العمل، و هو أيضا غير ملتفت و غير مقصود لفاعل العنوانين، فلا محالة يكون الحال حينئذ حال ما إذا أثّر الداعي النفساني في ترجيح الخصوصيّة الفرديّة فقط، كما مرّ في القسم الأوّل، و اللّٰه العالم. أم كان عموم مطلق، كمطلق الحركة و فعل الصلاة، فإذا كان مورد داعيه مطلق الحركة بدون خصوصيّة لأفرادها أصلا فلا نقص في صلاته من هذه الجهة كما لا يخفى.

و أمّا القسم الثاني: أعني: ما إذا كان محلّ دعوة الأمر المباح عين محلّ دعوة الأمر الإلهي كما إذا كان له غرض في خصوص غسل الوجه، و المفروض أنّه محلّ دعوة الأمر الوضوئي،

فهذا يتصوّر على أربعة أقسام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 450

الأوّل: أن يكون الداعي النفساني ضعيفا غير قابل في حدّ ذاته للمحرّكيّة، و لكنّ الأمر الشرعي كان قويّا بالغا ذلك الحدّ.

و الثاني: عكس ذلك.

و الثالث: أن يكون كلّ منهما منفردا ضعيفا غير صالح للداعويّة، و لكنّهما منضمّين بلغا إلى حدّ الدعوة و التأثير.

و الرابع: أن يكون كلّ على حدّ الاستقلال في حدّ نفسه، و إنّما اشتركا في مرحلة التأثير الفعلي لأجل عدم قابليّة المحلّ الواحد لتأثيرين استقلاليّين، فكلّ منهما علّة مستقلّة بحسب الشأنيّة و جزء علّة بحسب الفعليّة.

أمّا القسم الأوّل فالعمل و إن كان بالدقّة لا يخلو عن شركة تأثير غير الأمر، فإنّ الداعي النفساني ليس بلا ربط صرف، و لا أقلّ من كونه مؤثّرا في تأكّد الداعي، إلّا أنّه يمكن دعوى كفاية هذا المقدار في صدق عنوان الإطاعة في نظر العرف، و إن قلنا بكفاية العمل في القسم الرابع فهاهنا يكون كذلك بطريق أولى.

و أمّا القسم الثالث فلا إشكال ظاهرا في عدم عدّه عند العرف عبدا مطيعا للمولى، فإنّه إنّما تحرّك بأمر مولاه و هواه منضمّين، و ليس منقادا لأمر مولاه فقط.

و القسم الثاني يكون حاله كذلك، بل أوضح.

و أمّا الرابع فقد يقال تبعا لبعض الأعاظم «1» قدّس سرّه بالكفاية فيه، نظرا إلى عدم الدليل على اعتبار ما زاد على كون الأمر مؤثّرا في نفسه و لو خلّي و طبعه و لم ينضمّ إليه شي ء، و هذا كذلك، و أمّا اعتبار كونه خالصا عن الضميمة بهذا المعنى أيضا فنطالب بدليله، إذ الأدلّة اللفظيّة التي تمسّكوا بها لاعتبار الإخلاص في العبادة حتّى

______________________________

(1) هو كاشف الغطاء قدّس سرّه، منه رحمه اللّٰه تعالى.

كتاب الصلاة (للأراكي)،

ج 1، ص: 451

عن مثل هذه الضميمة المباحة من مثل قوله تعالى فَادْعُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1» مخدوشة، إذ ليست ناظرة إلّا إلى نفي الشرك باللّه و اعتقاد التوحيد له في الألوهيّة، و أين ذلك بمقامنا؟

و بعض منها واردة في باب النهي عن الرياء، فلا ربط لها بمقامنا أيضا، فيبقى في البين صدق الإطاعة المعتبرة في باب العبادة، و قد عرفت أنّا إذا عرضنا على الوجدان هذا العمل الذي أثّر فيه داعيان على الوجه المذكور لا نرى من أنفسنا مانعا عن تسميته باسم الطاعة.

ألا ترى أنّ العبد الظاهري إذا كان له موليان و كلّ منهما أمره بعمل واحد، فعمله امتثالا لهما بحيث كان امتثال كلّ منهما مؤثّرا تامّا في نفسه بحسب الشأنيّة فهل ترى أنّ أهل العرف يتوقّفون في حصول القرب له، أو يحكمون بأنّ القرب الحاصل له مبعّض بالنسبة إلى الموليين، فله قرب واحد منقسم بينهما، بل لا تشكّ في أنّهم يحكمون بحصول القربين له، قرب بالنسبة إلى هذا، و قرب بالنسبة إلى ذاك.

هذا مضافا إلى استبعاد الالتزام باعتبار التخليص عن الداعي النفساني المذكور، فإنّ اللازم منه أنّه في مثال الوضوء مثلا إن أمكنه غسل وجهه أوّلا لأجل حصول الغرض النفساني غسله أوّلا، ثمّ غسل بداعي الأمر الوضوئي، و إن لم يمكنه ذلك لقلّة الماء سقط عنه أمر الوضوء، لعدم تمكّنه من الوضوء الصحيح إذا لم يسع الوقت، لتضعيف ذلك الداعي بواسطة الرياضة، فإنّه يحتاج إلى مضيّ زمان، و ربما لا يكفيه يوم، بل أيّام.

و لكن في الأخير نظر، فإنّ وجود الداعي النفساني و إن بلغ ما بلغ ليس على

______________________________

(1) غافر: 14، و مثلها سائر الآيات الواردة الآمرة بالإخلاص في العبادة.

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 1، ص: 452

نحو يسلب الاختيار عن المكلّف بحيث لم يصحّ النهي عن الفعل، فإذا صحّ النهي عنه علم أنّه أمر اختياري يمكن للمكلّف رفع اليد عن مقتضاه، فكذا في مقامنا أيضا يصحّ إلزام العقل بطرحه عن النفس حتّى يحصل قيد الإخلاص.

و يشهد لهذا أيضا أنّ داعي القربة من الأمور المعتبرة في العبادة بحيث يترتّب على الإخلال بها العقوبة، فلو لم يكن أمرا اختياريّا لما يصحّ العقوبة على تركه. فإذا كان أمر الداعي باختيار المكلّف حتّى أنّه يلزم عليه جعل الداعي الإلهي داعيا له أمكنه أيضا طرح الداعي الآخر و سلب عنوان الداعويّة عنه، فحال المكلّف الذي ابتلى بالداعي النفساني و الوقت ضيّق حال المكلّف الذي ليس في نفسه أصل الداعي الإلهي و الوقت ضيّق، فإذا قلتم في الثاني بعدم سقوط التكليف عنه فلا بدّ أن تقولوا بذلك في الأوّل، لعدم الفرق بينهما أصلا.

فالعمدة في دفع القول باعتبار قيد الإخلاص بالمعنى المزبور هو الوجه الأوّل أعني: عدم قيام الدليل على أزيد من صدق عنوان الإطاعة، و في صورة الضميمة المباحة على النحو الرابع يكون العنوان المزبور صادقا، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام و أوليائه الكرام عليهم صلوات اللّٰه الملك العلّام ما أسفر صبح و اضمحلّ ظلام.

و أمّا المقام الثاني [أن يكون الضميمة حراما]

اعلم أوّلا أنّه يمكن أن يستظهر من أخبار حرمة الرياء حرمة نفس العمل الخارجي الريائي، دون مجرّد العمل القلبي و هو القصد، و أنّه محسوب من السيّئات.

و اعلم أيضا أنّ ما ذكرنا من الانقسام إلى قسمين في الضميمة المباحة من كونها تارة مؤثّرة في ترجيح الخصوصيّة في تقدير الداعي إلى العمل، و يلحق به ما إذا كانت مؤثّرة بقول مطلق في مفهوم مغاير مع العمل المأمور به في

تمام المفهوم،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 453

و اخرى مؤثّرة في نفس العمل الذي هو مورد دعوة الأمر، و هذا القسم أيضا ينقسم إلى أربعة أقسام على حسب ما مرّ، كلّ ذلك جار في هذا المقام أيضا.

و على هذا فنقول: داعي الرياء أعني: إراءة العمل للناس بغرض جلب قلبهم و اعتقادهم الخير في حقّه، فيوجب ذلك الانتفاع الدنيوي بتحصيل الجاه و المال من عندهم قد يكون مؤثّرا في العبادة في عرض أمر الشارع، و قد يكون مؤثّرا في مقام ترجيح الفرد بعد الإلجاء إلى أصل العبادة بدعوة الأمر، و الصورة الأولى على أربعة أقسام:

الأوّل: أن يكون كلّ منهما ضعيفين في حدّ الذات و صارا معا داعيا واحدا، و هذا لا إشكال في مشموليّته لأدلّة حرمة الرياء و إبطاله العمل، مضافا إلى إخلاله للنّية، كما سبق في الضميمة المباحة.

و الثاني: أن يكون كلّ منهما قويّا في حدّ الذات، و لكن صارا داعيا واحدا من باب وحدة المحلّ و عدم قبوله للعلّتين، و هذا أيضا و إن لم يستشكل فيه هناك، لكن لا إشكال في حرمته و إبطاله هاهنا بملاحظة أدلّة المقام.

و يظهر منه بطريق الأولويّة حال القسم الثالث: و هو أن يكون الداعي الإلهي ضعيفا، و الداعي الريائي قويّا في نفسه مؤثّرا في وجود الفعل.

و الرابع: أن يكون بعكس الثالث، و الكلام فيه يأتي إن شاء اللّٰه بعد ذلك.

و المهمّ الآن بيان الحال في الصورة الاولى، أعني: ما إذا كان تأثير الداعي الريائي في مقام ترجيح الفرد مع تمحّض الداعي القربي في مقام إيجاد أصل العمل بأن كان هو بحيث لو لا قول الشارع «وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» لما كان في نفسه داع إلى الصلاة لا قربيّا

و لا غيره، و لكن بعد ما تأثّر بنداء هذا الأمر و صار بصدد إجابته تردّد في مقام اختيار الخصوصيّة بين أن يوقع الصلاة في مكان خلوة من الناس، أو مكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 454

يراه بعض المتديّنين لو صلّى فيه، فيعتقدون في حقّه الخير و الصلاح، و يوجب ذلك مدحه و حصول المنزلة عندهم، فاختار لأجل هذا الداعي إيقاع العمل في المكان الثاني.

فلا إشكال حسب ما قلناه في الضميمة المباحة أنّ العمل و إن كان وجوده الخارجي مسبّبا من سببين: القربة و رئاء الناس، و لكنّ الرئاء لم يشارك القربة في ما اقتضته، فإنّ الداعي القربي إنّما اقتضى الطبيعة بصرف وجودها من دون اقتضاء فيه لشي ء من خصوصيّاتها من حيث الزمان أو المكان أو غير ذلك، و لا شكّ أنّ الصرف لم يحرّك إليه غير أمر «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» بحيث لولاه لما دعاه إليه داع أصلا.

و حينئذ فإن لم يشمل ما دلّ على حرمة الرياء هذا القسم من الداعي كان حاله حال الضميمة المباحة، بل هو هو بعينه، و قد عرفت عدم الإشكال في عدم الخلل في الصحّة معه، بل و لا يمكن العبادة بدون ذلك، فإنّ الخصوصيّات لا يزال يكون اختيارها بداع المكلّف و إن شملته الأدلّة المذكورة، فحيث عرفت أنّ قضيّتها الحرمة في نفس العمل الخارجي فاللازم الحكم بالبطلان حينئذ من هذه الجهة، أعني: من جهة اتّحاد العبادة مع المحرّم خارجا، و قد اعتبر فيها عدم ذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يمكن ادّعاء عدم استفادة حرمة هذا القسم الذي قد فرض خلوص الداعي القربي في التأثير بالنسبة إلى ما اقتضاه من صرف الطبيعة من أدلّة حرمة الرياء، بتقريب أنّ مفاد تلك

الأدلّة إنّما هو تحريم كون الإنسان مظهرا في الخارج للناس أنّه عابد للّٰه على وجه خلوص النيّة، و الحال أنّه في الباطن على خلاف ذلك، إمّا تمام نيّته الدنيا و تحصيل الجاه، فلا يكون له نيّة القربة أصلا، أو أنّ الجاه ضميمة للقربة، فلا يكون له الخلوص، و على كلّ حال فهو منافق ليس ظاهره

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 455

مطابقا لباطنه.

و بعبارة أخرى: مفادها حرمة جعل الإنسان غير اللّٰه تعالى شريكا و العياذ باللّه معه تعالى في ما أراده اللّٰه تعالى منه، فإنّه تعالى أمره بإقامة الصلاة و هو كان مقيما لها بداعيين، أحدهما: هذا الأمر، و الآخر داعي الوصول إلى الجاه و المنزلة في القلوب و الرئاسة الدنيويّة.

و هذا الفرض الذي فرضنا خال عن النفاق و الشرك المذكورين، فإنّه كلّما أظهره للناس فهو واجد له، و لم يظهر شيئا لم يكن واجدا له فإنّه أظهر أنّه عابد للّٰه تعالى على وجه الخلوص، و هو كذلك، فإنّه لم يجعل الباعث لنفسه في الحركة سمت إيجاد الصلاة غير أمر الشارع بقوله «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ».

نعم ما أوجده من الخصوصيّة أعني: الإيقاع في المكان الخاصّ الموجب لجلب المنزلة و الدنيا إنّما أوجده بداعي الدنيا و حبّ الرئاسة، و لكنّه غير مرتبط بما هو تحت أمر الشارع، إذ أمر الشارع ساكت عن الخصوصيّات.

نعم يصدق أنّ هذا الوجود الخارجي أعني: ما صدر منه من الصلاة الشخصيّة قد تلفّق فيه الداعيان: داعي رضى اللّٰه، و داعي رضي الناس، و لكن لم يقم بهذا المضمون دليل على الحرمة، إنّما الذي استفيد من الأدلّة هو حرمة الإشراك في مقابل الإخلاص، و لازمة كون داعي رضي الناس ضميمة، بحيث لو فرضناه ضميمة مباحة

لزم منه البطلان بواسطة الإخلال في الإخلاص، و قد عرفت أنّ الضميمة المباحة في صورة التأثير في ترجيح الخصوصيّة غير مضرّة بالإخلاص و إن كان يصدق أنّ الصلاة الشخصيّة إنّما جاءت من قبل أمرين لا من قبل الأمر الخالص الإلهي.

فإذا فرضنا أنّ هذا القسم من الضميمة لا ينافي الإخلاص و المفروض أنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 456

ما حرّمته أدلّة الرياء هو ما كان منافيا معه و موجبا لجعل رضى اللّٰه تعالى و غيره شريكين، فلا ربط لها بهذا القسم، و اللازم من ذلك بقاؤه على الإباحة، و قد عرفت الصحّة مع كون الضميمة مباحة.

نعم لو فرض أنّ المكان الذي اختاره لأجل الصلاة كان هو المسجد أو مكانا مرغوبا للصلاة فيه شرعا و كان غرضه من اختياره إراءة الناس أنّه عامل بهذا الأمر الاستحبابي المتعلّق بإيقاع الصلاة في هذا المكان فحينئذ يشمله الأدلّة المحرّمة للرياء، و يوجب ذلك بطلان أصل العمل، لمكان اتّحاده مع العنوان المحرّم.

و ينبغي التيمّن بذكر الأخبار الواردة في الباب حتّى يعلم صدق ما ادّعيناه.

فنقول: روى في الوسائل عن الكليني قدّس سرّهما بطريق متّصل إلى أبي العباس البقباق عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يسرّ سيّئا، أ ليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك؟ و اللّٰه عزّ و جلّ يقول بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ الحديث» «1».

و عن السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: سيأتي زمان تخبث فيه سرائرهم، و تحسن فيه علانيتهم طمعا في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف» الحديث

«2».

و عن عمر بن يزيد «قال: إنّى لأتعشّى مع أبي عبد اللّٰه عليه السّلام إذ تلي هذه الآية بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقىٰ مَعٰاذِيرَهُ ثمّ قال عليه السّلام: ما يصنع الإنسان أن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1. و الآية في سورة القيامة: 14.

(2) المصدر: الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 457

يتقرّب إلى اللّٰه عزّ و جلّ بخلاف ما يعلم اللّٰه، إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان يقول: من أسرّ سريرة ردّاه اللّٰه رداها، إن خيرا فخيرا، و إن شرّا فشرّا» «1».

و عن الحميري في قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان «عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: من تزيّن للناس بما يحبّ اللّٰه و بارز اللّٰه في السرّ بما يكره اللّٰه لقي اللّٰه و هو عليه غضبان له ماقت» «2».

و في عقاب الأعمال بسنده المتّصل إلى مسعدة بن زياد «عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام: إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله سئل في ما النجاة غدا؟ فقال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: إنّما النجاة في أن لا تخادعوا اللّٰه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّٰه يخدعه و يخلع منه الإيمان، و نفسه يخدع لو يشعر، قيل له: فكيف يخادع اللّٰه؟ قال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: يعمل بما أمره اللّٰه ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا اللّٰه في الرياء، فإنّه الشرك باللّه» «3».

و عن الكليني قدّس سرّه بسند المتّصل إلى مسمع عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قال رسول اللّٰه

صلّى اللّٰه عليه و آله: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق» «4».

و أنت خبير بأنّ مفاد كلّ هذه الأخبار هو الذمّ على مخالفة الظاهر للسريرة و الباطن، فيظهر للناس أنّه خالص النيّة، و الحال أنّه باطنا ليس كذلك، فهو الذي يقال في حقّه: (إنّ الإنسان على نفسه بصيرة) و يقال: إنّه نفاق، و لا يخفى أنّ ذلك

______________________________

(1) المصدر: الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 14.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 16.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 458

إنّما يتحقّق في مورد كان للعمل الذي يقصد به الناس مطلوبيّة للّٰه و كان ممّا يأمر اللّٰه تعالى به، لا من الأمور المباحة و إن كان يمكن أن يتقرّب به.

و قد عرفت أنّ الفرد في جميع موارد مطلوبيّة صرف الوجود غير مطلوب بخصوصيّته الفرديّة، و ليس ممّا ندب إليه، فيكون من المباحات التي يفعلها الإنسان أحيانا لأجل رضي الناس.

و بالجملة، الإنسان يفهم من هذه الأخبار أنّ الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ و غيرها من العبادات التي شأنها أن يفعل لأجل اللّٰه تعالى لو فعلت لأجل الناس بحيث جعل داعيهم مكان داعي اللّٰه، أو جعله في عرضه و شريكا معه، فهذا أمر قبيح مذموم و شرك و نفاق.

و أمّا إذا كان جميع هذه الأعمال واقعة بداعي اللّٰه تعالى محضا من غير شائبة شي ء آخر أصلا، و لكن كانت الخصوصيّة الفرديّة الخارجة عن الأمر و الموكولة إلى دواعي المكلّف بداعي محبّة الناس محضا فلا يعلم من هذه ذمّة، لأنّه لم يظهر

خلاف ما هو في الباطن متّصف به، بل ربما كان الداعي الثاني تبعا للداعي الإلهي كما عرفت في الضميمة المباحة.

و الحاصل أنّ الخاصّ و إن تركّب فيه الداعيان، لكن بالتحليل العقلي هو منقسم إلى قسمين، فصرف الوجود الذي هو المأمور به قد أتي به بالداعي الإلهي مستقلا بلا شركة شي ء آخر، و الخصوصيّة جاءت بالداعي الدنياوي كذلك أيضا.

و من هنا يظهر الاستدلال على خلاف ما قلنا ببعض الأخبار.

كرواية زرارة و حمران عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال عليه السّلام: لو أنّ عبدا عمل عملا يطلب به وجه اللّٰه و الدار الآخرة و أدخل فيه رضى أحد من الناس كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 459

مشركا، إلى أن قال: «قال اللّٰه عزّ و جلّ: من عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له» «1».

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: سئل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن تفسير قول اللّٰه عزّ و جلّ فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: من صلّى مراءاة الناس فهو مشرك، إلى أن قال: و من عمل عملا ممّا أمر اللّٰه به عزّ و جلّ مراءاة الناس فهو مشرك، و لا يقبل اللّٰه عمل مراء» «2».

و في رواية هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: يقول اللّٰه عزّ و جلّ: أنا خير شريك، فمن عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له» «3».

تقريب الاستدلال أنّ هذه الصلاة الشخصيّة يصدق على مجموعها من الطبيعة و الخصوصيّة أنّها عمل طلب به وجه اللّٰه و الدار الآخرة، و قد

أدخل فيه رضى أحد من الناس، و كذا يصدق أنّه عمل عمل للّٰه و لغيره، و يصدق أنّها صلاة صلّيت مراءاة الناس.

و حاصل الجواب أنّ مجرّد الاتّحاد في الوجود الخارجي لو كان كافيا في صدق هذه العناوين لكان الضميمة المباحة الداعية إلى الخصوصيّة منافية للإخلاص، و لازم ذلك سدّ باب العبادة رأسا، إذ الأمر المتعلّق بالصرف لا يمكن قصده بالنسبة إلى الخصوصيّة، فإذا فرضنا أنّ العمل مع وحدته وجودا مشتمل حقيقة على شيئين، أحدهما مركب الأمر، و الآخر أجنبيّ عنه بحيث فرضنا هناك محلّين للدعوة و البعث

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 11.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 460

و التحريك، بحيث يوجد كلّ واحد منهما بدعوة داع مختصّ به كانت الصلاة الشخصيّة التي فرضناها مصداقا لقولنا: أنّها صلاة صلّيت لمحض إطاعة أمر اللّٰه بحيث لم يؤثّر فيها رضى غيره أصلا.

نعم أثّر في شي ء آخر لا يرتبط بصلاتيّته، فقوله عليه السّلام: من عمل عملا، ليس المقصود به مطلق العمل قطعا، فليس المحرّم مطلق العمل لغير اللّٰه تعالى و طلب رضاه، بل المقصود خصوص العمل الذي أمر اللّٰه به للعبادة، فكأنّه قيل: من صلّى صلاة، أو صام صوما، و هكذا، و قد فرضنا في ما نحن فيه أنّه ما صلّى و ما صام إلّا للّٰه تبارك و تعالى، و ما دعاه إلى طبيعة العبادة إلّا أمره سبحانه، و إنّما دعاه حبّ الدنيا و الرياء إلى الخصوصيّة التي هي كانت محلّا للضميمة المباحة في المقام السابق، و اللّٰه العالم بالحقائق.

بقي

الكلام في أقسام الصورة الأخرى أعني: ما إذا كان داعي الناس مؤثّرا في نفس العمل الصلاتي و الصومي، لا في الخصوصيّة الفرديّة.

فنقول: يجري فيه الأقسام الأربعة المتقدّمة في الضميمة المباحة في صورة انضمامها مع القربة في أصل الطبيعة من كونها تارة في عرض الداعي الإلهي و مساويا معه في القوّة و الضعف، و هذا على قسمين، الأوّل: أن يكون كلّ منهما غير مؤثّر في حدّ نفسه و مؤثّرا مع ملاحظة انضمام الآخر، و الثاني: أن يكون كلّ منهما مؤثّرا في نفسه بالاستقلال.

و اخرى يكون الداعي الإلهي ضعيفا و داعي الناس قويّا بالغا حدّ التأثير، و هذه الأقسام لا إشكال في مشموليّتها للأخبار المتقدّمة.

و ثالثة يكون الأمر بالعكس، و يظهر من كلام شيخنا الأنصاري قدّس سرّه إمكان استفادة صحّة ذلك من بعض الأخبار، و هو حسنة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 461

«قال: سألته عن الرجل يعمل الشي ء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك؟

قال عليه السّلام: لا بأس، ما من أحد إلّا و هو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك» «1».

و لكنّك خبير بأنّ التقييد بقوله عليه السّلام: إذا لم يكن صنع ذلك لذلك، مضرّ بمدّعاه قدّس سرّه، فإنّ القسم المذكور و إن كان المفروض فيه استقلال الداعي الإلهي و ضعف داعي الناس، و لكنّه ليس بلا دخل صرفا، بل لا أقلّ من شركته و لو بنحو التأكيد، فيدخل في عنوان كونه صنع لذلك، و قد قيّد سلام اللّٰه عليه عدم البأس بعدم ذلك.

فالظاهر تطبيق مورد «لا بأس» في هذا الكلام على ما ذكرناه من صورة تمحّض داعي أصل الصلاة في الداعي الإلهي،

و إنّما أثر داعي الناس في مرحلة اختيار الفرد و الكيفيّة الغير المأمور بها لا وجوبا و لا ندبا.

نعم لو كانت من الكيفيّات التي أمر بها ندبا مثل كونها في المسجد أو بالجماعة فأثّر الداعي الريائي في إتيان هذه الكيفيّة كان محرّما و مبطلا لأصل الصلاة، لا من باب الرياء فيها، أعني: في أصل الصلاة، بل باعتبار اتّحادها مع المحرّم أعني:

الخاصّ و هو الصلاة المتّصفة بكونها في المسجد، هذا إذا كان مورد ريائه ذلك.

و أمّا إذا كان مرائيا في أصل الكون في المسجد، حيث إنّه من المستحبّات نفسا فيكون مبنيّا على مسألة الاجتماع، كما أنّ الأوّل من صغريات مسألة النهي في العبادة.

نعم لو كانت خصوصيّة إضافة الصلاة إلى المسجد مستحبّة ورائي فيها لما أثّر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 15 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 462

في البطلان، لما حرّر في مبحث النهي في العبادة من الفرق بين ورود النهي على الخاصّ و بين وروده على الخصوصيّة، و لكنّه غير متمشّ في هذا المثال، لأنّ تمشّي الرياء فرع استحباب المرائي فيه، و الذي ورد الأمر الاستحبابي به في المثال أمران:

أحدهما الخاصّ، و هو الصلاة المتّصفة بوقوعها في المسجد، و الآخر نفس كون المكلّف و وقوفه في المسجد، و الرياء في الأوّل من صغريات النهي في العبادة، و في الثاني من صغريات اجتماع الأمر و النهي.

ثمّ هذا كلّه هو الرياء في نفس العمل أو ما ينطبق معه وجودا.

و أمّا إذا تحقّق الرياء في أمر خارجي غير متّحد معه وجودا فله صور:

الاولى: أن لا يكون ذلك الأمر مرتبطا بالعمل أصلا بنحو من الارتباط، و إنّما جعل محلّ إيقاعه أثناءه، كما لو قيل

بأنّ القنوت عبادة مستقلّة جعل محلّه الركعة الثانية من الصلاة، فلا إشكال في بطلان نفسه لو تحقّق فيه الرياء، و هل يوجب بطلان الصلاة أيضا، أو لا؟ يبتني على القول بأنّ الكلام المحرّم في أثناء الصلاة مبطل لها بهذا العنوان أو باعتبار اندراجه تحت عنوان الزيادة العمديّة أو الفعل الكثير، و أمّا إن قلنا بعدم الإبطال و عدم الاندراج فلا وجه للبطلان كما هو واضح.

و الثانية: أن يكون مرتبطا بالعمل، لكونه جزءا مندوبا فيه، فلا إشكال في بطلان نفسه، فلا يصير العمل الشخصي ذا خصوصيّة بها يصير أفضل الأفراد، و أمّا بطلان صرف وجود الطبيعة المتحقّقة بسائر الأجزاء المغايرة مع هذا الجزء وجودا فلا وجه له سوى توهّم أنّ قوله عليه السّلام: و أدخل فيه رضى أحد من الناس إلخ شامل له باعتبار أنّ هذا المجموع يصدق أنّ بعضه جي ء به للّٰه و بعضه للناس.

و لكنّه مدفوع بأنّ المراد بالإدخال تركّب الداعي من الأمرين في العمل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 463

الواحد، و نحن إذا منعنا ذلك في الخصوصيّات الفرديّة مع الاتّحاد الوجودي بينها و بين صرف الطبيعة فكيف الحال في مثل هذا الجزء المغاير معها وجودا.

نعم بعد بطلان نفس الجزء المندوب يجري فيه ما تقدّم في سابقه من أنّه لو انطبق عليه أحد العناوين المبطلة من الفعل الكثير أو الزيادة العمديّة أو نحو ذلك كان موجبا للبطلان، و إن منع ذلك فلا وجه له.

و لكن هذا كلّه إنّما هو في ما إذا كان رياؤه في إتيان القنوت مثلا، لا في الصلاة الخاصّة بخصوصيّة كونها مع القنوت، و إلّا فاللازم الإبطال كما في الرياء في الصلاة في المسجد.

و الثالثة: أن يكون مرتبطا لكونه جزءا

واجبا فيه، سواء كان ركنا كالركوع، أم غيره كالسورة، و لا إشكال أيضا في بطلان نفسه، و أمّا إبطاله فمبنيّ أوّلا على أنّ الشي ء الغير المرتبط بالمركّب إذا وقع في أثنائه يصدق عليه عنوان الزيادة، أو أنّ عنوان الزيادة مخصوص بالوجود الثاني، و الوجود الأوّل و لو فرض كونه أجنبيّا لا يصدق عليه هذا العنوان، بل عنوان الغلط.

فإن قلنا بالأوّل فلا محيص عن الإبطال في الركن و غيره، لكونه زيادة عمديّة.

و إن قلنا بالثاني فيبتني الحال على أنّ الوجود الثاني مطلقا يصدق عليه عنوان الزيادة و لو كان ممّا يحتاج إليه في التيام المركّب بأن صار الوجود الأوّل لغوا بلا تأثير في حصول المركّب، فيكون الوجود الثاني زيادة محتاجا إليها لو لا عنوان الزيادة، أو أنّه بواسطة كونه محتاجا إليه في تحصيل الصرف لا يسمّى باسم الزيادة، و الأوّل أيضا قد بنينا على عدم كونه زيادة، و إنّما هو وجود غلط واقع في غير المحلّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 464

فإن قلنا بالأوّل فلا محيص أيضا عن الإبطال في الركن و غيره، لما تقدّم، و إلّا فلا وجه له بعد عدم الدليل على مبطليّة الكلام المحرّم ما لم ينطبق عليه كلام الآدمي و عدم كونه فعلا كثيرا و لا ماحيا.

و أمّا المقام الثالث: أعني: الضميمة الراجحة،

فقد ظهر الكلام فيه ممّا سبق، فكلّ قسم صحّ فيه الضميمة المباحة، فكذلك الحال في الراجحة بطريق أولى، و أمّا ما أضرّ فيه المباحة كما إذا كانت في عرض داعي الأمر و كان كلّ منهما ضعيفا في ذاته، أو كان داعي الأمر ضعيفا و هي قويّة، فيقع الكلام فيهما في هذا القسم.

كما إذا كان إكرام العالم واجبا عباديّا، و كذا الهاشمي، و لم يكن شي ء

منهما منفردا بحدّ الداعويّة، و صارا منضمّين كذلك، أو كان أحدهما غير مؤثّر في نفس العبد إلّا بنحو التأكّد، و الآخر مؤثّرا تامّا، فهل الامتثال بالنسبة إلى كلّ منهما في الأوّل، و بالنسبة إلى الأخير في الثاني حاصل أو لا؟

الكلام في ذلك مبنيّ على أنّه هل المعتبر في باب العبادة وقوع العمل بعنوان قربي مطلقا، أو لا بدّ من قصد الجهة الخاصّة القربيّة، و لم يظهر من شيخنا الأستاذ في هذا المقام شي ء، لعدم تعرّضه دام ظلّه لهذا القسم في بحثه الشريف، و لا بدّ لتحقيق الحقّ من فحص و تتبّع و مزيد تأمّل لا يسعه المجال و الحال، و اللّٰه أعلم بحقائق الأحوال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 465

البحث الثاني في تكبيرة الإحرام
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 467

و ينبغي أوّلا التعرّض لمطلب ذكره هاهنا شيخنا المرتضى قدّس سرّه

و تبعه بعض الأعاظم، و هو أنّ لنا أمورا أربعة مسلّمة لا بدّ من الجمع بينها و بيان كيفيّة توفيقها.

الأوّل: تحريم المنافيات في الصلاة.

و الثاني: أنّ التكبيرة جزء من الصلاة.

و الثالث: أنّ التكبير أمر مركّب ذو أجزاء، و جزء الجزء أيضا جزء.

و الرابع: أنّ تحريم المنافيات إنّما يتحقّق بالتكبيرة، فما لم يتحقّق التكبيرة و لو بعدم تحقّق جزئه الأخير فلا تحريم.

و أنت خبير بأنّ مقتضى الأخير عدم التحريم في أثناء التكبيرة لشي ء من المنافيات و إن كانت محرّمة وضعا و مقتضى المقدّمات الثلاثة الأوّل ثبوت التحريم لها في أثنائه أيضا.

فاختار شيخنا المرتضى قدّس سرّه لدفع هذا الإشكال طريقا، و هو أنّ ما هو الجزء للصلاة هو التكبيرة التي بلغت إلى آخرها بلا صدور مناف معها، فإن تحقّق ذلك كشف عن أنّه من أوّله داخل في الصلاة، و إلّا كشف عن خروجه، فيرتفع الإشكال، فإنّ عدم الحرمة حينئذ ليس تخصيصا في دليل التحريم، بل تخصّصا، فإنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 468

المحرّم هو إتيان المنافي في الصلاة، و هذا ليس بصلاة على تقدير الإتيان بالمنافي، و إنّما يكون من الصلاة على تقدير العدم.

و بعبارة أخرى: لا يمكن التمسّك بعموم دليل التحريم، لأنّ عمومه فرع كون التكبير صلاة، و قد فرضنا أنّ فرض وقوع المنافي فيه يخرجه عن عنوان الصلاتيّة.

لا يقال: اللازم من ذلك عدم ثبوت التحريم الوضعي أيضا، لعين ما ذكر في التكليفي حرفا بحرف من عدم إمكان التمسّك بعموم دليل الوضع، لأنّ فرض تحقّق المنافي فيه يخرجه عن الصلاتيّة، و المفروض أنّ عنوان الدليل هو إيجاد المنافي في الصلاة.

لأنّا نقول: فرق بين المقامين، فإنّ باب الثاني باب

المضادّة و المنافاة، و المنافي للشي ء كما ينافيه إذا عرض في أثنائه، كذلك إذا صادف أوّله، قضيّة للتنافي و التضادّ، كما هو الحال في عامّة الأضداد.

نعم لو كان العنوان هو الإبطال لما تحقّق له فرض في الابتداء و قبل الانعقاد، لكنّ العنوان الثابت للأشياء المعهودة هو المنافاة و المضادّة و عدم إمكان الجمع في الوجود بينها و بين الصلاة، و هذا المعنى كما ترى لا فرق فيه بين الابتداء و الانتهاء و الوسط.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن أن نختار في التخلّص عن الإشكال مع السلامة عن محذور التخصيص في دليل التحريم التكليفي طريقا آخر، و هو أنّ الذي جعله الشارع في باب التكبيرة جزء من الصلاة ليس هو الألفاظ المخصوصة بالشرائط المقرّرة، بل المعنى البسيط المتحصّل عقيب هذه الألفاظ بالشرائط الخاصّة و هو إظهار كبرياء الباري تعالى، فالألفاظ الخاصّة محصّلة للجزء، لا أنّ نفسها جزء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 469

و من ثمراته أنّه لو شكّ في اعتبار شي ء في تلك الألفاظ كالموالاة و نحوها يجب مراعاته، لكونه من الشكّ في المحصّل.

و الدليل على ذلك قوله عليه السّلام: تحريمها التكبير، و لم يقل تحريمها قول اللّٰه أكبر، و قوله عليه السّلام: التكبير نظير التمجيد و التحميد و المدح و الثناء، حيث إنّها أمور بسيطة محصّلها الألفاظ المخصوصة.

نعم لو كان لفظة التكبير مثل لفظة الحولقة و أمثالها من المصادر الجعليّة كان المفاد جزئيّة القول المخصوص، و لكن أنّى لنا بإثبات ذلك، مع أنّ معنى الكلمة بحسب أصل الوضع هو ما ذكرنا.

و على هذا فنقول: ما دام المكلّف متشاغلا بلفظ التكبيرة لم يتحقّق منه ذلك المعنى البسيط، فلم يدخل في الصلاة، لأنّ الجزء الأوّل منها ذلك

البسيط، فلا وجه لتعلّق التكليف التحريمي به، مع أنّه غير وارد بعد في الصلاة إلّا بعد التكلّم بالراء من اللّٰه أكبر، و أمّا وجه المنافاة الوضعيّة فلما تقدّم من كونها مقتضى المضادّة بينها و بين حقيقة الصلاة من غير فرق بين الوسط و الابتداء.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا إشكال في كون التكبير جزءا من الصلاة

و ركنا بحيث لا تنعقد الصلاة بتركه، سواء كان عن عمد أم عن سهو.

نعم وقع في خصوص الترك النسياني اختلاف بين الأخبار، فطائفة فيها الصحيح و غيره دالّة على البطلان و لزوم الإعادة، و اخرى مشتملة أيضا على الصحيح دالّة على المضيّ إمّا مطلقا أو بشرط تذكّره ذلك بعد الركوع، مع لزوم الإعادة لو تذكّر قبله.

و الجمع بينهما بالحمل على الاستحباب و إن كان عرفيّا، و لكنّه غير معمول به بين الأصحاب، كما أنّ حمل بعض الأخبار الثانية على صورة الشكّ ممّا لا تقبله

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 470

العبارة، فراجع فإنّها صريحة في عدم الشكّ أو كالصريحة.

فالأولى أن يقال: إنّها إخبار لم تقع موردا لعمل الأصحاب، و كلّ ما كان كذلك سقط عن درجة الاعتبار، و لو فرض عدم المعارض له فيبقى الأخبار الأوّل سليمة عن المعارض الحجّة، هذا في طرف النقيصة.

و أمّا الزيادة فلا كلام أيضا في البطلان لو قصد افتتاح الصلاة بتكبيرة ثانية بعد ما قصده بالأولى، فيحتاج إلى عقد الصلاة بالثالثة، فلو أتى بعدها بالرابعة أيضا بهذا القصد احتاج إلى خامسة، و هكذا تبطل الصلاة بكلّ شفع و تنعقد بكلّ وتر.

و المستفاد من كلمات الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم أنّه لا بدّ من قصد الافتتاح في صورة تعدّد التكبيرات بواحد منها معيّنا، و هو بالخيار في تعيين أيّها شاء، و أمّا التعيين في أزيد من واحدة، كالسبع

أو الخمس أو الثلاث بحيث كان المقصود جعل السبب للافتتاح المجموع من حيث المجموع حتّى تكون التكبيرة الأولى بمنزلة «اللّٰه» في قولنا: اللّٰه أكبر، فيستفاد من كلماتهم قدّس سرّهم المفروغيّة من عدمه، و لكن النظر في أخبار الباب يشهد بخلاف ذلك و أنّ المكلّف بالخيار بين جعل تكبيرة الافتتاح هو الواحدة فقط أو ثلاثا أو خمسا أو سبعا.

و لا يخفى أنّ ظاهر ذلك كون حال الثلاث و الخمس و السبع في صورة قصده الافتتاح بها كالتكبيرة الواحدة في صورة قصد الافتتاح بها.

و الحاصل أنّ المستفاد منها أنّ الفرد الواجب مردّد هاهنا بين هذه المراتب المذكورة، لا أنّ الواجب من بينها واحدة و البقيّة استحبابيّة، كما هو المصرّح به في الفتاوى، و لم يعلم ما وجه العدول عن ظاهر الأخبار إلى ما قالوه، فإن كان الوجه عدم المعقوليّة للتخيير بين الأقلّ و الأكثر التدريجيّين، لحصول الامتثال دائما بالأقلّ، فلا يبقى مجال للامتثال بالأكثر، لاستحالة الامتثال عقيب الامتثال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 471

ففيه أنّ التخيير في الأمر القصدي، فإن جعل في قصده حصول الافتتاح بالأوّل تعيّن هو لذلك، و إن جعله بالمجموع منها و من الاثنتين الأخريين كان كلّ من الثلاث بمنزلة الجزء من التكبيرة الواحدة.

فإن قلت: لا يتأتّى ذلك بناء على الاحتمال الذي ذكرته في أوّل البحث من كون التكبيرة بالمعنى البسيط جزء للصلاة، و هو إظهار كبرياء الحقّ تعالى، فإنّه دائما متحصّل بالتكبيرة الأولى.

قلت: نعم لو كان ذلك المعنى البسيط غير قابل للتشكيك، و أمّا إذا فرضناه كذلك مثل التنظيف، فيجري فيه أيضا ما ذكرناه، فإنّ قصد حصول الافتتاح بالمرتبة التي محصّلها تكبيرة واحدة تعيّنت هي لذلك، و إن قصد حصول المرتبة التي محصّلها

الثلاث فهكذا.

و بالجملة، فإن كان الوجه ما ذكر، فهذا جوابه، و إن كان غيره فلا بدّ من بيانه حتّى ينظر فيه.

و من أراد الاحتياط فليتكلّم بالتكبيرة الأولى قاصدا حصول الافتتاح بها إن كان الأمر في علم اللّٰه كما ذكروه، و إلّا فبالمجموع منها و من الباقي، ثمّ يأتي بالبقيّة، أعني: متمّم الثلاث أو الخمس، أو السبع بقصد القربة المطلقة.

ثمّ إنّ في بعض الروايات أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كبّر للصلاة و إلى جانبه الحسين بن عليّ عليهما السّلام، فلم يحر الحسين عليه السّلام بالتكبير، ثمّ كبّر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، فلم يحر الحسين عليه السّلام بالتكبير، فلم يزل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يكبّر و يعالج الحسين عليه السّلام، فلم يحر حتّى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين عليه السّلام التكبير في السابعة، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: فصارت سنّة «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب تكبيرة الإحرام، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 472

و ظاهر هذه الأخبار عدم المشروعيّة قبل فعله صلّى اللّٰه عليه و آله، و إنّما حصلت بسببه، فيحتمل أن يكون تكبيرته الاولى افتتاحا و البقيّة من باب مطلق الذكر، و يحتمل أن يكون من باب الإعراض عن التكبيرة السابقة و يكون تخصيصا لحرمة الإبطال و دليلا على مبطليّة نيّة الإعراض، و لكن حيث لا دليل على تعيّن الاحتمال الأخير فلا يكون دليلا على شي ء من الأمرين.

و على هذا فلو زاد التكبيرة الافتتاحيّة بمعنى أنّه بعد ما كبّر مرّة بهذا القصد كبّر اخرى كذلك، سواء كان عن عمد أم سهو، فظاهرهم الحكم بالبطلان في كلتا الصورتين، لكن إتمام ذلك مشكل، لعدم

الدلالة عليه في النصوص كما كانت في طرف النقيصة، و لم يثبت إجماع على الركنيّة بالمعنى المصطلح، أعني: كون كلّ من الزيادة و النقيصة سهوا و عمدا موجبا للبطلان، و إنّما المحقّق من الركنيّة هاهنا ذلك في جانب النقصان.

و أمّا الزيادة فحال التكبيرة من هذه الجهة حال سائر الأقوال و الأذكار المعتبرة في الصلاة، فينحصر دليل البطلان في صورة العمد بدليل بطلان الصلاة بالزيادة العمديّة، و تبقى صورة السهو بلا دليل.

ثمّ في صورة العمد هل يمكن الاكتفاء بالثانية لافتتاح الصلاة إذا لم يكن على جهة التشريع، كما لو صدر عن جهل بالحكم أو لا، بملاحظة أنّ الشي ء الواحد لا يمكن أن يؤثّر أثرين، الإبطال و الافتتاح، رجّح شيخنا الأستاذ دام ظلّه الثاني.

و صورتها أن يقول: «اللّٰه أكبر»

و هي المتيقّنة من صورتها، و في مرسل الصدوق «كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أتمّ الناس صلاة و أوجزهم، كان إذا دخل في صلاته قال صلّى اللّٰه عليه و آله: اللّٰه أكبر بسم اللّٰه الرحمن الرحيم» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب تكبيرة الإحرام، الحديث 11.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 473

و هل يجوز التعدّي عنها إمّا بوصل همزة «اللّٰه» بغيره، أو إعراب «راء» «أكبر» بوصله ببسم اللّٰه، أو تسكين «هاء» «اللّٰه» بالوقف عليه، أو لا يجوز؟

من أنّ المقام من باب الدوران بين المطلق و المقيّد و الأصل فيه هو البراءة على حسب ما قرّر في الأصول، و من أنّ المقام من قبيل الشكّ في المحصّل، و مقتضى الأصل فيه الاشتغال، و لا إطلاق في البين يدفع به الشكّ.

أمّا الأوّل أعني: كونه من باب الشكّ في المحصّل فليس الوجه فيه ما أشرنا سابقا من كون المأمور به أمرا

واحدا بسيطا لا جزء له و هو التكبير، فإنّه يقطع بحصوله بالصيغة الخاصّة و بغيرها، و الشكّ في الخصوصيّة الزائدة، فيكون من باب الدوران بين المطلق و المقيّد.

بل الوجه أنّ الظاهر من الأخبار كون التكبير بعنوان الافتتاح و الإحرام للصلاة مطلوبا بحيث يكون تحصيل العنوان المذكور على عهدة المكلّف، لا أنّه خاصيّة مترتّبة على المأمور به، و ليس المراد بالافتتاح مجرّد كونه أوّل أجزاء المركّب الصلاتي، و إلّا لصدق هذين العنوانين على كلّ شي ء وقع في أوائل المركّبات المأمور بها، كغسل الوجه في الوضوء و غسل الرأس في الغسل، و هكذا، و الحال أنّه لم يعهد ذلك إلّا في هذا المقام.

بل الظاهر أنّ وجه التسمية بهما كون الصلاة متّصفة بصفة الحرميّة و الحريميّة، و من مقتضيات الحرم و الحريم عدم كون الإنسان فيه مطلق العنان و على حاله الطبيعي مختارا في حركاته و سكناته، و هذا الحرم له مدخل و مخرج كدار لها بابان أو دهليزان، يدخل فيها من أحدهما و يخرج من الآخر، و من المعلوم أنّ المدخل و المخرج أيضا من أجزاء الدار، فكذا التكبيرة و التسليمة هاهنا.

و حينئذ نقول: إنّ عنوان الدخول في الحريم الصلاتي أمر وقع تحت التكليف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 474

و في عهدة المكلّف، فيجب عليه تحصيل اليقين بالفراغ عن هذه العهدة، و هو لا يحصل إلّا بمراعاة كلّ قيد و خصوصيّة يحتمل دخله في ذلك.

فإن قلت: فاللازم من ذلك أن نقول بالاشتغال في جميع القيود، و لو كان من قبيل احتمال كون اللباس ممّا لا يؤكل لحمه، فإنّ من المحتمل مانعيّة هذا اللباس للصلاة و بمقتضى جزئيّة التكبيرة للصلاة يكون مانعا لها أيضا، فيتحقّق الشكّ في

حصول العنوان المزبور إلّا مع الاجتناب عن التكبيرة فيه.

نعم يجوز لبسه بعد إيقاعها في حال التلبّس بسائر الأجزاء الصلاتيّة، و الحال أنّ ذلك خلاف ما يلتزمون به، فما وجه الفرق بين مثل هذه القيود المحتمل دخلها في الصلاة و بين القيود المذكورة حتّى يكون مقتضى الأصل في القسم الأوّل هو البراءة و في الثاني هو الاشتغال، مع كون الشكّ في كليهما بالنسبة إلى التكبيرة شكّا في المحصّل بالبيان المذكور بلا فرق بينهما أصلا.

قلت: حاصل ما ذكرت الإشكال في عامّة موارد يكون المأمور به أو المنشأ للأثر أمرا بسيطا متحصّلا عقيب أمور كالطهارة المأمور بها في باب الصلاة المتحصّلة عقيب الغسلتين و المسحتين، و كالزوجيّة و الملكيّة المتحصّلتين عقيب الصيغتين المخصوصتين.

و حاصل الإشكال أنّ من المسلّم في ما بينهم ظاهرا هو التفكيك في هذه الموارد بين ما إذا وقع الشكّ في المانعيّة لشي ء أو شرطيّته، و بين ما إذا وقع الشكّ في قيديّة شي ء، مثلا إذا شككنا في أنّ صيغة الطلاق هل يشترط في تأثيرها حضور عالم علاوة على حضور العدلين، أو هل يمنع عن تأثيرها حضور حائض، فلا شبهة أنّهم يتمسّكون بحديث الرفع لدفع هذه الشكوك و أمثالها، و أمّا لو شكّ في أنّه هل المعتبر هو الصيغة العربيّة أو يكفي و لو كانت فارسيّة مثلا فلا يتمسّكون.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 475

و هكذا لو شككنا في باب الوضوء أنّ الابتداء من الأعلى اعتبر قيدا في الغسلتين أو يجزي و لو كان الغسل منكوسا فلا يتمسّكون بالحديث.

و أمّا لو شككنا في أنّ حضور عادل مثلا شرط أو حضور حائض مانع عن تأثير الوضوء في الطهارة فلا نراهم يتوقّفون عن التمسّك، فيرد عليهم سؤال الفرق

بين الموردين الأوّلين أعني: الشكّ في المانعيّة و الشرطيّة، و بين المورد الأخير أعني:

الشكّ في القيديّة، مع أنّ مرجع المانعيّة و الشرطيّة أيضا إلى القيديّة، فإنّه إذا اشترط مثلا في الصلاة أن يكون الوضوء قبلها فمعناه كون المطلوب هو الصلاة الخاصّة بكون الوضوء قبلها، أو بكونها مع الطهارة، و كذا إذا اشترط في الطلاق حضور العدلين فمرجعه إلى أنّ المؤثّر هو الطلاق المخصوص بخصوصيّة حضور العدلين، و هكذا الكلام في المانعيّة، و بذلك يزيد الإشكال.

و الجواب عن هذا الإشكال يبتني على تقديم مقدّمات:

الاولى: أنّ التكليف في مسألتنا أعني: تكبيرة الإحرام متعلّق بأمر بسيط متحصّل بالصيغة الخاصّة و هو الافتتاح و الدخول في الحريم الصلاتي على ما تقدّم شطر من بيانه.

و الثانية: أنّه كلّما كان التكليف متعلّقا بأمر بسيط متحصّل عقيب أفعال أو أقوال مخصوصة فليس الأصل العقلي فيه إلّا الاشتغال.

و الثالثة: أنّه قابل للتصرّف الشرعي بأن يكون الشارع بعد ما جعل أمرا مقيّدا محصّلا لذلك البسيط جعل الفاقد في حال خاصّ قائما مقام ذلك الواجد في تحصيل ذلك الأمر، كما جعل الوضوء على المرارة بدلا عن الوضوء بمباشرة البشرة في حال الحرج في المباشرة، هذا بحسب الواقع.

و كذا يمكن أن يكتفى بما دون القيد من البقيّة بحسب الظاهر و في حال الشكّ،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 476

و يكون ترتّب المتحصّل على الفاقد في حال ترتّبا شرعيّا، لكونه من المحصّل و المحصّل الشرعيّين.

و الرابعة: أنّه بعد إمكان التصرّف المذكور و قابليّة المورد له فما جهة الفرق الذي يظهر منهم المفروغيّة عنه عندهم و تسالمهم عليه.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و بأوليائه صلواته عليهم التوسّل:

أمّا المقدّمة الأولى فحاصل الكلام فيها أنّ المأمور به ليس مطلق قول

«اللّٰه أكبر» في أوّل الصلاة، غاية الأمر أنّ الدخول في حريم الصلاة من خاصّيته، كما هو الحال في جانب التسليمة الأخيرة من الصلاة، حيث إنّها مخرجة عن الصلاة و إن لم يقصد بها الخروج عن الصلاة، بل تكبيرة الإحرام نوع خاصّ لا يحصل إلّا بالقول المخصوص مع نيّة الدخول في الحريم الصلاتي، نعم يكفي القصد الإجمالي.

فإذا قصد التكبيرة التي جعلها الشارع جزءا للصلاة كان ذلك إشارة إلى قصد ذاك العنوان بنحو الإجمال، و الدليل على ذلك أعني: أنّه نوع خاصّ محصّله القصد و اللفظ أنّ المأمور به في الأخبار تكبيرة الافتتاح، فكما وقع أصل التكبيرة تحت الأمر كذلك خصوصيّة كونه افتتاحا.

و أمّا الثانية فالظاهر أنّه غير قابل للإنكار، فإذا أمر المولى بتعظيم زيد و تردّد الأمر بين كون محصّله تقبيل يده مرّة أو مرّتين فالشكّ و إن كان بين الأقلّ و الأكثر، و لكنّ التعظيم أمر مبيّن مفهوما، و قد اشتغلت الذمّة به يقينا، فيجب الفراغ عنه كذلك، و هذا بخلاف باب الأقلّ و الأكثر في أصل محلّ التكليف، فإنّ الاشتغال التعييني غير ثابت إلّا بالنسبة إلى الأقلّ.

و أمّا الثالثة فلا شبهة في أنّه كما أنّ من وظيفة الشارع رفع اليد عن قيد الطهارة في الصلاة إذا شكّ بعد الفراغ من الصلاة، كذلك من وظيفته أيضا رفع اليد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 477

عنها من قبل قيد مشكوك الحصول في الوضوء أو مشكوك القيديّة فيه، فيكون غير خارج عن وظيفته أيضا لو قال: امض على وضوئك، مع الشكّ المزبور، و كذلك من وظيفته لو قال: قيد العربيّة في صيغة النكاح أو الطلاق مرفوع في حال الشكّ في القيديّة، و لازم ذلك حصول المسبّب الذي

هو النكاح و التزويج بالصيغة الفارسيّة.

و بالجملة، كما أنّ من وظيفته رفع المانعيّة و الشرطيّة بأن يقول: مانعيّة الشي ء المشكوك مانعيّته، أو شرطيّة الشي ء المشكوك شرطيّته مرفوعان عنك في حال الشكّ، و لازمة شرعا حصول المسبّب مع وجود الأوّل و مع فقد الثاني، كذلك من وظيفته أيضا رفع القيديّة و التقيّد بقيد مخصوص كعربيّة الصيغة أيضا من غير فرق بين المقامين بحسب الإمكان و الكون من وظيفة الشارع أصلا.

و أمّا الرابعة و هي العمدة، أعني: بيان الفرق بحسب الوقوع بين المقامين، فالتمسّك بالحديث جائز للشكّ في المانعيّة و الشرطيّة، دون الشكّ في القيديّة، كما هو الظاهر منهم على نحو التسالم.

فنقول و باللّه الاستعانة: إنّ مفاد حديث الرفع بالنسبة إلى الشكّ في المانعيّة بالشبهة الحكميّة لا شبهة في أنّه ليس رفع واقع المانعيّة في ظرف الشكّ، كيف و لازمة تخصيص المانعيّة الواقعيّة بحال العلم. و هو مستلزم للدور كما قرّر في محلّه.

بل و هكذا الحال في رفع المانعيّة المشكوكة بالشبهة الموضوعيّة، غاية الأمر أنّ رفع المانعيّة الواقعيّة فيها ليس محالا و مستلزما للدور، لإمكان التخصيص بالأفراد المعلوم انطباق عنوان المانع عليها دون المشكوكات منها، لكنّ الظاهر عدم كون ذلك مرادا لا بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة و لا الموضوعيّة، و هكذا في الشرطيّة المشكوكة بالشبهة الحكميّة.

فمفاد الحديث بالنسبة إلى الجميع إنّما هو المعاملة مع المشكوك معاملة عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 478

المانعيّة و عدم الشرطيّة، فيكون الحديث ناظرا إلى العمل الشرعي الثابت لموضوع المانع و الشرط، فيرفع هذا العمل عن المشكوك و يثبت له عمل ما ليس بمانع أو شرط، فإنّ الشرط من أثره شرعا عدم الإتيان بمشروطه إلّا معه، و المانع بعكس ذلك.

فإذا قال

الشارع: عامل مع هذا المشكوك المانعيّة أو الشرطيّة تلك المعاملة فمعناه في مشكوك المانعيّة عدم المبالاة بإتيان العمل مع وجوده، و في مشكوك الشرطيّة عدم المبالاة به مع عدمه.

و أمّا القيد المشكوك قيديّته فالمفروض أنّه ليس هنا جعل مستقلّ من الشارع متعلّق بالمهملة، بل المعلوم جعل واحد مردّد بين تعلّقه بالمطلق أو بالمقيّد.

نعم ينسب هذا الجعل الواحد على كلّ من التقديرين إلى المهملة في البين نسبة عقليّة، و لكن لا يحسب جعلا مستقلّا شرعيّا، و ليس لها عمل بجعل الشارع حتّى يقال: إنّ أثر قيديّة المشكوك هو عدم الإتيان بالذات المهملة إلّا مع وجوده.

فإذا قال الشارع: عامل مع المشكوك معاملة عدم القيديّة فمعناه عدم الاحتياج في إتيان العمل إلى وجوده، فإنّ الإتيان بالذات المهملة لم يجعله الشارع بجعل مستقلّ.

و هذا بخلاف الحال في جانب الشرط و المانع، فإنّ للشارع فيهما جعلين مستقلّين منفصلين، أحدهما جعل المشروط و الممنوع، و الثاني جعل المانع و الشرط و إن كان يرجع ذلك أيضا إلى تقيّد الجعل الأوّل.

فإذا قال: عامل مع المشكوك المانعيّة معاملة عدم المانعيّة، و كذا مع مشكوك الشرطيّة فمعناه عدم احتياج العمل إلى مراعاة وجود الأوّل و فقد الثاني.

و بالجملة، فحاصل الدعوى بعد تسليم إمكان شمول الحديث لكلا الشكّين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 479

كما مرّ في المقدّمة الثانية استظهار كون المرفوع بالحديث بعد تسليم تعميمه للآثار الوضعيّة مضافا إلى العقاب و المؤاخذة خصوص الآثار التي كانت مجعولة بالجعل الاستقلالي الشرعي، دون مثل الأثر الذي ينسب إلى المهملة ببركة جعل الأثر إمّا للمطلقة أو للمقيّدة، فإنّه و إن كان يضاف عقلا إلى المهملة ذلك الأثر و يقال:

إنّ للقيد مدخليّة في ترتّب ذلك الأثر على المهملة،

إلّا أنّ الظاهر من الحديث غير مثل هذا الأثر.

و على هذا فلا يبقى فرق بين المانعيّة و الشرطيّة و الجزئيّة، فكلّ من هذه الثلاثة إن تعلّق بها جعل مستقلّ وراء جعل الممنوع و المشروط و الكلّ فشكّه مشمول للحديث من غير فرق بين شبهة الحكميّة أو الموضوعيّة، و إن تعلّق به الجعل الواحد المتعلّق بالمشروط و الممنوع و الكلّ فشكّه غير مشمول له من غير فرق بينهما أيضا.

و من هنا يظهر الحال في ما قد نقله شيخنا الأستاذ دام ظلّه عن شيخه الأستاذ الخراساني قدّس سرّه من أنّه كان بصدد التفرقة بين الشكّ في وجود مصداق المانع، و بين الشكّ في وجود مصداق الشرط في المشموليّة لحديث الرفع، بأنّ مقتضى الحديث رفع عنوان المانع عن المصداق المشكوك و تضييق دائرته، و هو مناسب لكونه واردا في مقام التوسيع و المنّة.

و أمّا في الثاني فإجراؤه مقتض أيضا لسلب عنوان الشرط عنه، أو لسلب الوجود عن عنوان الشرط، و هو مخالف للمنّة و التوسيع.

فإنّه يرد عليه في ما إذا كان جعل الشرط بنحو الاستقلال أنّه إن كان الشرط موجودا مع المكلّف فلا احتياج للعمل إلى تحصيل ذلك الشرط مجدّدا، و إن لم يكن معه كان محتاجا، فالاحتياج إلى التحصيل مشكوك و منفيّ بالحديث، و لازم ذلك جواز الدخول في العمل مع الشكّ في وجود الشرط الذي اعتبر فيه بنحو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 480

الاستقلال، و هو ممّا لا يلتزمون به أيضا.

و على هذا فالأحسن في مقام التفصّي عن الإشكال هو الالتزام بعدم شمول الحديث للآثار الوضعيّة و اختصاصه برفع المؤاخذة و الآثار التكليفيّة، و اللّٰه هو العالم.

ثمّ إنّه ممّا يؤيّد ما ذكرنا من لزوم مراعاة

الصيغة و الهيئة المعهودة في التكبيرة ما عن المنتهى و الغنية و غيرهما من الإجماع على أنّ اللّٰه تعالى لا يقبل صلاة امرئ حتّى يضع الطهور مواضعه، ثمّ يستقبل القبلة و يقول: «اللّٰه أكبر».

ثمّ هذا كلّه مع التمكّن من التلفّظ بهذه الصيغة

و لو لم يتمكّن [من بيان الصيغة]،
اشارة

فإن أمكن التعلّم قالوا: وجب، و هاهنا بحثان لا بدّ من التكلّم فيهما.

الأوّل: لو لم يتمكّن من التعلّم بعد الوقت و تمكّن منه قبله

فالظاهر منهم وجوبه معيّنا، كما أنّه لو تمكّن منه في كلا الوقتين كان التعلّم قبل الوقت واجبا موسّعا، فيسئل عن أنّ وجوب المقدّمة كيف يمكن تقدّمه على وجوب ذيها؟

و قد تفصّى المقدّس الأردبيلي قدّس سرّه بالالتزام بكونه واجبا نفسيّا تهيّئيّا، و صاحب الفصول التزم في مثل الغسل للصوم بكون الصوم واجبا معلّقا بالنسبة إلى طلوع الفجر بعد دخول الليل لا مشروطا.

و لكنّا في فسحة من هذا البحث و الإشكال بعد ما اخترناه في مبحث مقدّمة الواجب من الأصول في الواجبات المشروطة من أنّه بعد العلم بحصول شرطها في محلّه و عدم التمكّن من مقدّمة من مقدّماتها قبل حضور الشرط يجب تحصيله قبله، و مع التمكّن في كلا الحالين يجب بوجوب موسّع، إلّا أن يكون القدرة الخاصّة أعني:

القدرة في الوقت شرطا شرعيّا كنفس الوقت لا شرطا عقليّا، كما في حقّ الصغير الذي يبلغ بعد دخول الوقت، و لكن لو أهمل عن التعلّم قبل الوقت يعجز عنه بعده،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 481

و من أراد التفصيل فليراجع ما حرّرناه في الأصول في ذلك المبحث.

و الثاني: لو عصى المتمكّن من التعلّم و ترك التعلّم إلى أن ضاق الوقت عنه
اشارة

فلا إشكال في أنّه يجب عليه التكبيرة للصلاة في تلك الحالة التي هو عليها على حسب ما قرّر له من الوظيفة، سواء كان هو التكبير الملحون أو الترجمة أو غيرهما.

و لكنّ الإشكال في أنّ من المسلّم بينهم كونه معاقبا بتقصيره في التعلّم و تفويت الصلاة الاختياريّة على نفسه، و مع ذلك يقولون ببدليّة ما يأتي به في هذه الحالة عن الصلاة الاختياريّة، بحيث يسقط عنه تكليف الإعادة و القضاء، فيسئل عن أنّه كيف يتصوّر كون الشي ء بدلا عن الصلاة الاختياريّة إلّا مع وفائه بعين ما تفي به الصلاة الاختياريّة من المصلحة بدون

نقصان عنه أصلا، أو بما لا يجب استيفائه، و إلّا فإن كان النقصان بالمقدار الواجب الاستيفاء فلا معنى للبدليّة و التدارك، بل هذا واجب مستقلّ في هذه الحالة، و ما فات من الواجب التامّ المطلق بإطلاق المادّة حتّى بالنسبة إلى حال العجز لم يتدارك، فيشمله دليل القضاء، كما أنّه يجب الإعادة في الوقت و لا عصيان على الثاني مع ثبوته على الأوّل، أعني: القضاء في خارج الوقت، هذا على فرض عدم الوفاء و البدليّة.

و أمّا مع فرض البدليّة بالمعنى الذي ذكرنا يصير حال العنوانين أعني: المختار و المضطرّ كحال المسافر و الحاضر، فيتقيّد دليل الصلاة الاختياريّة بخصوص المختار، فلا يكون في البين إثم و معصية.

و الذي أفاده شيخنا العلّامة الأستاذ أدام اللّٰه أيّامه في التفصّي من الإشكال أن يقال: إنّ التكاليف التي ينقلب إلى الضدّ أو النقيض بواسطة طروّ بعض العناوين على المكلّف مثل تبديل حكم الإتمام بواسطة طروّ السفر و حكم الوضوء بواسطة طروّ عنوان فقد الماء، و حكم حرمة شرب الخمر إلى إيجابه بواسطة طروّ الاضطرار و أمثال ذلك يكون على قسمين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 482

تقسيم القيود إلى قيد الهيئة و المادّة
الأوّل: أن يكون العنوان الطارئ من قبيل القيود التي لا مدخليّة لها

في حسن توجّه الخطاب مثل عنوان المسافر، و هذا لا محالة يوجب تقييد الخطاب الأوّلي و لو كان بصورته عامّا بالمتّصف بضدّه، فالخطاب بالأربع ركعات و لو كان صورة عامّا لجميع المكلّفين، لكن يوجب دليل تقصير المسافر تقييده بخصوص الحاضر، و لازم ذلك تنويع الخطاب و أنّ حكم كلّ نوع ما يخصّه من دون اشتراكهما في الحكم.

و الثاني: أن يكون من قبيل القيود التي لا يحسن معها توجّه الخطاب الأوّلي إلى المكلّف،

مثل عنوان العجز عن المكلّف به الأوّلي، ففي هذه الصورة و إن كان العجز قيدا شرعيّا في الخطاب الثانوي كخطاب التيمّم، حيث إنّ موضوعه شرعا عدم الوجدان للماء، و لكنّه بالنسبة إلى الخطاب الأوّلي قيد عقلي، بمعنى أنّ الهيئة و إن كانت مقيّدة بالقدرة على متعلّقها، و لكنّ المادّة مطلقة بالنسبة إلى حالتي القدرة و العجز.

فدليل الوضوء و إن كان هيئة مقيّدا بالقدرة، و لكن بحسب المادّة يعمّ القادر و العاجز، بمعنى أنّ العاجز أيضا يفوت منه المصلحة الوضوئيّة، فلا يلزم تنويع الخطاب الأوّلي في هذا القسم.

و لازم القسم الأوّل جواز تحصيل العنوان الثاني اختيارا لما هو واضح، فإنّه غير مستلزم لتفويت شي ء من المصلحة، و لازم القسم الثاني عدم الجواز، لأنّه موجب لفوت ما هو الواجب المطلق بتفويت موضوعه، نعم لو حصل الاضطرار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 483

لا من جانبه فلا إثم، هذا.

و لكنّه كما ترى لا يفي برفع تمام الإشكال، فإنّه و إن كان يدفع بهذا البيان إشكال أنّه كيف يمكن ورود الدليل في خصوص قسم بحكم خاصّ و مع ذلك كان هو باقيا تحت حكم العامّ حتّى يكون تحصيل عنوان الخاصّ محرّما و معصية من جهة تفويت حكم العامّ، و لكن قد بقي إشكال أنّ اللازم حينئذ صدق عنوان الفوت في حقّه.

لا يقال:

إنّه و إن كان يصدق الفوت، و لكنّ الفائت ليس بصلاة، فإنّ ما فعله بالفرض يكون حقيقة فردا من الصلاة، و ليس الواجب على المكلّف في كلّ يوم إلّا فردا واحدا من الظهر مثلا، و هو قد أتى به حقيقة، فما فات منه الظهر حتّى يشمله دليل: من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته، نعم فات عنه خصوصيّة غير قابلة للتدارك، لأنّ محلّ استيفاء تلك الخصوصيّة صرف الوجود، و هو قد فرض إتيانه بلا هذه الخصوصيّة و لا يقبل التكرار ثانيا حتّى يستوفي في ضمنه الخصوصيّة.

لأنّا نقول: ما معنى قولك: إنّ الفائت ليس بصلاة بل إنّما هو خصوصيّة، بل غاية ما في المقام أنّ المأتيّ فرد من الصلاة و الفائت فرد آخر على حسب ما قرّرنا في مقام الاستظهار من الخطابين، فإنّ مفاد الخطاب العامّ أنّ الفعل التامّ الذي هو فرد من الصلاة يكون بحسب المادّة مطلوبا على الإطلاق من عامّة المكلّفين حتّى هذا المكلّف العاجز، و مفاد الخطاب الخاصّ أنّ هذا الفعل الناقص بالنسبة إلى هذا العاجز يعدّ أيضا فردا من الصلاة و يكون مطلوبا منه في هذا الحال وجوبا، فيتصوّر في حقّه فردان من الصلاة، لكن أحد الفردين و هو التامّ مغن عن الآخر، و الآخر ليس مغنيا عن الأوّل، فيكون الفائت في حقّه واجبا و فريضة و هو واضح، و صلاة أيضا، لما فرضنا من كون التامّ فردا من الصلاة حقيقة، فإن قام إجماع على عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 484

وجوب القضاء كان دليلا على التخصيص في عموم دليل القضاء، و إلّا فعمومه متّبع، و يستكشف منه قابليّة الفائت للاستيفاء و التدارك، كما هو الشأن في كلّ عموم.

و ما ربما يقال

في مسألة الإتمام في مكان القصر جهلا بالحكم تقصيرا في مقام تصوّر إمكان الحكم بسقوط الإعادة في الوقت و استحقاقه العقوبة من كون ما أتى به من الصلاة التامّة مفوّت المحلّ بالنسبة إلى الصلاة المقصورة إنّما هو من باب الإلجاء في مقابل القاعدة العقليّة الغير القابلة للتخصيص الحاكمة بأنّ المكلّف الذي يكون وقت العمل بالنسبة إليه باقيا لا بدّ من كونه محكوما بالامتثال ليسقط عنه العقاب، لا إسقاط التكليف و تثبيت العقاب عليه، فإنّه عقاب بلا معصية، لجواز التأخير ما دام الوقت باقيا، و لا يمكن تخصيص هذا الحكم العقلي بالإجماع.

و هذا بخلاف المقام، فإنّ القاعدة الموجودة فيه لفظيّة أعني: عموم دليل القضاء، و مقتضاه لزوم القضاء في كلّ مقام يصدق فيه فوت الصلاة الفريضة، و هذه القاعدة قابلة للتخصيص، فيكون دليله الإجماع لو ثبت.

لكن مع ذلك تتميم الكلام في مسألتنا أعني: العاجز في باب التلفّظ بالتكبيرة أو القراءة مشكل، بواسطة أنّ الدليل الثانوي الموجود فيه أعني: قولهم عليهم السّلام: من لا يحسن قرائته فليفعل كذا، يمكن ادّعاء ظهوره في أنّ هذا الفعل صلاته الأوّلية من غير نقصان عن سائر الصلوات، و بالجملة، فهو بخطاب «المسافر صلاته ركعتان» أشبه منه بقولنا: من عجز عن الصلاة التامّة فليصلّ كذا.

و على هذا فعدم القضاء مطابق للقاعدة، لعدم صدق الفوت في حقّه، لإدراكه تمام مصلحة الصلاة، و لكنّ القول بالمعصية لو حصّل هذا العنوان اختيارا لا يصحّ على هذا كما هو واضح، لعدم تفويته واجبا بعد فرض ظهور الخبر في تنويع دليل «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» فإثبات كونه غير منوّع لذلك الدليل، و مع ذلك لا يجب القضاء من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 485

دون تخصيص لدليل القضاء، غير

ممكن ظاهرا بحسب الثبوت و بحسب الإثبات، كما هو واضح من البيانات السابقة، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

و يمكن أن يقال بإمكان استفادة كلا الأمرين، أعني: حرمة تحصيل العجز اختيارا و كون التكليف المجعول للعاجز مجزيا عن القضاء، و تطبيق ذلك على ظواهر الأدلّة، لا أن يكون الدليل منحصرا بالإجماع.

أمّا الأوّل: فلما مرّ من أنّ مقتضى إطلاق مادّة التكليف بالفعل الصحيح هو كونه مطلوبا حتّى في حال العجز عنه، فيكون العاجز قد فات عنه المطلوب المطلق، و لازم هذا حرمة تحصيل العجز اختيارا، و لا يقتضي دليل التكليف بالناقص في موضوع فوت ذلك التامّ الصحيح، إلّا أنّ هذا تكليفه في هذا الحال من دون تقييد بسببه في مادّة ذلك الخطاب، فالتامّ مطلوب تامّ أوّلي، و الناقص مطلوب ناقص في موضوع فوت التامّ.

و أمّا الثاني: فلأنّ لسان دليل الثانوي أنّ هذا الناقص هو صلاته التي وقعت مطلوبة في قوله تعالى «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» و حفظ هذا الظهور غير ممكن بعد ما استفدنا من إطلاق المادّة المتقدّم كون التامّ مطلوبا مطلقا حتّى في حال العجز، و بعد عدم إمكان الحمل على الحقيقة يحمل الخطاب المذكور الدالّ على أنّ الناقص صلاته التامّة على التنزيل، أعني: أنّها بمنزلتها، و كان المكلّف الآتي بهذا قد أدرك ذلك و لم يفت منه التامّ، و لا شكّ أنّ فوت الصلاة التامّة له أثران:

أحدهما عقلي، و هو المعذوريّة في صورة طروّ العجز لا باختياره و عدمها، و العصيان في صورة طروّه باختياره، و الآخر شرعي و هو إيجاب القضاء، فإذا نزّل الشارع إدراك الصلاة الاضطراريّة بمنزلة إدراك الاختياريّة فلا يمكن أن يكون هذا التنزيل بالنسبة إلى الأثر الأوّل العقلي، لاستحالة انفكاك الأثر العقلي عن

مؤثّرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 486

و عدم قابليّته للتنزيل، فيتمحّض أن يكون بالنسبة إلى الأثر الثاني، أعني: رفع إيجاب القضاء.

فيكون الحاصل من مجموع ما ذكرنا من الجمع بين الأدلّة أنّ تحصيل العجز عن الصلاة الاختياريّة محرّم، و يتحقّق به العصيان، و المكلّف بعد حصول العجز له بسوء الاختيار يصير موضوعا للصلاة الاضطراريّة، فإذا أتى بها في هذا الحال فقد سقط عنه القضاء بحكم التنزيل المزبور، كما هو المفتي به عند العلماء رضوان اللّٰه عليهم، و يحصل بذلك الجمع بين الفتاوى و مدلول الأدلّة، و للّٰه الحمد على كلّ نعمة.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنرجع إلى حكم المقام فنقول: العاجز عن التكبير بلفظته الصحيحة المعروفة إمّا أن يكون قادرا على التنطّق بلفظه على النحو الغلط بحيث يعدّ عرفا تلك اللفظة، غاية الأمر بوجه الغلط، فلا يبعد أن يقال أوّلا بمشموليّته للخطاب الأوّلي العامّ لجميع المكلّفين الذين منهم هذا الشخص الغير [القادر] على التنطّق بلفظة «اللّٰه أكبر» إلّا بهذا الوجه، مثل قوله: اللّٰه أكبار، فإنّ الخطاب المذكور بالنسبة إلى كلّ مكلّف ينصرف إلى ما هو المتمشّي منه من مصاديقه، و ثانيا على فرض عدم تسليم ذلك يكون مقتضى قاعدة الميسور بناء على تماميّتها وجوب ذلك، لأنّه ميسور عرفا لقول: «اللّٰه أكبر» حسب الفرض.

و إمّا أن لا يكون قادرا على التلفّظ به بوجه و لو بنحو الغلط، فالمحكيّ عنهم رضوان اللّٰه عليهم القول بلزوم التنطّق بالترجمة، سواء كان فارسيّا أم تركيّا أم غيرهما.

و بناه بعض الأعاظم قدّس سرّه على أن يكون المطلوب الأوّلي في باب التكبير هو إظهار كبرياء اللّٰه جلّت عظمته، غاية الأمر أنّه قيّد في حقّ القادر بكونه باللفظة الخاصّة، فعند تعذّر التنطّق بها و

بما هو ميسورها يكون مقتضى قاعدة الميسور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 487

الإتيان بذات المطلوب، أعني: إظهار كبرياء اللّٰه تعالى و إن لم يكن بذلك القيد.

و أمّا بناء على أنّ المطلوب الأوّلي هو اللفظ المخصوص بلحاظ المعنى فاقتضاء القاعدة الإتيان بالترجمة في غاية الإشكال، و لا شكّ أنّ هذا مقتضى ظواهر الأدلّة، و بذلك يخدش في ما ذكره بعض الأعاظم أيضا.

توضيح المقام أنّ اللفظ تارة يكون مقصودا بالتبع، و المقصود بالأصالة إنّما هو المعنى الملقى به أعني: إظهار عظمة اللّٰه جلّ جلاله، كما يكون هو المتعارف في إفهام سائر المقاصد، حيث إنّ سمت اللفظ فيها صرف الآليّة مع فنائها في المعاني من دون نظر إليها، إلّا كالمعنى الحرفي.

و اخرى يكون المقصود بالأصالة هو اللفظ، و المعنى مقصود بالتبع، كما لو قصد الإنسان أن يقرأ شعرا فيه دلالة على المدح، لكن بقصد حصول المدح للمخاطب بواسطة قراءة ذلك الشعر مخاطبا إيّاه به تبعا، و كما إذا قصد قراءة آية القرآن و حصول التحيّة للمخاطب تبعا، أو إفهام مقصده إيّاه كذلك.

و حينئذ ففي المقام لا شبهة في أنّ المعنى ملحوظ في الجملة، بمعنى أنّه ليس بلا مدخليّة رأسا في التكليف، بحيث كان المقصود مجرّد اللفظ بما هو هو، بل المطلوب و المتعلّق للتكليف هو اللفظ بلحاظ كونه قالبا للمعنى الخاصّ أعني: كونه ثناء على اللّٰه تعالى بإظهار عظمته جلّت كبرياؤه.

فإن كان المطلوب أوّلا هو المعنى و اللفظ اعتبر قيدا له كان مقتضى قاعدة الميسور تعيّن الذات عند تعذّر القيد، فيجب عليه مطلق إظهار عظمة اللّٰه تعالى و لو لم يكن باللفظ المخصوص.

و إن كان الأمر بالعكس أعني: أنّ المطلوب أوّلا هو اللفظ و المعنى اعتبر قيدا

فعند تعذّر اللفظ ليس مقتضى القاعدة وجوب اختيار القيد بدون الذات.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 488

و لا يمكن استظهار الأوّل من الخبر الوارد في باب الأخرس الحاكم بلزوم تحريك اللسان و الإشارة بالإصبع عليه مكان القراءة، فإنّ الإشارة و تحريك اللسان كما يتحقّقان لأجل تفهيم المعاني كالإشارة الخاصّة باليد لتفهيم طلب المجي ء مثلا، كذلك قد يتحقّقان لأجل تفهيم لفظة خاصّة، فلا بدّ من الإشارة إليها بترتيب حروفها بحيث يكون المشار إليه نفس الحروف.

فعلم أنّ الخبر لا يكون دليلا على شي ء من الوجهين، بل هو أيضا يختلف كيفيّة الإشارة المدلولة به بحسب الوجهين، فيكون الإشارة إلى المعنى على أحدهما، و إلى لفظة اللّٰه أكبر على الآخر.

و محصّل الكلام في المقام أنّ الاحتمالات بحسب مقام الثبوت في حقّ العاجز عن أداء التكبير صحيحا و المتمكّن منه ملحونا- الذي قد عرفت اقتضاء قاعدة الميسور فيه تعيّن الملحون- ثلاثة مع قطع النظر عن القاعدة.

الأوّل: أن يكون غير مكلّف بالصلاة رأسا.

و الثاني: أن يكون مكلّفا بها مع التكبيرة الصحيحة.

و الثالث: أن يكون مكلّفا بها مع الملحونة، و لا رابع لهذه الاحتمالات، أعني:

احتمال كونه مكلّفا بها بلا تكبير أصلا.

وجه عدم هذا الاحتمال أنّه مخالف لقوله عليه السّلام: «لا صلاة بغير افتتاح» الدالّ على اعتبار الافتتاح في حقيقة الصلاة من غير فرق بين أفراد المصلّين من القادرين و العاجزين، غاية الأمر دلّ الدليل الخارجي على لزوم كون الافتتاح بالتكبيرة الصحيحة.

و حينئذ نقول: أمّا الاحتمال الأوّل فمقطوع الخلاف، و أمّا الثاني فتكليف بما لا يطاق، فيتعيّن الأمر في الثالث، فإنّه إذا كان الملحون بدلا من الصحيح في هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 489

الحال صدق أنّ الصلاة ليست بغير افتتاح، كما

أنّ الشارع إذا جعل التيمّم بدلا عن الوضوء صدق أنّه لا صلاة إلّا بطهور.

هذا هو الكلام في القادر على الملحون باللغة العربيّة مع قطع النظر عن قاعدة الميسور، و قد عرفت أنّ مقتضاها أيضا ذلك.

الاحتمالات في كلّ مقام كان اللفظ المخصوص مأمورا به

و أمّا غير القادر على اللغة العربيّة أصلا حتّى الملحون و القادر على المرادف باللغة الأخرى فحاصل الكلام فيه أنّ الاحتمالات المتصوّرة بحسب مقام الثبوت في كلّ مقام صار اللفظ المخصوص مأمورا به بلحاظ الدلالة على معناه ثلاثة، بسبب أنّ ملحوظيّة المعنى من اللفظ على ثلاثة وجوه:

الأوّل: أن يكون المقصود بالإفادة شيئا آخر وراء المعنى و إن كان المعنى ملحوظا، و ذلك كما في قولك: «لا إله إلّا اللّٰه كلمة التوحيد» و قولك: «زيد قائم قضيّة» لوضوح أنّ الموضوع لهذين المحمولين ليس إلّا المستعمل من اللفظتين دون مهملهما، فالمعنى ملحوظ في جانب الموضوع، و لكن ليس مقصودا بالإفادة.

الثاني: أن يكون المقصود بالإفادة من اللفظ هو المعنى الموضوع له، و هذا على قسمين:

الأوّل: أن يكون ذلك بجعل اللفظ ابتداء مظهرا لمعناه و حاكيا عنه بلا وساطة شي ء آخر في البين، كما هو المرسوم في طريق المحاورة، حيث إنّ النظر الاستدلالي أوّلا إلى المعنى، كأنّه الملقى.

و الثاني: أن يكون بجعل اللفظ حاكيا عن لفظ آخر باعتبار حكاية ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 490

اللفظ عن معناه، فاللفظ الأوّل ليس الملقى به أوّلا إلّا اللفظ، و هو حاك عن المعنى، فيكون اللفظ حينئذ نظير الكتابة، حيث إنّ الكاتب ينقل بكلّ نقش من النقوش حرفا وضع ذلك النقش له، ثمّ يحكي بتلك الحروف الملتئمة المعنى، فاللفظ أيضا قد يكون بهذه المثابة.

و هذان القسمان مشتركان في كون المقصود الأصلي في اللبّ هو المعنى، بحيث

إن كان ذمّا يكون كذلك فيهما، و إن كان مدحا فكذلك، إلّا أنّ الفرق في كيفيّة الحكاية، ففي أحدهما المنظور الاستقلالي هو المعنى، و في الآخر هو اللفظ.

و بعبارة أخرى: الملقى بالفتح نحو المخاطب في أحدهما هو المعنى، و في الآخر هو اللفظ.

و بعبارة ثالثة: تارة يكون فعل المتكلّم إعطاء المعنى، و اخرى إعطاء اللفظ، و الأوّل أيضا على قسمين، فتارة يكون الغرض مقيّدا بإعطائه بلفظ مخصوص، و اخرى غير مقيّد به، بل الغرض حاصل بأدائه بأيّ لفظ.

مثلا تارة يكون المقصود هو الإخبار بقيام زيد بأيّ لفظ كان مؤدّيا له، سواء كان قوله: زيد قائم، أو قيام زيد موجود، أو نحوهما، و اخرى يكون ذلك، و لكنّ الغرض متعلّق بخصوص أدائه بلفظ: زيد قائم مثلا، دون سائر التراكيب.

و حينئذ نقول: لفظة «اللّٰه أكبر» الذي أمر به في أوّل الصلاة يحتمل أن يكون من باب القسم الأخير، أعني: أن يكون المأمور به إنشاء الثناء له تعالى بالكبرياء مع تعلّق الغرض بأدائه بخصوص هذا التركيب، دون ما يؤدّي مؤدّاه.

و يحتمل أن يكون من قبيل القسم الأوّل، أعني: أن يكون المأمور به إعطاء اللفظ المخصوص دون المعنى و إن كان جهة الأمر بإعطاء ذلك اللفظ أيضا كونه مؤدّيا لمعناه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 491

و الظاهر من الاحتمالين هو الأخير، و ذلك لأنّه لو كان الأوّل لزم بطلان صلاة عامّة الناس، لخلوّها عن إنشاء التكبير، فإنّ الإنشاء كالإخبار يحتاج إلى تصوّر الموضوع و المحمول و النسبة بينهما حتّى يتحقّق القضيّة، و بدون واحد من ذلك لا تحقّق للقضيّة كما هو واضح، و من البديهي عدم تحقّق ذلك في أذهان العامّة عند التلفّظ ب «اللّٰه أكبر» في أوّل صلواتهم،

فتعيّن أن يكون المأمور به صرف التلفّظ باللفظة المخصوصة.

و إذن فنقول: إذا تعسّر ذلك فالترجمة ليست معدودة ميسورة لهذا المعسور عرفا قطعا، بل اللازم أنّه إن أمكن التلفّظ بما يشبه هذه اللفظة بحيث يعدّ عرفا ميسورها تعيّن هو، و إلّا فمقتضى قوله عليه السّلام: لا صلاة بغير افتتاح، هو اختيار الترجمة، لا لأنّها ميسور تلك اللفظة.

معنى قولهم: الإشارة في الأخرس يقوم مقام التلفّظ

و من هنا يتّضح الحال في الأخرس، فإنّه على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون عارفا بصورة اللفظة المخصوصة تفصيلا، كأن كان أوّلا ناطقا، ثمّ صار أخرس.

و الثاني: أن لا يعرفها تفصيلا، و يعرفها إجمالا، بمعنى أنّه يعلم أنّ للناس في أوّل صلاتهم لفظة خاصّة متميّزة عن سائر أذكار صلواتهم يكون به الشروع في الصلاة، و لكن لا يعرف صورتها التفصيليّة.

و الثالث: أن لا يعرف ذاك و لا هذا.

فالقسم الأوّل يشير إلى اللفظة بصورتها التفصيليّة، و الثاني إليها بصورتها

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 492

الإجماليّة، و الأخير يسقط عنه، لأنّه مقتضى عدم سقوط الصلاة بحال، و الحاصل أنّ تكليف القسمين الأوّلين من الأخرس حسب ما قلنا و اخترنا إنّما هو الإشارة إلى اللفظ، لا كما يستفاد من بعض العبائر من الإشارة إلى المعنى، كما في تفهيم مقاصده.

و يشهد لهذا خبر السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: تلبية الأخرس و تشهّده و قراءة القرآن في الصلاة تحريك لسانه و إشارته بإصبعه» «1» حيث إنّ الظاهر منه كون تحريك اللسان إشارة إلى ذوات الحروف، و إشارة الإصبع لتمييز إشكالها و حركاتها.

و هذا في ما إذا كان المقصود الإشارة إلى لفظة «اللّٰه أكبر» حسن، و أمّا إذا كان المقصود إفهام معناه فلا يخفى أنّ الأخرس في مقام إفهام معنى الكبرياء و

العظمة لا يحتاج إلى تحريك اللسان، بل إلى جعل اليدين بالوضع المخصوص و الهيئة المخصوصة، فالرواية المذكورة يمكن جعلها شاهدة على أصل المبنى الذي اخترنا، فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 59 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 493

البحث الثالث في القيام
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 495

و هو واجب في الصلاة،

بل الإجماع مستفيض على ركنيّته في الجملة، و الكلام أوّلا في تصوير الركنيّة، بمعنى كونه بحيث يوجب زيادته و نقيصته و لو سهوا بطلان الصلاة، مع أنّ من المعلوم أنّه لو كبّر تكبيرة الإحرام و سها عن القراءة رأسا أو بعضها و ركع صحّ صلاته، كما أنّه لو قام بمقدار القراءة قبل التشهّد أو السجدة نسيانا رجع إلى التشهّد و السجدة و صحّ صلاته أيضا، مع تحقّق نقصان القيام في الأوّل و زيادته في الثاني، و هذا يقضي بكونه واجبا غير ركن كالقراءة.

نعم القيام في حال التكبيرة

لكونه شرطا في التكبيرة لو زاد بزيادة التكبيرة أو نقص كذلك، أو وحده بأن كبّر جالسا، أوجب البطلان، أمّا الأوّل فلزيادة التكبيرة، و أمّا الثاني فلعدم حصول التكبيرة التي بها يحصل افتتاح الصلاة، و أمّا القيام المتّصل بالركوع بمعنى قيام آخر بعد الفراغ من السورة فلا يوجب تركه سهوا بطلانا، و لهذا لو ركع قبل السورة أو في أثناء الحمد، بل أو بعد التكبيرة صحّت الصلاة.

نعم مسمّى القيام المتّصل بالركوع و لو كان المتحقّق منه في أثناء التكبيرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 496

فضلا عن القراءة ربما يقال بركنيّته، بمعنى أنّه لا بدّ من وصل الركوع بالانتصاب القيامي الذي كان قبله، بحيث يحصل الانتقال من الحالة الانتصابيّة القياميّة إلى هيئة الركوع و الانحناء بالحدّ الخاصّ الذي عيّنه الشارع إمّا من باب تعيين أحد الأفراد، أو من باب التصرّف في المفهوم حتّى يكون الركوع الشرعي أخصّ من اللغوي.

و بالجملة، لا بدّ من حصول الانتقال من تلك الحالة إلى هذه الهيئة باتّصال بلا تخلّل سكون في الحدود المتوسّطة، و هذا المعنى يتصوّر فيه النقيصة منفكّة عن نقيصة الركوع بأن يركع عن جلوس بهيئة

التقوّس، أو بتخلّل السكون في الحدّ المتوسّط بين الانتصاب و الركوع بالحدّ الشرعي.

نعم الزيادة فيه لا يتصوّر إلّا مع زيادة الركوع، لأنّ الاتّصال الخارجي الذي هو قيده لا يتحقّق بدون الطرفين، فيكون البطلان مستندا إلى مجموع الأمرين، أعني: زيادة القيام و زيادة الركوع، نعم لو كان القيام الانتزاعي قيدا كان مستندا إلى خصوص زيادة القيام، لكنّه خلاف الظاهر.

و لا ينافي القول بركنيّة القيام بهذا المعنى مع شرطيّته في حال التكبيرة و في حال القراءة، إذ لا منافاة بين اجتماع الحيثيّتين في الشي ء الواحد، فالقيام المستطيل المتحقّق من أوّل التكبيرة إلى حال الركوع يكون مصداقا للواجب الركني المعتبر في عرض سائر الأجزاء الصلاتيّة و معدودا أيضا من شرائط التكبيرة و القراءة.

هذا ما يمكن أن يقال في مقام التصوير، و قد حكاه الأستاذ دام ظلّه عن سيّده الأستاذ طاب رمسه الشريف.

و لكن استشكل الأستاذ دام ظلّه عليه بأنّه لا يمكن إقامة الدليل على ركنيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 497

القيام مستقلّا و من حيث نفسه، لا في طرف النقيصة و لا في طرف الزيادة.

أمّا في طرف النقيصة للقيام في حال التكبيرة، فلأنّ الذي يستفاد من الأدلّة أنّ نقص التكبيرة الكائنة في حال القيام لمن كان تكليفه القيام، و في حال الجلوس لمن كان تكليفه الجلوس موجب للبطلان و لو كان ذلك عن سهو، و أمّا أنّ هذا البطلان لأجل نقيصة التكبيرة فقط أو القيام كذلك، أو لأجل نقيصة كليهما فلا دلالة فيه على شي ء من ذلك.

و النصّ الدالّ على ذلك موثّق عمّار عن الصادق عليه الصلاة و السلام عن «رجل وجب عليه الصلاة من قعود، فنسي حتّى قام و افتتح الصلاة و هو قائم ثمّ ذكر؟

قال عليه السّلام: يقعد و يفتتح الصلاة و هو قاعد، و كذلك إن وجب عليه الصلاة من قيام فنسي حتّى افتتح الصلاة و هو قاعد فعليه أن يقطع صلاته و يقوم فيفتتح الصلاة و هو قائم، و لا يعتدّ بافتتاحه و هو قاعد» «1».

و هذا الموثّق و إن دلّ على شرطيّة القيام للتكبير بمعنى أنّ ما يحصل به الافتتاح هو التكبير في حال القيام لا مطلق القيام، إذ لو كان الثاني لزم حصول الزيادة في تكبير الافتتاح عند تكبيرة الثاني، فاللازم توقّف حصول الافتتاح على التكبير الخاصّ، فيسلم الفرض عن زيادة تكبير الافتتاح، و لكن لا دلالة على ركنيّة القيام مستقلّا و من حيث نفسه قاصرة.

و لا يظهر هنا لهذا ثمرة عمليّة، إذ النتيجة على كلّ حال هو البطلان، سواء استند إلى التكبيرة و كان القيام شرطا لها أم إلى القيام و كان التكبيرة مقارنا للركن أم إلى كليهما، و كذا الحال في جانب زيادة القيام في حال التكبيرة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب القيام، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 498

و أمّا القيام المتّصل بالركوع

فالذي يمكن استفادته من الأدلّة شرطيّته للركوع، بمعنى أنّ الركوع الذي أمر به الشارع و جعله جزءا للصلاة هو الركوع الذي كان إحداثه و إيجاده بتمامه من أوّله إلى آخره عن هيئة الانتصاب و ليس ذلك لأجل قوله عليه السّلام: «لا صلاة لمن لم يقم صلبه» «1» فإنّه محكوم لدليل لا تعاد، بل الدليل عليه أنّ إيجاب أصل القيام الانتصابي ثمّ الأمر بالتكبيرة حاله، ثمّ القراءة كذلك، ثمّ الأمر بإحداث الركوع حاله يفهم منه العرف أنّ المطلوب إحداث تمام هذه الهيئة الانحنائيّة بالحدّ الخاصّ من تلك الحالة الانتصابيّة، فإنّه لا

يقال للمنحني: انحن، بل يقال له: ازدد في انحنائك.

و هذا نظير ما إذا وجب على الشخص الخارج من الماء إحداث الغمس في الماء لمجموع البدن، فإنّ المفهوم منه أنّ الواجب كون الغمس بتمامه حادثا حال الخروج بجميع البدن، فلو كان بعض البدن خارجا و بعضه داخلا و إن كان يصدق أنّ غمس المجموع قد حدث منه بواسطة غمس البقيّة، لكنّه خلاف متفاهم العرف من عبارة: اغمس بدنك في الماء.

و هكذا في المقام لو قيل: اركع، و الحال أنّه قد وجب عليه قبله الانتصاب يفهم أنّ الواجب إحداث هذه الهيئة من أوّله إلى آخره متّصلا بتلك الحالة الانتصابيّة، فلو تخلّل فصل سكون في البين بأن انحنى لا بالمقدار الواجب في الركوع فمكث قليلا، ثمّ انحنى من هناك إلى الركوع لم يصدق أنّه أحدث الهيئة الركوعيّة بتمامها، بل أحدث أوّلا مرتبة منه ثمّ ورد من تلك المرتبة إلى المرتبة السفلى، و قد كان المفروض وجوب إحداث تلك المرتبة السفلى بجميعها عن حالة الانتصاب.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القيام، الحديث 1 و 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 499

و لا ينقض ذلك بالسجود، حيث لا إشكال في عدم اعتبار كونه عن انتصاب مع ورود الخطاب به أيضا عقيب إيجاب الانتصاب عن الركوع، و ذلك لأنّ الهويّ هناك ممحّض في المقدّميّة، و السجود ليس إلّا وضع الجبهة على الأرض.

و أمّا هنا فليس حقيقة الركوع إلّا عبارة عن الخفض و الحطّ، لا أنّ ذلك مقدّمة و الركوع شي ء آخر، غاية الأمر أنّ مراتب الهويّ بتمامها غير كافية، بل الواجب المرتبة الخاصّة منه، فلو أحدث أوّلا الهويّ بالمرتبة الاولى، ثمّ بعد المكث بمقدار قليل الهويّ بالمرتبة الأخرى لما

تحقّق منه في أوّل الوهلة إلّا الركوع اللغوي، ثمّ ركع الركوع الشرعي من الركوع اللغوي، و قد كان الواجب تحصيل الركوع الشرعي من القيام الانتصابي.

و هذا بخلاف السجود، فإنّ الهويّ هناك خارج عن حقيقة السجود رأسا، و لهذا لا يجب في سجود السهو الانتصاب جلوسا، ثمّ الهويّ منه إلى السجود، بل يكفي و لو قصد السجود من حالة الانخفاض الجلوسي.

إذا عرفت ذلك فنقول: بعد استفادة تقييد الركوع الصلاتي بكونه واقعا عن الانتصاب القيامي نضمّ إلى ذلك الاستثناء الواقع في حديث لا تعاد الدالّ على وجوب الإعادة بنقيصة الركوع الصلاتي، و مقتضاه أنّه لو ركع لا عن الانتصاب سهوا كانت صلاته باطلة.

و أمّا في جانب الزيادة فحيث إنّ أصل الدليل على الإبطال في جانب الزيادة في جميع الأركان ليس إلّا الإجماع، و إلّا فدليل لا تعاد لا تعرّض فيه للزيادة، فالأمر تابع لمقدار دلالة الإجماع، فمن الممكن أنّا و إن استفدنا من الأدلّة جزئيّة الركوع عن حالة الانتصاب، و لكن كانت زيادة صورة الركوع و لو لا عن الانتصاب موجبة للبطلان، فلو ركع عن جلوس سهوا حكم ببطلان الصلاة، لأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 500

إن اكتفى بهذا الركوع كان نقصا للركوع المعتبر في الصلاة، و قد عرفت إيجابه للبطلان و لو كان سهوا، و لو لم يكتف و أتى به ثانيا عن انتصاب كان أيضا موجبا للبطلان من جهة تحقّق الزيادة في صورة الركوع و لو لم يتحقّق زيادة ما هو المعتبر منه في الصلاة.

و أمّا لو قلنا بأنّه لا دلالة للإجماع إلّا على أنّ زيادة الأركان بالكيفيّة التي اعتبرت في الصلاة بتلك الكيفيّة موجبة للبطلان، فلو أتى في الفرض بالركوع الثاني عن انتصاب

صحّت صلاته.

ثمّ إنّه يعتبر في القيام أمور:
منها: الاستقلال و عدم الاستناد على شي ء آخر غير الرجلين

كالجدار و الشجر و نحوهما، و الدليل عليه أمور:

الأوّل: التأسّي بالنبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، مع قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1».

و الثاني: صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا تستند بخمرك و أنت تصلّي، و لا تستند إلى جدار إلّا أن تكون مريضا» «2». و الخمر بفتحتين ما وراك من شجر أو بناء و نحوه.

و الثالث: خبر عبد اللّٰه بن بكير المرويّ عن قرب الإسناد «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة قاعدا أو متوكّئا على عصا أو حائط؟ قال عليه السّلام: لا، ما شأن أبيك و هذا، ما بلغ أبوك هذا بعد» «3».

______________________________

(1) عوالي اللئالي 1: 198.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 20.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 501

لكن يعارضها صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهما السّلام أنّه «سأله عن الرجل هل يصلح له أن يستند إلى حائط المسجد و هو يصلّي، أو يضع يده على الحائط و هو قائم من غير مرض و لا علّة؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «1».

«و عن الرجل يكون في صلاة فريضة فيقوم في الركعتين الأوليين هل يصلح له أن يتناول جانب المسجد فينهض يستعين به على القيام من غير ضعف و لا علّة؟

فقال عليه السّلام: لا بأس به» «2».

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 501

و موثّقة ابن بكير المرويّة عن التهذيب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يصلّي متوكّئا على عصا أو على

حائط؟ قال عليه السّلام: لا بأس بالتوكّي على عصا و الاتّكاء على الحائط» «3».

و خبر سعيد بن يسار «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الاتّكاء في الصلاة على الحائط يمينا و شمالا؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «4».

و الجمع بين هذه و السابقة بحمل النهي على الكراهة و هذه على مطلق الرخصة جمع عرفي لو كانت الأخبار الثانية معمولا بها غير معرض عنها عند الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم، و إلّا فأصل الحجّية فيها غير حاصل، و يبقى السابقة حينئذ بلا معارض.

و أمّا حمل هذه على الاتّكاء الغير التامّ الغير المنافي مع الاستقلال على الرجلين فليس جمعا عرفيّا، خصوصا مع قوله في صحيحة عليّ بن جعفر:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 502

من غير مرض و لا علّة، و الذي يفعله المريض و العليل هو التوكّؤ و الاستناد التامّ.

ثمّ على تقدير القول بلزوم الاستقلال و كون ثقل البدن على الرجلين فهل المعتبر وقوع الثقل على كليهما، أو يكفي و لو على واحدة منهما؟ الذي ربما يستدلّ به على الأوّل أمران:

الأوّل: قاعدة الاشتغال بناء على أنّها المرجع في أمثال المقام.

و الثاني: انصراف أدلّة اعتبار القيام إلى ذلك بعد ملاحظة أنّ الغالب في الخارج من أفراد هذا المفهوم هذا النحو و كون غيره خارجا عن المتعارف.

و فيه أنّ الانصراف الذي كان في حكم التقييد اللفظي ممنوع في المقام، و إنّما المسلّم منه ما يمنع عن الأخذ بالإطلاق

بمعنى عدم انصراف الذهن إلى غيره بواسطة غلبة الوجود، فيبقى غيره مشكوك الحال، لا معلوما عدم كونه موضوع الحكم.

و حينئذ فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي و هو هنا البراءة على ما حقّق في محلّه من كونها المرجع في الشبهة بين الأقلّ و الأكثر التي من جزئيّاتها المقام، كما هو واضح، و اللّٰه العالم.

بقي الكلام في أنّه على تقدير القول بلزوم كون الثقل على الرجلين هل المعتبر كونه عليهما بوجه التساوي، أو يكفي و لو كان بنحو التفاوت، و الظاهر انحصار المدرك في اعتبار الأوّل في دعوى الانصراف، و فيه ما لا يخفى.

و منها: الاستقرار،

بأن لا يكون ماشيا و لا مضطربا، بل كان واقفا ساكنا بلا خلاف فيه على الظاهر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

و الدليل عليه أمّا بمعنى عدم كفاية المشي فأوّلا دعوى مأخوذيّته في مفهوم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 503

القيام، فإنّه عرفا مقابل للمشي كمقابلته للقعود، فكما لا يقال للماشي: أنّه قاعد، لا يقال: إنّه قائم.

و الفرق بين هذه الدعوى و ما ادّعي في اشتراط الاستقلال على الرجلين أنّ المدّعى هناك أنّه بعد إطلاق المفهوم و صدقه على الفاقد و الواجد ينصرف عند الإطلاق إلى الواجد، و أمّا هنا فالمدّعى أنّه خارج عن أصل المفهوم.

و ثانيا: خبر السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال عليه السّلام في الرجل يصلّي في موضع، ثمّ يريد أن يتقدّم، قال عليه السّلام: يكفّ عن القراءة في مشيه حتّى يتقدّم إلى الموضع الذي يريد، ثمّ يقرأ» «1».

و لا يخفى أنّ الاشتراط في هذا المقام إنّما هو في الأذكار، لا في أصل الصلاة، فلهذا قال عليه السّلام: يكفّ عن القراءة في مشيه.

و ثالثا:

رواية سليمان بن صالح الوارد في الإقامة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: لا يقيم أحدكم الصلاة و هو ماش و لا راكب و لا مضطجع، إلّا أن يكون مريضا، و ليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصلاة، فإنّه إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة» «2».

و يمكن المناقشة في الاستدلال بها بأنّا بعد ان علمنا أنّ اعتبار التمكّن في الإقامة من باب شرط الكمال لا الصحّة فالأمر في المشبّه به يدور بين الأمرين، و لا معيّن في البين لأحد الطرفين.

و أمّا بمعنى عدم الاضطراب فالدليل عليه رواية هارون بن حمزة الغنوي أنّه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 34 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الصلاة، الحديث 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 504

سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة، «فقال عليه السّلام: إن كانت محملة ثقيلة فإذا قمت فيها لم تتحرّك فصلّ قائما، و إن كانت خفيفة تكفأ فصلّ قاعدا» «1».

و نوقش في الاستدلال بهذه الرواية بأنّ المراد بقوله عليه السّلام: لم يتحرّك، بقرينة المقابلة عدم الأكفاء، بمعنى الانقلاب، فالمعنى- و اللّٰه العالم- أنّه إذا كانت السفينة ثقيلة لا تنقلب على وجهها إذا قمت فصلّ قائما و لو كانت متحرّكة بحدّ الاضطراب الغير الواصل إلى حدّ الانقلاب، و إذا كانت بحدّ الانقلاب فصلّ قاعدا.

و لكن في هذه المناقشة ما لا يخفى، فإنّ السفينة بأيّ مرتبة من الخفّة بلغت لا تصير بحيث يوجب قيام الشخص الواحد فيها إكفائها و انقلابها على وجهها، فالمراد بالأكفاء هو الحركة الاضطرابيّة إلى اليمين و الشمال، و من مقابله هو السير الخالص عن الاضطراب و التمايل إلى أحد

الجانبين بواسطة ثقالة السفينة و عدم تأثّرها من سرعة حركة الماء، و على هذا فالاستدلال بالرواية على المطلوب لا غبار عليه.

ثمّ إنّ القيام في حال التكبيرة أيضا يعلم حاله من القيام في حال القراءة و أنّه أيضا يشترط فيه الاستقرار بكلا المعنيين، فإنّ قوله عليه السّلام: يكفّ عن القراءة في مشيه يعلم منه الإنسان أمّا العموم للتكبيرة، أو أنّه من باب المثال، و الحكم مرتّب على الجامع بين القراءة و سائر الأذكار الواجبة، و كذا التسبيحات الأربع الواجبة في الركعتين الأخيرتين.

و أمّا القيام المتّصل بالركوع فقد عرفت أنّه ليس قياما زائدا على ما اعتبار في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 505

القراءة، بل هو هو، و إذا فرضنا اعتبار ذلك فيه كان الاستقرار شرطا لشرط الركوع، فإنّ القيام شرط الركوع، و الاستقرار شرط القيام.

و هل النقص السهوي للاستقرار موجب لنقيصة الركن، لكونه شرطا في القيام الذي هو شرط الركن أو لا، بل الذي يضرّ نقصه سهوا هو نفس الركن دون شرطه؟

شرطيّة القيام مطلقة، أو مختصّة بحال التمكّن و العمد؟
اشارة

تحقيق المقام أن يقال أوّلا: لا بدّ من النظر إلى الدليل المثبت للشرطيّة هل هو الإجماع ممّا له القدر المتيقّن، و ليس له إطلاق في إثبات الشرطيّة في حالتي العمد و السهو، أو له إطلاق، و لا يضرّ استفادة الشرطيّة من نحو الأمر، فإنّ الأمر في هذا المقام إرشادي، و لا منافاة فيه مع إرادة الإطلاق، فإن كان من قبيل الأوّل فلا إشكال، فإنّ أصل الشرطيّة بالنسبة إلى حال السهو غير ثابت، و إن كان من قبيل الثاني كما هو الظاهر فلا إشكال في أنّ دليل لا تعاد يكون حاكما على أدلّة الأجزاء و

الشرائط التي لها إطلاق ممّا عدي الخمسة المستثناة.

و حينئذ فلا بدّ من ملاحظة أنّ الركوع الذي هو أحد تلك الخمسة هل المراد به مسمّاه العرفي و لو فرض خلوّه عن كلّ ما يعتبر فيه شرعا من الشرائط من الانحناء بالحدّ الخاصّ و نيّة القربة، و كونه عن الانتصاب القيامي و كون ذلك القيام مع الاستقرار، أو أنّ المراد به خصوص الجامع للشرائط الشرعيّة التي اعتبر في الصلاة مع تلك الشرائط.

فإن كان الأوّل فلا إشكال في عدم مضرّية نقص الاستقرار سهوا أيضا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 506

بواسطة كونه داخلا في المستثنى منه في حديث لا تعاد، فيكون للحديث الحكومة على إطلاق دليل الاشتراط.

و إن كان الثاني كما هو الظاهر، فلا يبقى للحديث حكومة، إذ نقصه حينئذ راجع إلى نقص الركوع، و قد نصّ الحديث بوجوب الإعادة في نقص الركوع، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

و توضيح المقام يحتاج إلى تمهيد مقدّمة هي أنّ المحتمل بحسب مقام الثبوت في الأمور التي اعتبرت في حال القيام من الاستقلال في مقابل الاستناد، و من السكون و الاطمئنان في مقابل الاضطراب وجوب يختلف الحال فيها من حيث السهو عنها و من حيث الدوران بينها بعضها مع بعض، أو بين واحد منها مع القيام بحسب تلك الوجوه.

الأوّل: أن يكون شرائط للقيام المعتبر في الصلاة، فالقيام المقيّد قد أخذ جزءا أو شرطا في الصلاة، أو في التكبيرة، أو القراءة مثلا.

الثاني: أن يكون شرائط لما يصحبها من القراءة أو الأذكار، فالقراءة الخاصّة أو الذكر المخصوص أخذ جزء للصلاة.

الثالث: أن يكون شرائط لنفس الصلاة في عرض القيام و القراءة و سائر الأذكار، فكما أنّ الصلاة محتاجة إلى القيام كذلك محتاجة إلى الاستقلال على

الرجلين و إلى الاطمئنان و سكون البدن.

ثمّ إنّ الشرطيّة على كلّ من هذه التقادير الثلاث تارة يكون مطلقة بالنسبة إلى حالتي التمكّن و العجز، و بالنسبة إلى حالتي العمد و السهو، و اخرى يكون مقيّدة بخصوص حال التمكّن، أو بخصوص حال العمد، هذه أنحاء التصويرات فيها بحسب الثبوت، و يظهر الثمر بينها في مقامين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 507

الأوّل: في مقام التزاحم بين بعضها و بين القيام بأن دار الأمر مثلا بين القيام مع الاعتماد على شي ء مثل الحائط و العصا، و بين القعود مع حفظ الاستقلال بدون الاعتماد، أو بين القيام مع الاضطراب و بين القعود مع الاطمئنان، فلازم اختصاص الشرطيّة بحال التمكّن لزوم القيام في كلا الفرضين، كما هو واضح.

كما أنّ لازم إطلاق شرطيّتها في نفس القيام حتّى بالنسبة إلى حال العجز هو الانتقال إلى القعود في كليهما، و لازم إطلاق شرطيّتهما في نفس الصلاة أو في القراءة و سائر الأذكار هو ملاحظة مرجّحات باب التزاحم في البين و الحكم بلزوم الأهمّ منهما و من القيام إن كان و التخيير إن لم يكن.

و الثاني: في مقام نقصها سهوا في القيام المعتبر في بعض الأركان، مثل القيام المعتبر في تكبيرة الإحرام، و القيام المعتبر في الركوع قبله متّصلا به، فلازم اختصاص الشرطيّة بحال العمد صحّة الصلاة كما هو واضح، و لازم إطلاقها و اعتبارها في نفس الصلاة أيضا ذلك بمقتضى دليل لا تعاد، لأنّها حينئذ من جزء المستثنى منه فيه، و لازم إطلاقها و اعتباره في ذلك الركن بطلانها، لرجوع نقصها حينئذ إلى نقص الركن أعني: التكبيرة الخاصّة أو الركوع الخاصّ، فيكون من جزء المستثنى في حديث لا تعاد، هذا كلّه بحسب

مقام الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الإثبات فاعلم أنّ ظاهر الأدلّة هو الشرطيّة المطلقة الغير المقيّدة بحال دون حال، و أمّا أنّ اعتبار هذه الأمور أوّلا في الصلاة أو في القراءة أو في القيام فلا دلالة في الأدلّة على شي ء من هذه، بل هي تلائم مع كلّ واحد منها، فإنّ قوله عليه السّلام للرجل الذي يريد أن يتقدّم عن موضع صلاته و هو مصلّ: يكفّ عن القراءة في مشيه حتّى يتقدّم إلى ذلك الموضع الذي يريد ثمّ يقرأ، إنّما يقيّد مطلق اعتبار ذلك، و أمّا أنّه قيد معتبر في القراءة أو في الصلاة في هذا الحال أو في القيام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 508

المعتبر في حال القراءة؟ كلّ محتمل.

و كذلك قوله في خبر السفينة و تفصيله بين حال الأكفاء بسبب القيام بمعنى الحركة يمينا و شمالا الموجبة لحركة المصلّي، كذلك بلزوم القعود و بين حال عدم الحركة كذلك بسببه بلزوم القيام يلائم مع كون الاطمئنان في مقابل الحركة قيدا في القيام و أن يكون قيدا في الصلاة، لكن روعي جانبه دون القيام لأهمّيته من القيام، كما يساعده الاعتبار أيضا، حيث إنّ القعود مع سكون البدن أقرب إلى حضور القلب من القيام مع الحركة يمينا و شمالا بسبب حركة السفينة كذلك.

و كذلك قوله عليه السّلام في دليل اعتبار الاستقلال في مقابل الاعتماد: لا تستند بخمرك و أنت تصلّي، فإنّه لو لا ظهوره في اعتبار ذلك في الصلاة فلا أقلّ من الإجمال و عدم الدلالة على الاعتبار في القيام.

و حينئذ فإطلاق أدلّة اعتبار القيام حيثيّة تكون سليما عن المقيّد، لا لأنّ المقيّد المنفصل يخالف المتّصل في أنّ المنفصل يكون المتيقّن منه حالة القدرة و التمكّن من

القيد بخلاف المتّصل، فإنّه يقيّد المطلق في جميع الحالات، كما ربما يحكى عن بعض في أدلّة غسل الميّت الوارد في بعضها الأمر بالغسل ثلاثا، و في آخر منفصلا الأمر بجعل شي ء من السدر في واحد من الغسلات، و شي ء من الكافور في آخر، إذ فيه أنّ دليل المقيّد و إن كان منفصلا لو تمّت فيه شرائط الإطلاق فإطلاق المادّة فيه مقدّم و يقيّد به إطلاق الدليل المطلق.

و لكن هذا في ما إذا ورد الدليلان في موضوع واحد، كما [في] ذلك المثال.

و أمّا إذا لم يعلم ورودهما كذلك كما في مسألتنا حيث عرفت أنّ الأدلّة المعتبرة للاستقلال و الاطمئنان بكلا معنييه لم يعلم كونها معتبرة ذلك في جزئيّة القيام أو شرطيّته، و الأدلّة المعتبرة للقيام ناظرة إلى إثبات الجزئيّة أو الشرطيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 509

لنفس القيام من دون اعتبار شي ء في هذه الجهة زائدا على ماهيّة القيام خصوصا مع كونها في مقام البيان من جهة تعرّضها لحال جميع طبقات المكلّفين من الأصحّاء و المرضى بمراتبهم من شدّة المرض و خفّته المختلفة في التمكّن من الجلوس و عدمه و الاضطجاع و عدمه، فإنّه من البعيد إهمالها عن ذكر شي ء ممّا يعتبر في مسألة جزئيّة القيام.

فمقتضى القاعدة حينئذ هو الأخذ بإطلاق المطلق و هو أدلّة القيام في مسألتنا و القول بأنّ القيام من حيث شرطيّته للقراءة و الأذكار و الركوع مطلق ليس له شرط.

فلا بدّ من ملاحظة قاعدة التزاحم عند العجز عن الجمع بينه و بين واحد من تلك الأمور، فإن علم الأهميّة في جانب تقدّم، و إلّا فهو مخيّر، و كذا في صورة نسيان شي ء منها في حال القيام المتّصل بالركوع، أو قيام تكبيرة

الإحرام لا بدّ من القول بكون المورد من مصاديق المستثنى منه في حديث لا تعاد.

و الحاصل أنّ مثل قوله عليه السّلام في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّٰهَ قِيٰاماً قال عليه السّلام: الصحيح يصلّي قائما و قُعُوداً و المريض يصلّي جالسا، و عَلىٰ جُنُوبِهِمْ الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالسا» «1» كيف يمكن القول بأنّه قد أهمل فيه بعض قيود القيام مع استقصائه لحال جميع المكلّفين، فتقييد مثله في غاية البعد مع كونه في مقام البيان.

إن قلت: لا استيحاش مع ذلك في تقييد القيام في هذا الخبر بالسكون أو الاستقلال مع تقييد قيديّتهما فيه بحال التمكّن، و أمّا بدونه فيؤخذ بإطلاق ذلك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 22.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 510

أيضا، فيقال: إنّ الصحيح ليس المجعول في حقّه إلّا القيام، و لكنّه يختلف مراتبه في اعتبار أنحاء القيام، ففي مرتبة منه يعتبر القيام الاستقلالي الاستقراري، و هو الصحيح المتمكّن، و في أخرى يعتبر القيام الاستنادي أو القيام الاضطرابي، و هو الصحيح الغير المتمكّن كالشيخ الكبير أو العاجز من غير جهة المرض، فالصحيح بمراتبه يعتبر فيه القيام بأنحائه، لكن كلّ قسم مختصّ بنحو، و هذا لا ينافي مع إطلاقه.

نعم لو كان مفاده أنّ القيام بجميع أنحائه مجعول في حقّ الصحيح في أيّ مرتبة منه كان منافيا، لكن أنّى لنا بإثبات هذا المقدار من الدلالة، و على هذا فمقتضى الجمع هو الحكم بالانتقال من القيام ببعض مراتبه إلى بعض آخر من مراتبه، دون القعود، و الانتقال إلى القعود إنّما يصحّ إذا فرض العجز عن القيام بتمام هذه المراتب الطوليّة.

و حينئذ فيجي ء الكلام في صورة الترك السهوي لأحد

هذه الأمور عند القدرة و التمكّن منه، فإنّه إن كان ذلك في القيام الركني أو الشرط للركن يتحقّق البطلان، نعم تركه العمدي مضرّ على كلّ الحال، كما أنّ تركه الاضطراري غير مضرّ أصلا كما هو واضح.

قلت: الدليل على هذه الأمور على قسمين:

الأوّل: شهرة الأصحاب و إجماعاتهم المحكيّة على لسان الأساطين.

و الثاني: الأدلّة اللفظيّة.

أمّا القسم الأوّل فواضح عدم التعرّض فيه إلّا لأصل الاعتبار من دون تعرّض لأنّ محلّ اعتباره ما ذا، فيحتمل فيه الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، نعم المتيقّن منها إنّما هو الاعتبار في خصوص حال التمكّن، و ليس على أزيد من ذلك لها دلالة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 511

فما ذكرت من الانتقال إلى المرتبة السفلى من القيام عند الاضطرار عن المرتبة العليا منه صحيح بالنسبة إلى هذه الطائفة من الأدلّة لو فرض نظرها إلى تقييد القيام.

و أمّا بالنسبة إلى الطائفة الأخرى أعني: الأدلّة اللفظيّة فالإنصاف أنّ مثل قوله عليه السّلام: لا تستند بخمرك، و مثل خبر السفينة دالّان على أنّ من الأمور المعتبرة في الصلاة هو عدم الاستناد و عدم الحركة، من غير فرق بين أحوال المصلّي من القدرة أو العجز، إذ هما في مقام بيان الحكم الوضعي و إن كانا بصورة النهي أو الأمر، فكأنّه قال: الاستقلال شرط و الاستقرار كذلك، و لا شكّ في إطلاق هذين بالنسبة إلى حالتي القدرة و العجز مع عدم تعرّضهما إلّا لأصل لزوم هذين الأمرين في الصلاة، فيجي ء فيهما الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة.

و على هذا فاللازم من تقييد دليل القيام بذلك على تقدير تسليم النظر لها إلى تقييد القيام هو أنّه مع عدم التمكّن من هذه لا يتمكّن من القيام المعتبر في الصلاة، فلا محلّ للانتقال إلى القيام بالطريق

الآخر، بل لا محيص عن الانتقال إلى القعود، و لكن لا مجال لهذا التقييد بعد عدم اللسان في دليل هذه الأمور على تقييد القيام.

و بالجملة، و إن كنّا نسلّم أنّ أدلّة القيام لا إطلاق لها من حيث اشتراطه بشي ء من هذه الأمور عند القدرة فقط اللازم منه الانتقال من المرتبة العليا للقيام إلى المرتبة السفلى منه، إلّا أنّ أدلّة تلك الأمور ليس فيها اسم القدرة، بل هي في مقام الشرطيّة المطلقة، مضافا إلى عدم تعرّضها لتقييد القيام، و من حيث الاشتراط المطلق اللازم منه انتقال الصحيح العاجز عن بعض مراتب القيام إلى القعود يكون لها إطلاق، لكن ليس لأدلّة تلك الأمور نظر تقييد القيام، فيبقى إطلاق أدلّة القيام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 512

من هذا الحيث بحاله و سليما عن المقيّد.

نعم لو كان هناك ثلاث طوائف من المطلقات: إطلاقات القيام، و إطلاقات الأذكار و القراءة، و إطلاقات الصلاة تحقّق الإجمال في جميعها بعد العلم إجمالا بورود التقييد على واحد منها، لكنّك خبير بعدم الإطلاق في جانب الصلاة، و إذن فيبقى إطلاق دليل القيام بحاله، و إطلاق دليل هذه الأمور أيضا بحاله من غير مساس أحدهما بالآخر.

و حينئذ فترك بعض هذه لا يخلو إمّا أن يكون عن عمد، أو عن اضطرار، أو عن سهو، فإن كان عن عمد فيوجب البطلان على جميع الاحتمالات، و إن كان اضطرارا فالقيام بحاله، و لا يوجب ذلك سقوطه، و إن كان سهوا فحيث إنّه لا يرجع إلى نقص القيام الركن فلا يوجب الإعادة بمقتضى لا تعاد.

هذا مضافا إلى إمكان الاستظهار من قوله عليه السّلام: لا تستند بخمرك و أنت تصلّي، أنّ عدم الاستناد شرط الصلاة، لا بمعنى الكون الصلاتي

الأعمّ من حال التشاغل بأقوالها و عدمه، بل الظاهر خصوص أقوالها و أذكارها، فإنّه المتبادر منه.

و الحاصل: لا يفهم منه القيديّة للقيام، بل يفهم عدم قيديّته إلّا للأقوال، و يترتّب على هذا أنّ تركه العمدي في جميع الأقوال مضرّ و تركه الاضطراري غير مضرّ، و أمّا تركه السهوي فإن كان في غير التكبيرة الإحرام و لم يحصل التذكّر إلّا بعد مضيّ المحلّ فلا يضرّ، لأنّه ليس بأعلى من ترك نفس المشروط و أنّه كان في تكبيرة الإحرام، فحيث إنّه يرجع إلى نقصان المشروط و هو ركن يوجب نقصه السهوي بطلان الصلاة بمقتضى الأخبار التي تقدّمت في باب التكبيرة، لا لمجرّد الإجماع حتّى يقال: إنّ القدر المتيقّن منه نقصان نفس المشروط أو نقصان شرطه، فلا محيص عن البطلان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 513

لكن هذا كلّه في غير الأمور التي يعتبر في حقيقة القيام، و أمّا ما كان كذلك مثل الانتصاب و الاستقرار بمعنى ما يقابل المشي حيث إنّ الانحناء و كذا المشي لا يسمّيان قياما، فلا إشكال في أنّ سهوهما سهو عن القيام الركن.

و أمّا الاضطرار إلى تركهما فهل المرجع فيه إلى قاعدة الميسور حيث إنّ القيام الانحنائي و في حالة المشي و إن كانا خارجين عن مسمّى القيام حقيقة، إلّا أنّهما يعدّان ميسورا له عرفا، نظير قول «أسهد» بالسين المهملة، حيث إنّه ميسور لقول «أشهد» بالشين المعجمة عرفا و إن كان غير داخل في مصاديقه حقيقة.

أو أنّ المرجع حينئذ إلى إطلاقات إرجاع العاجز عن القيام إلى القعود؟ فعلى الأوّل تكليفه الانتقال إلى القيام الانحنائي أو المشي، و على الثاني الانتقال إلى القعود، إلّا أن يكون هنا خبر خاصّ عيّن الانتقال إلى القيامين المذكورين.

قد يقال

بالثاني، أعني: الرجوع إلى تلك الإطلاقات، و ذلك لحكومة دليل الميسور على الأدلّة الأوّلية بناء على الأخذ به في هذه المقامات.

و فيه أنّ دليل الميسور و إن كان حاكما على أدلّة الأجزاء و الشرائط المعتبرة في المركّبات المأمور بها، إلّا أنّ حكومتها بالنسبة إلى الإطلاقات الواردة في تعيين القعود عند تعذّر القيام ممنوعة، فإنّ تلك الإطلاقات متعرّضة لحال التعذّر و أنّ المكلّف به عند العجز عمّا يسمّى قياما هو القعود، دون المراتب المتوسّطة بينهما ممّا لا يسمّى باسم أحدهما.

فحكومة القاعدة على مثل هذا المضمون محلّ منع، بل اللازم القول بتخصيص القاعدة بتلك الإطلاقات، لأخصّيّتها منها مطلقا.

و كيف يمكن القول بالحكومة و اللازم منه أن يكون الإمام عليه السّلام مع كونه بصدد بيان مراتب تكليف العجزة قد أسقط من البين مرتبة لم يذكرها و هي هذه المراتب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 514

المتوسّطة في البين، و لا يمكن الالتزام بذلك مع كونها بمقام الاستقصاء لجميع المراتب كما يعلم بمراجعتها، فالحقّ حينئذ تعيّن الرجوع إلى القعود عند العجز عن القيدين المذكورين أعني: الانتصاب و التمكّن بمعنى عدم المشي.

نعم هذا بملاحظة الأدلّة العامّة مع قطع النظر عن النصّ الخاصّ، و أمّا بملاحظة النصّ الخاصّ الموجود في المسألة و هو صحيح عليّ بن يقطين الوارد في العجز عن الانتصاب عن أبي الحسن عليه السّلام «قال: سألته عن السفينة لم يقدر صاحبها على القيام أ يصلّي فيها و هو جالس يومئ أو يسجد، قال عليه السّلام: يقوم و إن حنى ظهره» «1».

فالمتعيّن هو الرجوع إلى القيام الانحنائي بأيّ مرتبة من الانحناء بلغ و لو إلى حدّ الركوع أو أخفض، و الرواية صحيحة السند، كما أنّ الظاهر أنّ المسألة لا

خلاف فيها.

و أمّا الدلالة فالظاهر أنّ المراد بصاحب السفينة هو الملّاح الذي يكون محلّه في طرف السفينة و يكون بيده زمامها، بحيث لا يمكنه القيام عن مكانه و الغفلة عن حال السفينة، و وجه عدم قدرته مع البقاء في مكانه كون السفينة مظلّلة و كون غطائها عند أطرافها قريبة إلى السفينة بحيث لا يقدر الكائن في ذلك المحلّ من القيام بواسطة ممانعة ذلك الغطاء.

و الحاصل أنّه لمّا فرض كلامه في خصوص صاحب السفينة كان ظاهره ما ذكرنا من السؤال عن حال العجز عن الانتصاب بواسطة ممانعة الحجاب الذي يكون فوق الرأس قريبا منه، لا السؤال عن العجز عن القيام بواسطة شدّة حركة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 515

السفينة الموجبة لحركة القائم فيها يمينا و شمالا، كما هو مورد الخبر الآخر الوارد في هذا الموضوع و الحاكم فيه بتعيّن القعود بناء على التفسير الذي اخترناه فيه، فلا يتوهّم التنافي بين الخبرين.

و على هذا فإذا فرض عدم تمكّن الملّاح المذكور من الانتقال إلى وسط السفينة أو محلّ آخر يمكنه فيه القيام و لا خروجه من أصل السفينة، كما أنّ ذلك هو مفروض السائل بقوله: لم يقدر صاحبها على القيام، فاللازم بحكم الرواية في حقّه هو الانحناء لا الانتقال إلى القعود و إن كان مقتضى العمومات المتقدّمة ذلك.

و يعلم الحكم في غير الملّاح أيضا من نفس الرواية، حيث إنّ الظاهر منه أنّ ذلك حكمه من جهة كونه لا يقدر على القيام، لا من جهة كونه ملّاحا حتّى نحتاج في غيره إلى تنقيح المناط، هذا بالنسبة إلى العاجز عن الانتصاب.

و أمّا العاجز عن التمكّن في القيام فقد عرفت

أنّ مقتضى العمومات في حقّه تعيّن القعود دون القيام مع المشي، و لكن قد يدّعي دلالة خبر المروزي على العكس «قال: قال الفقيه عليه السّلام: المريض إنّما يصلّي قاعدا إذا صار بالحالة التي لا يقدر فيها أن يمشي مقدار صلاته إلى أن يفرغ من صلاته» «1».

و فيه مضافا إلى ضعف السند قصور الدلالة، فإنّ الظاهر أنّه في مقام بيان حدّ القدرة و العجز الذي أحاله في سائر الأخبار إلى نفس المصلّي مستشهدا بقوله تعالى:

بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ فالمراد أنّه إذا رأى من نفسه أنّه يقدر على المشي مقدار زمان يصلّي فيه فلا يصلح له ادّعاء العجز عن القيام في الصلاة، فهذه أمارة غالبيّة يعلم بها حال المكلّف من حيث القدرة و العجز، و ليس المراد أنّ تكليف

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب القيام، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 516

المريض العاجز عن القيام ليس هو القعود، بل الصلاة ماشيا، حتّى ينافي مقتضى العمومات التي عرفت أنّه يعيّن القعود، فلا محيص عن الرجوع إلى العمومات التي عرفت أنّ مقتضاها تعيّن القعود.

نعم هذا مع القطع بخروج المشي عن مسمّى القيام حقيقة، فلو قطع بأنّه من أفراد القيام كان مقتضى العمومات تعيّنه، و لو شكّ كان من الشبهة المصداقيّة لكلّ من دليلي القيام و القعود، و المتعيّن حينئذ هو الاحتياط بإتيان صلاتين إحداهما ماشيا، و الأخرى قاعدا، للعلم الإجمالي بثبوت إحداهما.

ثمّ إنّك عرفت أنّ القيام الصلاتي لا يرد عليه تقييد من قبل هذه الأمور ممّا لا دخل له في مفهوم القيام، و ذلك مثل الاستقلال و الاعتماد على الرجلين على القول باعتباره في مقابل الاعتماد على الرجل الواحدة، و الاستقرار في مقابل الاضطراب،

فمع فقدان هذه الأمور يكون القيام الصلاتي محفوظا، و قد عرفت أنّ الظاهر من بعض أدلّة الاستقلال كونه شرطا للأذكار.

و يترتّب على ما ذكر أنّ السهو عن هذه الأشياء ليس سهوا عن القيام، لعدم كونه مشروطا بها، نعم يكون سهو الاستقلال حال تكبيرة الإحرام سهوا عنها، لكونها مشروطا به، فيكون مبطلا.

و من جملة ما يترتّب على ذلك أنّه لو فرض التمكّن من هذه الأمور في حال الجلوس و لا يتمكّن من بعضها أو كلّها في حال القيام كان من دوران الأمر بين حفظ المطلوبين المطلقين للمولى، أحدهما القيام، و الآخر الاستقلال مثلا، أو الاعتماد على الرجلين، أو الاستقرار، فلا بدّ من ترجيح القيام مع فقد بعض هذه الصفات على القعود مع دركها من مرجّح و إحراز أهمّية للقيام من الخارج.

و قد عرفت وجود النصّ بالأهميّة للاستقرار في ما إذا دار الأمر بينه و بين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 517

القيام، و هو خبر السفينة المتقدّم، بناء على تفسير الأكفاء فيه بما ذكرنا من الحركة يمينا و شمالا، لا الانقلاب كما تقدّم تقويته.

كما أنّك عرفت وجود النصّ بتعيّن القيام الانحنائي في مقام الدوران بينه و بين الانتصاب الجلوسي، و أمّا غير هذين من سائر صور الدوران فخالية عن النصّ، فلا بدّ من التكلّم فيها بطريق الكلّية و أنّ مقتضى القاعدة فيها هو التخيير بين الأمرين ما لم يحرز الأهميّة في البين، و إلّا فالأهمّ هو المتعيّن أو شي ء آخر؟

و الذي أفاده شيخنا الأستاذ في هذا المقام أنّ المتعيّن في المقام تقديم القيام و أنّه ليس المقام مقام التزاحم حتّى نعمل فيه بقاعدته، و ذلك بعد تقديم مقدّمة، و هي أنّا لا نحتمل في شي ء من

الأمور المعتبرة في المقام كونه شرطا مطلقا بمعنى إطلاقه لحالتي القدرة و العجز للقيام بحسب مقام الإثبات، بل الأمر دائر بعد ملاحظة أدلّتها بين أمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون شرطا اختياريا للقيام.

و الثاني: شرطا كذلك للذكر.

و الثالث: شرطا كذلك للصلاة.

و على كلّ من هذه التقادير لا يرد تقييد من ناحيتها على الأدلّة الدالّة على اعتبار القيام في الصلاة في حقّ الأصحّاء القادرين، بمعنى أنّه لا يلزم منها الحكم بخروج فرد من أفراد الصحيح عن تحت هذه الأدلّة و كونه محكوما بالقعود.

و حينئذ فإطلاق تلك الأدلّة بالنسبة إلى كلّ قادر صحيح محفوظ على حاله، غاية الأمر إنّا نحتمل أن يكون بعض الأصحّاء معتبرا في حقّه قيام خاصّ، و هو ما كان عن اعتماد على الرجلين أو كذا، أو كذا، و بعض آخر بنحو آخر أعني:

القيام بغير هذه الكيفيّة إذا عجز عنه بها، و هذا على تقدير كون تلك الكيفيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 518

شرطا عند القدرة للقيام.

فلو فرض أنّ تلك الكيفيّة معجوز عنها في القيام و مقدورة في القعود كان التكليف بلا شبهة هو القيام خاليا عنها، لا القعود معها، إذ الفرض أنّها اعتبرت شرطا في القيام اختياريّا، و قد فرض العجز عنها، فسقطت عن الشرطيّة رأسا بواسطة انتفاء الموضوع أعني: القدرة.

نعم لو فرض كونها شرطا للذكر، أو للصلاة عند التمكّن فمجرّد العجز عنها في حال القيام لا يوجب انتفاء الموضوع لها إذا كانت ممكنة حال القعود، فيقع المورد محلّا للكلام السابق، أعني: أنّ هنا مطلوبين للشارع، أحدهما القيام و الآخر الكيفيّة الكذائيّة المعتبرة في الصلاة أو في حال الذكر.

إذا عرفت ذلك فنقول: الحقّ أنّه على هذين الفرضين أيضا ينبغي عدم الإشكال في تقديم جانب

القيام و عدم معاملة التزاحم بينه و بين إحدى تلك الكيفيّات.

و وجهه أنّ الناظر في الأخبار الكثيرة جدّا الواردة في تعيين وظيفة المكلّفين على حسب طبقاتهم من الأقوياء و الضعفاء و الأضعفين بمراتبهم يكاد يقطع بأنّ الشارع قسّم هؤلاء الطبقات من المكلّفين و صنّفهم في صلواتهم، فالصلاة المجعولة في حقّ الأولى هي الصلاة عن قيام، و في حقّ الثانية هي الصلاة عن قعود، و في حقّ الأخيرة هي الصلاة عن اضطجاع على الأيمن أو على الأيسر، أو عن استلقاء، و كلّ هذه مراتب مختلفة من الصلاة، و قد اختصّت كلّ مرتبة منها بطائفة خاصّة، فليس الصلاة المشروعة في حقّ واحدة من هذه الطبقات صلاة في حقّ السائرين.

ثمّ بعد ما صار لسان هذه الأخبار هذا الذي ذكرنا إذا ضممنا إليها الأدلّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 519

الدالّة على اعتبار الأجزاء و الشرائط في الصلاة و أنّه يعتبر في الصلاة كذا و كذا جزءا و كذا و كذا شرطا فلا بدّ من اعتبار هذه الأجزاء و الشرائط في صلاة كلّ من الطبقات السابقة بحسب ما هو المقرّر في حقّه بدون التعدّي عمّا هو وظيفته، فإذا كان واحد من تلك الشروط أنّه يعتبر في الصلاة الاستقرار أو في الذكر في حال الصلاة الاستقرار فلا بدّ من رعاية هذا الشرط في صلاة كلّ طبقة بحسب ما هو المقرّر في حقّه و مع حفظه، لا مع قطع النظر، فليس الاستقرار الجلوسي حفظا لهذا الشرط في حقّ من كان وظيفته الصلاة قياما إذا فرض أنّه غير متمكّن من الاستقرار في حال القيام، مع تمكّنه منه حال الجلوس، و لكنّه من الأقوياء على القيام، و قد فرضنا أنّ الشارع جعل صلاة

الأقوياء هي الصلاة عن قيام.

نعم لو فرض أنّ الشارع لم ينوّع المكلّفين إلى أنواع و لم يقل: إنّ النوع الكذائي يصلّي كذا و الكذائي يصلّي كذا، و هكذا، بل لاحظ جميع المكلّفين في حدّ سواء و جعل في حقّهم الصلاة الواحدة و اعتبر فيها عدّة أمور جزءا و شرطا فجعل منها: القيام عند القدرة، و القعود بدله عند العجز، و الاضطجاع بدله عند العجز، و الاستلقاء بدله عند العجز. و منها: الاستقرار إمّا شرطا لنفس الصلاة أو لأذكارها، ثمّ دار أمر المكلّف بين حفظ أحد الأمرين المعتبرين في الصلاة في عرض واحد إمّا القيام، و إمّا الاستقرار، جاء حينئذ محلّ إعمال قاعدة باب التزاحم، و لكنّه خلاف الواقع و خلاف ما يقطعه الإنسان بمراجعة الأخبار، فبمراجعتها يستريح الإنسان من هذه الجهة و أنّ المتعيّن تقديم جانب القيام.

نعم هذا على القاعدة، و لا ينافيها ورود النصّ الخاصّ في مورد على خلافها، كما ادّعينا سابقا في خبر السفينة الخفيفة التي يوجب القيام فيها إكفائها، مضافا إلى إمكان أن يقال بعدم منافاتها مع القاعدة التي ذكرنا أيضا، و ذلك لأنّ حركة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 520

السفينة على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يكون مجرّد كونها خارجة عن الاعتدال و السكون، فيوجب ذلك حركة البدن و خروجه عن الطمأنينة المعتبرة في الصلاة.

و الثاني: أن يكون بنحو الأكفاء و القلب الموجب لسقوط أهلها في الماء.

و الثالث: ما لم يكن بذلك الحدّ و لا بهذا، بل كانت حركة عنيفة موجبة لتعسّر القيام فيها إمّا لعدم تمكّن الإنسان من ضبط نفسه عن السقوط، فيوجب ذلك قيامه بعد السقوط مرّات عديدة يحصل بها المشقّة، و إمّا لإحداثه دوران الرأس و بعض الحالات العسرة

التحمّل في الشخص، فإذا حملنا الرواية على المعنى الأوّل كانت منافية.

و أمّا لو حملناها على الأخير فلا منافاة، إذ المراد من التعذّر الوارد في الأخبار العامّة ليس العجز العقلي عن القيام، بل العرفي الذي هو المشقّة التي لا تتحمّل عادة.

و على هذا فمورد تلك الرواية و ما ضاهاها من سائر الأخبار الواردة في الصلاة في السفينة المتحرّكة بتعيين القعود هو صورة العجز العرفي عن القيام، و هذا غير مناف مع تلك الأخبار العامّة.

فتحقّق أنّه لا تظهر ثمرة بين الاحتمالات الموجودة في شرطيّة هذه الكيفيّات المعتبرة من كونها شرطا اختياريّا للقيام و للذكر أو للصلاة في مسألة الدوران بين واحدة منها و بين القيام، بل على كلّ تقدير يتعيّن القيام كما أوضحناه.

نعم يظهر الثمر بينها في السهو عن واحدة منها مع التمكّن، كما إذا سها المتمكّن عن القيام و الاستقرار مثلا و لم يستقرّ إمّا في حال قيامه لتكبيرة الإحرام، أو في حال قيامه المتّصل بالركوع، فبناء على كونه شرطا للقيام يوجب ذلك بطلان القيام الركن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 521

أو الشرط له، و هو موجب لانتفاء الركن الموجب للبطلان. و بناء على كونه شرطا للذكر فلا يضرّ سهوه في حال القيام المتّصل بالركوع، و إنّما يضرّ في حال القيام لتكبيرة الإحرام، لأنّه شرط التكبيرة، و بانتفائه ينتفي مشروطه و هو ركن، و بناء على كونه شرطا للصلاة لا يضرّ سهوه في شي ء من الموردين فضلا عن غيرهما.

هذا كلّه في التعارض بين واحدة من هذه الحالات و بين القيام، و قد عرفت عدم المعاملة بينهما معاملة المتزاحمين.

و أمّا إذا كان التعارض بين نفس هذه الحالات بعضها مع بعض، كما لو دار الأمر بين الاستقلال

و بين الاستقرار إمّا مع حفظ القيام في كليهما، أو بدونه كذلك، فهاهنا محلّ للتزاحم، لوجود إطلاق المادّة من الطرفين.

و محصّل الكلام حينئذ أنّ التزاحم إذا كان بين التكليفين النفسيين كإنقاذ الغريقين فواضح أنّ مقتضى القاعدة العقليّة في مقام حفظ أغراض المولى بقدر الإمكان هو التخيير مع قطع التساوي، و الترجيح مع قطع الرجحان و الأهمّية.

و أمّا مع الشكّ و احتمال الأهميّة في جانب فيمكن أن يقال أيضا بالتخيير، نظرا إلى البراءة عن لزوم خصوص الطرف المحتمل أهميّته، إذ لو كان لكان عليه البيان، فحيث لم يقم دليل عليه كان العقاب عليه بلا بيان.

و أمّا التزاحم في الغيريين كما هنا فالحاكم فيه بالتخيير و الترجيح لا بدّ و أن يكون هو الشرع، فإنّ إطلاق المادّة في كلّ منهما ليس مقتضاه عقلا جعل البدل بالجعل العقلي، و ليس للعقل هذا المعنى، إذ لعلّ ذلك يوجب سقوط أصل التكليف بالمركّب رأسا، و الحاكم بالبدل إنّما هو الشارع.

و حينئذ فنقول: للمكلّف أحوال، فتارة نعلم الأهمّ و أنّه ذاك أو هذا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 522

و اخرى نعلم المساواة، و ثالثة لا نعلم، و حينئذ تارة نحتمل الأهميّة في واحد معيّن، و اخرى نحتملها في كلّ منهما، فإن علم الحال فلا كلام، و إن شكّ و احتمل الأهميّة في واحد معيّن فمقتضى القاعدة هو الاشتغال و لزوم ذلك الواحد المعيّن، لأنّ المقام من الدوران بين التخيير و التعيين الشرعيين، و ليس كالمقام السابق، أعني: صورة التزاحم بين النفسيّين من الدوران بين التعيين و التخيير العقليين، و قد حقّق في محلّه أنّ مقتضى القاعدة في الدوران بين الشرعيّين الاحتياط.

و لو كان المحتمل أهميّة كلّ منهما فالواجب الإتيان بصلاتين، إحداهما

مع الاستقلال مثلا، و الأخرى مع الاستقرار، للعلم الإجمالي في كلّ منهما بأنّه إمّا تعلّق به الخطاب التعييني أو التخييري، هذا، و يظهر من شيخنا المرتضى قدّس سرّه معاملة التزاحم مع جميع الصور، سواء كان بين نفس هذه الحالات، أم بينها و بين القيام، و لم يتّضح علينا وجهه.

و هاهنا مسائل:
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 523

الاولى لا إشكال في أنّ التكليف بالقيام يتبدّل عند تعذّره أو تعسّره

بما لا يتحمّل عادة بالقعود، و هو بالاضطجاع، و هو بالاستلقاء.

إنّما الكلام في هذا المقام في أنّه هل يجوز البدار للعاجز في أوّل الوقت في كلّ من هذه المراتب مع العلم أو الرجاء لحصول المرتبة الأعلى في ما بعده قبل انقضاء الوقت أو لا؟

الحقّ هو الثاني، و ذلك لأنّ التنويع للتكليف الواحد إلى نوعين أو أزيد تارة يكون إلى مثل عنواني المسافر و الحاضر من العناوين التي لا مدخليّة لها في حسن الخطاب و عدمه، و لا إشكال أنّه حينئذ ظاهر في أنّ عين ما يفيده فعل واحد من هذين العنوانين من المصلحة حاصلة بفعل العنوان الآخر بلا تفاوت أصلا.

و يترتّب عليه جواز البدار و جواز تبديل كلّ منهما بالآخر اختيارا و أنّه لو فات الصلاة في حال أحدهما فالمتّبع في قضائها حال الفوت، فإن كان مسافرا يجب قضاؤها قصرا و لو كان في الحضر، و إن كان حاضرا يجب قضاؤها تماما و لو كان في السفر.

و اخرى يكون إلى مثل عنواني القدرة و العجز ممّا لها مدخليّة في الحسن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 524

و القبح للخطاب، فالظاهر عند العرف من التنويع حينئذ أنّهما متفاوتان في الوفاء بالمصلحة و أنّ الفعل المعلّق على عنوان القادر هو الوافي بتمام المصلحة اللزوميّة، و الآخر المعلّق على عنوان العجز واف بالناقص منها، لا بتمامها.

أ لا ترى أنّ من فات منه الصلاة في حال يكون تكليفه التيمّم فليس قضاؤها عند القدرة على الماء بالصلاة مع التيمّم، أو من فاتته و كان تكليفه الإتيان بها مستلقيا فلا يعتبر في قضائها الاستلقاء و لو جاء به في حال القوّة و السلامة.

و لو

كان الأمر في هذين العنوانين أيضا كما يفهمونه في عنواني الحاضر و المسافر لكان اللازم في القضاء مراعاة حال الفوت، فإذا كان اللازم مراعاة حال الإتيان بالقضاء فهذا أقوى شاهد على كون عمل العاجز ناقصا و قاصرا عن الوفاء بمقدار مصلحة عمل القادر و أنّ الزيادة لازمة الاستيفاء، و لازم هذا الاستظهار عدم انعقاد الظهور للكلام في إطلاق العجز بالنسبة إلى غير المستوعب منه للوقت.

و على هذا فلو علم بزوال العذر في أثناء الوقت لم يجز له البدار، لعدم كونه موضوعا، و لو كان شاكّا جاز له بمقتضى استصحاب بقاء عذره إلى آخر الوقت، لكن لو انكشف الخلاف و زال العذر في الأثناء وجب الإعادة.

فإن قلت: ينافي ما استظهرته روايتان: الاولى ما ورد في من قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة كيف يصلّي؟ «قال عليه السّلام: إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم» «1».

و بمعناه بعض روايات أخر، و من المعلوم أنّ إطلاق كلام السائل:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 525

«و حضرت الصلاة» شامل لاتّفاق ذلك في أوّل الوقت لو لم نقل أنّه الظاهر منه.

و مع ذلك رخّصه الإمام للصلاة عاريا موميا و هو أيضا تكليف العاجز، لقوله عليه السّلام:

«و إن لم يصب شيئا يستر به عورته، فيعلم منه أنّ مجرّد التعليق على عنوان الاضطرار و العجز لا ينافي مع جواز البدار.

و الثانية: ما ورد في أخبار الصلاة في السفينة من رواية ابن أبي عمير عن أبي أيّوب «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه

السّلام: إنّا ربما ابتلينا و كنّا في سفينة فأمسينا و لم نقدر على مكان نخرج فيه، فقال أصحاب السفينة: لسنا نصلّي يومنا ما دمنا نطمع في الخروج، فقال عليه السّلام: إنّ أبي كان يقول: تلك صلاة نوح عليه السّلام، أو ما ترضى أن تصلّي صلاة نوح؟ قال: فقلت: بلى جعلت فداك، فقال عليه السّلام: لا يضيقنّ صدرك، فإنّ نوحا صلّى في السفينة، قال: قلت: قائما أو قاعدا؟ قال عليه السّلام: بل قاعدا» «1». الحديث، حيث إنّه ظاهرها الرخصة في الصلاة في السفينة قاعدا، مع أنّ أصحابه كانوا يقولون: لسنا نصلّي يومنا ما دمنا نطمع في الخروج.

قلت: أمّا الرواية الأولى فيمكن أن يقال بأنّ الإطلاق فيها منزّل على الغالب بالنسبة إلى حال من غرق و بقي عريانا في ساحل البحر، أو قطع عليه و بقي في الصحراء كذلك من كونه بعيدا عن المعمورة و مأيوسا عن تحصيل الساتر إلى آخر الوقت، مضافا إلى أنّه لو سلّمنا الإطلاق بالنسبة إلى من يرجو وجدان الساتر في الأثناء فنقول: إنّ غايته الترخيص و لو كان بمقتضى استصحاب بقاء العذر.

و من هنا يظهر الجواب عن الرواية الثانية، فإنّه إذا كان مقتضى الحكم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 9، و فيه و في التهذيب: بل قائما. راجع التهذيب 3: 187، الحديث 376.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 526

الظاهري الاستصحابي جواز الصلاة في أوّل الوقت كان الحكم في الروايتين قابلين للحمل على ذلك، فليستا بصريحتين في الإجزاء عند انكشاف الخلاف، و هو الذي نحن بصدد إنكار استظهاره من الروايات.

و الحاصل أنّ مدّعانا أنّ الناظر في الأدلّة يكاد يطمئنّ بظهورها في عدم عرضيّة عنواني الاختيار و الاضطرار.

و يترتّب

عليه أيضا عدم جواز تحصيل الاضطرار اختيارا، نعم لو عصى و حصّله كانت صلاته صلاة المضطرّ و مسقطة للقضاء، و ذلك لأنّه مقتضى التنزيل لفعل المضطرّ منزلة فعل المختار، فإنّه و إن كان الفوت متحقّقا بناء على ما ذكرنا، إلّا أنّه نزّله الشارع منزلة عدم الفوت و منزلة المدرك للصلاة، و التنزيل المذكور لا يفيد بالنسبة إلى رفع العقوبة، لأنّه عقلي، و ينفع بالنسبة إلى رفع القضاء.

و يمكن أن يقال بالفرق بين ما إذا سيق الخطاب أوّلا غير مقيّد بعنوان الاختيار و القدرة، ثمّ ورد الخطاب الثانوي الاضطراري معلّقا بعنوان العجز عن المكلّف به الأوّلي، ففي هذه الصورة إطلاق المادّة للخطاب الأوّل محفوظ في حال العجز و إن كان الهيئة مرتفعا، و لازمة ما ذكرنا من عدم جواز البدار و تقييد الخطاب الثانوي بالعجز المستوعب للوقت عقلا و إن كان صورة العبارة للأعمّ منه و من العجز القبلي في التبعيض، و بين ما إذا سيق الخطابان مقيّدين و كان أحدهما و هو التكليف بالتامّ مشروطا بالقدرة، و الآخر الذي هو التكليف بالناقص مشروطا بالعجز، كما في المقام، حيث ورد: القادر يصلّي قائما، و العاجز عن القيام يصلّي قاعدا، ففي مثل هذه الصورة يبقى إطلاق المادّة في دليل الفعل التامّ مقرونا بما يصلح للقيديّة، إذ يحتمل أن تكون القدرة قيدا شرعيّا، و عليه فيكون ظاهر الخطاب الثانوي الشامل للعجز المستوعب متّبعا و حاكما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 527

بأنّ القدرة قيد شرعي للخطاب الأوّلي.

فالمكلّف بحسب إدراك المصلحة منوّع على نوعين، و يختلف كيفيّة المصلحة في حقّه ثبوتا بحسبهما، فالقادر مصلحته الأوّليّة في الصلاة القياميّة، و العاجز مصلحته الأوّليّة في الصلاة القعوديّة بدون نقصان عن القسم

الأوّل، و لازمة جواز البدار و تحصيل الاضطرار لو لا حرمته النفسيّة اختيارا.

و أمّا ما استشهدنا به لكون التكليف الاضطراري من قبيل القسم الأوّل من لزوم تبعيّة القضاء لحال الفوت لو كان بالنحو الثاني مع وضوح فساده فيمكن التفصّي عنه بأنّ بعض الشروط شروط للمصلّي، و بعضها شروط للصلاة، فإذا كان الشرط من قبيل الأوّل فلا بدّ من رعاية حال المصلّي حين ما يؤدّي الصلاة من دون رعاية حال الفوت.

و لهذا لو قضى الرجل صلاة المغرب للمرأة يقضيها جهريّة، مع كونها مكلّفة بالإخفات و بالعكس، و أمّا باب صلاة المسافر فقد قامت الأدلّة بأنّهما من قيود الصلاة، لا المصلّي، فلا يختلف الحال فيها باختلاف المصلّين.

و بالجملة، فمقتضى القاعدة إلى أن يجي ء الدليل المخرج هو الفرق بين القيود المأخوذة في المصلّي و المأخوذة في الصلاة، و ما نحن فيه من قبيل الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 528

المسألة الثانية في حكم من يقوى على القيام حال القراءة بالخصوص،

مثلا دون حال الركوع أو القيام المتّصل بالركوع أو بالعكس.

و لا إشكال في أنّ أدلّة الطرفين بانفرادها لا تشمل بإطلاقها هذه الصور، لأنّها فروض نادرة، و الأدلّة منصرفة عنها، و لكن يمكن استفادة حكمها من مجموع الأدلّة، أعني: أدلّة القيام و أدلّة القعود، كما يستفاد حكم صلاة من جلس في السفينة أو المركب السريع السير و كان في أوّل صلاته غير متجاوز عن حدّ الترخّص و في آخرها متجاوزا عنها أو بالعكس، فإنّ أدلّة كلّ من السفر و الحضر بانفرادها غير متناولة لهذين الفرضين، و لكن إذا نظرنا إلى مجموع الدليلين يعلم حكمهما من المجموع و أنّ الصلاة مجعولة في حقّهما كسائر المكلّفين، و لا يجب عليهما الصبر إلى حدّ يكون تمام الصلاة في السفر أو تمامها في

الحضر، و أمّا الصلاة التي بعضها في السفر و بعضها في الحضر فغير مشروعة، فإنّ هذا يكاد يقطع الإنسان بخلافه.

و هكذا الكلام في ما نحن فيه، لا يكاد يشكّ الإنسان في أنّ الصلاة في حقّ هذا الشخص المفروض له إحدى الحالتين في بعض صلاته و الأخرى في الآخر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 529

مشروعة، و ليست المشروع خصوص الصلاة التي تمامها وقعت في حال القدرة، أو تمامها وقعت في حال العجز، بل الصلاة الواقع بعضها في إحدى الحالتين و الآخر في الأخرى أيضا مشروعة كمشروعيّة أختيها بلا فرق، و هذا ممّا يستفيده أهل العرف من ملاحظة الدليلين معا و إن كان كلّ واحد بانفراده غير واف بالدلالة، هذا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 530

المسألة الثالثة في حكم من يدور أمره بين أن يقوم في جزء من صلاته

حتّى يعجز عنه في الجزء اللاحق، و بين أن يقعد في السابق حتّى يقوم في اللاحق، فهل هو مخيّر إلّا أن يعلم الأهمّية في أحد من الطرفين، كما إذا كان أحد القيامين واجبا غير ركن، و الآخر ركنا أو شرط ركن، أو أنّ اللازم مطلقا هو تقديم الجزء الأوّل بإتيانه قائما، و تعيّن القعود للثاني.

من أنّ الترتّب بين الجزءين إنّما هو في الوجود فقط دون الوجوب، فأجزاء الصلاة إنّما توجد جزءا فجزءا، لا أنّها توجب شيئا فشيئا، بل الوجوب يتعلّق بها في عرض واحد و التدرّج في مقام امتثالها و إتيانها في الخارج، و إذن فكما أنّ القدرة على القيام الأوّل عقلا موجودة، كذلك على القيام الثاني أيضا القدرة العقليّة موجودة و لو بأن يقعد في الجزء الأوّل حتّى يحصل القدرة حين الثاني، و حينئذ فلا ترجيح للأوّل لمحض الترتّب في الوجود ما لم يكن أهمّية في جانبه، كما أنّه

مع الأهميّة في اللاحق يتعيّن تقديم جانبه.

و من أنّ القدرة هنا شرط شرعي على ما سبق في المسألة الاولى، لا عقلي، و الكلام المتقدّم إنّما هو وارد مع فرض إطلاق الخطاب بالقيامين و كون القدرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 531

بالنسبة إلى كليهما عقليّة، فإنّه لا فرق في القدرة عند العقل بين ما كانت حاصلة فعلا و بين ما أمكن تحصيله بمقدّمة، فإنّ المقدور بالواسطة أيضا مقدور.

و أمّا إذا فرضنا أنّ الخطاب في كليهما بحسب الشرع مشروط بالقدرة حاله فلا يخفى أنّ التكليف بالأوّل منجّز فعليّ، لحصول شرطه و هو القدرة فعلا، و التكليف بالقيام الثاني لم ينجّز بعد، لعدم حصول القدرة حال العمل بالنسبة إليه بعد.

نعم يمكن للمكلّف تحصيله بالقعود في الجزء الأوّل، لكن قد تحقّق في الأصول أنّ تحصيل شرط الوجوب غير واجب، بل يجوز الممانعة عن حصوله عمدا و اختيارا، فإذا صرف قدرته في الجزء الأوّل امتثالا للتكليف الفعليّ المنجّز فقد فوّت على نفسه شرط حصول الوجوب بالنسبة إلى القيام الثاني، و هو ممّا لا مانع عنه، و أمّا لو قعد في الجزء الأوّل فقد فعل المحذور و هو ترك امتثال الواجب المطلق الحاصل شرطه، فالمتعيّن بحكم العقل هو الأوّل، هذا.

و لشيخنا المرتضى قدّس سرّه في هذا المقام كلام لم نفهم ما أفاده به، قال قدّس سرّه بعد نقل القول بتقديم القيام للقراءة إذا دار الأمر بين القيام حينها و بين القيام للركوع معلّلا بقدرته على القيام حينها فيجب عليه، للعمومات، فإذا طرأ العجز ركع جالسا ما هذا لفظه:

فإن قلت: إنّ وجوب الأجزاء ليس كوجودها على وجه الترتيب، بل وجوبها في ضمن المركّب يتحقّق قبل الشروع، فعند كلّ جزء يكون هو

و ما بعده سواء في صفة الوجوب، و المفروض ثبوت العجز عن أحدهما لا بعينه، فيتّصف المقدور و هو الواحد على البدل بالوجوب، و هو معنى التخيير، إلّا أن يوجد مرجّح كما عن المبسوط و السرائر، و محتمل جماعة في جانب القيام للركوع لإدراك الركوع القيامي و القيام المتّصل بالركوع، و ربما يؤيّد بما ورد في الجالس من أنّه إذا قام في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 532

آخر السورة فركع عنه احتسب له صلاة القائم.

قلت أوّلا: إنّ الجزء الثاني إنّما يجب إتيانه قائما بعد إتيان الواجبات المتقدّمة عليها التي منها القيام، و الفرض أنّ إتيانه قائما كذلك غير ممكن، فلا يقع التكليف به، فتعلّق الوجوب بالأجزاء و إن لم يكن فيه ترتيب كنفس الأجزاء، إلّا أنّه إنّما يتعلّق بكلّ شي ء مقدور في محلّه، و هذه قاعدة مطّردة في كلّ فعلين لوحظ بينهما الترتيب شرعا، ثمّ تعلّق العجز بأحدهما على البدل، كما في من نذر الحجّ ماشيا فعجز عن بعض الطريق، و كما في من عجز عن تغسيل الميّت بالأغسال الثلاثة، فإنّه يجب في الموضعين و أمثالهما إتيان المقدار المقدور بحسب الترتيب الملحوظ فيهما عند القدرة على المجموع.

و ثانيا: إنّ المستفاد من قوله عليه السّلام: «إذا قوي فليقم» و نحوه أنّ وجوب القيام في كلّ جزء و عدمه يتبع قدرة المكلّف عليه و عجزه عنه في زمان ذلك الجزء، و ما ذكر في السؤال إنّما يستقيم إذا كان تقييد الواجبين المترتّبين في الوجود دون الوجوب بالقدرة بمجرّد اقتضاء العقل له الحاكم بكفاية ثبوت القدرة في جزء من وقت الوجوب، و لم يرد دليل لفظي يدلّ على اشتراط وجوب الفعل بالقدرة عليه عند حضور زمانه المستلزم

لسقوطه عمّن عجز عنه حينئذ و إن كان يقدر قبله و بعد زمان الوجوب على ما يتمكّن معه من الفعل في زمانه، و حينئذ فيسقط ما ذكر من الترجيح، إلى آخر ما أفاده قدّس سرّه.

فإنّ الجواب الثاني عن السؤال بما أفاده من قوله: و ثانيا إلخ و إن كان بحسب الظاهر راجعا إلى ما قلناه من كون القدرة شرطا شرعيّا لا عقليّا و إن كان مخالفا لما قلناه في الاستدلال، فإنّا إنّما نستدلّ على ذلك بالآية الشريفة المشتملة على القيام و القعود و الجنوب بعد تفسيرها بأنّ الأوّل للصحيح، و الثاني للمريض، و الثالث

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 533

للأضعف، لا بالخبر الذي ذكره، فإنّ الحقّ عدم دلالته، لوروده في مقام آخر أعني:

في بيان تحديد العجز و القدرة، فلا يصحّ الاستدلال به على اشتراط الوجوب في كلّ جزء بثبوت القدرة حينه.

و لكنّ الجواب الأوّل لم نفهم كيف يدفع به الإشكال، فإنّ الترتيب بين الأجزاء لا يخلو حاله إمّا يكون معتبرا في الصلاة في عرض سائر الأجزاء، و إمّا في نفس الأجزاء، فيكون القيام في الجزء الثاني واجبا مقيّدا بكونه عقيب ما تقدّمه الذي منه القيام في الجزء المتقدّم.

فعلى الأوّل لا إشكال في أنّه مع العجز عن الجمع و فرض كون القدرة ممحّضة في الشرطيّة العقليّة، لا ترجيح في البين إلّا مع الأهميّة، و على الثاني فلا إشكال في سقوط هذا القيد، أعني: ترتّب القيام الثاني على القيام الأوّل عند العجز عنه، فإذا دار الأمر بين حفظ أصل القيام الثاني و بين حفظ القيام الأوّل، فلا ترجيح أيضا.

و الحاصل أنّا لم نفهم مرامه قدّس سرّه، كما لم نفهم مرام بعض الأعاظم قدّس سرّه، حيث إنّه

بعد ذكره كلام الشيخ الذي تقدّم بطوله و استشكاله عليه نظير ما استشكلنا قال ما حاصله: إنّه يمكن أن يقال بلزوم تقديم الجزء الأوّل و صرف القدرة فيه و الفرق بينه و بين المتزاحمين المشتركين في الزمان بلا ترتيب زماني بينهما.

وجه الفرق أنّ المكلّف عند اشتغاله بأحد الضدّين اللذين لا يعلم بأهمّية أحدهما من الآخر لا محالة يعجز عن الاشتغال بالضدّ الآخر، فإطاعة أمر المولى صارت موجبة لامتناع إطاعة أمره الآخر.

و أمّا إذا كانا مترتّبين في الوجود فالضدّ المتأخّر ليس بوجوده مانعا عن الضدّ المتقدّم، لفرض تأخّر وجوده، و المتأخّر لا يمانع المتقدّم، فلا محالة يكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 534

الممانعة لإرادته أعني: إرادة المكلّف إتيانه في ما بعد، فيوجب هذه الإرادة إيجاد مقدّمته و هو ترك القيام المتقدّم، فهو إنّما يترك إطاعة أمر القيام الأوّل الذي تنجّز عليه مع فرض قدرته فعلا عليه لمحض إرادته إطاعة الواجب الذي لا يقدر عليه إلّا على تقدير ترك الأوّل، و هذا ممّا لا يصحّ الاعتذار به في مقام ترك الواجب المنجّز، و العقل لا يجزم بجوازه ما لم يثبت لديه مرجّح شرعي، هذا محصّل ما ذكره قدّس سرّه.

و لا يخفى أنّه في المتزاحمين المترتّبين اللذين علم أهميّة المتأخّر منهما كما أنّه يعتذر في ترك الأوّل بأنّه مريد لإحراز إطاعة المولى و هذا وجه مسموع منه لدى العقل، كذلك عند العلم بالتساوي أو عدم معلوميّة الحال يعتذر في تركه أيضا بأنّه مريد لإطاعة الأمر المولوي الذي يتساوى مع هذا، أو لا يعلم الحال بينهما، فإن كان العذر بالإرادة المذكورة مسموعا مع القدرة الفعليّة في الفرض الأوّل فليكن مسموعا في الفرض الثاني أيضا، فإنّه أيضا إرادة إطاعة

أمر المولى و اتّباع مرامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 535

المسألة الرابعة لو تجدّد عجز القائم قعد في أيّ فعل كان،

و هل يجب عليه أن يقرأ في حال الهويّ إذا كان ذلك قبل القراءة أو في أثنائها؟ الذي قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه هو الثاني، معلّلا بعموم أدلّة القيام و لو مع الانحناء التامّ، غاية الأمر عدم التمكّن معه من الاستقرار بمعنى عدم الحركة، و حيث إنّ الدليل على أصل وجوبه هو الإجماع و هو مفقود هنا فلا مانع من جهته، مضافا إلى أنّه مع فرض الدليل أيضا يكون من باب الدوران بين الاستقرار و بين القيام، و قد تقدّم قوّة ترجيح الثاني، انتهى ما أوردنا من نقل مرامه قدّس سرّه.

لكن استشكل عليه شيخنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه على رءوس المحصّلين بأنّه لو فرض إمكان القيام بلا مشقّة عرفيّة في واحد من الحدود المتوسّطة مع وقفة ما بحيث يوجب صدق القيام الانحنائي عليه لكان ما ذكره قدّس سرّه حسنا.

و الجواب عن معارضة الاستقرار كان حينئذ بما اخترناه سابقا من أنّه إمّا شرط للقيام، و إمّا للصلاة، و إمّا للقراءة، فعلى الأوّل يكون ساقطا، لكونه شرطا عند التمكّن لا مطلقا، و على الأخيرين كذلك أيضا، لما ذكرنا من لزوم اعتبار الشرائط و الأجزاء لصلاة كلّ طائفة من المصلّين على حسب ما هو الوظيفة المقرّرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 536

في حقّها، فإذا كانت الوظيفة المقرّرة في حقّ شخص هو القيام الانحنائي فاللازم ملاحظة التمكّن من الاستقرار و العجز عنه في هذا الموضوع، لا في موضوع آخر ليست وظيفة لهذه الطائفة.

و لكنّ العمدة في المقام أنّ الشخص المذكور الكائن بين الحدّين القيام و القعود من غير وقفة له في حدّ من الحدود و الفرض ثبوت

المشقّة العرفيّة التي لا يتحمّل عادة لو كلّف بالوقوف في واحد من الحدود لا يصدق عليه اسم القائم، فإنّه عبارة عن الواصل إلى الحدّ، بل حال هذا أسوأ من حال الماشي، فلو قلنا بأنّ الماشي قائم لا نقول بذلك في هذا الشخص، و ذلك لأنّ الماشي واصل إلى حدّ خاصّ، غاية الأمر أنّ بدنه متحرّك بالمشي، و أمّا هذا فليس له حدّ خاصّ، و إنّما حدّه بمجرّد الفرض، و إلّا فواقعه هو الكون بين الحدّين، و هذا خارج عن مفهوم القيام.

و المفروض قيام الأدلّة على أنّ العاجز عن القيام بالمعنى الشامل للمشقّة التي لا تتحمّل عادة يكون صلاته عن قعود، و لو كان هذا المقدار اليسير الذي هو في حال الهويّ محلّا للاعتناء للزم التنبيه عليه في واحد من الأخبار و أنّه لو فرض اتّفاق القيام للمريض بالمشقّة التي لا يتحمّل فأراد الهويّ و الصلاة قاعدا فيجب عليه أن يكبّر و يقرأ في المقدار الممكن من أوّل شروعه في الهويّ إلى قراره في القعود، مع أنّه ليس منه عين و لا أثر في واحد من الأخبار.

و ربما يوجب ذلك اطمئنانا للإنسان بأنّ تكليف العاجز عن القيام هو القعود، و بعد معلوميّة أنّ الهويّ ليس قياما و لا قعودا يفهم أنّه لو اتّفق تحقّقه في الأثناء يجب عليه الكفّ عن القراءة إلى أن يستقرّ قاعدا ثمّ يقرأ، و اللّٰه العالم.

و أمّا القول بأنّ الهويّ و إن لم يكن قياما، لكنّه ميسور القيام فقد تقدّم عدم المساس للقاعدة بهذا المقام، فراجع، هذا، و لكن حيث إنّ القول بتعيّن القراءة في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 537

الهويّ محكيّ عن الأكثر، كما عن الروض نسبته في الذكرى على

المحكيّ إلى الأصحاب و إن حكاه في الدروس على ما حكي عنه بلفظ القيل فيجمع بينهما بإرادة مشايخه المعاصرين و المقاربين، فلا ينبغي ترك الاحتياط.

و كيفيّة الاحتياط بناء على التوسعة كما قوّيناه أن يصبر حتّى يطمئنّ جالسا، ثمّ يقرأ، لأنّ حاله حينئذ حال من يعلم بطروّ الاضطرار عليه بعد ساعة مثلا، فكما لا يجب عليه المبادرة إلى الصلاة الاختياريّة بناء على المبنى المذكور، فكذلك في مقامنا لا يجب عليه المبادرة إلى القراءة هاويا و لو قلنا: إنّه محسوب من القيام واقعا، بل يصبر حتّى يصير مضطرّا فيعمل بوظيفة المضطرّ.

و أمّا لو بنينا على التضييق و وجوب المبادرة في الفرع المذكور فالاحتياط حينئذ يحصل بالقراءة هاويا بقصد القراءة المطلقة، ثمّ إعادتها بعد الاستقرار في الجلوس كذلك أيضا.

نعم على الأوّل يشكل الحال في ما إذا استلزم تأخير القراءة إلى حال القرار في القعود السكوت الطويل المنافي للصلاة، فإنّه حينئذ يجب عليه الاشتغال بالأذكار أو القرآن فرارا عن السكوت الطويل.

ثمّ لو بنينا على لزوم القراءة حال الهويّ لو عصى و لم يأت بها إلّا بعد القرار في القعود فالأقوى الحكم بالصحّة، لأنّ حاله حينئذ حال من علم بطروّ العجز عليه في آخر الوقت و عصى و أخّر الصلاة إلى آخره، فإنّه و إن كان عاصيا بتأخيره، لكن لا إشكال في صحّة صلاته المأتيّ بها حال الاضطرار، و كذلك الحال في مقامنا، فإنّ الجزء الذي قد أتى به في حال القعود قد وافق فيه تكليفه عند الاضطرار، غاية الأمر عصيانه بالتأخير.

نعم بناء على مبنى التوسعة كما هو الأقوى يسقط هذا البحث من أصله كما هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 538

واضح، إذ لا عصيان بالتأخير أصلا، هذا.

و لو

تجدّد القوّة للعاجز فإمّا يكون ذلك قبل الركوع قبل القراءة أم بعدها أم في أثنائها، و إمّا يكون بعده قبل الذكر و الطمأنينة حاله أم بعده، فإن بنينا على عدم التوسعة و أنّ الموضوع هو العجز المستوعب انكشف بطلان الصلاة في جميع الصور.

و إن قلنا بالتوسعة فلا إشكال في صورة اتّفاق ذلك قبل الركوع، لأنّه يأتي بالقراءة أو بتمامها إن كان قبلها أو قبل تمامها، و إن كان بعد تمامها يقوم لأجل تحقّق القيام المتّصل بالركوع، و تكون القراءة المأتيّ بها حال القعود مجزية، و لا يجب إعادتها بعد القيام، و هذا واضح.

إنّما الكلام في ما إذا اتّفق ذلك في الركوع و قبل الذكر الواجب و الطمأنينة بمقداره، فهل يجب عليه القيام منحنيا متقوّسا إلى حدّ الركوع القيامي لأجل تحقّق الذكر و الطمأنينة فيه، أو يجب إبقاء الركوع الجلوسي لإتيانهما فيه.

و على كلّ تقدير لا يجوز الانتصاب ثمّ الركوع عنه، و لو فعله بطلت الصلاة لزيادة الركن، كما عن الروض و الذكرى، بل ركنين كما عن جامع المقاصد، بل و لو لم نقل بإبطال الزيادة الركنيّة، لكونه قد نقص بعض صلاته عمدا و هو الذكر و الطمأنينة في ركوع الصلاة، لمعلوميّة أنّ هذا الركوع الثانوي وجود لغو ليس بركوع صلاتي، فقد فوّت الذكر و الطمأنينة بتفويت محلّهما الشرعي.

و أمّا زيادة الركنين كما عن جامع المقاصد فالظاهر أنّ مراده بالركن الآخر هو القيام المتّصل بالركوع، و يمكن الخدشة فيه بأنّ الزيادة فيه غير معقول بعد فرض التقييد باتّصال الركوع الصلاتي، فإنّه غير متحقّق في الوجود الثانوي و لو اتّصل بصورة الركوع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 539

و على كلّ حال فالوجهان المتقدّمان أعني: لزوم القيام بهيئة

التقوّس إلى حدّ الركوع أو البقاء بصورة الركوع جالسا لتحصيل الطمأنينة و الذكر مبنيّان على أنّ الواجب في الركوع أمور ثلاثة في عرض واحد:

أحدها: الركوع القيامي عن قيام مع التمكّن.

و الثاني: الذكر في الركوع القيامي كذلك.

و الثالث: الطمأنينة في الركوع القيامي كذلك.

فإذا فرض العجز عن الأوّل و قيام البدل المجعول له في حال العجز مقامه و حدث التمكّن بالنسبة إلى الأخيرين فلا وجه للإخلال بالقيد أعني: كونهما في الركوع القيامي، بل يجب عليه تحصيل القيد مع المحافظة على عدم محو صورة الركوع لئلّا يتعدّد، بمعنى أنّه مع انحطاط ظهره بحدّ الركوع يرفع رجليه عن الأرض بعد كونهما مفترشين عليها، فلا يقال: إنّ هذا حدّ غير الحدّ الذي كان في حال الركوع الأوّل، و الحالة المتوسّطة بين الحدّين خارج عن كليهما، أعني لا يسمّى ركوعا قياميّا و لا جلوسيّا، فلا محيص عن حصول التعدّد، فإنّه مدفوع بأنّ التعدّد إنّما حصل في وصف الركوع مع محفوظيّة ذاته و بقائه على وحدته الشخصيّة، إذ ليس حقيقته إلّا انحطاط الظهر بالحدّ الخاصّ، و لا يفرق الحال في ذلك بين افتراش الرجلين و انتصابهما، فالحدّ محفوظ بحاله و الاختلاف في وصفه.

أو أنّ الواجب هو الذكر و الطمأنينة في الركوع بأيّ حال وجب فيه، فإن كان الواجب هو القيام فيه، فالواجب الذكر و الطمأنينة في الركوع القيامي، و إن كان الواجب هو القعود فيه فالواجب الذكر و الطمأنينة في الركوع الجلوسي.

و بالجملة، فليس القيام معتبرا فيهما زائدا على اعتباره في الركوع، و لا إشكال أنّه حينئذ يأتي بهما في حال الركوع الجلوسي و إن تجدّدت له القوّة على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 540

القيام، لأنّ ركوعه وقع عن قعود و

احتسب كذلك جزءا لصلاته، فصار موضوعا لوجوب الذكر و الطمأنينة فيه، فلا يجب تحصيل القيام مقدّمة لهما، كما هو واضح، فالأمر في هذه المسألة مبنيّ على مراجعة أدلّة وجوب الأمرين المذكورين و أنّه هل يكون بأيّ من النحوين.

بقيت صورة أخرى، و هي ما إذا تجدّد القوّة بعد الإتيان بالذكر و الطمأنينة، فلا إشكال في وجوب الانتصاب قائما لرفع الرأس من الركوع.

نعم لو حصل القدرة بعد رفع الرأس عنه جلوسا و الاعتدال فيه فوجوب القيام ليسجد عن قيام محلّ منع، لعدم مدخليّة الهويّ عن قيام في ماهيّة السجود، كما لعلّه يأتي في بابه إن شاء اللّٰه تعالى.

تمّ المجلّد الأوّل من كتاب الصلاة لآية اللّٰه العظمى الأراكي قدّس سرّه الشريف و يتلوه المجلّد الثاني من أوّل بحث القراءة إن شاء اللّٰه تعالى و الحمد للّٰه ربّ العالمين

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

الجزء الثاني

[تتمة المقصد الثاني في أفعال الصلاة]

البحث الرابع و من واجبات الصلاة القراءة.

اشارة

و فيه مواضع للكلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 7

[الموضع] الأوّل لا كلام في جزئيّة الحمد للصلاة

و وجوبه في الأوليين منها، و الدليل عليه- مضافا إلى الإجماع- الأخبار كما يعلم بمراجعة المفصّلات، كما لا إشكال في عدم كونه من الأركان حتّى يوجب نقصه و زيادته سهوا بطلانها، كما هو الحال في الأركان، فإنّ مقتضى «لا تعاد» كون ذلك مغتفرا في غير الخمسة الذي منه الحمد، مضافا إلى الأدلّة الخاصّة الموجودة في المقام كما يعلم بمراجعة الكتب المفصّلة.

لكن ليعلم أنّ النقص و الزيادة تارة يكونان عن علم و التفات بالحكم و الموضوع، و هو المتيقّن من صور البطلان.

و اخرى عن جهل بالحكم تقصيرا، و هو أيضا كذلك، بل و كذلك الجهل القصوري و السهو و النسيان المتعلّقان بالحكم، فإنّ الحديث منصرف عن شمول هذه الصور كما بيّن في محلّه، فيبقى على مقتضى القاعدة الأوّليّة من الفساد، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه.

بقيت صور تعلّق الجهل و السهو و النسيان بالموضوع، و لا إشكال في أنّ السهو عن الموضوع المشمول للحديث ليس منحصرا في ما إذا عزب صورته عن الذهن بالكلّية و لم يؤت به في محلّه بلا شعور، أو أتى به في غير المحلّ بلا التفات إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 8

ذلك أصلا، ثمّ بعد الدخول في الركن التفت إليه، بل أعمّ من ذلك و ممّا إذا حصل كلّ من هذين عن التفات إليه، و لكن مع الاشتباه أو السهو في شي ء آخر صار ذلك منشأ للترك في المحلّ أو الفعل في غير المحلّ، كما لو سها عن كون الركعة التي بيده ثالثة و تخيّلها رابعة فسلّم، فإنّه حين يسلّم يكون صادرا منه بإرادة و عمد و قصد إليه،

و لكن بالتوهّم في المنشأ و الاشتباه فيه.

و بالجملة، بعد ادّعاء انصراف الحديث إلى الخلل الراجع إلى الموضوع دون ما كان مسبّبا عن الجهل أو السهو في الحكم لا يفرق الحال في ما هو المنصرف إليه بين القسمين المذكورين، فكلّ منهما داخل في المنصرف إليه.

و حينئذ فيرد في المقام سؤال و إن كان من مسائل الجماعة، و لكن لا بأس بالتعرّض له هنا لمناسبته بالمقام و كونه محلّا للاهتمام، و هو أنّ من المسلّم في ما بينهم هو الحكم ببطلان صلاة من اعتقد أنّه أدرك الإمام في الركوع و كان واقعا غير مدرك له، فترك القراءة لأجل ذلك ثمّ تبيّن أنّه لم يدركه، فيسئل عن أنّه ما وجه هذه الفتوى و كيف يمكن تطبيقها على القاعدة، فإنّ الصلاة المذكورة لا عيب فيها غير خلوّها عن القراءة، و ليس ذلك إلّا عن تخيّل و اشتباه في الاقتداء، و قد فرضنا أعمّيّة السهو المغتفر بمقتضى الحديث عمّا يشمل ذلك و العزوب الرأسي، بل يمكن أن يكون هذا هو الوجه في حكم الإمام عليه السّلام بصحّة صلاة من اقتدى بيهودي و لم يعلم بذلك إلّا بعد الفراغ، فلا يمكن الاستشهاد بأمثاله للقول بعدم اعتبار العدالة الواقعيّة و كفاية الإحرازيّة، لملاءمته مع اعتبار واقعها، فإنّ غاية الأمر بطلان جماعته دون أصل صلاته.

نعم لو قلنا باختلاف الجماعة و الفرادى في الحقيقة كما ينسب إلى بعض كلمات المحقّق القمّي قدّس سرّه أمكن أن يقال ببطلان الصلاة أيضا، لأنّه قصد تلك الحقيقة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 9

و لم يحصل، لفقدان شرطها، و الحقيقة الأخرى لم تقصد.

أمّا لو قلنا باتّحادهما حقيقة كما لعلّه الظاهر فلا وجه للبطلان، و لا للاستشهاد المذكور،

نعم الاستظهار من أدلّة اعتبار العدالة أنّها بوجودها العلمي شرط مطلب آخر و كذلك سنخ هذا الفرع غير عزيز في مسائل الجماعة، و منه ما إذا اقتدى اثنان كلّ منهما بصاحبه، فإنّ من المسلّم الحكم بالبطلان، إلى غير ذلك ممّا يشابهه، فما وجه الفرق بين هذه المسائل و بين مسألة زيادة التسليمة باعتقاد الركعة الرابعة، أو ترك التشهّد باعتقاد الركعة الاولى و عدم التذكّر إلّا بعد مضيّ المحلّ.

فإن كان الوجه في حكمهم بالبطلان في تلك حصول الترك باختيار و عمد، فكذلك الحال في الأخيرتين، و إن كان الوجه في الحكم بالصحّة في الأخيرتين كونه اختيارا ناشئا عن الاشتباه، فكذلك الحال في تلك المسائل، فما وجه الفرق حيث جزموا بالصحّة فيهما، و بالبطلان في تلك؟

و قد يقال بإمكان دعوى انصراف دليل لا تعاد عمّا إذا نوى الإنسان فعلا مقيّدا و كان عدم اشتمال ذلك الفعل على شي ء مطابقا لقاعدته و إن كان هو مخطئا في نيّته لذلك الفعل المقيّد و كان الصواب أن ينوي مقيّدا آخرا.

و أمّا إذا نوى مقيّدا مشتملا على أجزاء و شرائط ثمّ لم يأت بواحد من أجزائه أو شرائطه في محلّه إمّا لعزوب صورته عن ذهنه بالمرّة، أو لخطئه في المنشأ، فهذا ليس منصرفا عن الدليل المذكور.

و على هذا فنقول: فرق بين مسائل الجماعة و بين المسألتين و أضرابهما، فإنّ المكلّف حينما يدخل في الجماعة ينوي هذه الصلاة المقيّدة التي و إن كانت غير مغايرة مع الفرادى في الحقيقة، لكن لا أقلّ من اختلافهما الصنفي، حتّى أنّهما مختلفان في بعض الأحكام، و قاعدة هذا الصنف من الصلاة عدم الاشتمال على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 10

القراءة، و أمّا المسألتان فالمكلّف إذا

شرع في الصلاة ينوي الصلاة المشتملة على التشهّد في محلّه أو التسليمة كذلك، فإذا خرج عمّا هو مقتضى ترتيبه دخل في عموم لا تعاد.

و بعبارة أخرى: الخطأ في إحدى الصورتين في أصل العمل، و في الأخرى في جزئه أو شرطه، و عموم الحديث لا يشمل الخطأ الواقع في نفس العمل، بل الواقع في بعضه مع الفراغ عن صحّة نفسه، و عمل الجماعة و الفرادى لا إشكال في تغايرهما و معدوديّتهما عملين و إن كانا كلاهما من حقيقة واحدة من جنس الصلاة، فإذا كان عمل المكلّف أحد هذين و هو اشتبه و تخيّله الآخر فهذا غير مشمول للعموم، و أمّا إذا أصاب في تشخيص عمله و لكن أخطأ في تشخيص أبعاضه فهذا مشمول له.

و بعبارة ثالثة: إنّ من تصوّر صورة الفعل المركّب ثمّ أراده و دخل فيه و أتى بجميع ما نواه مع كمال الشعور فأيّ منقصة فيه عن العامد و لو كان أصل دخوله في العمل مبنيّا على سهو أو اشتباه و جهل، لكنّه في داخل العمل الذي تحقّق فيه مبادي اختياره ما عرض عليه سهو و نسيان، بل أتى بتمام ما نواه، و هذا لا يسمّى شي ء من أجزاء عمله عند العرف بالسهويّة و لا ينصرف عنه اسم العمد.

و هذا بخلاف من ينوي عملا مركّبا و لكن يعرضه في البين اشتباه أو تخيّل باطل و جهل مركّب، أو سهو، فلا يأتي بجميع ما نواه من الابتداء على نحو الإجمال، أو يأتي بما نوى عدمه إجمالا، فإنّه يسمّى عرفا باسم السهو، و الحكم في ذلك هو العرف، فإنّهم فارقون بين الموردين في التسمية باسم السهو و العمد، فراجع الوجدان تجده أقوى شاهد.

و حينئذ نقول: إنّ

الجماعة و الفرادى و إن كان الحقّ على خلاف ما ذهب إليه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 11

المحقّق القمّي قدّس سرّه الشريف كونهما كالقصر و الإتمام مندرجين تحت حقيقة واحدة و لا اختلاف بينهما بحسب النوع، و إنّما هو اختلاف في الخصوصيّة، نظير اختلاف الخطّ القصير المحدود بنصف ذرع، و الطويل المحدود بالذرع بحيث يصلح احتساب القدر المشترك بينهما في مقام امتثال أمر كلّ من العنوانين، فمن كان مأمورا بإيجاد الخطّ البالغ نصف الذرع فشرع بقصد إتمامه ذرعا تامّا فبدا له قبل تجاوز النصف يحسب هذا امتثالا لذلك الأمر و بالعكس.

و هكذا الحال في البابين المشار إليهما، أعني باب القصر و الإتمام و باب الجماعة و الفرادى، فلا مانع من احتساب كلّ منهما مقام الآخر في مقام الامتثال من هذه الجهة لو فرض عدم المانع من جهة أخرى.

و لكنّ المانع في صورة ترك القراءة بتخيّل الاقتداء مع بطلانه واقعا موجود، و هو ما ذكرنا من قصور شمول دليل لا تعاد مثل هذا الترك الذي قصده المصلّي من أوّل شروعه في الصلاة إلى حين بلوغه محلّ الجزء، فلم يعرضه في عمله الذي أخذه بيده سهو و اشتباه، و إنّما السهو و الاشتباه في ما قبل ذلك، و من هنا يظهر الحال في الفروع الأخر التي أشار إليها شيخنا المرتضى قدّس سرّه في هذا المقام.

أحدها: ما لو صلّى بنيّة الاقتداء فبان عدم الإمام، و من أفراده المسألة المعروفة أعني: الاقتداء بزيد على وجه التقييد فبان أنّه عمرو، فإنّ من المسلّم بينهم الحكم ببطلان الصلاة رأسا، لا بطلان الاقتداء.

و الثاني: ما لو نوى الاقتداء، فتبيّن فقد أحد الشروط المطلقة للجماعة، كما لو تبيّن البعد المفرط أو وجود

الحائل مثلا.

و الثالث: ما إذا اعتقد أنّ الإمام في إحدى الأوليين، فلم يقرأ فتبيّن بعد الركوع أنّه في غيرهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 12

الرابع: ما إذا صلّى رجلان نوى كلّ منهما الائتمام بالآخر، فإنّ الحكم بالبطلان في هذه الفروع الأربعة كما يظهر منهم على نحو التسالم مطابق للقاعدة على حسب ما قرّرنا.

مضافا إلى وجود النصّ الخاصّ في الفرع الأخير، و هو رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن آبائه عن عليّ عليه و عليهم الصلاة و السلام أنّه عليه السّلام «قال في رجلين اختلفا، فقال أحدهما: كنت إمامك، و قال الآخر: كنت إمامك: إنّ صلاتهما تامّة، قال: قلت: فإن قال كلّ واحد منهما: كنت أئتمّ بك؟ قال عليه السّلام: فصلاتهما فاسدة و ليستأنفا» «1».

و المناقشة في سند الرواية بالضعف كما عن صاحب المدارك قدّس سرّه غير وجيهة بعد الانجبار باشتهار العمل به بين الأصحاب، بل الظاهر أنّه السبب لأصل تعرّضهم لهذا الفرع في كتبهم الفقهيّة، و إلّا فهو في نفسه من الفروع النادرة التي قلّما يتّفق الابتلاء به، بحيث لا يصلح التعرّض له.

و بالجملة، فقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة لو لا النصّ أيضا هو الحكم بالبطلان.

بل و من هنا يمكن القول بالبطلان في كلّ زيادة أو نقيصة كانت ناشئة عن الجهل بالحكم أو السهو فيه، فإنّ الفاعل حين الشروع إنّما يقصد الفعل الخالي عن الجزء أو الواجد للمانع، ثمّ يأتي بطبق ما بقصده في الخارج من دون عروض سهو عليه.

و من هنا يظهر وجه تسالمهم على الحكم بالبطلان في جميع أفراد الخلل الناشئ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 13

من الشبهة

و الجهل في الحكم، تقصيريّا كان أم قصوريّا، و عدم تمسّكهم بذيل عموم لا تعاد، فاغتنم ذلك و الحمد للّٰه.

نعم في الفرع الثالث من الفروع الأربعة أعني: المأموم المسبوق يمكن أن يقال بالصحّة من جهة أخرى لو تمّت، و هي أن يدّعي أحد عموم ما دلّ على سقوط الحمد عن المأموم لو لم يمهله الإمام و خشي أن يرفع رأسه من الركوع بالنسبة إلى المقام و أنّ الخارج عنه صورة العمد الخالص مع العلم بالحكم و الموضوع.

و أمّا الصور التي اتّفق ذلك إمّا بغير اختيار منه أو باختيار و لكن عن جهل منه بالحكم الناشئ عن الجهل بالموضوع الخارجي كما في المقام حيث إنّ عدم قراءة المأموم اختياريّ له، لكن نشأ ذلك عن تخيّل أنّه تكليفه، و هو نشأ عن اعتقاده الخطائي بكون الإمام في إحدى الأوليين، فكلّها داخلة تحت العموم المذكور، فإن صحّت هذه الدعوى أمكن الصحّة في الفرع المذكور، فإنّ المفروض انعقاد اقتدائه صحيحا و خطابه بالركوع عند ضيق الوقت عن الحمد و إسقاط الحمد عنه، و إلّا فهو أيضا معطوف على أخواته في ما ذكرنا من مقتضى القاعدة.

و أمّا ما ورد في إجزاء الصلاة خلف الإمام الذي تبيّن كونه يهوديّا و هو مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في قوم خرجوا من خراسان أو بعض الجبال، و كان يؤمّهم رجل، فلمّا صاروا إلى الكوفة علموا أنّه يهوديّ، «قال عليه السّلام: لا يعيدون» «1».

و في رواية زياد بن مروان القندي في كتابه أنّ الصادق عليه السّلام «قال في رجل صلّى بقوم حين خرجوا من خراسان حتّى قدموا مكّة، فإذا هو يهوديّ أو نصرانيّ،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة،

الباب 37 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 14

قال عليه السّلام: ليس عليهم إعادة» «1».

فلا يمكن حمله على كون ذلك لأجل عدم اعتبار العدالة الواقعيّة و أنّ صلاتهم صحيحة جماعة، فإنّ المفروض ليس مجرّد فسق الإمام، بل كفره و نجاسته و عدم تمشّي القربة منه، و بالجملة فالصادر منه صورة الصلاة لا حقيقتها، بخلاف الإمام الفاسق، و حينئذ فيحتمل فيه وجهان:

الأوّل: أن يكون عدم الإعادة من باب اغتفار القراءة على خلاف مقتضى القاعدة.

و الثاني: أنّه قضيّة في واقعة، فمن الممكن أنّ اليهودي أظهر أنّه من المخالفين، فإنّ الداعي له إلى التزوير هو الاحترام، و كان الشوكة يومئذ معهم، و إلّا فلو أظهر نفسه من الإماميّة لزم نقض غرضه، لأنّه خرج عن اليهوديّة إلى الرفض و هو في النهاية في تلك الأيام مثلها أو أدون.

و على هذا فكان معاملة القوم معه معاملة المخالفين، و من المعلوم أنّ حكم الصلاة خلف المخالف هو الإتيان بالقراءة في نفسه، غاية الأمر سقوط وصف الجهريّة لو كانت الصلاة جهريّة، فلعلّ السرّ في الحكم بعدم الإعادة في تلك القضيّة معلوميّة كون صلاتهم واجدة للقراءة من هذه الجهة و إن كانت ناقصة من حيث الإخفات مقام الجهر في الصلوات الجهريّة، فغايته الدلالة على هذا التقدير على اغتفار هذه الجهة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 15

الثاني يجب بعد الحمد قراءة سورة كاملة على المشهور،
اشارة

بل عن بعض الإجماع عليه.

و قد استدلّ عليه [الوجوب] بأخبار

بعضها ظاهر في ذلك و إن كان بعضها الآخر لا دلالة فيه.

فمن القسم الأوّل خبر محمّد بن إسماعيل «قال: سألته قلت: أكون في طريق مكّة فنزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب، أ يصلّي المكتوبة على الأرض فيقرأ أمّ الكتاب وحدها: أم يصلّى على الراحلة فيقرأ فاتحة الكتاب و السورة؟

قال عليه السّلام: إذا خفت فصلّ على الراحلة المكتوبة و غيرها، و إذا قرأت الحمد و سورة أحبّ إليّ و لا أرى بالذي فعلت بأسا» «1».

حيث إنّ ظاهر الرواية أنّ تجويز الصلاة على الراحلة مع استلزامها فوات القيام و الاستقرار يكون لأجل إدراك السورة، كما جوّز له ترك السورة لأجل إدراكهما بإتيان الصلاة على الأرض، بل جعل إدراك السورة أحبّ من إدراكهما.

لا يقال: مفروض السائل الخوف في كلتا الحالتين، لا أنّ الخوف يحدث

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 16

بالبقاء بمقدار قراءة السورة، و على هذا فتجويز الصلاة على الراحلة يكون لأجل الخوف، لا لمراعاة السورة.

لأنّا نقول: و إن كان الخوف محقّقا على كلّ حال و الاختلاف إنّما هو في مرتبته، لكن ظاهر الرواية تجويز الصلاة على الأرض بلا سورة بمقتضى قوله عليه السّلام:

و لا أرى بالذي فعلت بأسا، فإنّه قال: ننزل للصلاة إلخ، و مفروضة أنّه صلّى بلا سورة، و إنّما سؤاله عن إجزاء فعله أو لزوم الصلاة على الراحلة مع السورة، فإذا جوّز الإمام عليه السّلام كلا القسمين فظاهره أنّ تجويز الصلاة على الراحلة لمراعاة السورة، و إلّا لوجب عليه الصلاة على الأرض مستقرّا مع القيام و إن فات السورة.

و الحاصل أنّ السائل فرض تكليف نفسه بين الأمرين،

إمّا الصلاة في مواضع الخوف على الأرض مخفّفة، و إمّا على الراحلة بلا تخفيف، و قد أخبر أنّه قد فعل الأوّل، فأجاز الإمام عليه السّلام له كلا القسمين و جعل الثاني أحبّ، و لو لا رعاية السورة لكان الواجب الاقتصار على الأوّل لئلّا يفوت الواجب بالمستحبّ.

و بالجملة فالظهور في المدّعى ثابت للرواية.

و من هذا القسم أيضا: صحيحة زرارة الواردة في المأموم المسبوق، قرأ في كلّ ركعة ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب و سورة «فإن لم يدرك سورة تامّة أجزأته أمّ الكتاب» «1». الحديث.

و منه: حسنة عبد اللّٰه بن سنان بابن هاشم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «للمريض أن يقرأ فاتحة الكتاب وحدها، و يجوز للصحيح في قضاء صلاة التطوّع بالليل و النهار» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 47 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 17

و من القسم الثاني: خبر يحيى بن عمران الهمداني «قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك، ما تقول في رجل ابتدأ ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم في صلاته وحدة في أمّ الكتاب، فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها، فقال العبّاسي: ليس بذلك بأس، فكتب عليه السّلام بخطّه: يعيدها (مرّتين) على رغم أنفه، يعني العبّاسي» «1».

و الظاهر أنّ «مرّتين» من كلام الراوي، و مقصوده أنّ الإمام عليه السّلام كتب هذه الكلمة مرّتين.

وجه عدم الدلالة في هذا الخبر أنّ ضمير «يعيدها» لا يعلم هل هو راجع إلى الصلاة حتّى يفيد المدّعى من جزئيّة السورة، أو إلى السورة حتّى يفيد جزئيّة البسملة لها، و لا دلالة على هذا فيه

على حكم نفس السورة من الوجوب أو الاستحباب، و بالجملة فهو في مقام الوجوب الشرطي على هذا التقدير، لا الشرعي، و إذا جاء الاحتمال حصل الإجمال.

و مثله في هذه الجهة صحيحة معاوية بن عمّار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أقرأ بسم اللّٰه الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب؟ قال عليه السّلام: نعم، قلت: فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم اللّٰه الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال عليه السّلام: نعم» «2».

و منه صحيحة منصور بن حازم «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر» «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 18

وجه عدم الدلالة وقوع النهي الأوّل في سياق النهي الثاني المحمول على الكراهة، جمعا بينه و بين ما دلّ على جواز القران بين السورتين في الفريضة.

و منه صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأوليين إذا ما أعجلت به حاجة، أو تخوّف شيئا» «1».

فإنّ تجويز ترك السورة لمجرّد الحاجة الدنيويّة أو التخوّف الدنيوي الشامل بإطلاقه لما لا يصل حدّ الضرورة المسقطة للواجب مناسب مع الاستحباب و يوهن دلالة البأس المستفاد من المفهوم على التحريم، و لا نعني أنّه لا يمكن اجتماع ذلك عقلا مع الوجوب حتّى يقال بإمكانه بفرض تضيّق الموضوع و تقيّده واقعا بصورة عدم طروّ الحاجة، فطروّها رافع للموضوع، بل المقصود أنّه مع إمكانه عقلا قرينة

على عدم الوجوب عرفا، و لا أقلّ من الإجمال و عدم الدلالة.

و قد استدلّ للقول بالاستحباب بأخبار.

منها: صحيحة ابن رئاب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سمعته يقول بأنّ فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة» «2».

و مثلها صحيحة الحلبي.

و منها: المستفيضة الدالّة على جواز الاكتفاء بالتبعيض، و في بعضها أنّه «صلّى بنا أبو عبد اللّٰه عليه السّلام، فقرأ بفاتحة الكتاب و آخر سورة المائدة، فلمّا سلّم التفت إلينا فقال: أما إنّي أردت أن أعلّمكم» «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(2) المصدر: الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 19

و في آخر: «صلّيت خلف أبي جعفر عليهما السّلام، فقرأ بفاتحة الكتاب و آي من البقرة، فجاء أبي فسأل، فقال يا بنيّ إنّما صنع ذا ليفقّهكم و يعلّمكم» «1».

و قد يقال في الجواب عن الأوّلين بأنّهما محمولتان على صورة الاستعجال و الحاجة، بقرينة بعض الأخبار المفصّلة.

و فيه أنّه مستلزم لحمل المطلق على الفرد النادر، مضافا إلى أنّ هذا الجمع أعني: حمل المطلق على المقيّد بحمل الطائفة الموجبة على صورة عدم الحاجة، و المرخّصة على صورة وجودها إنّما ينفع القائل بالوجوب إذا كان المراد بالحاجة هو العذر الشرعي المقبول في سائر المقامات لرفع اليد بسببه عن الواجب، و من المعلوم أنّ المراد بها في المقام ليس هذا المعنى، بل الأعمّ منه و من الحوائج العرفيّة الجزئيّة الغير اللازم من فوتها حرج على المكلّف، و حينئذ فتعليق الإتيان بعدم طروّ مثل ذلك فيه شهادة عرفا بعدم كون الفعل من المهتمّات عند الآمر، كما عرفت آنفا.

و الأحسن في مقام الجمع العرفي هو التصرّف في

الطائفة الاولى من حيث الهيئة بحملها على الاستحباب، لكن إعراض المشهور عن العمل بهذه الأخبار مع كثرة الطائفة الثانية منها و صراحة دلالتها و صحّة سندها يمنعنا عن ذلك، لأنّه يوجب الوهن فيها و لو لم يكن لها معارض.

و إذن فتبقى الطائفة الأولى سليمة، بيان ذلك أنّ حجّية الخبر و صلاحيّته للاستناد محتاجة إلى أمور، أحدها: الدلالة إمّا نصوصيّة و إمّا ظهورا، و الآخر:

الصدور إمّا قطعا و إمّا أصلا، و الثالث: وجه الصدور كذلك، و إذا صار الخبر مع وضوح الدلالة و صحّة السند محلّ إعراض الأصحاب كان هذا أمارة على اختلال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 20

وجه صدوره و يوجب سقوط أصالة الجهة بالنسبة إليه، و الظاهر تحقّق الإعراض في مقامنا، حيث حكي أنّه لم يفت بمضمون هذه الأخبار قبل صاحب المدارك و من تبعه من المتأخّرين غير الديلمي.

و أمّا القدماء من لدن أصحاب الأئمّة عليهم السّلام فالظاهر من حالهم كون الوجوب عندهم من الأمور المفروغ عنها، و هذا مع ملاحظة طريقة العامّة أعني عدم الوجوب و تجويز التبعيض يوجب انهدام الأصل الجهتي.

نعم صرف كون الخبر مطابقا لفتاواهم بدون الإعراض لا يوجب ارتفاع الأصل المذكور، بل مع ضميمة الإعراض، كما تحقّق كلاهما في مقامنا هذا.

و ليس هذا أيضا من قبيل الرجوع إلى المرجّح في مقام التعارض السندي حتّى يقال: إنّ الرجوع إلى المرجّحات من غير فرق بين موافقة العامّة و مخالفة الكتاب و غيرهما يكون متأخّرا في الرتبة عن الجمع الدلالي، و لا محلّ لشي ء منها مع وجوده، و ها هنا يكون الجمع المذكور محقّقا كما عرفت، لما عرفت من أنّه

موجب لاختلال أركان الحجّية في أخبار التجويز للترك رأسا و أخبار التبعيض مع تظافرها و صحّة أسانيدها.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من كون الأخبار المرخّصة محمولة على كونها صادرة للتقيّة، لا إشكال في جريانه بالنسبة إلى ما كان منها مشتملا على القول و الفتوى بذلك، و أمّا ما كان مشتملا على العمل فقد يستشكل بأنّ ظاهر الأخبار أنّ علّة العمل هو التعليم، و لو كان العلّة هو التقيّة لعلّله الإمام عليه السّلام بها، و صرف التعليم لا يصلح علّة للعمل إلّا في مقام تعليم الأحكام الواقعيّة، و أمّا الحكم المجعول لحال التقيّة على خلاف الواقع فلا يمكن صيرورة صرف تعليمه علّة للعمل ما لم يكن تقيّة في العمل، و هو خلاف الظاهر، حيث إنّ الظاهر كون العلّة هو التعليم، لا شي ء آخر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 21

مضافا إلى أنّ فتوى العامّة ليست على التحريم في السورة الكاملة، بل يجوّزونها و التبعيض.

و على هذا فيشكل حمل العمل على التقيّة و لو تنزّلنا عن الإشكال الأوّل أيضا، لوضوح أنّه حينئذ ليس في إتيان العمل على وفق الواقع مخالفة لمذهبهم حتّى يحصل التقيّة بتركه، فلا وجه لمخالفة الواقع حتّى لو فرض كون العمل واقعا في محلّ التقيّة.

و هذا بخلاف الأخبار المشتملة على القول بجواز التبعيض، فإنّه لو أفتى بخلافه كان خلاف التقيّة، فيصحّ الاستناد في هذا الفتوى إلى التقيّة، و أمّا في العمل فلا.

و يمكن الجواب مضافا إلى ما في نفس تعجّبهم من فعله و اعتذاره عليه السّلام بهذا التعليل من الدلالة على كونه من المنكرات عند الشيعة، و من الأمور المغروس خلافها في أذهانهم، فيمكن الاستشهاد بنفس هذين الخبرين على الوجوب بأنّ مقصوده عليه السّلام من التعليل

المذكور بيان أوسعيّة التقيّة و عدم اختصاصها بما إذا كان التخالف بين مذهبهم و مذهب الخاصّة بالتباين الكلّي، بل لها المساغ من التباين الجزئي، كما في المقام، فإنّ التزام الخاصّة بإتيان السورة عملا مع كون العامّة غير ملتزمين كذلك فيه غبار الخلاف.

فرفع هذا المعنى يتحقّق بأنّهم أيضا أحيانا يفعلون في صلاتهم مثل فعلهم من تبعيض السورة، فالإمام عليه السّلام جعل ذلك الحين الذي لا بدّ أن يظهر فيه الموافقة لهم عملا هذا الحين الخاصّ بغرض التعليم و التفقيه حتّى لا يتخيّلوا أنّ التقيّة لا مساغ لها ها هنا بعد كون إتيان السورة خاليا عن المخالفة لهم.

فكأنّه عليه السّلام أراد أن يعلّمهم أنّ المطلوب في باب التقيّة ليس مجرّد عدم المخالفة لهم، بل إظهار الموافقة معهم في الرأي و العقيدة، و هذا الإظهار تارة يكون بالفتوى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 22

بجواز التبعيض، و اخرى يكون بالعمل، و هو متوقّف على إتيان الصلاة مع التبعيض في بعض من الأحيان، و هذا نظير الحضور في جماعاتهم و الصلاة مثل صلاتهم مع ثبوت المندوحة بإتيان الصلاة في محلّ الخلوة، و لعلّه معنى قولهم عليهم السّلام: التقيّة أوسع ممّا بين السماء و الأرض، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

ثمّ إنّك قد عرفت الرخصة في صحيحة الحلبي في ترك السورة إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئا، و عرفت أنّ إطلاق الحاجة يشمل ما ليس بواجب ديني و لا ضروري دنيوي، بل ما كان مسمّى باسم الحاجة و لو كان مثل التعجيل إلى الغذاء لئلّا يبرد، أو للوصول إلى الرفيق مع عدم اضطراره إليه.

و هل يشمل ضيق الوقت عن الإتيان بجميع أجزاء الصلاة أيضا أو لا؟ مجمل الكلام في

ذلك أنّه لا إشكال في عدم انصراف الحاجة إلى الأغراض الأخر الخارجة عن الصلاة، بل يشملها و الصلاة في الوقت، فإنّها أيضا من المهامّ و الأغراض العقلائيّة اللائقة بأن يسمّى حاجة، بل من أهمّ الحوائج الدينيّة، و لا في عدم انصراف الإعجال عن هذا الفرد المتعلّق بالصلاة في الوقت.

لكن مع ذلك قد يستشكل في عموم الحاجة للصلاة في الوقت بأنّ الذي يعجل المكلّف لا محالة امتثال أمر الصلاة في الوقت.

و حينئذ نقول: لا يخلو إمّا أن يكون الأمر متعلّقا بالصلاة مع السورة، و إمّا بها بلا سورة، أمّا الأوّل فغير معقول، لفرض عدم التمكّن منه بواسطة ضيق الوقت عن الإتيان بجميع الأجزاء حتّى السورة، و أمّا الثاني فالمفروض أنّه لا دليل عليه إلّا نفس هذا الخبر الدالّ على الإسقاط في حقّ المستعجل، و دلالة الخبر بالنسبة إلى هذا الفرد غير معقول، إذ لا يمكن تحقّق الموضوع من قبل الحكم.

و الحاصل إن قلت: إنّ الحاجة هي الصلاة مع السورة في الوقت و يكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 23

الاستعجال من جهتها فيدلّ الخبر على الإسقاط، فهذا لا يعقل.

و إن قلت: إنّ الحاجة هي الصلاة بلا سورة في الوقت، و الاستعجال إنّما هو بملاحظة هذه الحاجة و هي قد أعجلتني فالمفروض أنّك تريد أن تستخرج مشروعيّة الصلاة بلا سورة من نفس هذا الأمر المتوجّه إلى من أعجلت به الحاجة، فكيف يتحقّق بهذا الأمر موضوعه أعني: الحاجة.

و هذا حاصل ما يؤخذ من كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه حيث قال ما هذا لفظه:

و أمّا الوجه المذكور- و مراده ما أشار إليه في كلامه قبل ذلك من التمسّك لسقوط السورة في الضيق بحيث يخرج الوقت بقراءته بأنّ إدراك مجموع

الصلاة في وقتها إن كان إلى الغرض الدنيوي أو الديني المندوب، فهو على فرض تسليمه لا يوجب أزيد من الرخصة، و المقصود العزيمة. و إن كان إلى الغرض الديني الحتمي فهو فرع الأمر بإدراك الصلاة في الوقت، و هو بعد فرض السورة جزء منها ممنوع، ضرورة عدم جواز الأمر بفعل في وقت يقصر عنه، و سقوط السورة حينئذ عين محلّ الكلام، و أهمّية الوقت إنّما هي بالنسبة إلى الشرائط الاختياريّة دون الأجزاء، إلّا أن نتمسّك بفحوى تقديم الوقت على كثير من الشرائط التي علم أنّها أهمّ في نظر الشارع من السورة، انتهى كلامه، رفع في الخلد مقامه.

و حاصله أنّ وجه تعيّن سقوط السورة أحد الأمرين، إمّا التمسّك بحديث سقوطها عن المستعجل، و إمّا ملاحظة التزاحم بينها و بين الوقت و إحراز أهمّية الوقت، و كلّ من هذين محلّ الإشكال، إلّا أن يحرز الأهميّة في الوقت بالوجه الذي أشار إليه، أو يتمسّك بالاتّفاق المدّعى في المعتبر و المنتهى و غيرهما الذي لا مساغ لردّه، أو يقال: إنّ دليل وجوب السورة لا إطلاق له يشمل المقام، كما أشار إليهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 24

أيضا بعد الكلام الذي نقلناه.

قال شيخنا و ملاذنا و ملاذ العرب و العجم الأستاذ الأعظم العلّامة، شيّد اللّٰه في الدين و الدنيا و الآخرة إعلامه: إنّ التمسّك بأخبار المستعجل في بعض أفراد المسألة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، و هو ما إذا كان الوقت باقيا بمقدار الصلاة التامّة الأجزاء حتّى السورة، لكن لا بحسب ما جرى به عادة الشخص في سائر الأيام، بل أقصر منه، كما لو كانت الصلاة المعتادة له محتاجة إلى خمس عشرة دقيقة، و كان الوقت بمقدار عشر دقائق،

فإنّه حينئذ يحتاج إلى إسقاط المستحبّات و الاقتصار على الواجبات مع سرعة اللسان، كما هو الحال في الشخص المستعجل الذي أعجلت به حاجة دنيويّة حتّى يصلّي صلاته بهذا القسم، فإنّه لا مساغ لإنكار أنّه بعد تحقّق هذا الموضوع يشمله الحكم، أعني: سقوط السورة عن المستعجل على سبيل الرخصة، لا العزيمة.

إنّما الكلام في الفرد الآخر الذي هو محلّ كلام شيخنا الأجلّ المرتضى قدّس سرّه الشريف و هو ما إذا لم يف الوقت بالصلاة مع السورة و لو مع كمال الاستعجال و الاقتصار على أقلّ الواجب.

فنقول: إن أمكن دعوى الأولويّة القطعيّة لإسقاط السورة في حقّه بعد استفادته في حقّ القسم الأوّل من الأدلّة كما ذكرنا، فإنّه مع كون القسم الأوّل مدركا للصلاة مع السورة في الوقت قد أسقط عنه الشارع السورة على ما عرفت، فكيف يرضى بعدم إسقاطها عن هذا القسم الثاني الذي يدور أمره بين الأداء بلا سورة و بين القضاء، فهو المطلوب، و إلّا فقد يقال: إنّه يمكن استفادة الحكم في حقّه أعني:

تعيين الصلاة الأدائيّة في ما بقي من الصلاة غير السورة بواسطة عدم إطلاق في أدلّة جزئيّة السورة بحيث يشمل المقام.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 25

و فيه أنّه و إن كان عدم إطلاق تلك الأدلّة حقّا فإنّه لم يرد دليل كان الغرض الأصلي منه بيان جزئيّة السورة و لو بلسان الأمر بها حتّى نستكشف بإطلاق مادّته الجزئيّة المطلقة لها الشاملة لحالتي القدرة و العجز، و إنّما أدلّتها واردة مورد حكم آخر، مثل أنّ السورة ساقطة عن المريض، أو أنّ المأموم المسبوق لا بدّ أن يقرأ، مع الفراغ عن أصل الجزئيّة، و بالجملة، ليس واحد منها في مقام تحديد الجزئيّة حتّى يؤخذ بإطلاقها.

إلّا أنّ

دليل الحمد و غيره أيضا ليس له إطلاق شامل لهذه الحالة، أعني ضيق الوقت عن الإتيان بالسورة، ألا ترى أنّ قوله عليه السّلام: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب لا يمكن التمسّك به و لو لم يدرك من الصلاة إلّا نفس الفاتحة بلا شي ء آخر دونها؟

فهذا شاهد على عدم الإطلاق له بحسب الهيئة يشمل هذه الحالة.

و أمّا بحسب المادّة فإطلاقه و إن كان مسلّما بمعنى أنّ جزئيّة الحمد للصلاة غير متوقّفة على إدراك السورة و عدمه و القدرة و عدمها، بل ثابتة على كلّ حال، لكن مجرّد ذلك لا يستفاد منه ثبوت التكليف الفعلي بأداء الصلاة الأدائيّة في داخل الوقت بلا سورة.

و بعبارة أخرى: لا يستفاد منه مشروعيّة بدليّة هذا الفرد عن الصلاة التامّة، بل لا بدّ لاستفادة ذلك من إقامة دليل آخر، و مجرّد بقاء جزئيّة الحمد في هذا الحال يلائم مع انتقال التكليف إلى الصلاة الأدائيّة مع السورة و إدراك ركعة منها في الوقت، فإنّه يحتمل بحسب الثبوت جزئيّة السورة، و مقتضاه سقوط التكليف بالأداء و الانتقال إلى إدراك الركعة في الوقت الذي هو وقت اضطراري، و عدمها، و مقتضاه ثبوته، و مجرّد قيام الأدلّة على كون الحمد جزءا مطلقا و كذا الركوع و السجود و غيرهما من سائر الأجزاء غير السورة لا لسان لها بتعيين وظيفة المكلّف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 26

و جعل الصلاة بلا سورة في حقّه، فكما أنّ ثبوت جزئيّة السورة لا دليل عليه إثباتا و إن كانت محتملة ثبوتا، فكذلك نفي جزئيّتها.

و بالجملة، ففي مقام إثبات مشروعيّة البدل الاضطراري و تعيينه نحتاج إلى دليل خارجي من إجماع لو ثبت، أو عموم: لا تترك الصلاة بحال، لو ثبت كونه

رواية لا قاعدة مجمعا عليها، و إلّا كان راجعا إلى الإجماع.

و الملخّص من جميع ما ذكر أنّ من ضاق عليه الوقت عن إدراك مجموع الصلاة على قسمين:

الأوّل: من لو بادر على خلاف عادته مستعجلا بدرك أقلّ الواجب بل و لو مع بعض المستحبّات لكن مع سرعة يوجب صدق عنوان المستعجل و عدم صدق المتأنّي.

و الثاني: من لا يدرك المجموع، بل لا بدّ من وقوع بعض من صلاته خارج الوقت و لو اقتصر على أقلّ الواجب مع المبادرة في إتيانه بحيث يحتاج في إدراك المجموع من رفع من واحد من الواجبات، إمّا السورة و إمّا الحمد، و إمّا ركعة مثلا.

فالقسم الأوّل لا شكّ في شمول أخبار المستعجل له، لصدق العنوان المذكور عليه، و كذا كونه لحاجة عقلائيّة، و قد فرضنا أنّ الشارع رخّص للمستعجل لأجل حاجة عقلائيّة في ترك السورة تحقيقا، لاستعجاله، و تحصيلا لبعض من التأنّي له، و هذا المعنى موجود في المقام.

و أمّا القسم الثاني فقد استشكلنا في شمول الأخبار المذكورة إيّاه لأجل أنّا لم نعلم أنّ الصلاة الموظّفة في حقّه مع قطع النظر عن خبر المستعجل ما ذا، و إطلاق المادّة في بقيّة الأجزاء و الشرائط غير السورة أيضا لا يجدي، بعد عدم إطلاق الهيئة فيها، فإنّ إطلاق المادّة فقط لا يستفاد منه الدستور و أنّه الصلاة بأربع ركعات في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 27

الوقت بلا سورة، إذ لعلّه الصلاة المدركة ركعة منها فيه مع السورة، فإنّ السورة ليس لدليلها إطلاق، لا مادّة و لا هيئة، لا أنّها بحسب الثبوت أيضا لا يحتمل جزئيّتها.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّا نستكشف بالأولويّة القطعيّة حكم هذا القسم من القسم الأوّل، حيث إنّه مع إدراكه

الصلاة بجميع أجزائها قد رخّصه الشارع لأجل أن يكون في إتيانه الصلاة على تأنّ، فكيف إذا لم يدرك السورة رأسا يغمض عن إدراك البقيّة أيضا و يحكم بالبدل الاضطراري و لا يسقطها حتّى يدرك الوقت الاختياري في جميع الصلاة، هذا.

و يمكن أن يقال بإمكان التشبّث بذيل خبر المستعجل في هذا القسم أيضا، بيانه أنّ المستفاد من الخبر و لو علّق الحكم فيه صورة على عنوان المستعجل كونه معلّقا لبّا على الأعمّ، و هو أنّه كلّما كان وجود السورة مانعا عن الوصول إلى غرض عقلائي إمّا ديني و إمّا دنياوي فقد رفع عنه الوجوب، لا بواسطة المزاحمة حتّى يقال: يحتاج إلى إحراز الأهميّة في ذلك الغرض، بل لأجل ضيق الموضوع في جانب السورة بحسب أصل المصلحة الوجوبيّة، غاية الأمر أنّه إن كان ذاك الغرض الذي صار بقبال وجودها غير واجب شرعا جاز للمكلّف تفويته بقراءة السورة و إن كان واجبا كذلك فهو محكوم عقلا بعدم جواز تفويته الواجب الشرعي على نفسه.

إذا عرفت ذلك فنقول: هنا مجعولات من قبل الشارع لا يمكن المكلّف الجمع بينها، و لا محيص له عن رفع اليد من بعضها، و تلك المجعولات عبارة عن الحمد و الركوع و كذا و كذا، و الوقت، و هذه لم يقيّد عقد موضوع المصلحة الوجوبيّة فيها بعدم الممانعة الوجوديّة عن شي ء، و منها السورة، و هذه قد أخذ في عقد موضوعها أن لا يكون للمكلّف حاجة عقلائيّة كان قراءة السورة مانعة عن الوصول إليها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 28

فإذا فرضنا أنّ الاشتغال بالسورة مانع عن إدراك تلك المجعولات المطلقة و موجب لفوت واحد منها لا محالة فمقتضى الخبر أنّ الوجوب مرتفع عنها حينئذ، و إذا

صارت مرتفعة الوجوب لزم بحكم العقل اختيار عدمها لئلّا يفوت الواجب المطلق المضيّق وقته.

ثمّ هذا كلّه في صورة معلوميّة الضيق، و لو شكّ في الضيق و السعة فيمكن التمسّك حينئذ أيضا بذيل قوله في بعض تلك الأخبار عطفا على عنوان الإعجال:

«أو تخوّف شيئا» حيث إنّ من المعلوم عدم كون المراد منه الخوف بمعنى التوحّش النفساني، بل المقصود هو الشكّ.

فالمعنى- و اللّٰه العالم- أنّه لا بأس بترك الرجل في الفريضة قراءة السورة في حالين، إحداهما حال الاستعجال لحاجة عقلائيّة، و الأخرى حال كونه شاكّا في إدراك الحاجة العقلائيّة لو قرأ السورة.

لا يقال: إنّ استصحاب بقاء الوقت بمقدار جميع الصلاة يرفع هذا الشكّ.

لأنّا نقول: الاستصحاب إنّما ينفع في مقام كان الأثر لنفس الواقع و كان الشكّ بعنوان الطريقيّة، و أمّا [لو] كان الأثر لنفس صفة الشكّ فالاستصحاب غير نافع لرفع الصفة النفسانيّة.

و الحمد للّٰه أوّلا و آخرا.

1349.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 29

اعتبار الترتيب بين الحمد و السورة

و يجب الترتيب بين الحمد و السورة، و لا إشكال في أصله، و المقصود التكلّم في ما يتفرّع عليه، و هو ما إذا خالف الترتيب و أتى بالسورة مقدّمة على الحمد، فللمسألة صور.

الاولى: أن يفعل ذلك عامدا عالما.

و الثانية: أن يفعله جاهلا بالحكم.

و الثالثة: أنى يفعله ساهيا في الموضوع.

أمّا الصورة الأولى فقد حكموا فيها بالبطلان، معلّلين تارة بأنّه زيادة عمديّة، و اخرى بأنّه كلام محرّم، لكونه قد أتى به على وجه التشريع.

و الحقّ أن يقال: إن قلنا بأنّ الترتيب معتبر في الصلاة في عرض الأفعال فاللازم هو البطلان، لأنّه قد أخلّ بهذا الواجب، و لا يمكن تداركه، لأنّ السورة وقعت جزءا للصلاة، و الترتيب المعتبر هو ما كان بين السورة التي هي جزء للصلاة،

و بين الحمد، فإذا وقعت مقدّمة فلا يمكن حفظ الترتيب، و يكون وجه البطلان على هذا هو النقيصة العمديّة.

لكن لازم هذا المبنى عدم وجوب تدارك السورة بعد قراءة الحمد في حال السهو أيضا، و لا يلتزمون به.

و إن قلنا بأنّه أخذ قيدا في الأفعال بمعنى أنّ السورة الخاصّة مثلا جزء للصلاة و كذلك الركوع الخاصّ و السجود الخاصّ و هكذا، أعني ما كان منها واجدا للترتيب، فاللازم حينئذ بقاء محلّ التدارك للسورة، لأنّ ما أتى به لغو، و ليس

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 30

ممّا اعتبر جزءا للصلاة، لفقدانه الخصوصيّة المعتبرة فيه، و لكن ليست زيادة أيضا، لأنّ صرف الوجود لا يتّصف بالزيادة فإنّ الزيادة وصف لثاني الوجود.

نعم بعد الإتيان بالسورة ثانيا يلحق وصف الزيادة للوجود الأوّل، و أين هذا من إيجاد الزيادة، فلا يمكن الحكم بالبطلان من هذه الجهة، كما لا وجه من جهة النقيصة، لأنّ الفرض حصول التدارك بإتيان السورة ثانيا، و أمّا كون السورة المقدّمة كلاما محرّما بالعنوان الثانوي و هو التشريعيّة فلا وجه لعدّه من المبطلات، و أيّ فرق بينه و بين النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة.

و الحاصل أنّ النهي إذا كان متعلّقا بأمر خارج عن العبادة و أجزائها فلا يوجب الفساد، و ها هنا من هذا القبيل، و قد مرّ نظيره في الإتيان ببعض الأجزاء رياء، ثمّ التدارك بإتيانه بقصد القربة، و بالجملة فعلى هذا المبنى لا نعلم ما وجه الحكم بالبطلان.

فإن قلت: يمكن أن يكون الوجه إضراره بالاستدامة الحكميّة المعتبرة في النيّة، حيث إنّه مشرّع، و المشرّع غير قاصد للامتثال، و العبادة ما كان معتبرا فيه قصد الامتثال ابتداء و استدامة.

قلت: مضافا إلى إمكان عدم منافاته مع

قصد الامتثال بأن كان التشريع في الخصوصيّة بعد حصول أصل التحرّك إلى الطبيعة بدعوة الأمر نقول: هذا إنّما يسلّم إذا كان ذلك من قصده في أوّل الأمر بأن قصد الإتيان بالصلاة المأتيّ بها على خلاف الترتيب المقرّر.

و أمّا لو كان قصده من الأوّل الصلاة الشرعيّة، ثمّ بدا له بعد التكبيرة أن يأتي بالسورة مقدّمة على الحمد فأتى، ثمّ بدا له و قرأ الحمد و تدارك السورة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 31

فلا مانع فيه من حيث الاستدامة الحكميّة أيضا، لأنّه في جميع آنات اشتغاله بأفعال الصلاة متحرّك بالأمر الشرعي، لا التشريعي، و ما صدر منه بالأمر التشريعي خارج عن الأفعال الصلاتيّة، و ليس حاله إلّا كحال من عزم على الخروج من الصلاة حين عدم اشتغاله بفعل من الأفعال ثمّ بدا له و أتى بالبقيّة، فإنّ الأقوى صحّة صلاته.

و يمكن أن يقال في وجه البطلان بناء على المبنى المذكور بأنّه قد أتى بالجزء الصلاتي محرّما بالعنوان الثانوي، و كلّما أتى بجزء من أجزاء الصلاة محرّما بأحد من العناوين الثانوية مثل التشريع و الرياء و غيرهما فالصلاة باطلة.

بيان ذلك أنّ من المسلّم بينهم رضوان اللّٰه عليهم أنّ من المبطلات عنوان الماحي لصورة الصلاة، و لم يرد بذلك نصّ في آية أو رواية، و لا دلّ عليه ظاهر دليل، و لا يكون عنوان المحو في ذاته منافيا مع العباديّة، لأنّا نقطع بعدم إضراره في باب الوضوء و الغسل، مع أنّهما أيضا من العبادة، فلو وثب في أثناء الوضوء مثلا، أو تكلّم مع الغير بحيث انمحى صورة الوضوء عنه عرفا مع بقاء الموالاة المعتبرة كفى في الصحّة قطعا.

و بالجملة فعنوان المحو ما لم يعتبر عدمه في العبادة اعتبارا

شرعيّا ليس وجوده مبطلا لها، و المفروض عدم الإشارة إلى هذا التقييد في الكتاب و السنّة، فينحصر الوجه فيه أنّ أذهان المتشرّعة من حيث هم متشرّعة حاكمة باعتبار قيد الاتّصال بين أجزاء الصلاة، بحيث يخلّ به تخلّل مثل الوثبة و السكوت الطويل في أثنائها، و ليس أمر هذا الاتّصال المعتبر بحسب ارتكازهم تحت ضابط معلوم، فإنّ البكاء لأمر دنياوي مضرّ، و عين ذلك البكاء إذا كان لأمر الآخرة غير مضرّ، و المعيار لزوم الاتّصال بين الأجزاء الصلاتيّة و عدم قطع اللاحق من السابق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 32

بحسب وجدان المتشرّعة.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا يبعد دعوى أنّ من موارد الحكم بعدم الاتّصال المذكور ما إذا تخلّل بين الأجزاء الصلاتيّة وجود سنخ الأجزاء المذكورة بعنوان الجزئيّة، لكن على وجه العصيان و التمرّد و الطغيان على اللّٰه تعالى شأنه، و الفرق بينه و بين ما إذا حصل التمرّد بفعل خارجي غير مرتبط بالصلاة، فإذا أتى بالسورة رياء بعنوان القرآنيّة لا يضرّ، و إذا أتى بها كذلك بعنوان الصلاتيّة كان مضرّا، و الحكم الرجوع إلى وجدان المتشرّعة، هذا تمام الكلام في صورة العمد.

و أمّا صورة الجهل بالحكم التي هي الصورة الثانية فإن قلنا باعتبار الترتيب في الصلاة في عرض أفعالها فاللازم البطلان بواسطة النقص و عدم العفو عنه مع الجهل بالحكم، فإنّ عموم لا تعاد غير شامل إلّا للجهل و السهو في الموضوع كما حقّق في محلّه و أشير إليه في أوّل هذا المبحث.

و إن قلنا باعتباره قيدا في الأفعال فاللازم الحكم بالصحّة، فإنّ الوجه الأخير الذي أشرنا إليه في الصورة السابقة غير جار هنا، لعدم طروّ عنوان التشريع مع فرض الجهل بالحكم و زعم كونه

مشروعا.

بقيت الصورة الثالثة و هي ما إذا خالف الترتيب ساهيا، و لا إشكال في أصل الصحّة و عدم الفساد، و هل يجب عليه تدارك السورة بعد إتمام الحمد أو يكفي السورة السابقة وجهان مبنيّان على القول بكون الترتيب معتبرا في الصلاة أو في إعمالها، فعلى الأوّل يتعيّن الثاني، لفقد محلّ تدارك المنسيّ، أعني الترتيب، لأنّ محلّه صرف الوجود للسورة، و قد أتى بخلاف الترتيب، و لا يمكن تكراره، فيكون معفوّا بعموم لا تعاد، و على الثاني يتعيّن الأوّل، لبقاء محلّ التدارك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 33

و أمّا رواية قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام «قال: سألته عن رجل افتتح الصلاة فقرأ سورة قبل فاتحة الكتاب، ثمّ ذكر بعد ما فرغ من السورة، قال عليه السّلام: يمضي في صلاته و يقرأ فاتحة الكتاب في ما يستقبل» «1» فيحتمل أن يكون المراد أنّه لا يقرأ الفاتحة في هذه الركعة، بل في الركعة المستقبلة.

و يحتمل أن يكون المراد قراءة الفاتحة وحدها بلا سورة في هذه الركعة.

و يحتمل أن يكون من باب العطف التفسيري لقوله عليه السّلام: يمضي في صلاته، فالمعنى أنّ كيفيّة مضيّه شروعه في قراءة فاتحة الكتاب و جعل ما تقدّم لغوا، و لازمة قراءة السورة بعد الفاتحة، فإن لم نقل بظهورها في الأخير فلا أقلّ من الإجمال و عدم الدلالة، و حينئذ فإذا لم يكن على أحد الطرفين دليل فالمرجع هو الأصل العملي و هو استصحاب التكليف بالسورة بعد قراءة الحمد الثابت قبل الشروع في السورة المقدّمة.

قراءة السورة الطويلة المفوّتة للوقت

و لا يجوز قراءة السورة الطويلة المفوّتة لوقت الفريضة على المشهور، بل عن بعض نسبته إلى الأصحاب، و كذلك بطلان الصلاة،

و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين قصد الجزئيّة بها و عدمه، و العمدة النظر في مقتضى القواعد، ثمّ في ما يستفاد من النصّ الوارد في المقام.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 28 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 34

فنقول: أمّا الأوّل، فاعلم أنّ المسألة من صغريات مبحث الضدّ، فإنّ السورة منافية للوقت الذي هو واجب.

فإن قلنا: إنّ الأمر بأحد الضدّين يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ فاللازم هنا تعلّق النهي بالسورة الطويلة، و أمّا بطلان الصلاة فإن قصد بها الجزئيّة من أوّل الأمر على وجه يرجع إلى عدم قصد الامتثال، فلا إشكال في البطلان و إن قصد الجزئيّة، لكن حين الشروع في السورة أو من الابتداء، لكن على وجه تعدّد المطلوب، كما تقدّم نظيره في المسألة السابقة، فالحكم بالبطلان مبنيّ على الكلام في المسألة السابقة، فإنّ تمام ما قلناه هناك جار ها هنا حرفا بحرف، فراجع، بل هذه من صغرياتها، لأنّه مشرّع في إتيان السورة كما كان كذلك هناك بواسطة مخالفة الترتيب.

و إن قلنا بأنّ الأمر بأحد الضدّين لا يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ لإنكار المقدّميّة بين وجود أحد الضدّين و عدم الآخر كالعكس، و لكن يستلزم عدم الأمر بالضدّ الآخر، فاللازم عدم تعلّق النهي بالسورة المذكورة، و لكنّ الصلاة المشتملة عليها أيضا ليست بمأمور بها، فيتحقّق التشريع أيضا لو قصد الإتيان بها بعنوان الجزئيّة و المأمور بهيّة، فيجري فيه أيضا الكلام المتقدّم حرفا بحرف.

كما أنّه لو أتى بها لا بقصد الجزئيّة فلا وجه للبطلان مطلقا، و كذلك لو قصد الجزئيّة لكن بداعي الرجحان الذاتي و قلنا بكفاية مثله في العباديّة و عدم الحاجة إلى قصد الأمر، بل و كذلك لو

قصد الأمر الشرعي الموجود بحسب أصل التشريع.

و حينئذ فإن ضاق الوقت عن مجموع الصلاة و لكن وسع بمقدار ركعة دخل في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 35

مصاديق من أدرك و يحكم بصحّة صلاته من هذه الجهة و إن كان قد عصى بواسطة تحصيل عنوان الاضطرار لنفسه، و إن ضاق و لم يسع الركعة أيضا كانت الصلاة صحيحة ملفّقة من الأداء و القضاء مستفادة صحّتها من جمع دليلي الأداء و القضاء، و قد تقدّم شرح ذلك في بعض الأبحاث السابقة، هذا هو الكلام حسب مقتضى القاعدة.

و أمّا النصّ الوارد في المقام فروايتان:

إحداهما: ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده عن سيف بن عميرة عن عامر بن عبد اللّٰه «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: من قرأ شيئا من الحم في صلاة الفجر فاته الوقت» «1».

و الثانية: ما رواه أيضا بذلك السند عن سيف المذكور عن أبي بكر الحضرمي «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث: لا تقرأ في الفجر شيئا من الحم» «2».

و إطلاق هذا الأخير منزّل على صورة تفويت الوقت بقرينة الخبر الأوّل، و السند مجبور بالاشتهار و الاتّفاق المحكيّ.

و أمّا الدلالة فقد نوقش فيها بأنّ الظاهر من الوقت وقت الفضيلة، لأنّهم كانوا مواظبين على إتيان الصلوات في أوائل الأوقات، فلا بدّ من حمل هذا النهي على التنزيه و الكراهة.

و فيه أنّ ذلك لا يمنع من حمل النهي على المعنى الجامع الذي ينطبق في مورد تفويت وقت الفضيلة على الكراهة و في مورد تفويت وقت الإجزاء على التحريم،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 44 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 44 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث

2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 36

فإنّه يعلم منه أنّ الشارع لا يرضى بفعل السورة الموجب لفوات الوقت، و لا محالة يتفاوت مرتبة عدم رضائه باختلاف مطلوبيّة الوقت، فإن كانت بدرجة الاستحباب كان عدم رضائه كراهة، و إن كانت بدرجة الوجوب كان عدم رضائه تحريما.

و بالجملة، فالخدشة المذكورة غير واردة.

نعم يمكن أن يخدش في ظهور هذا النهي في المولويّة، بيان ذلك أنّه إذا تعلّق أمر مولوي بعنوان من العناوين فهذا الفعل بالعناوين الثانويّة مثل إطاعة الأمر و نحو ذلك يتحقّق فيه الداعي العقلي، و لا يحتاج إلى إيجاد أمر مولوي، فأوامر الإطاعة لو فرض إمكان مولويّتها و سلامتها عن محذور التسلسل اللازم على تقدير كونها مولويّة على ما بيّن في محلّه لا يحمل مع ذلك على المولويّة و إرادة الجامع بين الاستحباب و الوجوب حسب اختلاف المقامات بواسطة عدم ظهورها في هذا المقام في المولويّة.

و كذلك الأوامر الواردة بعنوان الاحتياط بالنسبة إلى موارد العلم الإجمالي لا يحمل على المولويّة مع قبول المحلّ لذلك حتّى يكون المرتكب في الشبهة التحريميّة و التارك في الوجوبيّة عاصيا لثلاثة نواهي أو أوامر.

و كذلك الأوامر في أخبار من بلغ لا يحمل على المولويّة حتّى يستفاد منها الاستحباب الشرعي مع قبول المحلّ لذلك، و لذلك قال به بعض، و ليس ذلك إلّا لأنّ نفس الأمر الواقعي في أطراف العلم كاف للبعث عند العقل، فلا يحتاج إلى إيجاد الأمر المولوي متعلّقا بعنوان المحتمل، و كذلك نفس رجاء الأمر الواقعي كاف للانبعاث نحو الإتيان بدون حاجة إلى جعل استحباب شرعي متعلّق بعنوان من بلغ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 37

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الأمر بأحد الضدّين كما أنّه كاف للباعثيّة العقليّة نحو

فعل ذلك الضدّ، كذلك كاف للزاجريّة كذلك عن الضدّ الآخر، فإذا ورد في لسان الشرع نهي عن الضدّ الآخر فحال هذا النهي حال أوامر الاحتياط و أوامر من بلغ في كونه محمولا على الإرشاد دون المولويّة.

و ممّا ذكرنا يظهر عدم جواز حمل النهي الموجود في المقام على الوضع و إفادة المانعيّة أيضا، فإنّ الظاهر كونه لمحض الإرشاد إلى الضدّ الأهمّ من دون إعمال تعبّد في هذا الضدّ الآخر لا بوجه التكليف و لا الوضع، و المقصود التنبيه على أنّ وقت فضيلة الفجر ضيّق لا يسع مقدار قراءة الحم، فنهى عن القراءة للإرشاد إلى إدراك فضيلة الوقت كما هو المرسوم عند أهل العرف، حيث إنّهم إذا رأوا شخصا موظّفا بشغل مشغولا بضدّه الذي لا يمكن معه الإتيان بشغله يقولون له: مالك و هذا الاشتغال بعنوان أنّ عليك الإقبال على شغلك و ليس لك مجال حتّى تصرف الوقت في أضداده و منافياته.

عدم جواز قراءة العزيمة في الفريضة

و لا يجوز قراءة إحدى سور العزائم في الفريضة، دون النافلة على المشهور، بل استفاض عليه نقل الإجماع، و الأصل فيه الأخبار.

منها: خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام «قال عليه السّلام: لا تقرأ في المكتوبة بشي ء من العزائم، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب لقراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 38

و منها: موثّق سماعة «قال: من قرأ: اقرأ باسم ربّك فإذا ختمها فليسجد، إلى أن قال عليه السّلام: و لا تقرأ في الفريضة و اقرأ في التطوّع» «1».

و منها: موثّق عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يقرأ في المكتوبة سورة فيها سجدة من العزائم «فقال عليه السّلام: إذا بلغ موضع السجدة

فلا يقرؤها، و إن أحبّ أن يرجع فيقرأ سورة غيرها و يدع التي فيها السجدة، فيرجع إلى غيره» «2» الحديث.

و منها: رواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم، أ يركع بها أو يسجد، ثمّ يقوم فيقرأ غيرها؟ قال عليه السّلام:

يسجد، ثمّ يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب و يركع، و ذلك زيادة في الفريضة، و لا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة» «3».

و الكلام تارة في سند هذه الأخبار، و اخرى في دلالتها، و ثالثة في معارضاتها.

أمّا الأوّل فالظاهر أنّها من قسم الموثّق، لورود التمسّك بها في كلام الأصحاب، و ذلك ممّا يجبر ضعفها لو كان، و عدم اعتناء صاحب المدارك قدّس سرّه بها مبنيّ على أصله المحجوج من عدم العمل في الأخبار الآحاد إلّا بالصحيح الأعلائي، و أمّا على ما هو المختار من تعميم الحجّية بالنسبة إلى مطلق الموثوق بالصدور كما حقّق في الأصول فلا وجه للخدشة فيها من حيث السند.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 39

و أمّا الثاني فاعلم أنّ الاحتمالات في هذه النواهي أيضا كالنهي الموجود في المسألة السابقة ثلاثة:

الأوّل: أن تكون مولويّة مفيدة للتحريم الاستقلالي النفسي.

و الثاني: أن تكون مولويّة مفيدة للتحريم الوضعي، أعني: المانعيّة.

و الثالث: أن تكون إرشاديّة، و الظاهر منها هو الأخير، لنظير ما تقدّم في المسألة السابقة.

بيانه أنّه لا إشكال في أنّ الزيادة العمديّة في الفريضة محرّمة بحسب الجعل الأوّلي، و التسبيب إلى المحرّم الذاتي

بما يكون علّة للوقوع فيه من دون بقاء اختيار للمكلّف حرام عقلا، لما قرّر في مبحث مقدّمة الحرام، حتّى لو فرض تبدّل عنوان التحريم إلى الوجوب لعارض بعد إيجاد سبب وقوعه.

مثلا شرب الخمر محرّم ذاتي لم يقيّد في حرمته الذاتيّة عدم الاضطرار، غاية الأمر أنّه لو حصل الاضطرار من غير ناحية التكليف فهو معذور، و أمّا لو أوجد هو باختياره أسباب الاضطرار إلى الشرب كما لو مشى إلى مكان ينجرّ أمره إلى الإلجاء إلى الشرب، و أنّه لو لم يشربه لهلك نفسه لتوعيد ظالم مثلا إيّاه بالقتل لو لم يشرب و كان عالما بذلك، فهو و إن كان بعد المشي إلى ذلك المكان مكلّفا بالشرب حفظا لنفسه، و لكنّه معاقب أيضا بسوء اختياره الذي أعمله في المقدّمات.

و هكذا الكلام في من توسّط أرضا مغصوبة لو قلنا بمقدّميّة الخروج للتخلّص عن الغصب الزائد، فإنّه منهيّ أوّلا عن جميع أنحاء الغصب دخولا و خروجا، و بعد العصيان و الدخول يجب عليه الخروج، للمقدّميّة حسب الفرض، و لكنّه معاقب عليه أيضا، لأنّه مختار في إيجاد مقدّمته.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 40

و على هذا فنقول: إنّ قراءة سورة العزيمة في المكتوبة تسبيب إلى أحد الأمرين، بحيث لا ينفكّ المكلّف عقيب الفراغ منها عن أحدهما، و لا يبقى له الاختيار في الاجتناب عنهما، لأنّه إمّا أن يؤخّر السجدة إلى ما بعد الصلاة، و هذا تأخير للواجب الفوري، و إمّا يأتي بها في أثناء الصلاة، و هذا إتيان للحرام الذاتي أعني: الزيادة العمديّة الموجبة لبطلان الصلاة، و لا ينافي محرّميّته الذاتيّة اتّصافه بالوجوب العرضي، كما مثّلنا به في المثالين، فيكون قراءة السورة محرّمة، لكونها علّة مستلزمة للحرام.

إذا عرفت ذلك فنقول:

إذا ورد على لسان الشارع النهي عن قراءة العزيمة معلّلا بأنّه موجب لوقوع السجود الذي هو زيادة في المكتوبة، فهذا النهي ظاهر في عدم كونه مسوقا للمنع الوضعي في نفس القراءة، بل يمكن ادّعاء صراحته بالنسبة إلى ذلك، و أنّه إنّما هو لأجل المنع الوضعي في السجود المترتّب عليه.

و أمّا احتمال كونه للتحريم النفسي فهو أيضا خلاف الظاهر بالبيان الذي تقدّم نظيره في السابق من أنّه إذا كان النهي واردا في مقام يكون الزاجر في نفس العبد موجودا من قبل عقله كما بيّنّا وجوده في المقام فهذا النهي ظاهر في الإرشاد، و لا ظهور له في المولويّة.

نعم فرق بين ما نحن فيه و المسألة السابقة من حيث إنّ النهي هناك كان للإرشاد الصرف إلى الضدّ الآخر من دون كراهة بالنسبة إلى الضدّ المتعلّق للنهي في نفس المولى أصلا، لعدم المقدّميّة بين الضدّين، و أمّا هنا فبابه باب المقدّمة و في نفس المولى الكراهة المقدّميّة موجودة قهرا.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ هنا مانعين للصلاة، أحدهما بالعنوان الأوّلي، و هو منحصر في السجود للتلاوة، و الثاني بالعنوان الثانوي، و هو قراءة السورة بناء على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 41

ما أسلفناه من مانعيّة كلّ محرّم أتى به بعنوان الصلاة، و قد سبق كون القراءة محرّمة من باب العلّيّة و الاستلزام للوقوع في أحد المحرّمين، فالإتيان بها بعنوان الصلاة محرّم لذلك و للتشريع.

و على هذا فإن كان عالما بإيجاب السورة للسجدة و فوريّتها، كان هذا النهي فعليّا في حقّه، و يوجب البطلان و لو لم يأت بالسجدة.

و أمّا إذا كان جاهلا إمّا في إيجابها السجدة، و إمّا لفوريّتها بجهل قصوري فلا يكون النهي فعليّا، فلا بطلان.

نعم لو التفت

بعد الفراغ من السورة إلى وجوب السجدة فورا فإن أتى بها أبطلت صلاته، و إن عصى و لم يأت فلا بطلان أيضا، لأنّ المبطل وجود السجدة، لا وجوبها، و المفروض عدم وجودها.

بيان ذلك أنّ مدلول الرواية النهي عن قراءة السورة معلّلا بكون السجدة زيادة، و حاصله بناء على ما تقدّم أنّ القراءة موجبة للوقوع بين المحذورين الذاتيّين، و الفعل الذي هذا شأنه لا بدّ أن لا يرتكبه الإنسان، فالمقصود بالإفادة بيان هذا المعنى، و التنبيه على كون السجود زيادة يكون توطئة لذلك بعد ارتكازيّة فوريّة وجوب السجدة و حرمة تأخيرها.

و على هذا فلا يستفاد من الرواية أنّ الحكم عند الدوران بين هذين المحذورين تقديم أيّهما، كما في ما فرضناه من المثال أعني: صورة عدم تحقّق التشريع بإتيان القراءة و عدم طروّ البطلان على الصلاة من ناحية قراءتها، فإنّ الأمر حينئذ يدور بين أن يسجد فيبطل الصلاة مع كون قطعها محرّما بحسب أصل التشريع، و أن يؤخّرها مع كونه أيضا كذلك.

و إذا لم نفهم من الرواية حكم تقديم السجود و إيجابه، فلا بدّ من الرجوع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 42

إلى ما يقتضي القواعد، و المقام من قبيل الدوران بين المطلوبين النفسيّين، و حكمه التخيير مع عدم إحراز الأهميّة و تقديم الأهمّ مع إحرازه، و لو فرض إحراز أهميّة السجود من الخارج و عصى و أتى بالصلاة و أخّر السجود فهو مبنيّ على مسألة الضدّ، و قد حقّق فيها الحكم بالصحّة إذا أتى بالعبادة بداعي الرجحان الذاتي.

و ليس المقام من قبيل الدوران بين أجزاء المركّب المأمور به و عدم إمكان الجمع بينها، حيث قلنا في بعض المباحث السابقة: إنّ مقتضى القاعدة العقليّة سقوط المركّب رأسا،

فإن علم من الخارج عدم سقوطه فالمقام من دوران الأمر عند احتمال الأهميّة و عدم قطع المساواة بين التعيين و التخيير الشرعيّين، و المرجع فيه الاحتياط.

و الحاصل: تارة يقال: مدلول الرواية أنّه: لا تقرأ العزيمة في المكتوبة، لأنّه لو قرأتها يجب عليك أن تأتي بالسجود، و إذا أتيت به يوجب بطلان صلاتك، لكونه زيادة عمديّة.

و اخرى يقال: مدلولها: لا تقرأ المكتوبة، لأنّ السجود لو أتيت به يكون زيادة عمديّة، و حيث إنّ محذوريّة عدم إتيانه إلى ما بعد الصلاة كان ارتكازيّا فالمعنى أنّه يوجب الوقوع في أحد المحذورين.

فالمدّعى أنّ الرواية أوّلا ليست بظاهره في المعنى الأوّل، بل مردّد بينهما، و ليس في المعنى الثاني مخالفة لظاهرها، و ثانيا لو سلّمنا الظهور في المعنى الأوّل فغايته الحكم بأهمّية السجود بالنسبة إلى إتمام الصلاة و عدم قطعها، و على كلّ تقدير لا يلزم بطلان صلاة من قرأ العزيمة على غير وجه التشريع و أتمّ صلاته بدون سجود التلاوة في الأثناء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 43

فتحقّق أنّ إتيان العزيمة في الفريضة يكون على وجهين.

الأوّل: على وجه التشريع، و هو لا يتحقّق إلّا بالنسبة إلى من علم بأنّها محرّمة، لاستلزامها للوقوع في أحد المحذورين.

و الثاني: على غير وجه التشريع، و هو يتحقّق بالنسبة إلى الناسي أو العالم بعدم وجوب السجدة أو وجوبها، لا على وجه الفوريّة.

ففي القسم الأوّل يتحقّق البطلان بنفس قراءة العزيمة حسب ما أسلفنا، و في الثاني يتحقّق البطلان لو أتى بالسجدة، و أمّا لو لم يأت و أتمّ الصلاة فمقتضى القاعدة هو الصحّة، هذا كلّه بالنسبة إلى من قرأ العزيمة بتمامها أو إلى ما بعد آية السجدة.

و أمّا لو قرأها إلى ما قبل الآية المذكورة

و قد كان عازما من الأوّل على الإتمام، و الحاصل أنّه كان متجرّيا بالإقدام على الفعل المحرّم، و لكن قبل الوصول إلى الآية ندم و أمسك عن القراءة ففي صحّة صلاته و بطلانها وجهان إذا لم يكن هذا من قصده من حين الشروع في الصلاة على وجه يرجع إلى عدم قصد الامتثال، و إلّا فالمتعيّن البطلان.

وجه البطلان في الصورة المزبورة دعوى إلحاق التجرّي بالمعصية الحقيقيّة في الاندراج تحت عنوان الماحي، وجه العدم عدم ثبوت ذلك، و حينئذ فلا إشكال في الصحّة لو لم يتجاوز النصف، لأنّه يعدل حينئذ إلى سورة أخرى غير العزيمة، و شبهة حرمة القران بين السورتين و خصوصا تعميمه للجمع بين سورة و بعض اخرى و إن كان يشهد له قوله في بعض الروايات: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر، ضعيفة، لأنّ الحقّ كراهته كما يأتي في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى، و لو تجاوز النصف فكذلك يقوي الصحّة، لأنّ النهي عن العدول يمكن دعوى انصرافه إلى ما إذا أمكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 44

إتمام السورة المعدول عنها، فلا يشمل المقام.

بقي الكلام في الأخبار المعارضة.

فمنها: حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقرأ بالسجدة في آخر السورة؟ «قال عليه السّلام: يسجد، ثمّ يقوم فيقرأ فاتحة الكتاب، ثمّ يركع و يسجد» «1».

و منها: موثّق سماعة «قال عليه السّلام: من قرأ اقرأ باسم ربّك فإذا ختمها فليسجد، فإذا قام فليقرأ فاتحة الكتاب و ليركع، قال عليه السّلام: و إذا ابتليت بها مع إمام لا يسجد فيجزئك الإيماء و الركوع» الحديث «2».

و منها: رواية وهب بن وهب عن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عليهما

السّلام أنّه «قال عليه السّلام:

إذا كان آخر السورة السجدة أجزأك أن تركع بها» «3».

و منها: رواية محمّد عن أحدهما عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يقرأ السجدة فينساها حتّى يركع و يسجد «قال عليه السّلام: يسجد إذا ذكر إذا كانت من العزائم» «4».

و منها: رواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم، أ يركع بها أو يسجد ثمّ يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال عليه السّلام:

يسجد ثمّ يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب و يركع، و ذلك زيادة في الفريضة، و لا يعود يقرأ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 37 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 39 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 45

في الفريضة بسجدة» «1».

و بالإسناد «قال: و سألته عن إمام يقرأ السجدة فأحدث قبل أن يسجد كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: يقدّم غيره فليسجد و يسجدون و ينصرف و قد تمّت صلاتهم» «2».

و نقل في الجواهر متنها هكذا: عن إمام قرأ السجدة فأحدث قبل أن يسجد، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: يقدّم غيره فيتشهّد و يسجد و ينصرف هو و قد تمّت صلاتهم.

و هذه الأخبار و إن كان لا صراحة بل و لا ظهور في واحد منها في حكم أصل القراءة و أنّه الرخصة أو المنع، لإمكان حملها على صورة وقوع ذلك لبعض العوارض كالتقيّة أو النسيان، فلا معارضة فيها مع ما تقدّم من حيث هذه الجهة، و لكن لا يخفى ظهورها،

بل صراحة بعضها في أنّه يجب فعل السجدة في أثناء الصلاة، و لا يبطل الصلاة بسبب ذلك، غاية الأمر في بعضها الحكم بقراءة فاتحة الكتاب بعد القيام من السجود ليتحقّق الركوع عن قراءة، و في بعضها جواز الركوع بنفس تلك السورة و عدم الاحتياج إلى القراءة الأخرى حتّى يكون الركوع بالقراءة الأخرى، فيحمل لأجله الطائفة الأولى على استحباب القراءة الجديدة.

و على كلّ حال فهي متّفقة في الحكم بأصل صحّة الصلاة و عدم إيراث سجدة التلاوة في أثنائها خللا فيها.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 46

و بعضها و إن كان بحسب الصورة مطلقا غير مصرّح بالفريضة، و لكن بعضها كروايات عليّ بن جعفر مصرّح بذلك، بل و مع ذلك حكم في الرواية الاولى من رواياته بكون السجدة زيادة في المكتوبة، فقد جمع فيها بين الحكم بصحّة الصلاة و بين الحكم بكونها زيادة في المكتوبة.

و القول بأنّه لعلّ ذلك لاغتفار الإعادة بسبب الجهل بالحكم، مدفوع بأنّ الجهل يوجب اغتفار القراءة، و أمّا السجدة فالمفروض بحسب تعيين الإمام عليه السّلام تكليفه وقوعها في حال العمد و العلم، فلا وجه لاغتفار مبطليّتها بمجرّد وقوع سبب وجوبها عن سهو أو عن جهل.

فإن قلت: نعم لا يؤثّر ذلك في خروج السجدة عن الاتّصاف بالعمديّة، و لكن حيث إنّ وصف زيادتها ليس على وجه الحقيقة، لأنّ الزيادة الحقيقيّة ما كان من سنخ الأجزاء الصلاتيّة قد أتى به بعنوان الجزئيّة و كونه من الصلاة، فلا يشمل مثل السجدة التي يكون المقصود بها السجدة للتلاوة، لا السجدة الصلاتيّة، فيكون التعبّد

بالزيادة من باب التنزيل، فيمكن الاقتصار في هذا التنزيل على مورد وقوع سببها بغير وجه السهو، نعم لا يمكن التقييد بالعلم بالحكم، لأنّه مستلزم للدور أو التصويب.

قلت: أوّلا: إنّ الإمام عليه السّلام حكم بكون هذا الذي يأتي به في مفروض السؤال زيادة في المكتوبة.

و ثانيا: بناء على حمل مفروض السؤال على السهو و الغفلة و النسيان لا يبقى معنى لقوله عليه السّلام: لا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة، إذ المعنى على هذا التقدير المنع عن العود إلى السهو و أمثاله، و هو كما ترى، فهذا شاهد على أنّ المفروض في السؤال وقوع ذلك على وجه التعمّد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 47

و منه يظهر أنّه لا يمكن حمله على وجه التقيّة، إذ لا يصحّ قوله عليه السّلام: لا يعود، بناء عليه أيضا كما هو واضح، بل يتعيّن كونه عمدا بلا تقيّة، غاية الأمر للجهل الحكمي، و قد اعترفت بأنّه لا يمكن أن يكون غاية للتنزيل.

فصار الحاصل أنّه عليه السّلام جمع بين وقوع السجدة في الفريضة بلا حدوث خلل من ناحيتها في الفريضة، و بين التنزيل منزلة الزيادة العمديّة، فهذا يكون شاهدا على عدم إرادة البطلان من التعليل المتقدّم في بعض أخبار النهي على ما تقدّم هنا من استفادة ذلك منه.

و حينئذ فإمّا يقال في مقام الجمع بأنّ الإمام عليه السّلام أعرض أوّلا عن مورد السؤال و بيّن حكم مورد يكون القراءة فيه مجوّزة، و هو النافلة، فحكم فيه بالسجدة، ثمّ القيام و القراءة بالفاتحة، ثمّ الركوع، ثمّ شرع في حكم الفريضة، فكأنّه قال: لكن هذا الذي ذكرته لك غير جار في الفريضة، لأنّه زيادة عمديّة مبطلة، و لا يعود إلى قراءة السجدة في العزيمة، يعني

أنّ ما فعله باطل و لا يعود في المستقبل أيضا إلى مثله.

أو يقال بحمل الكلام على بيان مورد السؤال و حمل النهي في قوله:

«لا يعود» على الكراهة، و حمل قوله عليه السّلام «و ذلك زيادة إلخ» على أنّه شبه الزيادة، لا على التنزيل حتّى يكون مفاده ترتيب أثر الزيادة الحقيقيّة.

فإن قلت: فلم لا تقول بحرمة السجدة نفسا لا وضعا، أمّا الأوّل فللأخذ بظاهر الصيغة بدون ما يصرف عنه، و أمّا الثاني فللرواية المتقدّمة عن عليّ بن جعفر الظاهرة كمال الظهور في أنّ الصلاة المفروضة في السؤال صحيحة و لو بعد إتيان السجدة.

قلت: التعليل بأنّها شبه زيادة في الصلاة يناسب كونها مبطلة لها، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 48

لم يمكن حفظ هذا الظهور بواسطة القرينة المتقدّمة فالأقرب إليه هو الحمل على الكراهة، لأجل كونها توجب الحزازة في الصلاة، لا الحرمة النفسيّة، هذا، و لكن القول بالكراهة متروك بين الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم.

هل يجب تعيين السورة عند البسملة

و هل يجب تعيين السورة عند البسملة حتّى لو عيّن سورة ثمّ عدل عنها بعد البسملة يجب إعادة البسملة، و كذا لو بسمل بلا قصد سورة معيّنة، بل بقصد مطلق القرآنيّة لا يجب فيكتفى في كلا المثالين؟

توضيح المقام يحتاج إلى تقديم مقدّمة و هي أنّ الأجزاء المشتركة للمركّبات يكون على أنحاء.

الأوّل: أن لا يكون للقصد في جزئيّتها للمركّب مدخل أصلا، حتّى لو أتى بها بقصد مركّب ثمّ بدا له و جعلها جزءا لمركّب آخر صار كذلك، كما في الخلّ بالنسبة إلى السكنجبين و المركّب الآخر الملتئم من الخلّ و الدبس، فلو وضع الخلّ في الإناء بقصد السكنجبين ثمّ بدا له و وضع عليه الدبس صار ذلك الآخر، و هذا واضح، و هكذا

الحال في قائمة الباب و السرير و نحو ذلك من أجزاء المركّبات الخارجيّة العينيّة.

الثاني: أن يكون للقصد مدخل في جزئيّته، و لكن لا مدخليّة لقصد حكاية ألفاظ الغير، و هذا كما في الأذكار الصلاتيّة غير القراءة، فإنّ قول: «سبحان» الذي هو الجزء المشترك بين الذكر الصغير و الكبير لو أتى به بقصد أحدهما جاز له احتسابه من الآخر بأن يضمّ إليه بقيّة أجزاء الآخر، و هذا أيضا واضح، و القصد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 49

الذي يكون دخيلا في هذا القسم هو قصد الذكر الصلاتي.

الثالث: أن يكون للقصد مدخل مع لزوم كونه قصد حكاية ألفاظ الغير، و هذا كما في القراءة الصلاتيّة، فإنّها لا بدّ أن تقع بعنوان الحكاية عن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين صلّى اللّٰه عليه و آله بلسان عربيّ مبين.

بيان حقيقة القراءة

و لا بدّ هنا من شرح حقيقة هذه الحكاية:

فنقول: إنّ الحكاية لألفاظ الغير تارة يكون تصديقيّة فيتّصف بالصدق تارة و بالكذب اخرى، و هو كما في قولك: قال زيد كذا، و اخرى يكون تصوّرية و لا يتّصف حينئذ بهما، و هي في هذه الجهة مثل النسبة الخبريّة، فإنّها أيضا ذات قسمين، فيكون تصديقيّة تارة، و هي التي تشتمل عليه كلّ قضيّة، و لا يكون في كلّ قضيّة إلّا واحدة و تصوّرية اخرى، و هي التي ينحلّ إليها النسبة التصديقيّة بملاحظة التقييدات في جانب الموضوع أو المحمول، و معيار الصدق و الكذب هو النسبة الاولى الأصاليّة دون الأخيرة الانحلاليّة.

مثلا قولك: زيد العالم جاءني و إن دلّ على قضايا خبريّة انحلالا، إحداها أنّ زيد موجود في الدنيا، و الأخرى أنّه عالم، و الثالثة و هي القضيّة المقصودة بالأصالة

إنّه جاءني، و لهذا قيل: إنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار، إلّا أنّ الصدق و الكذب لا يتعدّد بواسطة هذه النسب، فلو لم يكن الزيد موجودا لا يلزم أن يكون قد كذب ثلاثا، و وجهه ما ذكرنا من أنّ هذه النسب نسب تصوّريّة لا تصديقيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 50

و حينئذ فنقول: هكذا الحال في جانب حكاية اللفظ عن اللفظ، فتارة يكون تصديقيّة، و اخرى تصوّريّة، و الاولى قد عرفت مثالها، و الثانية كما لو تكلّمت بكلام بعنوان حكايتك عن الكلام الصادر عن الغير، فيكون سمت الألفاظ الصادرة منك سمت النقوش في الكتابة في أنّها تحكي عن الألفاظ، و الألفاظ المحكيّة تحكي عن المعاني، فالكاتب يقصد المعاني بواسطتين، كذلك هذا المتكلّم أيضا يقصد بألفاظ نفسه حكاية ألفاظ غيره و يقصد المعاني بتلك الألفاظ المحكيّة، فحال هذه الحكاية حال حكاية الألفاظ عن معانيها و النقوش الكتبيّة عن ألفاظها.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أمر الشارع بقراءة إحدى السور القرآنيّة فاختيار التعيين و إن كان بيد المكلّف و ليس مأمورا بالسورة المعيّنة، إلّا أن امتثاله لا يحصل إلّا بقراءة إحدى المعيّنات المتميّزة كلّ واحدة منها عن غيرها بالمميّزات الشخصيّة التي لا تنطبق إلّا على شخص نفسها، مثلا سورة الجحد عبارة عن القطعة المعيّنة المحدودة بالبسملة الشخصيّة من أوّلها و الكلمة الكذائيّة في آخرها، و هكذا سورة التوحيد و غيرها، و قد فرضنا أنّ قوام الحكاية بجعل اللفظ مشيرا إلى لفظة الغير، و إذا كان ألفاظ السور القرآنيّة مشخّصات معيّنات في أنفسها فلا محيص إلّا عن الإشارة إلى أشخاصها في صيرورة الكلام متّصفا بكونه قراءة للسورة، نعم لا يشترط في اتّصافه بجنس القرآنيّة هذا القصد، بل يكفي الإشارة

إلى البسملة الجامعة بين جميع البسملات التي أنزل بها جبرئيل.

و الحاصل أنّ قراءة البسملة تارة يجب بعنوان قراءة القرآن، و اخرى بعنوان كونها جزءا من إحدى السور، و هذا الأخير لا يصدق إلّا مع قصد التعيين، إذ بدون التعيين و القصد إلى المبهم اللابشرط لا يصدق أنّه قراءة جزءا من هذه أو هذه أو هذه، و المفروض أنّ على عهدتنا قراءة واحدة من هذه المعيّنات بنحو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 51

النكرة و الفرد المردّد.

فحينئذ فالأمر بقراءة واحدة من هذه السور يكون نظير الأمر بالأمر لواحد من أفراد الإنسان، فإنّ الخروج عن امتثال هذا الأمر هل يحصل إلّا بأن يأمر المأمور واحدا معيّنا من الأشخاص الإنسانيّة؟ و هل يكتفى بمجرّد إصدار الأمر إلى واحد لا معيّن بين آحاد معيّنين، فالآمر و إن لم يطلب إلّا النكرة و الفرد المردّد بحيث يصحّ سلب المطلوبيّة عن كلّ واحد واحد من الخصوصيّات، إلّا أنّ المأمور لا مفرّ له عن الامتثال في ضمن أحد المعيّنات.

و هكذا الحال في مقامنا، فإذا قيل: اقرأ واحدة من هذه السور، فلا يحصل امتثال هذا الأمر إلّا بالإشارة و الحكاية الذهنيّة عند التلفّظ بالألفاظ المشتركة بين السور مثل البسملة إلى واحدة معيّنة من تلك السور، فإن قصد الإشارة إلى الذات المبهمة المأخوذة اللابشرط فهو كما لو أمر المأمور في المثال واحدا غير معيّن من الرجال، فكما ليس ذلك امتثالا لقول المولى: مر واحدا من أفراد الإنسان، فكذلك هذا لا يكون امتثالا لقوله: اقرأ واحدة من السور القرآنيّة، إذ من المعلوم أنّ قراءة واحدة معيّنة من المعيّنات لا يتحقّق إلّا بالإشارة إلى تمامها من صدرها إلى ذيلها بخصوصيّاتها المشخّصة لها، فإن أتى ببعض أجزائها

المشتركة بقصد الإبهام و اللاتعيين فقد أخلّ بإكمال السورة الشخصيّة بالنسبة إلى ذلك الجزء، فإنّه قد أشار إلى الجهة الجامعة دون الجهة الخاصّة بهذه السورة المقروءة.

و على هذا فيقوى عدم الاكتفاء بالقصد الإبهامي، كما لا يكتفى بالقصد التعييني للغير.

فإن قلت: إذا قصد الإبهام فلا يخلو إمّا يكون مقروّة قرآنا أو خارجا منه رأسا، لا سبيل إلى الثاني، و على الأوّل فلا يخلو إمّا يكون جزء سورة معيّنة أو قابل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 52

لأن يضمّ إلى بقيّة أيّ سورة شاء المكلّف، فيصير جزءا لها، و حيث لا سبيل إلى الأوّل قطعا يتعيّن الثاني.

قلت: كونه قرآنا مسلّم، لكنّه حكاية للجامع دون شخص من الأشخاص، فإنّ الجامع و إن كان لا يمكن أن يوجد إلّا في ضمن الفرد، أمّا حكايته لا في ضمن الفرد كالعلم به كذلك فهي بمكان من الإمكان.

و بعبارة أخرى: الجامع في مقام الوجود اللفظي كالوجود العلمي و التصوّري قابل لأن يتلبّس بالوجود منفكّا عن الأفراد و إن كان غير قابل لذلك في مقام الوجود الخارجيّ، و قد عرفت أنّ سنخ الحكاية في مقامنا سنخ حكاية الألفاظ عن معانيها، فالألفاظ المقروّة الحاكية الصادرة منّا بقصد الحكاية عن الألفاظ الشخصيّة المنزلة بالنزول الشخصي وجودات لفظيّة لمحكيّاتها، فإن أريد بها الحكاية عن جامع بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الوارد في التنزيل بلا إشارة إلى تنزيل خاصّ كان اللفظ وجودا حكائيّا لفظيّا عن الجامع دون الفرد، و إن أريد التنزيل الخاصّ المتعقّب بقوله تعالى: قل هو اللّٰه أحد، مثلا كان وجودا لفظيّا للقرآن الخاصّ المسمّى بالاسم الخاصّ.

و بالجملة فلا إشكال في عدم كفاية قصد الإبهام، فضلا عن قصد تعيين الخلاف بعد لزوم قراءة سورة معيّنة من

المعيّنات.

اللّٰهمّ إلّا أن ينكر ثبوت التكليف بقراءة سورة معيّنة كان اختيار تعيينها بيد المكلّف بحيث دخل المقروّ تحت أحد الأسماء المعيّنة، بل المتيقّن من الأدلّة قراءة طبيعة سورة كاملة، و أمّا لزوم كونها مسمّاة بأحد الأسماء المعيّنة من التوحيد أو الجحد أو نحوهما فلا دليل عليه.

و حينئذ فإذا قرأ البسملة بدون قصد شي ء إلّا كونها قرآنا فلا شبهة في أنّه قد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 53

حكى و قرأ جزءا من السور و إن كان لم يسمّ باسم خاصّ، لكنّه لا يخرج عن الجزئيّة لمطلق السورة، فإذا ضمّ إليها بقيّة سورة التوحيد مثلا فقد أتى بما هو مصداق لطبيعة السورة الكاملة، أمّا البقيّة فواضح، لأنّه إذا قرأ الخاصّ فقد قرأ العامّ، و أمّا البسملة فالمفروض أنّه قراءة للعامّ، فالسورة الكاملة تحقّقت، غاية الأمر غير مسمّاة بأحد الأسماء المعيّنة، و هو أيضا لا يضرّنا.

و بعبارة أخرى: فرق بين ما إذا ورد الأمر بالطبيعة التي لا يمكن امتثالها في الخارج إلّا بالإتيان بأفرادها المشخّصة كما في: جئني برجل، و بين الأمر بالطبائع التي يكون تقوّمها بالقصد، مثل البيع و العتق، فإذا قال: بع أحد عبديك، أو أعتقه، فكما أنّ له مصداقا خاصّا معيّنا، كذلك له مصداق لا معيّن، و هو أن يبيع الكلّي الموصوف بالوحدة من عبديه.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ للقصد مدخل في تحقّقه كما عرفت، فما المعيّن للزوم جعل المقروّ معنونا بأحد العناوين الخاصّة حتّى يلزم منه عدم الاكتفاء بقصد الإبهام؟

و فيه أنّ الحكم بيننا و بينك العرف، فهل ترى إذا قيل: بعني أحد عبديك يفهمون منه الكلّي الطبيعي الذي أحد أفراده بيع الكلّي، أو أنّ المتفاهم منه النكرة، و الفرد

المردّد الذي ينحصر امتثاله في بيع هذا المعيّن أو ذاك المعيّن.

و هكذا الكلام في مقامنا إذا قيل: اقرأ سورة، لا يفهمون منه طبيعة كلّية أحد مصاديقها الجامع بين السورتين أو السور، بل المستفاد هو النكرة، و قد عرفت انحصار امتثالها في الإتيان بواحدة من المعيّنات، و اللّٰه العالم.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ التعيين اللازم في المقام أعمّ من التفصيلي و الإجمالي الارتكازي و إن كان مغفولا عنه تفصيلا، فلو رأى نفسه في أواخر سورة أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 54

أواسطها يكفيه ذلك، إذ يكشف عن أنّ المؤثّر في نفسه إلى قراءة هذا المعيّن كان داعيا مكمونا غير ملتفت إليه تفصيلا، و كفى به تعيينا.

و كذا هو أعمّ من الإشارة التفصيليّة أو الإشارة الإجماليّة، بمعنى أن يشير إلى وجه من وجوه السورة، كما إذا لم يعرف السورة المقصودة إلّا بعنوان التوحيد فقرأ البسملة بهذا القصد ليقرأ البقيّة بتعليم غيره.

و الظاهر أنّ من هذا القبيل ما إذا عيّن السورة بعنوان ما يختاره بعد البسملة في علم اللّٰه تعالى، و ليس هذا قولا بكفاية قصد الإبهام، فإنّ القائل بذلك يقول:

إنّ القارئ بعد ما لم يقصد إلّا الإبهام يصحّ له بعد ذلك ضمّ الخصوصيّة، و نحن قلنا:

لا يعقل انقلاب الواقع عمّا وقع، و أمّا في ما نحن فيه فالمقروّ من أوّل وجوده متخصّص بخصوصيّة واقعيّة معلومة عند اللّٰه مجهولة عندنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 55

فروع
الأوّل إذا علم أنّه حين البسملة عيّن إحدى السورتين من الجحد أو التوحيد و نسي ما عيّنه،

فإن قلنا بجواز العدول من إحدى السورتين إلى صاحبتها بالأمر سهل، إذ يقرأ إحداهما ببسملة مستأنفة بقصد القربة المطلقة، فأمّا أنّه كانت البسملة الأولى بقصد هذه أو بقصد أختها فعلى الأوّل لا يلزم إلّا تكرار البسملة بقصد القربة المطلقة، و

هو غير مضرّ، و على الثاني فاللازم هو العدول من إحداهما إلى أختها، و المفروض جوازه.

و إن قلنا بعدم الجواز كما لا يجوز منهما إلى غيرهما، فإن قلنا بجواز القران كان الأمر أيضا سهلا، لأنّه يختار إحداهما فيأتي ببقيّتها ثمّ يأتي بالأخرى مع البسملة، فإن كانت البسملة الأولى بقصد التي أتى ببقيّتها فاللازم قران السورتين الكاملتين، و إن كانت بقصد الثانية فاللازم القران بين سورة كاملة و اخرى ناقصة، و على كلّ حال فلا مانع حسب الفرض من جواز القران بكلا قسميه.

و إن قلنا بعدم جواز القران فربما يقال بإمكان التصحيح أيضا بأن يقرأ بقيّة إحداهما بقصد القربة المطلقة ثمّ تمام الأخرى كذلك، فإنّ القران الممنوع هو أن يأتي بهما معا بقصد الجزئيّة للصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 56

الثاني لو شكّ في أنّه عيّن حين البسملة أيّ سورة من السور

فالظاهر بقاء التخيير له، بمعنى أنّه الآن يختار أيّ سورة شاء بإعادة البسملة، لأنّه يشكّ في أنّه هل زال التخيير الذي كان قبل البسملة و تبدّل بخصوص إحدى السورتين من الجحد و التوحيد، أو أنّه باق بحاله، فالأصل بقاؤه.

الثالث لو شكّ أنّه هل عيّن سورة حين البسملة أو قرأها على وجه الإبهام،

فإن قلنا بعدم كفاية قصد الإبهام فمقتضى القاعدة لزوم الإتيان ثانيا بقصد التعيين.

فإن قلت: ما المانع من إجراء قاعدة التجاوز في البسملة؟

قلت: ليس للإتيان بالبسملة على وجه الإبهام محلّ معيّن حتّى يكون الإتيان في غيره إتيانا في غير المحلّ، و إجراء القاعدة إنّما يصحّ في ما إذا اشتغل ببقيّة السورة المعيّنة ثمّ شكّ هذا الشكّ، و أمّا إذا لم يشتغل بعد كما هو المفروض فلا مورد لها، فمقتضى قاعدة الاشتغال بإتيان السورة الكاملة المتوقّف على قصد التعيين هو ما ذكرنا من الإعادة للبسملة بقصد التعيين، و إن قلنا بكفاية قصد الإبهام فالظاهر أنّ أصالة عدم التعيين للحكم بجواز قراءة أيّة سورة شاء غير جارية، إذ لا يثبت به عنوان السورة الكاملة التي هي المأمور بها، و هذا واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 57

الرابع لو كان بانيا على قراءة سورة فنسي و شرع في غيرها،

ثمّ التفت في أثنائها أو بعد تمامها كفى ذلك، لأنّ هذه السورة قد أتى بها بالداعي الارتكازي الحادث بعد نسيان الداعي الأوّلي، و قد تقدّم كفاية الداعي الارتكازي في مقام التعيين، من غير فرق بين كون السورة المقروّة عادة له و عدمه.

نعم هذا في ما إذا علم بعدم تخلّل حالة جديدة له في الأثناء قبل هذا الحال، و أمّا لو احتمل أنّه كان قد أتى بالبسملة بقصد تلك السورة، ثمّ نسي و قرأ هذه التي بيده فأصالة عدم طروّ النسيان جارية، و لا يرد إشكال المثبتيّة هنا، لأنّها أصل عقلائي و من جملة الأمارات المعتبرة عندهم.

الخامس يجوز العدول من كلّ سورة إلى غيرها ما لم يتجاوز النصف،
اشارة

أو ما لم يبلغه على الخلاف، إلّا من الجحد و التوحيد، فإنّه لا يجوز العدول منهما إلى غيرهما بمحض الشروع إلّا في يوم الجمعة إلى خصوص الجمعة و المنافقين،

فهاهنا أمور:
اشارة

أحدها: جواز العدول من سائر السور غير الجحد و التوحيد.

و الثاني: تقييد الجواز في هذا الموضوع بكون العدول قبل بلوغ النصف أو قبل تجاوزه على الخلاف.

و الثالث: عدم الجواز من السورتين إلى غيرهما بمجرّد الشروع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 58

و الرابع: استثناء ظهر الجمعة من هذا الحكم، فيجوز فيه العدول من هاتين أيضا إلى الجمعة و المنافقين، و هل يكون مقيّدا بالحدّ المذكور في سائر السور أو لا، فيه أيضا محلّ للكلام.

أمّا الدليل على الأوّل

فهو أنّه مقتضى الأصل الأوّلي، توضيح ذلك أنّا إمّا نقول بأنّ المأمور به طبيعة السورة الكاملة أو النكرة و الفرد المردّد، فعلى الأوّل لا إشكال في أنّ العقل حاكم بأنّ تعيين المصداق باختيار المكلّف إلى أن يأتي بفرد تامّ، فإنّه حينئذ يحصل الامتثال و يسقط الطلب، و أمّا ما لم يأت بالفرد تماما و لو كان في أثناء إتيانه فله الاختيار و رفع اليد عمّا بيده.

نعم لو قلنا بأنّ الطبائع التي مصاديقها تدريجيّة الحصول ينقلب التكليف بعد الشروع في فرد إلى التكليف بإيجاد الباقي و إتمام ما بيده، فلا يبقى له الاختيار بين إحداث فرد آخر و بين إتمام هذا الفرد، لأنّ المقدار الذي دلّ العقل بإثبات التخيير فيه هو التكليف الأوّلي بإحداث الطبيعة، و قد انقلب ذلك التكليف إلى تكليف آخر بإتمام ما شرع فيه، و لا دليل على التخيير بينه و بين اختيار إحداث فرد آخر، لكنّ الحقّ خلاف هذا المبنى.

و على الثاني [التقييد بقبل البلوغ للنصف]

كما هو الظاهر فالتخيير بين الأفراد حينئذ يكون شرعيّا، فكأنّه قيل: اقرأ أمّا سورة الجحد و إمّا سورة التوحيد إلى آخر السور، و ما دام لم يأت بالمصداق الخارجي لواحد من هذه المعيّنات كان مقتضى التخيير المذكور بقاء الاختيار بيده، لأنّ الواجب التخييري إنّما يسقط بإتيان أحد الأبدال، و هو حال كونه في أثناء السورة غير آت بواحد من الأبدال، لأنّها السور التامّة.

فقد تحقّق أنّ مقتضى الدليل الأوّلي جواز العدول، و لا يتصوّر مانع إلّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 59

من وجوه ثلاثة:

أحدها: لزوم الإبطال المحرّم بالآية، و الجواب هو الفرق بين الإبطال و الإعراض، مضافا إلى أنّ الظاهر أنّ المراد هو إبطال العمل بحبط ثوابه بالمعصية المتأخّرة.

و ثانيها: لزوم القران.

و فيه أنّه لا مانع منه كما يأتي في محلّه.

و ثالثها: لزوم الزيادة العمديّة حيث يصير ما قرأه أوّلا متّصفة بالزيادة بعد العدول، و الجواب أنّ الذي دلّ عليه الدليل كون إحداث الزائد مبطلا، و أمّا إعطاء وصف الزائدي على الشي ء الموجود فلا يستفاد من الأدلّة إبطاله، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

و منه أيضا ما إذا استأنف الكلمة المشكوك في صحّتها قبل إتمامها، فإنّه على فرض صحتها واقعا تصير زائدة عمدا، مع أنّه لا يمكن الالتزام به ظاهرا. هذا هو الكلام في ما هو مقتضى القاعدة.

و أمّا النصوص الخاصّة الواردة في المسألة فمنها: صحيحة عمرو بن أبي نصر «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الرجل يقوم في الصلاة يريد أن يقرأ سورة فيقرأ قل هو اللّٰه أحد و قل يا أيّها الكافرون؟ فقال عليه السّلام: يرجع من كلّ سورة إلّا قل هو اللّٰه أحد و قل يا أيّها الكافرون» «1».

و منها: صحيحة الحلبي «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: رجل قرأ في الغداة سورة قل هو اللّٰه أحد؟ قال عليه السّلام: لا بأس، و من افتتح بسورة ثمّ بدا له أن يرجع في سورة غيرها فلا بأس، إلّا قل هو اللّٰه أحد، لا يرجع منها إلى غيرها، و كذلك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 60

قل يا أيّها الكافرون» «1».

و منها: موثّقة عبيد بن زرارة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل أراد أن يقرأ في سورة فأخذ في أخرى، قال عليه السّلام: فليرجع إلى السورة الأولى، إلّا أن يقرأ بقل هو اللّٰه أحد، قلت: رجل صلّى

الجمعة فأراد أن يقرأ سورة الجمعة، فقرأ قل هو اللّٰه أحد، قال عليه السّلام: يعود إلى سورة الجمعة» «2».

و منها: موثّقته الأخرى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أيضا «في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها، فقال عليه السّلام: له أن يرجع إلى ما بيته و بين أن يقرأ ثلثيها» «3».

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام «في الرجل يريد أن يقرأ سورة الجمعة في الجمعة، فيقرأ قل هو اللّٰه أحد؟ قال عليه السّلام: يرجع إلى سورة الجمعة» «4».

و منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا افتتحت صلاتك بقل هو اللّٰه أحد و أنت تريد أن تقرأ غيرها فامض فيها و لا ترجع، إلّا أن تكون في يوم الجمعة، فإنّك ترجع إلى الجمعة و المنافقين» «5».

و منها: خبر عليّ بن جعفر المرويّ عن قرب الإسناد عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن رجل أراد أن يقرأ سورة فقرأ غيرها، هل يصلح له أن يقرأ نصفها

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 36 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 61

ثمّ يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال عليه السّلام: نعم ما لم تكن قل هو اللّٰه أحد و قل يا أيّها الكافرون، و سألته عن القراءة في الجمعة بما يقرأ؟ قال عليه السّلام: بسورة الجمعة

و إذا جاءك المنافقون، و إن أخذت في غيرهما و إن كان قل هو اللّٰه أحد فاقطعها من أوّلها «1» و ارجع إليهما» «2».

و منها: ما عن الشهيد في الذكرى نقلا من كتاب نوادر البزنطي عن أبي العباس عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «في الرجل يريد أن يقرأ السورة، فيقرأ في أخرى، قال عليه السّلام: يرجع إلى التي يريد و إن بلغ النصف» «3».

و منها: ما عن كتاب دعائم الإسلام «قال: و روينا عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: من بدأ بالقراءة في الصلاة بسورة ثمّ رأى أن يتركها و يأخذ في غيرها فله ذلك ما لم يأخذ في نصف السورة الأخرى، إلّا أن يكون بدأ بقل هو اللّٰه أحد، فإنّه لا يقطعها، و كذلك سورة الجمعة أو سورة المنافقين في الجمعة لا يقطعهما إلى غيرهما، و إن بدأ بقل هو اللّٰه أحد قطعها و رجع إلى سورة الجمعة أو سورة المنافقين في صلاة الجمعة تجزيه خاصّة» «4».

و منها: ما عن الفقه الرضوي عليه السّلام «قال: و قال العالم: لا تجمع بين السورتين في الفريضة، و سئل عن رجل يقرأ في المكتوبة نصف السورة، ثمّ ينسى فيأخذ في

______________________________

(1) قال الأستاذ العلّامة دام ظلّه: يحتمل أن يكون المراد من قوله عليه السّلام: فاقطعها من أوّلها أي من أصلها مبالغة في العدول، لا أن يكون المقصود تقييد الجواز بالأوّل. منه عفي عنه و عن والديه.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 69 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 36 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(4) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 2، ص: 62

الأخرى حتّى يفرغ منها، ثمّ تذكّر قبل أن يركع؟ قال عليه السّلام: لا بأس به و تقرأ في صلاتك كلّها يوم الجمعة و ليلة الجمعة سورة الجمعة و المنافقين و سبّح اسم ربّك الأعلى، و إن نسيتها أو واحدة منها فلا إعادة عليك، فإن ذكرتها من قبل أن تقرأ نصف سورة فارجع إلى سورة الجمعة، و إن لم تذكرها إلّا بعد ما قرأت نصف سورة فامض في صلاتك» «1».

هذه جملة ما عثرت من أخبار الباب، فمقتضى إطلاق جملة منها واردة في مقام البيان عدم التحديد للجواز، و مقتضى بعضها التحديد بالثلثين، و مقتضى بعض آخر التحديد بعدم تجاوز النصف، و هو قوله: و إن بلغ النصف، حيث إنّ الظاهر أنّه في مقام ذكر أخفى الأفراد، و مقتضى بعض التحديد بعدم بلوغ النصف و هو قوله: ما لم يأخذ في نصف السورة.

فقد يقال: إنّه يعامل مع هذه المضامين معاملة الإطلاق و التقييد، أمّا بين الطائفة الاولى و الثانية فواضح، و أمّا بين الثانية و الثالثة فبأن يقال: إنّ ما بين المصلّي و بين الثلثين طبيعة كلّية صادقة على أفراد منها النصف، ففي الخبر الثالث صرّح بلزوم هذا الفرد من تلك الطبيعة و عدم كفاية ما بعده، فيقيّد ذلك الإطلاق بهذا التقييد، و أمّا الخبر الأخير فهو ظاهر في عدم الجواز في النصف، و الخبر الثالث نصّ في الجواز فيه، فليحمل ذلك الظاهر على هذا النصّ و يقال بعدم إرادة المفهوم بالنسبة إلى نفس النصف.

لكن يمكن أن يقال بجريان مثل ذلك بالنسبة إلى خبر الثلثين و قوله: و إن بلغ النصف بتقريب أنّ ما يذكر بعد «إن» الوصليّة و إن كان ظاهرا في

أنّه ليس أخفى منه

______________________________

(1) فقه الرضا عليه السّلام: 11.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 63

موجودا، و لكن قد يذكر غير الأخفى، أعني: ما إذا كان للأخفى مراتب، فيصحّ جعل المرتبة الدنيا تلو «إن» و لهذا قد يذكر المرتبة القصوى بعد ذلك بكلمة «بل» الدالّة على الترقّي، فيقال في ما نحن فيه مثلا: بل و إن تجاوز النصف.

و بالجملة، فقوله عليه السّلام: له أن يرجع ما بينه و بين أن يقرأ ثلثيها صريح في الجواز في السدس المتّصل بالنصف عقيبه، و قوله عليه السّلام: يرجع و إن بلغ النصف، ظاهر في كون هذا السدس خارجا عن حكم الرجوع، فليحمل هذا الظاهر على ذلك النصّ.

و حينئذ فإن ثبت إجماع على نفي هذا المعنى بواسطة كونهم رضوان اللّٰه عليهم بين قولين لا ثالث لهما أعني: القول بعدم بلوغ النصف و القول بعدم مجاوزته فيصير ذلك موجبا لسقوط «حتّى الثلثين» عن الحجّية، و إن لم يثبت فمقتضى الجمع الخبري هو الجواز إلى الثلثين، لكنّ الأحوط الاقتصار على النصف خروجا عن شبهة الإجماع.

[التقييد بالنسبة إلى الجحد و التوحيد]

بقي الكلام في الدليل على ثبوت هذا التحديد بأيّ معنى اخترناه بالنسبة إلى الجحد و التوحيد.

قد يقال بأنّهما يندرجان تحت إطلاق دليل التحديد، غاية الأمر استثني منه هاتان السورتان بالنسبة إلى غير صلاة الجمعة، فبقيتا تحته بالنسبة إلى صلاة الجمعة.

و فيه أنّ المرجع إطلاق دليل الترخيص في العدول منهما يوم الجمعة إلى الجمعة و المنافقين، و الخبر المحدّد ناظر إلى مطلق السور، و قد فهمنا استثناء السورتين من هذا الحكم، و ليس مفاده التحديد في كلّ سورة قابلة للعدول، بل مفاده تجويز العدول من كلّ سورة إلى كلّ سورة ممّا عداها محدودا بالغاية المذكورة، و بعد

فرض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 64

استثناء السورتين عن هذا الحكم كيف يمكن التمسّك بغايته، بل الحكم إطلاق الدليل الدالّ على جواز الرجوع منهما إلى الجمعة و المنافقين، حيث إنّ أدلّته ممّا سوى الرضوي غير مشتمل على التحديد، نعم حدّده الرضوي بقوله: فإن ذكرتها من قبل أن تقرأ نصف سورة فارجع، فإنّه و إن لم يرد في خصوص السورتين، لكنّه وارد في خصوص صلاة الجمعة، لكن الكلام في حجّيته و إن أصرّ المحدّث العلّامة النوري قدّس سرّه عليها.

و قد يقال بأنّه و إن لم يمكن التمسّك بإطلاق أخبار التحديد المتقدّمة لما ذكرت، لكن بعد إطلاقها في سائر السور بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين في يوم الجمعة يثبت ذلك في السورتين بطريق الأولويّة القطعيّة، بيانها أنّ تلك السور مع عدم كونها عند الشارع بمثابة هاتين السورتين من الاهتمام، و لهذا جوّز الرجوع من تلك إلى أيّ سورة في جميع الصلوات و لم يجوّزها في هاتين، إلّا في خصوص يوم الجمعة إلى خصوص الجمعة و المنافقين إذا لم يجوّز العدول منها إلى الجمعة و المنافقين في يوم الجمعة حسب الإطلاق المذكور، فلو كان العدول من هاتين جائزا بغير تحديد حسب إطلاق دليله لزم كون هاتين مع أهميّتهما من تلك أسوأ حالا من تلك، فاللازم تقييد الإطلاق الثاني لئلّا يلزم هذا المحذور المقطوع الخلاف.

و فيه أنّه بعد تسليم هذه الأولويّة على وجه يورث القطع أنّ الأمر غير منحصر بهذا الطريق، بل يمكن بطريق آخر و هو رفع اليد عن الإطلاق الأوّل أعني: إطلاق أخبار التحديد في سائر السور بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين في يوم الجمعة، فإنّه إذا رفعنا اليد عن الإطلاق بالنسبة إلى هذا الفرد و

قلنا بالجواز و إن جاوز الثلثين ارتفع المحذور من البين، و إذن فالأمر دائر بين هذين الإطلاقين، و لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيحصل الإجمال و يرجع إلى مقتضى الأصل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 65

الأوّلي الذي هو الجواز كما عرفت، فيقال بجواز العدول يوم الجمعة إلى الجمعة و المنافقين بلا تحديد بغاية، من غير فرق بين السورتين و غيرهما من سائر السور.

هذا مضافا إلى إمكان أن يقال بأنّ الحكمين أعني: جواز العدول من غير السورتين في غير الجمعة و العدول منهما في يومها ليسا من سنخ واحد، و الأولويّة إنّما نسلّمها مع كونهما من سنخ واحد، بمعنى أنّه لو كان الحكم في كلا المقامين بجواز العدول راجعا إلى عدم الاهتمام بشأن المعدول عنه و أنّه لا يقع المكلّف بواسطة الشروع فيه في المضيقة من أجله حتّى لا يجوز له رفع اليد عنه، بل هو مرخّص في ذلك، فإن كان حكم العدول من السورتين في يوم الجمعة بهذا اللسان كما هو كذلك بالنسبة إلى سائر السور في غير يوم الجمعة كان للأولويّة وجه.

و لكن لقائل أن يمنع ذلك و يقول: لسان العدول في سائر السور و إن كان كذلك، و لكن في السورتين بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين يكون بوجه الأمر و لو ندبيّا لإدراك فضل سورتي الجمعة و المنافقين، لا بنحو الترخيص لأجل عدم الاهتمام بشأن التوحيد و الجحد.

لا يقال: أنّى لك بإثبات ذلك مع أنّ لسان الأخبار في البابين لسان واحد، فإن كان نظرك إلى صيغة الأمر الموجود في الثاني فهي موجودة في كليهما، و الحقّ أن صيغة الأمر في كليهما لكونها واردة مورد توهّم الحظر مفيدة للإباحة و الترخيص، فلا مزيّة

لأحدهما على الآخر.

لأنّا نقول: ما ذكرت بالنسبة إلى أخبار العدول في غير يوم الجمعة حقّ لا محيص عنه، و لكن بالنسبة إلى أخبار العدول في يوم الجمعة إلى الجمعة و المنافقين محلّ منع، و ذلك بواسطة ملاحظة كثرة التشديدات الواردة في الأخبار بقراءة السورتين في صلاة الجمعة، حتّى أنّ في بعضها: من قرأ غيرهما فلا صلاة له، أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 66

فلا جمعة له، أو: يعدل بنيّته إلى النافلة و بعد التسليم يعيد الصلاة، فهذه الأخبار يوجب ظهور هذا الأخبار الواردة في المقام في ما ذكرنا، فمفادها بعد ملاحظة هذه الأخبار أنّ الاهتمام بشأن الجمعة و المنافقين يكون بحدّ لو شرعت في غيرهما أيّ سورة كان فلا بدّ لك من الرجوع إليهما.

فإن قلت: مقتضى إطلاق أخبار التحديد في غير السورتين كما اعترفت به ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية حتّى في يوم الجمعة بالنسبة إلى الجمعة و المنافقين، فقد لزم المحذور السابق أعني: لزوم كون الجحد و التوحيد أسوأ حالا من سائر السور، حيث لا يجوز من سائر السور العدول بعد النصف، و يجوز منهما مطلقا، و ما ذكرت من اختلاف لسان الحكمين إنّما هو بالنسبة إلى ما قبل الغاية، و أمّا بعدها فإطلاق تلك الأدلّة يقتضي عدم الجواز، و إطلاق هذا الدليل يقتضي الجواز بل الاستحباب، و هذا عين المحذور.

قلت: الحكم المذكور في الصدر عبارة عن حكم «ارجع» على وجه الترخيص، و الغاية مرتبطة بهذا الحكم، فإذا ورد في خبر منفصل حكم ارجع على نحو الأمر فهو استثناء عن نفس المغيّا، فكأنّه قيل: حكم ارجع الترخيصي في هذا المقام مبدّل بارجع الأمري، فلا يرتبط الغاية المتّصلة بحكم ارجع الترخيصي بارجع الأمري بعد

استثنائه عن نفس المغيّا.

ألا ترى أنّا لو كنّا قائلين بوجوب الجمعة و المنافقين في صلاة الجمعة و كان ارجع محمولا على الوجوب فهل كان ارتباط للغاية به؟ كلّا و حاشا، فهكذا إذا حملناه على الأمر الاستحبابي.

و على هذا فنقول باستحباب العدول من كلّ سورة إلى الجمعة و المنافقين بلا تحديد بغاية، لقوله عليه السّلام في خبر عليّ بن جعفر بعد الأمر بقراءة الجمعة و المنافقين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 67

في الجمعة: و إن أخذت في غيرهما و إن كان قل هو اللّٰه أحد فاقطعها من أوّلها و ارجع إليهما. و يدخل في عموم غيرهما سورة الجحد أيضا، و الظاهر من قوله: من أوّلها، أي من أصلها.

ثمّ هل العدول إلى الجمعة و المنافقين في السورتين مطلقا و في غيرهما بعد النصف مخصوص بما إذا كان الأخذ في السورة المعدول عنها نسيانا أو يعمّه و ما إذا كان عمدا؟ مقتضى جملة من الأخبار الاختصاص بصورة القراءة و قد كان مريدا للجمعة و المنافقين، و قد عرفت التصريح بذلك في الرضوي.

و أمّا قوله: و إن أخذت في غيرهما إلى آخر ما تقدّم نقله فلا اطمئنان بالإطلاق فيه، نعم لا إشكال في غير السورتين قبل النصف، فإنّه قد ورد التصريح بجواز العدول مع العمد أيضا، فراجع، و إذن فالمرجع بالنسبة إلى السورتين عمومات المنع من العدول، هذا.

و يمكن الخدشة في ذلك أمّا أوّلا: فلأجل أنّ منع الإطلاق في قوله: و إن أخذت في غيرهما، لا وجه له.

و أمّا ثانيا: فلأجل أنّ التقييد في سائر الأخبار في كلام السائل إلّا في قوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي: إذا افتتحت صلاتك بقل هو اللّٰه أحد و أنت تريد أن

تقرأ غيرها فامض فيها و لا ترجع إلّا أن يكون في يوم الجمعة إلخ، و من المعلوم أنّه لم يقصد به التقييد بالنسبة إلى حكم فامض و لا ترجع، للعلم بثبوتهما حال العمد أيضا، و إنّما الغرض من ذكر ذلك أنّ الإنسان لا داعي له غالبا إلى العدول مع العمد، و حصوله منحصر في حال النسيان، فيعلم من ذلك أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى الاستثناء، أعني: قوله: إلّا أن يكون في يوم الجمعة، فكما أنّ المستثنى منه ثابت للمطلق من العامد و الناسي، فكذلك المستثنى، و ذكر الناسي في كليهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 68

لأجل المثال، لا للخصوصيّة.

و أمّا ثالثا: فلأنّا و إن سلّمنا عدم وجود الإطلاق، لكن الرجوع إلى عمومات المنع أيضا غير جائز، و ذلك لجريان عين ما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في مبحث الاستصحاب من الرسائل، و في مبحث خيار الغبن من المكاسب وجها لعدم جواز الرجوع إلى العموم في فرد بعد خروجه في زمان و أنّ المرجع فيه الأصل العملي في هذا المقام و إن لم يكن من مصاديق ذلك العنوان، فإنّ الذي يكون وجها له هو أنّ العموم اللفظي غير متعرّض إلّا للأفراد دون الأحوال و الأزمان، و إنّما إثبات العموم بالنسبة إليهما يكون بتوسّط مقدّمات الإطلاق، و هي متفرّعة على دخول ذات الفرد في العموم اللفظي و متأخّرة عنه رتبة، بمعنى أنّه لا بدّ أوّلا من إثبات أنّ ذات الفرد داخل في المراد الجدّي من العموم حتّى يحكم بمعونة المقدّمات أعني أنّه أعطى لفظه في مقام البيان بلا ضمّ قيد بتسرية الحكم في الأزمان و الأحوال.

و أمّا إذا علم بخروج ذات الفرد في زمان أو في

حال على وجه لم يرجع إلى تقييد العنوان أو تنويع الموضوع فلا يبقى مجال للتمسّك بالإطلاق، لأنّ هذا الفرد فرد واحد و لم ينعقد في العموم اللفظي بالنسبة إليه إلّا دلالة واحدة، و قد فرض سقوطها.

نعم لو فرض أنّ العامّ جعل الفرد بحسب الأزمان أو بحسب الأحوال أفرادا فإذا سقط دلالته بالنسبة إلى فرد من أفراد هذا الفرد يبقى دلالته بالنسبة إلى سائر الأفراد، و أمّا إذا لم يعتبره إلّا فردا واحدا كما هو كذلك واقعا فليس هناك دلالات بعدد الأحوال الموجودة فيه، و لا بحسب الأزمان الجارية عليه، و إنّما يحكم بثبوت الحكم في تمامها بتوسّط المقدّمات، فلو قام دليل على خلاف العامّ في زمان أو حال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 69

ينظر إلى ذلك الدليل المخرج هل جعل هذا الزمان أو الحال قيدا للعنوان أو للموضوع، كما إذا لم يوجب الوفاء المقيّد بكذا أو وفاء العقد المقيّد بكذا، فيحكم بإسراء ضدّ هذا القيد إلى العامّ، فيجعل الوفاء أو العقد في أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مقيّدا بخلاف ذلك القيد، أو أنّه غير متصدّ إلّا لإخراج الذات، غاية الأمر مقرونة ببعض الأحوال و الأزمان المحتمل دخلها في الإخراج و عدم الدخل، فحينئذ يسقط المقدّمات بالنسبة إلى غير الزمان أو الحال المتيقّن، و المرجع هو الأصل العملي، إذ لا يلزم من ثبوت حكم العامّ في غيرهما حفظ العموم، و لا من عدم ثبوته زيادة تخصيص، بل هو فرد واحد خرج عن العموم، سواء ثبت فيه بعد ذلك حكم العموم أم لم يثبت.

و من هنا يعلم أنّه لا فرق في ما إذا خرج فرد في زمان بين كونه في أوّل زمان وجوده أو وسطه أو آخره، لاتّحاد الملاك

المذكور في الجميع، و إنّما يفرق الحال لو كان الملاك حفظ الاستمرار و عدمه، فيقال بأنّ الاستمرار محفوظ في الأخيرين دون الأوّل.

و لكنّك عرفت أنّه لا مساس له بمسألة الاستمرار، بل الملاك عدّ الفرد بحسب النظر اللفظي في العامّ أفرادا أو فردا واحدا بحسب الأزمان و الأحوال، و لا فرق في ذلك بين الأقسام المذكورة.

و على هذا فنقول في مقامنا: قد خرج من عموم تحريم العدول من السورتين إلى شي ء ممّا سواهما في شي ء من الصلوات سورتا الجمعة و المنافقين في خصوص صلاة الجمعة مقرونتين بحال النسيان، لذكره في كلام السائل، و لم يعلم أنّ للحال المذكورة مدخلا في هذا الخروج، أو أنّ الخارج هما في جميع الأحوال، فمقتضى ما تقدّم عدم جواز الرجوع إلى تلك العمومات و الرجوع إلى الأصل و هو الجواز

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 70

كما تقدّم.

و هل الحكم المذكور أعني جواز العدول من السورتين إلى السورتين يعمّ جميع صلوات يوم الجمعة حتّى الصبح و العصر، أو يخصّ الظهر و الجمعة، أو يخصّ الأخير؟ حكي عن الحدائق تقوية الأخير، نظرا إلى التصريح بصلاة الجمعة في بعض الأخبار، و ما في بعضها الآخر من الإطلاق، كقوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي:

إلّا أن تكون في يوم الجمعة فإنّك ترجع إلى الجمعة و المنافقين، محمول على ذلك التصريح حملا للمطلق على المقيّد.

و استشكل عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بأنّه فرع كون المطلق و المقيّد متنافيين.

و يمكن منع ما ذكره أمّا أوّلا: فلمنع الإطلاق في الفقرة المذكورة، إذ فرق بين ذكر لفظ الصلاة مضافا إلى يوم الجمعة و بين ذكر يوم الجمعة بلا إضافة الصلاة إليه، غاية الأمر أنّه يعلم إجمالا أنّه ليس بإطلاقه،

و إنّما المقصود صلاة هذا اليوم، و لكن الذي يعلم ليس له إطلاق، بل بنحو الإجمال، و ليس من مقولة اللفظ حتّى يعرضه الإطلاق.

و أمّا ثانيا: فلأنّا و إن سلّمنا إطلاقها، لكن نمنع ما ذكره من عدم كون المقام من موارد حمل المطلق على المقيّد، فإنّهما و إن كانا غير متنافيين لكونهما مثبتين، إلّا أنّه قد حقّق في الأصول أنّهما مع ذلك أيضا يكونان من موارد الحمل المذكور، لكن بشرط أن يعلم وحدة الحكم و لو من جهة وحدة السبب، كما في قوله: إن ظاهرت فأعتق رقبة، و قوله: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، إذ بعد إحراز الوحدة نقول: إمّا أنّ الموضوع لهذا الحكم الواحد هو المطلق، فيكون المقيّد مذكورا في الدليل الآخر من باب أحد الأفراد، و إمّا أنّ الموضوع هو المقيّد، فيحمل المطلق عليه، و حيث إنّ الثاني أهون من الأوّل فيكون هو المتعيّن، نعم لو لم يحرز الوحدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 71

فيمكن العمل بكلا الدليلين بلا تصرّف في ظاهر شي ء منهما فيقال: هنا حكمان أحدهما متعلّق بالمطلق و الآخر بالمقيّد.

و حينئذ نقول في مقامنا: قد علمنا أنّ حكم جواز الرجوع إلى السورتين حكم واحد ناش من حفظ شأن السورتين و الاهتمام بهما، و هذا الحكم إمّا متعلّق بالمطلق، و المقيّد مذكور من باب أحد الأفراد، إلى آخر ما تقدّم.

لا يقال: يمكن أن يكون حفظ احترام السورتين و الاهتمام بهما في خصوص صلاة الجمعة آكد منه بالنسبة إلى سائر صلوات ذلك اليوم، فيكون المطلق ناظرا إلى إثبات الأصل، و المقيّد إلى إثبات التأكّد.

لأنّا نقول: هذا أيضا أحد أطراف الاحتمال، لكنّه في مخالفة الظاهر بمكان، فإنّ أحدا لا يلتفت إليه إلّا

بعد التنبيه، و بعد صرف النظر عن هذا و كون جميع الأخبار في مقام بيان أصل حكم العدول نقول: الأمر دائر بين كون الموضوع لهذا الحكم الواحد هو المطلق أو المقيّد إلى آخر ما تقدّم، هذا.

و لكنّ لا بدّ أن نعلم أنّا و إن قلنا بحمل المطلق على المقيّد، لكن لا يلزم القول بالاختصاص بخصوص صلاة الجمعة في مقابل صلاة الظهر كما زعمه صاحب الحدائق قدّس سرّه، بل الحقّ هو التعميم إليهما معا، نعم لا عموم بالنسبة إلى صلاتي الصبح و العصر.

وجه العموم بالنسبة إلى الأوّلين أنّ صلاة الجمعة في لسان الأخبار- كما يظهر بالتتبّع فيها- ليست اسما لخصوص الركعتين مع الشرائط المقرّرة، بل اسم للأعمّ منهما و من الأربع ركعات بغير تلك الشرائط، و الشاهد على هذا أنّه قد عبّر بهذا الاسم بالنسبة إلى المسافر، فيعلم منها أنّ صلاة الظهر في يوم الجمعة مسمّاة بصلاة الجمعة، غاية الأمر مع الشرائط المقرّرة يصلّى ركعتين مع الخطبة، و بدونها يصلّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 72

أربعا، و أمّا جعل خصوص الاولى جمعة و الثانية ظهرا فهو اصطلاح مستحدث في لسان الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم، و على هذا فيقوي الحكم بالرجوع في كلتيهما، و اللّٰه العالم بالحقائق.

فرعان:
الأوّل: لو شرع في إحدى سورتي الجحد و التوحيد أو في غيرهما

و تجاوز من النصف ثمّ نسي بقيّة السورة أو خاف فوات الوقت بإتمامها بواسطة طولها فهل الواجب بمقتضى تكليفه بالسورة الكاملة الرجوع إلى سورة أخرى لم يخف فوت الوقت بقراءتها، أو أنّ الواجب بمقتضى تكليفه بترك العدول هو المضيّ في الصلاة بلا سورة، أو هو مخيّر بين الأمرين؟ وجوه مبنيّة على أنّ العدول محرّم نفسا في السورتين، و في غيرهما بعد النصف، أو أنّ المضيّ واجب كذلك، أو لا

ذاك و لا هذا، بل المقصود بالنهي عن العدول و الأمر بالمضيّ نفي الجزئيّة عن المعدول إليها و تعيينها في المعدول عنها.

فإن قلنا بالأخير فالمتعيّن مضيّه بلا سورة، كما لو عجز عن حقيقة السورة، فإنّه و إن لم يعجز عن حقيقتها ها هنا، إلّا أنّه بالنسبة إلى السورة التي جعلت جزءا لصلاته صار عاجزا، فسائر السور ليست بجزء من الأصل، و هذه السورة أيضا سقطت عن الجزئيّة بواسطة طروّ العجز، فحاله حال من عجز عن حقيقة السورة في صلاته.

و إن قلنا بكون المضيّ واجبا نفسيا فالمتعيّن الرجوع إلى سورة أخرى، لأنّ التكليف بالمضيّ لعدم القدرة على الامتثال سقط عنه، فيبقى مشغول الذمّة بإتيان السورة الكاملة لصلاته، و المفروض انحصار قدرته بإتيان سائر السور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 73

و إن قلنا بكون العدول محرّما نفسيّا فهنا مطلوبان كلّ منهما مطلق بحسب دليل أصل التشريع، و لم يقدر المكلّف على الجمع بينهما، أحدهما: إتيان السورة الكاملة، و الأخرى: ترك العدول عن الجحد و التوحيد أو بعد النصف من غيرهما، فمقتضى القاعدة هو التخيير لو لم يحرز الأهميّة، و إلّا فتعيين الأهمّ.

ثمّ إنّ حمل النواهي عن العدول على النفسيّة بعيد، بل الظاهر منها الإرشاد إلى إتيان ضدّه و هو المضيّ و إتمام السورة المشروع فيها، و أمّا أنّ الأمر بالمضيّ هل هو للتكليف، لإفادة كونه واجبا نفسيّا أو أنّه للوضع و تعيين الجزئيّة في هذه السورة و نفيها عمّا عداها، فكلّ محتمل و لا دليل على تعيين أحدهما، و إذا صار هذا الأمر مجملا فدليل جزئيّة سائر السور يكون محكّما، فيأتي بسورة أخرى كاملة غير مفوّتة، و اللّٰه تعالى هو العالم.

الثاني: لو نذر أن يقرأ في صلاته سورة خاصّة

تكون هي المحسوبة جزء لها، فنسي

و شرع في الجحد أو التوحيد أو غيرهما مع بلوغ النصف ثمّ التفت، فهل يعدل أو يأتي ببقيّة السورة التي شرع فيها، أو يتخيّر؟ وجوه مبنيّة أيضا على الاحتمالات المتقدّمة في الفرع المتقدّم، بمعنى أنّه لو قلنا بأنّ النهي عن العدول يكون لإفادة الوضع أعني: نفي الجزئيّة عن غير السورة المشروع فيها، فيتعيّن إتمام السورة التي شرع فيها، إذ على هذا التقدير يتبيّن فساد نذره بعدم الموضوع له رأسا و أنّ السورة المنذورة ما كانت متّصفة بالجزئيّة لصلاته و إن تخيّلها كذلك على خلاف الواقع.

و إن قلنا بأنّه للتكليف و إفادة تحريم العدول نفسا فكذا يتعيّن إتمام السورة التي بيده، إذ على هذا التقدير يتبيّن انحلال نذره بواسطة انكشاف مرجوحيّة متعلّقه و حرمته بواسطة طروّ العنوان الثانوي الذي هو العدول، فإنّ المعيار في صحّة النذر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 74

رجحان متعلّقه حال الوجود، لا حين النذر، و لهذا ينحلّ بواسطة نهي الوالد عن العمل المنذور.

و إن قلنا بأنّه للإرشاد إلى وجوب ضدّه أعني: المضيّ وجوبا نفسيّا فهنا مطلوبان مطلقان بحسب أصل التشريع يعجز المكلّف عن الجمع بينهما، و هما الوفاء بالنذر و إتمام السورة التي أخذ فيها، و مقتضى قاعدة التزاحم هو التخيير إن لم يثبت الأهمّ، و إلّا فيتعيّن الأهمّ.

فإن قلت: كيف يعجز المكلّف عن الجمع و الحال أنّه على القول بجواز القران بين السورتين كما هو المختار و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى لا مانع من إتمام هذه السورة، ثمّ الإتيان بالمنذورة.

قلت: قد قيّدنا في صدر العنوان السورة المنذورة بكونها هي المحسوبة جزء للصلاة، لئلّا يرد هذا السؤال، فإنّه بعد تقييد متعلّق نذره بهذا يكون باب القران أيضا مسدودا، لأنّ الصلاة

غير محتاجة إليها حينئذ، و لا تكون هي بالخصوص جزءا لها كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 75

مسألة في حكم القران بين السورتين

المشهور بين القدماء عدم جواز القران بين السورتين في الفريضة، خلافا لجمهور المتأخّرين حيث ذهبوا إلى كراهته.

و استدلّ الأوّلون بأخبار ظاهرها التحريم، و حملوا ما دلّ على الجواز على التقيّة، لموافقته مذهب العامّة، و الآخرون أنّ الحمل على التقيّة فرع المعارضة و عدم وجود الجمع الدلالي بين الخبرين، و هو هنا موجود، أمّا أوّلا فلوجود قرائن في نفس أخبار النهي مثل اشتمال بعضها على لفظة الكراهة «1»، و الآخر على نفي الصلاح «2»، و الثالث على التعليل بأنّه أي ترك القران أفضل «3»، و الرابع على التعليل بأنّ في تركه و الاقتصار على سورة واحدة إعطاء كلّ سورة حقّها من الركوع و السجود «4»، فإنّ هذا التعليل مشعر بالكراهة كما لا يخفى.

و أمّا ثانيا فلأنّ مقتضى الجمع العرفي بين النهي و بين الترخيص الصريح في الفعل هو الحمل على الحزازة و الكراهة، حملا للظاهر على النصّ، و إذن فلا يبقى للدغدغة في الحكم بالكراهة مجال.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 76

نعم يبقى الكلام في أنّ هذه الكراهة على القول بها من باب الكراهة العباديّة فلا بدّ من حفظ الرجحان العبادي معها، و حيث إنّ الكراهة بمعنى رجحان الترك المطلق لا يجامع مع رجحان الفعل، فلا بدّ من التزام أنّ الراجح هو الترك الخاصّ، أعني: الترك

إلى بدل، فيرجع الأمر إلى رجحان الفعل و أرجحيّة ذلك البدل، مثلا صلاة الحمّام يكون راجح الفعل بالنسبة إلى تركها المطلق، و أمّا بالإضافة إلى الصلاة في غير الحمّام فهي مرجوحة، و لكن هذا في ما إذا كان هناك بدل، كما في صلاة الحمّام، و أمّا في ما لم يكن له بدل كما في صوم العاشور فلا يجري الكلام المذكور كما هو واضح.

فيستكشف في مثله عقلا أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ، إمّا أنّ هنا أمرا وجوديا و هو أرجح من الفعل، و لا يمكن الجمع بينه و بين الفعل، بل بينهما مضادّة، و على هذا فالنهي ليس مولويّا، بل للإرشاد إلى ذلك الضدّ الأهمّ، و إمّا أنّ هنا عنوانا حسنا منطبقا على الترك و هو أرجح من الفعل، فالترك بما هو نقيض الفعل ليس راجحا، بل يكون مرجوحا، و لكن بما هو مصداق ذلك العنوان الأرجح يكون راجحا، بل أرجح من الفعل، فيكون النهي على هذا أيضا إرشاديّا.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، أعني: ما لا بدل له، فإنّ ضمّ السورة الثانية إلى الاولى لا يوجب مرجوحيّة الأولى، بمعنى رجحان تركها إلى بدل و هو السورة المقيّدة بعدم الانضمام، بل المنهيّ هو السورة الثانية فقط مع وقوع الأولى راجحة و في المحلّ كما هو المستفاد من قوله عليه السّلام: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر، حيث يستفاد أنّ الزيادة من سورة هي المرجوحة، فلا بدّ من أن يستكشف عقلا إمّا أنّ متعلّق هذا النهي أمر وجودي غير ممكن الاجتماع مع السورة الثانية وجودا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 77

و هو إعطاء كلّ سورة حقّها من الركوع و السجود، و

إمّا أنّ هنا عنوانا راجحا منطبقا على تركها و هو أرجح من فعلها.

فإن قلت: فعلى هذا يمكن حفظ العباديّة مع فرض القول بالحرمة و حمل النواهي عليها.

قلت: إنّما ألجأنا على تقدير القول بالكراهة إلى ذلك أمران: أحدهما كراهة الفعل، و الثاني عباديّته، و أمّا على القول بالحرمة فلا إلجاء إلى المصير إلى ذلك، فإنّه توجيه لا يصار إليه بلا ضرورة، بل يقال: إنّ متعلّق النهي نفس السورة الثانية بما هي هي، و من المعلوم منافاته للعباديّة.

فإن قلت: فما الوجه في فتواهم بانحلال النذر بنهي الوالدين عن إتيان المنذور، بل و باستدعاء المؤمن تركه، و لو صحّ ما ذكرت من عدم المنافاة في ذلك مع بقاء الفعل على صفة الرجحان لما يبقى وجه للانحلال، بل مقتضى القاعدة في الأوّل حصول التزاحم بين واجبين على تقدير القول بوجوب إطاعة الوالدين، أحدهما ذلك و الآخر الوفاء بالنذر، و في الثاني بقاء وجوب النذر بحاله، و ذلك لأنّ الوجوب أو الاستحباب المتعلّقين بالعنوان الملازم للترك أعني: إطاعة الوالدين أو إجابة المؤمن لا منافاة لهما مع بقاء الفعل على صفة الرجحان.

قلت: يمكن أن يكون الوجه هو أنّ المستفاد من الأخبار في باب النذر لزوم كون المنذور فعلا تحت إرادة الشارع و ممّا يبعث إليه، فلا يكفيه الإرادة الطوليّة التي نقول بها في الضدّ المبتلى بالأهمّ، فإنّ الإرادة الفعليّة متوجّهة سمت الأهمّ، و بعبارة أخرى: الرجحان أو الأمر المعتبران في باب العبادة أمرهما أسهل منهما في باب النذر، فالمعتبر فيه كون المنذور موافقة للإرادة الفعليّة المولويّة و طاعة لها كذلك، بل يعتبر كون المنذور بعنوانه الخاصّ تحت إرادة الشارع لا بالعنوان العامّ، فلو نذر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 78

الصلاة

في الحمّام أو في آخر الوقت لم ينعقد.

فإن قلت: فلو نذر التصدّق بالمال الخاصّ أو للفقير الخاصّ يلزم عدم الانعقاد، لعدم تعلّق الأمر إلّا بالعنوان العامّ.

قلت: الفرق بين هذين و بين ما تقدّم من المثالين أنّ الأمر هناك كان متعلّقا بعنوان الصلاة بوجودها الصرف بلا تعلّق له بالأشخاص و الخصوصيّات أصلا، بخلافه في هذين، فإنّه فيهما متعلّق بالطبيعة باعتبار الوجود الاستيعابي من حيث المال، و باعتبار الوجود البدلي من حيث الفقير، فللخصوصيّات مدخل في متعلّق الأمر الشرعي ها هنا، دون ما تقدّم، و تمام الكلام في محلّه.

ثمّ على القول بحرمة القران هل يبطل الصلاة به أو لا؟

قد يقال بالأوّل نظرا إلى أنّ المستفاد من النهي إمّا شرطيّة الاتّحاد أو مانعيّة القران كالتكلّم و نحوه، و على كلّ حال يوجب البطلان.

و فيه أنّ التعليل بإعطاء كلّ سورة حقّها يقتضي كون النهي على تقدير حمله على الإلزام نفسيّا كما لا يخفى، و قد تقدّم نظيره في النهي عن قراءة آية السجدة معلّلا باستلزامها للزيادة المبطلة.

نعم يتّجه البطلان حينئذ من جهة كونه داخلا في الكلام المحرّم الذي حكي الإجماع على مبطليّته، و قد تقدّم تقوية كونه من الماحي للصورة عند المتشرّعة.

و هل القران المنهيّ عبارة عن الإتيان بالسورتين بعنوان الجزئيّة، أو يعمّه و الإتيان بعنوان القرانيّة.

توضيح المقام أنّ الجمع بين السورتين يتصوّر على أنحاء:

أحدها: أن يأتي بهما زاعما أنّ امتثال الطبيعة كما يتحقّق بإيجاد فرد منها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 79

كذلك يمكن بإيجاد فردين متعاقبين.

و ثانيها: أن يأتي بالثانية بعد العلم بحصول الامتثال بالفرد الأوّل، لاحتمال كون الثانية أوفق بالغرض الداعي إلى الأمر، حيث إنّ للمأمور تبديل مصداق الامتثال بمصداق آخر أحسن.

و ثالثها: أن يأتي بالثانية بعنوان

الاحتياط و رجاء إدراك الصحّة الواقعيّة، و ذلك بأن كانت السورة الأولى محتملة الفساد عنده مع عدم إمكان إعادتها بنفسها على وجه يقطع بالصحّة، و قاعدة الفراغ و إن كانت حاكمة بالصحّة ظاهرا، لكنّه يحتاط بإتيان السورة الثانية برجاء إدراك الصحّة الواقعيّة.

و رابعها: أن يأتي بها بقصد القرانيّة المحضة، و الفرق بين القسمين الوسطين و بين القسم الأوّل أنّه في الأوّل يقصد الجزئيّة بنحو الجزم، و فيهما على وجه الاحتمال، أعني: احتمال أوفقيّة الثانية في الأوّل منهما و احتمال فساد الاولى في الثانية منهما.

إذا عرفت هذا فنقول: ينبغي القطع بخروج القسم الأخير من النواهي، كما ينبغي القطع بدخول الأوّل، و أمّا القسمان الوسطان فأوّلا لا بدّ أن نعلم أنّ التعليل بإعطاء كلّ سورة حقّها لا شهادة فيه على دخولهما، فإنّه لو كان المراد من القران عبارة عن خصوص ما إذا أتى بالسورتين بعنوان الجزئيّة الجزميّة أو الاحتماليّة لكن مع مصادفة الجزم و الاحتمال مع الواقع فلا يخفى أنّ الجزم أو الاحتمال المصادف غير موجود إلّا في إحدى السورتين.

نعم لو كان المراد من القران أعمّ ممّا إذا كان بقصد الجزم بالجزئيّة و ما إذا كان بقصد احتمالها، سواء طابق الواقع أم لا، فحينئذ قد أتى بسورتين، أولاهما بقصد الجزم بالجزئيّة، و الثاني بقصد احتمالها، و لم يعطها حقّها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 80

و الإنصاف عدم الجزم باعتبار الجزم، إذ الاحتمال المصادف في مفهوم القران، و إنّما المقطوع خروج الجزم بالقرانيّة عن تحته، بل المحتمل قويّا دخول غيره بأقسامه، و إذن فالأحوط بناء على القول بالحرمة ترك القسمين الوسطين، أمّا الأوّل منهما فواضح، و أمّا الثاني فلأنّه على تقدير صحّة الاولى يكون من الجمع بين سورتين

تامّتين، و على تقدير فسادها يكون من الجمع بين ناقصة و اخرى تامّة و هو أيضا محرّم بمقتضى قوله عليه السّلام في بعض الأخبار: لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 81

الموقع الثالث في ما يتعلّق بالجهر و الإخفات بالقراءة
اشارة

و سائر الأقوال الصلاتيّة، و ها هنا مسائل:

[المسألة] الأولى اعلم أنّ من المسلّم أصل مشروعيّة الجهر و الإخفات بالأعمّ من الوجوب و الاستحباب،
اشارة

بمعنى أنّ لنا قسما من الصلوات جهريّة و قسما اخرى إخفاتيّة، و كذلك من المسلّم أنّ الطائفة الاولى عبارة عن الغداة و المغرب و العشاء، و الثانية عبارة عن الظهر و العصر، و بعد ذلك يقع الكلام في جهتين:

الاولى: هل الجهر في الطائفة الاولى و الإخفات في الثانية بنحو الوجوب أو بنحو الاستحباب كما يحكى عن السيّد و الإسكافي.

و الثانية: هل الحكم يختصّ بالقراءة في الأوليين، أو يعمّ سائر الأقوال حتّى التشهّد و ذكر الركوع و السجود، و على تقدير الاختصاص فما حال التسبيحات أو القراءة في الأخيرتين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 82

أمّا الجهة الأولى [الخلاف في وجوب الجهر و استحبابه]

فيدلّ على الوجوب صحيحة زرارة «عن أبي جعفر عليهما السّلام في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه و أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟

فقال عليه السّلام: أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته و عليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي ء عليه و قد تمّت صلاته» «1».

حيث دلّت على وجوب الإعادة بالإخلال بهما عمدا، و لا يضرّ إجمال قوله عليه السّلام: فقد نقض بين كونه بالصاد المهملة، أو بالضاد المعجمة، و على الأوّل لا دلالة له على البطلان، فإنّ الاستشهاد إنّما يكون بالفقرة الأخيرة، أعني:

قوله عليه السّلام: و عليه الإعادة.

و لا يعارضها رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال:

سألته عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه أن لا يجهر؟

قال عليه السّلام: إن شاء جهر، و إن شاء لم يفعل» «2».

و ذلك لإجمال السؤال فيها بواسطة اشتماله على قوله: هل عليه إلخ بعد فراغ السائل عن كون الصلاة ممّا يجهر فيها، فإنّ اللائق بعد

ذلك هو السؤال عن جواز ترك الجهر، لا عن وجوبه كما هو مقتضى كلمة «على».

و حينئذ فيحتمل أن يكون المراد هو السؤال عن رفع الصوت زيادة على أقلّ الجهر، أو أن يكون المراد هو السؤال عن صورة الاقتداء بإمام غير مرضيّ مع إخفات الإمام و كون الفريضة جهريّة، فإنّه حيث يجب القراءة على المأموم خلف هذا الإمام فتوهّم السائل وجوب متابعته في الإخفات إمّا للتقيّة و إمّا لحصول

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 83

الاقتداء، فأجابه الإمام عليه السّلام بالتخيير. و يحتمل أن يكون المراد: هل عليه بأس إن لم يجهر.

و بالجملة، الأمر دائر بين أحد هذه الاحتمالات، و كلّها مشترك في مخالفة الظاهر، و لعلّ الأخير أبعدها، و على هذا فتبقى الرواية الأولى سليمة عن المعارض، و لا حاجة إلى طرح الثانية بالشذوذ و ندرة العامل كما حكي عن بعض.

و أمّا الجهة الثانية [الخلاف في اختصاص الحكم بالقراءة و عدمه]

فيدلّ على جواز الأمرين في سائر الأقوال غير التسبيحات و القراءة في الأخيرتين صحيحة عليّ بن يقطين «قال: سألت أبا الحسن الماضي عليه السّلام عن الرجل هل يصلح له أن يجهر بالتشهّد و القول في الركوع و السجود و القنوت؟

فقال عليه السّلام: إن شاء جهر، و إن شاء لم يجهر» «1».

و نحوه رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه عليه السّلام «2»، و هي و إن لم يتعرّض لغير ما اشتملت عليه مثل السلام و التكبيرات و نحوها، لكن يعلم حكمها من المذكورات، لظهورها في كون المذكورات من باب المثال.

فالمقصود السؤال عن ما عدا القراءة، و هل يشمل مقصوده

القراءة و التسبيحات في الأخيرتين أو لا؟ كلّ محتمل.

و على هذا فيبقى القراءة و التسبيحات خاليتين عن الدليل بعد عدم دلالة صحيحة زرارة المتقدّمة أيضا على وجوب الجهر إلّا في ما ينبغي الإجهار فيه و وجوب الإخفات إلّا في ما ينبغي الإخفات فيه، و كونهما من أيّ القسمين محلّ الكلام، و حينئذ فيرجع فيهما إلى الأصل، لرجوع الشكّ إلى الشكّ في القيد الزائد.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب القنوت، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب القنوت، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 84

و يمكن الاستدلال على وجوب الإخفات في الركعتين الأخيرتين مطلقا، سواء اختار التسبيحات أم القراءة بأمرين.

أحدهما و هو العمدة: مداومة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله على الإخفات في تمام عمره صلّى اللّٰه عليه و آله و ذلك آية الوجوب، إذ يبعد غايته أن يكون من الجائز ترك الجهر و مع ذلك لم يتركه صلّى اللّٰه عليه و آله في مدّة عمره صلّى اللّٰه عليه و آله و لو مرّة واحدة.

و الثاني: معلوميّة فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله ذلك و لو لم يعلم التزامه به و استمراره عليه، بأن لم يعلم كونه صلّى اللّٰه عليه و آله تاركا للجهر في بعض صلواته، بضميمة قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1» فإنّ الإخفات ممّا فعله صلّى اللّٰه عليه و آله، و الجهر لم يعلم صدوره منه، و نحن ملزمون بالأخذ بفعله و لو لم نعلم وجهه، حتّى نعلم كون وجهه الندب أخذا بظاهر قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: صلّوا إلخ.

لا يقال: هل هو إلّا كالعامّ الذي نعلم بالاستحباب في بعض الأفراد

منه و نعلم بالوجوب في بعض و نشكّ في ثالث، حيث يسقط عن الاستدلال، لأنّ اشتماله على الفرد المستحبّ آية كونه مستعملا في الجامع بين الوجوب و الندب، و ذلك للعلم باشتمال صلاته صلّى اللّٰه عليه و آله على المستحبّات.

لأنّا نقول: بل الظاهر منه السوق لإفادة الوجوب، و ذلك لأنّه ورد لبيان الوظيفة الوجوبيّة الصلاتيّة التي ورد إيجابها في الكتاب العزيز بقوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ فكأنّه قال صلّى اللّٰه عليه و آله: إن كنتم لا تدرون كيفيّة هذه الصلاة التي أمركم اللّٰه بإقامتها فانظروا إلى صلاتي فافعلوا مثل فعلي. و لا يخفى ظهور هذا الكلام الوارد في هذا المقام في وجوب كلّ كيفيّة صدرت منه حتّى يعلم الخلاف، فيكون هذا أصلا في

______________________________

(1) عوالي اللئالي 1: 198.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 85

كلّ ما علم انتسابه إليه صلّى اللّٰه عليه و آله، كما في المقام.

و أنت خبير بعدم الاطمئنان بهذا الظهور، لعدم الاطمئنان بوروده في ذلك المقام، أعني: شرح الحقيقة الواجبة، بل من الممكن كونه بمقام شرح جميع ماله دخل في الحقيقة و ما له دخل في الكمال، فالعمدة هو الوجه الأوّل.

و لا بأس بصرف الكلام إلى دفع ما ربما يورد من الإشكال العقلي على قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة «قال: فإن فعل ذلك ناسيا إلخ» و تقريب الإشكال من وجهين:

الأوّل: أنّ تقييد الشرطيّة بحال العلم بها كما هو الظاهر من قوله: فلا شي ء عليه و قد تمّت صلاته مستلزم للدور كما هو واضح.

و الثاني: أنّ من المسلّم أنّ من كان مقصّرا في التعلّم يكون معاقبا على ترك الجهر و الإخفات في محلّهما، و على هذا فيستشكل بأنّه مع بقاء الوقت يجب الحكم بالإعادة،

و على تقدير الإسقاط فلا وجه للعقوبة، إذ المفروض عدم حصول العصيان بعد، لبقاء الوقت بمقدار أداء الواجب على حسب الفرض، فالجمع بين الحكمين، أعني الحكم بالإسقاط و التماميّة كما هو مفاد قوله عليه السّلام: لا شي ء عليه و قد تمّت صلاته و الحكم بالاستحقاق كما هو المسلّم في ما بينهم لا يعلم له وجه.

و حاصل الدفع يحتاج إلى توضيح، و هو أنّ سقوط الإعادة في الوقت عن الجاهل يتصوّر على أنحاء:

الأوّل: أن يكون بتقييد واقع الشرطيّة بحال العلم بها، فيكون صلاة الجاهل غير مشروطة واقعا، و هذا مستلزم للدور.

و الثاني: أن تكون الشرطيّة الواقعيّة غير مختصّة بالعالم، و لكن جعلت الصلاة الفاقدة في حقّ الجاهل بدلا شرعيّا عن الصلاة الواجدة، بمعنى أنّ الشارع

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 86

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 86

تقبّلها مصداقا للصلاة المأمور بها، كما هو الحال في حكمه بالصحّة الظاهريّة بعد الفراغ، إذ كما أنّ له الجعل قبل العمل، له التقبّل بعده، و هذا ممكن لا يستلزم المحذور، إلّا أنّ اللازم منه عدم الاستحقاق للعقوبة على ترك المبدل كما هو واضح.

و الثالث: أن تكون الصلاة الإخفاتيّة في موضع الجهريّة و بالعكس مفوّتة للمصلحة القائمة بالمأمور به، بحيث لا يمكن إدراكها بعده، فسقوط الإعادة يكون من جهة عدم إمكان الإدراك للمصلحة الصلاتيّة، و الاستحقاق يكون من جهة تفويت موضوع الواجب بسوء الاختيار، نظير حرق جسد الميّت قبل غسله، و هذا أيضا سالم عن المحذور العقلي، و لكن لا يجامعه قوله عليه السّلام: و قد تمّت صلاته، إذ عليه ليس ما فعله بصلاة حقيقة، و مقتضاه كونه صلاة تامّة.

و الرابع:

أن يكون هنا مصلحتان: إحداهما قائمة بالمطلقة، و الأخرى بالمقيّدة، لكن كانت الثانية في طول الاولى، لا في عرضها، بمعنى أنّ مصلحة المقيّد متقوّمة بتحصيل القيد في ضمن صرف الوجود، و لهذا لو أتى بصرف الوجود بدون القيد فقد فات منه محلّ المصلحة القائمة بالمقيّد، و لكن قد أدرك المصلحة القائمة بالمطلقة، فالتعبير بتماميّة الصلاة بملاحظة إدراك هذه المرتبة من الصلاة، و الاستحقاق بملاحظة تفويت المرتبة الأتمّ الحاصلة من انضمام واجبين مستقلّين، و هذا أيضا خال عن المحذور و عن المنافاة مع القول المذكور، و لكنّ اللازم منه الحكم بالصحّة لو أتى بالإخفات أو الجهر في موضع ضدّه عالما عامدا، و لا يقولون به.

لا يقال: لعلّه من جهة الإخلال بقصد القربة المعتبرة في الصلاة مع العلم مع محفوظيّته بحاله مع الجهل و لو تقصيرا.

فإنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أنّ الضدّ المبتلى بالأهمّ يصحّ وقوعه عبادة، و هذا من هذا القبيل، فإنّ الصلاة الإخفاتيّة ضدّ للجهريّة و بالعكس و يكون مفوّتة لها

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 87

بالمضادّة، مع كون ما فات أهمّ.

الخامس: أن نلتزم بالمصلحتين على نحو ما تقدّم، لكن مع تقييد المصلحة القائمة بصرف الوجود بحال الجهل بالمصلحة القائمة بالمقيّد، فيكون سنخه سنخ الحكم الظاهري، لكنّ الفرق أنّ الحكم الظاهري لا مصلحة تحته بناء على الطريقيّة، و هذا تحته مصلحة.

و حينئذ فإن صحّحنا وجود الأمرين الفعليّين بواسطة اختلاف الرتبة و إن كان الموضوع متّحدا في الخارج فلا إشكال في صحّة التقرّب بقصد امتثال الأمر الفعلي المتوجّه إلى الجاهل، و إن لم نصحّحه فيكون الموجود في حقّ الجاهل بالنسبة إلى الصلاة الفاقدة صرف الملاك و الجهة، و هو كاف في العباديّة أيضا، و

هذا الوجه كما ترى سليم عن جميع الإشكالات.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 88

[المسألة] الثانية يستثنى من وجوب الإخفات في أوليي الظهر يوم الجمعة
اشارة

سواء أتى فيه بالجمعة أم بالظهر مكانها، فلا يجب الإخفات في أولييهما.

أمّا الجمعة

فالأخبار بالجهر فيها متظافرة، و ظاهرها الوجوب، و لا صارف عنه إلّا ما ادّعي من الإجماع على نفي الوجوب.

و استشكله صاحب الجواهر قدّس سرّه بأنّ المظنون إرادة مدّعيه أصل الرجحان في مقابل وجوب الإخفات في سائر الأيّام، فلا منافاة فيه مع ظاهر الأخبار، و يؤيّده ما حكي عن العلّامة قدّس سرّه من أنّه لم يقف على قول للأصحاب في الوجوب و عدمه.

و على كلّ حال فأصل المشروعيّة، بل مطلق الرجحان في الجملة ممّا لا ريب فيه نصّا و فتوى، و قد عرفت ظهور الأوّل في عدم مشروعيّة الإخفات، فإن تمّ إجماع على مشروعيّته أيضا كان صارفا لظهور النصّ، و إلّا كما هو الظاهر فالأقوى هو الوجوب، هذا هو الكلام في الجمعة.

و أمّا صلاة الظهر يومها

فهل هي أيضا ملحقة بها في رجحان الجهر أو وجوبه، أو هي مثل الظهر في سائر الأيّام في وجوب الإخفات؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 89

اختلف الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم في ذلك، لكن المشهور على الاستحباب، و قيل بالتفصيل بين الإمام و المنفرد بالاستحباب في الأوّل و المنع في الثاني، و المنشأ اختلاف الأخبار.

فمنها: ما يدلّ على مشروعيّة الجهر بل و وجوبه، كصحيحة الحلبي «قال:

سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يصلّي الجمعة أربع ركعات، أ يجهر فيها بالقراءة؟

قال عليه السّلام: نعم و القنوت في الثانية» «1».

تقريب الاستدلال أنّ قوله عليه السّلام: نعم، بمنزلة قوله: يجهر فيها، و هو جملة خبريّة، و ظهورها في الوجوب أبلغ من الصيغة كما قرّر في الأصول، نعم قد يقال:

إنّها بواسطة ورودها مورد توهّم الحظر لا دلالة لها على الوجوب، و لكنّ الحقّ أنّها واردة مورد توهّم الوجوب بناء على القول بوجوب الجهر في الجمعة المصطلحة، إذ الظاهر

أنّ نظر السائل إلى أنّ الظهر حكمها حكم الجمعة في وجوب الجهر أوّلا، فأجاب عليه السّلام: نعم، كما أنّا لو قلنا بالاستحباب في الجمعة كان مفاد الخبر هو الاستحباب في الظهر.

و مثلها في الدلالة صحيحته الأخرى، إلّا أنّه قال: أجهر بالقراءة؟

فقال عليه السّلام: نعم «2». مضافا إلى قوله عليه السّلام: اجهروا، و قوله عليه السّلام: و القراءة فيها جهر في خبرين آخرين «3».

و إذن فحيث عرفت ابتناء الأمر في هذه الأخبار على الحال في الأخبار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2 و 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 90

الواردة في صلاة الجمعة و أنّه هل يستفاد منها الوجوب أو لا، فاعلم أنّ الإنصاف عدم ظهور واحد من أخبار ذلك الباب في الوجوب، إذ لم يرد خبر في مقام إفادة حكم الجهر مستقلّا، بل الأخبار بين وارد مورد حكم آخر، و بين ما ذكر فيه بعض المستحبّات، فيوهن بذلك ظهوره في الوجوب، و الأولى التيمّن بذكرها حتّى يتّضح الحال، فنقول و على اللّٰه التوكّل:

منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال: إنّما فرض اللّٰه عزّ و جلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا و ثلاثين صلاة، إلى أن قال عليه السّلام: و القراءة فيها بالجهر، و الغسل فيها واجب» «1».

و صحيحة عبد الرحمن العزرمي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا أدركت الإمام يوم الجمعة و قد سبقك بركعة فأضف إليها ركعة أخرى و اجهر فيها، و إن أدركته بتشهّد فصلّ

أربعا» «2».

و صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة و ليلبس البرد و العمامة و يتوكّأ على قوس أو عصا و ليقعد قعدة بين الخطبتين و يجهر بالقراءة و يقنت في الركعة الأولى منهما قبل الركوع» «3».

و ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن عمران أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام فقال: لأيّ علّة يجهر في صلاة الجمعة و صلاة المغرب و صلاة العشاء الآخرة و صلاة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1 و 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 91

الغداة، و سائر الصلوات الظهر و العصر لا يجهر فيهما إلى أن قال: «فقال عليه السّلام: لأنّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله لمّا اسري به إلى السماء كان أوّل صلاة فرض اللّٰه عليه الظهر يوم الجمعة فأضاف اللّٰه عزّ و جلّ إليه الملائكة يصلّي خلفه و أمر نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله أن يجهر بالقراءة ليتبيّن لهم فضله» الحديث.

و رواه في العلل عن حمزة بن محمّد بن العلوي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عليّ بن معبد عن الحسين بن خالد عن محمّد بن حمزة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام مثله، إلّا أنّه ذكر صلاة الفجر موضع صلاة الجمعة و ترك ذكر صلاة الغداة «1».

و صحيحتا جميل و محمّد بن مسلم الآتيتان إن شاء اللّٰه تعالى.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا صحيحتا زرارة و عمر بن يزيد فقد سمعت

كونهما مشتملتين على ذكر المستحبّ في تلو الجهر، أعني: غسل الجمعة في الاولى و التوكّؤ على القوس أو العصا و القنوت في الثانية.

و أمّا صحيحة عبد الرحمن فهي واردة مورد حكم آخر و هو بيان أنّ المأموم المسبوق لا يصير صلاته منقلبة إلى الظهر، بل هي باقية على كونها جمعة، فإذا فارق الإمام يعمل بوظيفة الجمعة لا الظهر، فذكر الجهر إنّما هو مسوق لبيان ذلك.

و أمّا رواية الصدوق فمضافا إلى اختلاف النسخة يمكن أن يقال: إنّ السؤال إنّما هو عن العلّة في فعل الجهر في الصلاة المذكورة، لا عن العلّة في إيجابه، و مجرّد وقوع الجمعة في تلو المغرب و العشاء و الغداة لا يفيد المساواة في الحكم بعد كون السؤال عن علّة العمل، و هو مشترك في الجميع.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 92

فإن قلت: سلّمنا، و لكن قوله عليه السّلام: و أمر نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله أن يجهر بالقراءة لا ينكر ظهوره في الوجوب، فإنّ مادّة «ا م ر» قد سلّم في الأصول ظهورها في الوجوب كالصيغة.

قلت: بعد كون السؤال عن العلّة في وقوع الجهر فلا ظهور في هذه الفقرة أيضا، إذ غايته أنّ الأمر الصادر إلى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله ليلة المعراج كان وجوبيّا و هو صار علّة للتشريع على الأمّة، لكن لا يلزم أن يكون هذا الأمر علّة للوجوب في حقّ الأمّة، بل لعلّه صار علّة للاستحباب في مقام التشريع.

و أمّا الصحيحتان الأخيرتان فالظاهر أنّ الأمر فيهما لبيان نفي النهي، حيث إنّه مسبوق بالنهي عن الجهر في الظهر الذي يجمع به في السفر، فكأنّه قال:

الجماعة التي تنعقد في السفر يصلّى بأربع ركعات و الجهر فيها ممنوع، و إنّما الذي لا منع عن الجهر فيه هي الجماعة التي لها خطبة، و هي ما كان في الحضر.

و حينئذ فنقول: ظهور الأخبار المتقدّمة في الظهر يوم الجمعة حيث إنّ الظاهر كونها بمقام السؤال عن التسوية بين الظهر و الجمعة غير مسلّم في الوجوب بعد ما عرفت عدم ظهور الأخبار الواردة في الجمعة في الوجوب، و لعلّه لذا لم يصرّح مفت في الفقهاء رضوان اللّٰه تعالى عليهم بالوجوب في الجمعة، و من المستبعد كون أمر واجبا و لم يصرّحوا به في شي ء من المظانّ، كما أنّه من المستبعد وجوب الجهر في الظهر و لم يصر ذلك مبانا بين الأمّة مع كثرة ابتلائهم به في كلّ أسبوع، بل القائل بوجوب الجهر فيه معدوم ظاهرا، و إنّما القول بين المنع عن الجهر و بين استحبابه مع جواز الإخفات، هذا حال الأخبار المذكورة في طرف الجهر، و قد عرفت عدم دلالتها على أزيد من الاستحباب.

بقي الكلام في معارضتها مع النهي عن الجهر الواقع في صحيحتي جميل و محمّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 93

ابن مسلم، ففي الأولى: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الجماعة يوم الجمعة في السفر؟

فقال عليه السّلام: يصنعون كما يصنعون في غير يوم الجمعة في الظهر، و لا يجهر الإمام فيها بالقراءة، إنّما يجهر إذا كانت خطبة» «1».

و في الثانية: «سألته عن صلاة الجمعة في السفر؟ فقال عليه السّلام: يصنعون كما يصنعون في الظهر و لا يجهر الإمام فيها بالقراءة، إنّما يجهر إذا كانت خطبة» «2».

و قد يقال في مقام الجمع بأنّ هذا النهي حيث إنّه وارد مورد توهّم الوجوب، فمفاده

الإذن في الترك، كما أنّ الأمر بالجهر في الأخبار المتقدّمة حيث إنّه في مقام توهّم الحظر لا يفيد أزيد من الإذن في الفعل.

و بالجملة، فصلاة الظهر يوم الجمعة إذا قيس على الظهر في سائر الأيّام يكون موردا لتوهّم حظر الجهر، فالأمر في تلك الأخبار سيق لرفع هذا التوهّم، و إذا قيس إلى الجمعة عند حصول الشرائط يكون موردا لتوهّم وجوبه، فالنهي في هذين لدفع هذا التوهّم، فيكون مقتضى الجمع العرفي هو الرخصة في كلا الأمرين أخذا بنصّ كلّ من الدليلين و طرحا لظاهر كلّ منهما، هذا ما يقال.

و فيه أنّه ليس كلّ مخالفة ظاهر و لو بالنصّ القائم بقبالة منفصلا مقبولا عند العرف، بل المعتبر كونه متداولا غير مستوحش عند أهل المحاورة كما هو الحال في استعمال صيغة الأمر في مقام إفادة الرجحان الغير المانع عن النقيض، فإنّ إطلاق صيغة افعل في هذا المقام صار من الشائع، فإذا قام نصّ على الرخصة في الترك فلا بأس برفع [اليد] عن ذلك الظاهر بهذا النصّ، و ليس هكذا الحال في استعمال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 94

صيغة لا تفعل في مقام إرادة الإذن في الترك، فإنّه غير مرسوم عند أهل المحاورة و إن كان ليس نصّا في رجحان الترك و مرجوحيّة الفعل، بل ظاهر في ذلك و نصّ في الإذن في الترك، فلو ورد نصّ في الرخصة في الفعل كان فعل الترك و الفعل مساويان، أو فعل الفعل أرجح من الترك، فليس حمل النهي على مجرّد الإذن في الترك جمعا عرفيّا، و

الحكم في هذا الباب مراجعة الوجدان و أهل اللسان.

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ النهي في هذين الخبرين يحتمل وروده في حال و زمان كانت الشيعة في تلك الحال و الزمان مبتلين بالتقيّة و الخوف، و يشهد لذلك أنّ السائل في أحد هذين محمّد بن مسلم، و هو الراوي أيضا لواحد من أخبار الأمر بالجهر، حيث قال: «قال لنا- يعني أبا عبد اللّٰه عليه السّلام-: صلّوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة و اجهروا بالقراءة، فقلت: إنّه ينكر علينا الجهر بها في السفر؟

فقال عليه السّلام: اجهروا بها» «1».

فإن قلت: كيف و قد ذكر في هذه الرواية أيضا إنكار العامّة، و مع ذلك أمر عليه السّلام بالجهر، فقد أمر به في موضع التقيّة.

قلت: ليس في السؤال أزيد من أنّ الجهر من المستغرب عندهم، و ليس الجواب هو الأمر بالجهر في محضر منهم.

و بالجملة، فهذا الراوي الواحد روى كلتا الروايتين، و هذا شاهد على أنّ الثاني كانت لأجل كونها في مقام بيان حكم حال التقيّة، أعني تقيّة السائل، لا تقيّة الإمام عليه السّلام حتّى يكون على خلاف الأصل.

فإن قلت: يبعّد هذا الاحتمال أنّ محمّد بن مسلم كان عالما عارفا بحكم حال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 95

التقيّة، فيبعد أن يكون سؤاله عن هذا الأمر الواضح.

قلت: ليس سؤاله عن ذلك، بل الظاهر أنّه تخيّل ثبوت الجمعة في السفر و سأل عنه، فأجاب الإمام عليه السّلام بالعدم، و ذكر النهي عن الجهر تطفّلا، فكأنّه قال عليه السّلام: لا صلاة جمعة في سفر، و اعلم أنّ الزمان زمان التقيّة، فلا يجهر الإمام بالقراءة، إنّما يجهر إذا

كانت خطبة، يعني في الحضر.

فإن قلت: العبرة بعموم اللفظ، و ليس في شي ء من لفظي السؤال و الجواب ما يوهم التقييد بالذي ذكرت أعني: حال التقيّة و الخوف، و الأصل الإطلاق حتّى يتبيّن الخلاف، فإنّ أصالة الإطلاق قد مهّدت لدفع القيود المحتملة، و هذا منها.

قلت: كما أنّه لو كان في السؤال أو في الجواب لفظ و احتمل أن يكون له مدخليّة في الجواب كما لو سئل عن حكم الرجل فقال: يجب عليه كذا، فاحتملنا أنّ هذا الحكم ممّا لا يشترك فيه الرجل و المرأة فلا إطلاق يدفع به هذا الاحتمال، و إنّما نتعدّى عن الخصوصيّات المذكورة في الأسئلة مع توجّه الجواب إليها، مثل كون الراوي شخصا خاصّا أو كون السؤال عن ملاقاة النجاسة لليد أو الثوب مثلا بواسطة القطع بعدم المدخليّة و مساواة هذا الشخص و غيره و اليد و الثوب و غيرهما في الحكم، و إلّا فلو كان الخصوصيّة المذكورة ممّا يحتمل دخله فليس لنا إطلاق ندفع به هذا الاحتمال.

و لا ينافيه عدم إضرار القدر المتيقّن في مقام التخاطب بالأخذ بالإطلاق، فإنّه في ما إذا كان موضوع القضيّة بحسب اللفظ عامّا، و لكن كان بعض الأفراد متيقّنا.

و ما نحن فيه هو ما إذا لم ينعقد القضيّة ابتداء إلّا في الموضوع الخاصّ، لكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 96

يحتمل عدم مدخليّة الخصوصيّة و تعلّق الحكم بالعامّ، و ذكره من باب المثال و كونه أحد الأفراد و يحتمل المدخليّة، ففي هذه الصورة لا مجال للأخذ بالإطلاق، هذا في صورة الذكر.

فكذلك لو وجّه الخطاب إلى شخص خاصّ بدون عموم في لفظ الجواب، و لكن يحتمل كون ذلك الشخص واجدا لخصوصيّة كانت ذات مدخليّة في الحكم المذكور،

فليس لنا التعدّي إلى فاقد تلك الخصوصيّة، كما لو وجّه الخطاب إلى شخص كائن من وراء الجدار و لا يرى شخصه و يحتمل كونه رجلا و كون هذا الحكم مختصّا به بعنوان الرجوليّة، فليس لنا التعدّي إلى المرأة.

فنقول: من هذا القبيل ما نحن فيه، فإنّ الخطاب في الخبر موجّه إلى محمّد بن مسلم، و نحن نعلم أنّ خصوصيّة كونه محمّدا و ابن مسلم غير دخيلة، و لكن من المحتمل باحتمال عقلائي لا مدفع له بأصل من الأصول كونه في حال هذا الخطاب مبتلى بالتقيّة و الخوف، و كذا عامّة الشيعة بحيث كان الجهر مظنّة لإيراث الفتنة و كان الخطاب المذكور مسبّبا عن هذه الجهة، و قد عرفت أنّه يشهد له أيضا أنّه سمع من الإمام عليه السّلام مرّة أخرى الأمر بالجهر، و قال هو هذا من المنكرات عند العامّة، و أمره أيضا بالجهر، و لم يعترض في شي ء من الروايتين، فيعلم أنّه أيضا فهم أنّ الأمر هو الحكم الأوّلي و النهي هو الحكم الثانوي.

و على هذا فمقتضى الأخبار المتقدّمة الآمرة بالجهر التي عرفت عدم دلالتها على أزيد من الاستحباب هو رجحان الجهر، و من المعلوم أنّه مقيّد بغير حال التقيّة و الخوف، و أمّا فيها فيحرم الجهر، و يحتمل كون الخبرين أيضا مسوقين لذلك، لوجود الحالتين في زمان صدور الخبرين، و معه لا يبقى مجال لرفع اليد عن إطلاق سائر الأخبار في إفادة الرجحان بالنسبة إلى حالة الأمن و عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 97

التقيّة، و اللّٰه تعالى هو العالم.

ثمّ لو سلّم عدم كون ما ذكرنا أيضا وجها وجيها فلا محيص عن بقاء التعارض بين الطائفتين و عدم الجمع العرفي في البين، فيجب

الرجوع إلى المرجّحات، و قد يقال بأنّ المرجّح مع الطائفة الآمرة بملاحظة مخالفتها مع العامّة و موافقة الناهية معهم.

و لكنّ الحقّ ترجيح الطائفة الناهية بملاحظة موافقتها مع عموم السنّة الدالّ على وجوب الإخفات في الصلاة النهاريّة الظهر و العصر، كقوله عليه السّلام في ما رواه الصدوق: «و الصلاتان اللتان لا يجهر فيهما إنّما هما بالنهار» «1».

و قد حقّق في محلّه أنّ الترجيح بموافقة العموم القرآني أو الموجود في السنّة مقدّم على الترجيح بمخالفة العامّة، و على هذا يجب الإخفات، فالمتحصّل من مجموع ما ذكرنا أنّ الجهر في ظهر يوم الجمعة أفضل، و الإخفات أحوط.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 98

[المسألة] الثالثة [عدم معذورية المتعمد]

لا إشكال في أنّ مقتضى صحيحة زرارة المتقدّمة الواردة في من جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الجهر فيه معذوريّة الناسي و الساهي و الجاهل، و عدم معذوريّة المتعمّد.

و هل المعيار هو الشرطيّة الاولى، أعني: عدم معذوريّة المتعمّد، فالشرطيّة الثانية من باب ذكر أحد المصاديق لمفهوم الأولى، أو أنّ المعيار هو الثانية، فالأولى من باب أحد المصاديق لمفهومها.

و تظهر الثمرة في ما إذا أخفت في موضع الجهر أو عكس بدون تحقّق شي ء من عنواني التعمّد و سائر المذكورات بقبالة، كما لو كان لسبق اللسان أو مانع آخر عن ظهور جوهر الصوت، فإنّه خارج عن عنوان المتعمّد و كذا الناسي و الساهي و الجاهل.

فإن قلنا بالأوّل نحكم فيه بالمعذوريّة، لأنّه من مصاديق غير المتعمّد، و قد فرضنا أنّ كلّ من كان غير متعمّد فهو محكوم بالمعذوريّة.

و إن قلنا بالثاني نحكم بالعدم، لأنّ المفروض الحكم بعدم معذوريّة كلّ من لم يكن بناس و لا ساه

و لا جاهل، و هذا أيضا كذلك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 99

و الظاهر من الوجهين هو الأوّل، و لا يبعد ادّعاء ذلك في عامّة نظائره كما في قولك: إن غسلته بالمركن فمرّتين، و إن غسلته في الجاري فمرّة واحدة، فيحكم بأنّ المراد إثبات المرّتين في القليل و كفاية المرّة في غيره و لو لم يكن جاريا كالكرّ.

و لو كان جاهلا بمفهوم الجهر و الإخفات مع العلم بالصغرى و الكبرى، بمعنى أنّه يعلم أنّ هذه الصلاة صلاة الظهر، و يعلم أنّ صلاة الظهر يجب شرعا فيها الإخفات، و لكنّه تخيّل أنّ أدنى مرتبة الجهر من الإخفات، فهل يحكم فيه بالعذر نظرا إلى أنّه داخل في مفهوم لا يدري، لعمومه لكلّ جهل موضوعيّا أم حكميّا أم مفهوميّا، أو بالعدم، نظرا إلى أنّ قوله عليه السّلام: لا يدري، ليس المراد به مطلق من لا يعلم، و إلّا لم يصحّ مقابلته بالناسي و الساهي، لأنّهما أيضا من أفراد من لا يعلم، فالمقابلة قرينة على إرادة الجاهل بالموضوع جهلا مركّبا، كمن اعتقد أنّ التي بيده صلاة الظهر و قد كانت مغربا، أو بالحكم بسيطا أو مركّبا، كمن يتردّد في حكم صلاة الظهر أو يعتقد كونه الجهر، و قد عرفت أنّ الشخص المفروض خارج عن كلا القسمين، لأنّه عالم بالموضوع و الحكم معا، و إنّما يكون جاهلا بأمر غيرهما و هو المفهوم.

ثمّ إنّه داخل في من تعمّد الجهر موضع الإخفات، لأنّ فعل الجهر وقع منه عن عمد، فيكون داخلا في المنطوق.

الظاهر هو الأوّل، فإنّ المقابلة غير مقتضية لعدم الشمول لهذا القسم، فإنّ النسيان و السهو أيضا كما يتصوّران بالنسبة إلى الموضوع و الحكم يتصوّران بالنسبة إلى المفهوم، فيكون الجهل أيضا

عامّا.

اللّٰهمّ إلّا أن يدّعى الانصراف إلى السهو و النسيان الراجعين إلى الحكم أو الموضوع، و بقرينتهما يكون الجهل أيضا خاصّا بهما، و لكن هذه الدعوى مشكلة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 100

هذا هو الكلام في الجهل بالمفهوم.

و أمّا الجهل بالحكم فلا إشكال في معذوريّة الجاهل المركّب، و أمّا المتردّد فإن ادّعي انصراف كلمة لا يدري إلى الجهل التركيبي فلا إشكال في دخوله تحت المتعمّد، و لكن الظاهر عدم صحّة هذه الدعوى، و لهذا نقول بعموم أدلّة الأصول، مع أنّ الموجود فيها عدم العلم، و كذا أدلّة شكوك الصلاة، مع أنّ الموجود في بعضها كلمة لا يدري.

فإن قلت: سلّمنا عدم الانصراف، و لكن لا إشكال في صدق المتعمّد بالنسبة إلى الشاكّ المتردّد أيضا، فمقتضى القاعدة بناء على معياريّة الصدر هو الحكم بعدم العذر.

قلت: و إن كان المعيار هو الصدر بناء على ما قوّيناه، و لكن إذا فرّع المتكلّم عليه معذوريّة الجاهل يعلم أنّ المراد من المتعمّد هو من لا يشمل الجاهل و لا عكس بأن يقال: إنّ المراد من الجاهل هو من لا يشمل المتعمّد، و ذلك لأنّه يدفع ذلك إطلاق كلمة الجاهل، و العرف أقوى شاهد، حيث إنّهم يأخذون بإطلاق الجاهل و يتصرّفون في المتعمّد بحمله على غير هذا الفرد.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن الجاهل المتردّد لا يتمشّى منه قصد القربة، فيبطل صلاته من هذه الجهة، كما صرّح بذلك شيخنا المرتضى قدّس سرّه في صلاته.

قلت: الحقّ عدم المانع من هذه الجهة أيضا، إذ أوّلا: يمكن أن يأتي بالجهر مثلا في حال الجهل برجاء مطابقته للواقع، فإن انكشف الوفاق فهو، و إلّا فيكون معذورا بمقتضى قوله عليه السّلام: و قد تمّت صلاته.

و ثانيا: يمكن أن

يلتفت إلى حكم الجاهل و يدعوه هذا الأمر إلى العمل، فيكون متقرّبا بسببه، و بالجملة فالظاهر شمول لفظة لا يدري للجهل الترديدي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 101

نعم يمكن أن يقال بالفرق بين القادر على الفحص و لم يفحص، و بين العاجز عنه و القادر الذي فحص و لم يظفر، فيدّعى انصراف الكلمة عن القسم الأوّل، و لهذا نحكم في الشكوك الصلاتيّة بالتروّي مقدارا يصدق استقرار الشكّ عرفا، فإنّ من بجنبه من لو سأله لاتّضح له الحال لا يصدق عليه أنّه لا يدري، أو أنّه لا يعلم أو يشكّ.

نعم قام الإجماع في الشبهات الموضوعيّة بعدم لزوم الفحص، و أمّا الشبهات الحكميّة فلزوم الفحص فيها بديهي، و سرّه هو ما ذكرنا من انصراف أدلّة الرخصة في الشكوك إلى الشكوك المستقرّة دون الابتدائيّة.

و على هذا فالجاهل المتردّد القادر على الفحص و السؤال بسهولة لو صلّى و خالف الواقع فلا نحكم بمعذوريّته، لكونه باقيا تحت عنوان المتعمّد، و أمّا القسمان الآخران فلا وجه للقول بعدم العذر فيهما.

و الذي أفاده شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه علينا فيض أنفاسه القدسيّة أنّ الحقّ اختصاص كلمة لا يدري بالجهل المركّب و خروج الجهل البسيط عنه، و كذا عن العمد، بيان ذلك أنّ الظاهر من الصدر أعني قوله عليه السّلام: أيّ ذلك فعل متعمّدا إلخ أنّ العنوان المفروض في السؤال و هو الجهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه و الإخفاء في ما لا ينبغي الإخفاء فيه وقع مستندا إلى العمد و الاختيار، و من المعلوم أنّه لا يتّفق ذلك إلّا بعد العلم بكونه جهرا في موضع الإخفات أو بالعكس، و لا يكفيه مجرّد وقوع الجهر في حال الالتفات بدون استناد لحيث كونه في

موضع الإخفات إلى عمده و إرادته، كما هو الحال في الشاكّ، فإنّه و إن كان صدور الجهر باختياره و بتسبيب من إرادته و عمده، لكنّه من جهة كونه في موضع الإخفات غير مستند إلى العمد و الاختيار، و هذا واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 102

ثمّ ظاهر المقابلة بين الصدر و الذيل كون أحد العناوين المذكورة في الذيل علّة لوقوع العنوان المذكور في السؤال، و هذا في النسيان و السهو و الجهل المركّب صحيح، إذ يصحّ أن يقال: وقع الجهر في موضع الإخفات مستندا إلى النسيان، أو إلى السهو، أو إلى الجهل المركّب، و أمّا الشاكّ فلا يصحّ فيه أن يقال: الشكّ سبب للجهر في موضع الإخفات، لأنّ الطرفين في نظر الشاكّ متساويان، فلا يعقل صيرورة الشكّ علّة لوقوع أحد الطرفين، لأنّه ترجيح بلا مرجّح، فالشكّ غير دخيل في حصول الجهر المذكور بالمرّة، و قد عرفت أنّ العمد أيضا لم يتعلّق به بالعنوان المذكور، أعني كونه في غير الموضع، بل تعلّق به بعنوان الرجاء و الاحتياط.

و الحاصل أنّ الظاهر من الصدر و الذيل كون الأمور المذكورة أسبابا و عللا للعنوان المذكور، و حيث ليس ذلك متحقّقا في موضوع الشاكّ فيكون خارجا عن كلا الطرفين.

فإن قلت: من أين يستفاد السببيّة و ليس قوله: متعمّدا، و كذا قوله: ناسيا أو ساهيا، أو لا يدري، إلّا حالا، و لا يفيد إلّا تلبّس الفاعل بأحد هذه المبادي حال الفعل بالأعمّ من كونه على وجه السببيّة و الاستناد أو غيره.

قلت: بيننا و بينك العرف، فالمدّعى أنّ قول القائل: فعل فلان كذا عمدا أو عامدا أو ساهيا أو ناسيا أو جاهلا مساوق لقولنا: عن عمدا أو عن نسيان إلخ.

فإن قلت: قد

قلت سابقا: إنّ المعيار هو الصدر، فاللازم على حسبه القول بالعذر، لأنّه خارج عن الصدر و إن لم يدخل في عنوان لا يدري أيضا كما قلت في عنوان سبق اللسان.

قلت: المفروض في الشرطيّة وجود سبب في البين للعنوان المذكور، و بعد الفراغ عن هذا سيق الشرطيّتان، فكأنّه قيل: إن كان السبب من اختياره فكذا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 103

و إن كان من غير اختياره فكذا، و الحاصل أنّ الشرطيّة قد يكون كقولنا: إن وقع العنوان المذكور، بسببيّة اختياره فكذا، و إلّا فكذا، و من المعلوم دخول ما نحن فيه حينئذ في المفهوم.

و قد يكون هكذا: السبب فيه إن كان اختياره فكذا، و إلّا فكذا، فحينئذ لا يدخل فيه، لأنّ السبب هو العمد، لكن لا بعنوان الواقع، بل بعنوان احتماله و رجائه، و الظاهر من التعبيرين في الخبر هو الثاني، و على هذا فلا بدّ من الرجوع في الشكّ إلى مقتضى القواعد.

و هل المعذوريّة في الناسي و أمثاله مختصّ بما إذا تذكّر بعد الفراغ، أو يعمّه و ما إذا تذكّر في الأثناء و لو كان قبل الركوع، بل و لو كان في أثناء الآية لا يجب عليه إعادة ما قرأه، الحقّ هو الثاني لوجهين:

أحدهما: ما قيل في تعميم قاعدة لا تعاد بالنسبة إلى الأثناء من كون الإعادة أعمّ من الاستئناف في لسان الأخبار، و لكن لا يخفى أنّه لا ينفع لجميع أفراد المقام، فإنّ المقصود في القاعدة الحكم بالصحّة عند التذكّر بعد المحلّ، فلو نسي الحمد و تذكّر بعد السورة قبل الركوع يجب عليه التدارك، و المقصود في المقام هو الحكم بالصحّة و لو كان في أثناء الآية فضلا عن كونه بعد الفراغ من الحمد

أو السورة، ركع أم لم يركع.

فالتعميم من هذه الجهة محتاج إلى الوجه الثاني و هو أنّ قوله عليه السّلام في الصحيحة: أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته ليس المراد به الحكم بالنقض بعد فراغه من الصلاة، بل المقصود ترتّب النقض أو النقصان بمحض إخلاله العمدي، كما هو الحال لو قيل: من تكلّم في الصلاة فقد أبطل صلاته، حيث إنّ المراد قطعا حصول الإبطال حين وقوع التكلّم و لو فرض أنّ المفروض في كلام السائل و المجيب هو إتمام الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 104

فإن قلت: بعد ما كان المفروض كون المصلّي قد فرغ من صلاته و قد أخلّ بالجهر عمدا فالحكم بالبطلان لا ينفع بالنسبة إلى من فعل ذلك و لمّا يركع، إذ لعلّ البطلان في مفروض الرواية لكونه قد أخلّ و لم يتدارك في المحلّ.

قلت: و إن كان المفروض إتمامه الصلاة بهذا الوجه من غير تدارك في المحلّ، لكن إذا علّق الإمام عليه السّلام الحكم بالبطلان بمحض كونه فعل ذلك متعمّدا فهو ظاهر لو لم يكن بصريح في أنّ تمام العلّة في البطلان هو هذا العنوان، لا هو مع ضميمة تركه للتدارك.

ثمّ إذا كان المراد بقوله: نقض، هو الحكم بالنقض عند الإخلال العمدي فبقرينة المقابلة يكون المراد من قوله عليه السّلام: و إن فعل ذلك، إلى قوله: و قد تمّت صلاته، أيضا أنّه لم يحدث من قبل ما فعله بأحد الوجوه المذكورة نقصان في صلاته كما كان قد حصل بواسطة الإخلال العمدي، و مقتضى ذلك عدم لزوم الإعادة، إذ لو لزم الإعادة فمقتضاه ورود النقصان من قبل الإخلال السهوي و أمثاله، و هو خلاف قوله عليه السّلام: تمّت صلاته قبالا لقوله: نقض

صلاته، فافهم و اغتنم.

ثمّ إنّ المتيقّن من الرواية هو الإخلال في القراءة في الأوليين، و أمّا التسبيحات أو القراءة في الأخيرتين فخارج عنها، و هل يختصّ بالإخلال بما هو الوظيفة الأوّليّة أو يعمّه و ما صار وظيفة بالعنوان الثانوي كالمأموم المسبوق و كالمرأة إن قلنا بأنّ صوتها عورة يحرم إسماعها الأجنبيّ أو فرضناه في موضع الريبة، حيث يحرم عليهما الجهر و إن كان هو الوظيفة الأوّلية؟

الظاهر الأوّل، إمّا لدعوى الانصراف أو لعدم الجزم بالإطلاق فيجب المشي فيه على القواعد و هو الحكم بالصحّة بعد الفراغ أو في الأثناء بعد المحلّ في النسيان و السهو و الحكم بالبطلان في العمد و الجهل الحكمي، قصورا كان أو تقصيرا.

ثمّ إنّ الأخبار المتعرّضة لحكم الجهر و الإخفات في الصلوات و أصل تشريعهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 105

خالية عن ذكر الرجل و إن كان على تقدير الذكر لم يكن لنا التعدّي إلى المرأة، لعدم إطلاق في اللفظ يدفع به هذا الاحتمال، بل علّق الحكم على الصلوات النهاريّة و غيرها من دون ذكر لاسم الرجل.

نعم في صحيحتي زرارة الواردتين في مقام حكم الإخلال بالجهر و الإخفات في مواضعهما قد ذكر اسم الرجل، لكن لا يحتمل الاختصاص من هذه الجهة، بمعنى أنّه لو ثبت من دليل آخر وجوب الإخفات على المرأة نعلم بأنّها أيضا في حكم الرجل لو أجهرت مكان الإخفات في التفصيل المذكور في الصحيحة.

و على هذا فنقول: أمّا وجوب الإخفات عليها في الظهرين فلا مانع من الأخذ بإطلاق ما دلّ على وجوبه في الصلوات النهاريّة، و أمّا وجوب الجهر في الثلاثة الأخرى فهو أيضا كذلك حسب عموم ما دلّ على وجوبه في غير النهاريّة، لكن رواية عليّ بن

جعفر عليه السّلام المرويّة عن قرب الإسناد عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن النساء هل عليهنّ الجهر بالقراءة في الفريضة؟ قال عليه السّلام: لا، إلّا أن تكون امرأة تؤمّ النساء فتجهر بقدر ما تسمع قراءتها» «1». دلّت على نفي الوجوب عنهن، و بها يخصّص العموم المذكور، و بعد ذلك يبقى وجوب الإخفات بالأصل، فيكون الحاصل جواز الأمرين لهنّ في الثلاثة لو لم نقل بظهور ذلك من نفس الرواية، لكن هذا في ما إذا لم يكن أجنبيّ يسمع صوتها بناء على كون صوتها عورة أو فرض تحقّق الريبة، فإنّه حينئذ لا إشكال في حرمة الإجهار عليها.

لكن لو عصت و أجهرت فهل يكون ذلك من موارد اتّحاد الحرام مع الواجب أعني: الإجهار مع القراءة، أو أنّ النهي متعلّق بما هو خارج عن القراءة؟

قد يقال بالأوّل نظرا إلى أنّ القراءة من مقولة الصوت، و لهذا اشتهر بينهم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 31 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 106

تعريف اللفظ بالصوت المعتمد على مخارج الفم، و لا إشكال أنّ الجهر و الإخفات أيضا من كيفيّات الصوت.

و فيه: أنّ القراءة لا يتحقّق بدون الصوت كما لا تحقّق لها بدون القارئ و مخارج الفم، لا أنّ مفهومها واحد، و الشاهد على هذا أنّه لا يصحّ حمل أحدهما على الآخر، فلا يقال: القراءة صوت، و لا الصوت قراءة، كما لا يصحّ ذلك بالنسبة إلى الجهر و الإخفات، فلا يقال: القراءة جهر أو إخفات، بل يقال: جهريّة أو إخفاتيّة، نعم بينهما تلازم في الوجود، فلا يمكن التفكيك بين القراءة و الصوت.

نعم يمكن أن يقال: إنّ الذي وقع تحت النهي في بعض الأخبار هو

عنوان تكلّم المرأة عند غير زوجها و غير ذي محرم، كما في رواية الحسين بن زيد المرويّة في الوسائل في كتاب النكاح عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في حديث المناهي «قال عليه السّلام: و نهى ان تتكلّم المرأة عند غير زوجها و غير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات ممّا لا بدّ لها منه» «1».

و في رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، و كثرة مناقشة النساء، يعني محادثتهنّ» «2» الخبر.

و على هذا فلو حمل هذا النهي على التحريم و إن كان خلاف الظاهر لوقوعه في سياق ما يقطع بكراهته يتحقّق الاتّحاد بينه و بين القراءة كما هو واضح، فلعلّ نظر من جعله من باب الاجتماع إلى هذا النهي بناء على الحرمة، لا للبناء على تحريم إسماع صوتها مطلقا، هذا ما قاله العلّامة الأستاذ دام ظلّه، فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب النكاح، الباب 106 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب النكاح، الباب 106 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 107

[المسألة] الرابعة قيل: أقلّ الجهر أن يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع،

و الإخفات أن يسمع نفسه إن كان يسمع، و مقتضاه عدم الوجود للإخفات أو بعسر و حرج، و لهذا جعل ذلك بعضهم أدنى الإخفات، و مقتضاه اجتماعهما في بعض المراتب، و هو خلاف ما يتبادر إلى الذهن من كونهما و صفين متضادّين، و أحاله بعض آخر إلى العرف، و فيه أنّه أيضا غير صحيح، لأنّ العرف يجعلونهما متضايفين، فكلّ مرتبة أخفى إخفات بالنسبة إلى ما فوقها،

و كلّ عال بالنسبة إلى الأعلى منه سافل و بالعكس.

فما جعله بعضهم معيارا للمعنى العرفي من ظهور جوهر الصوت في الجهر و خفائه في الإخفات غير وجيه.

و الأسدّ الأمتن في الباب أن نتمسّك بسيرة المسلمين المقطوع كونها من لدن شرع الصلاة إلى زماننا هذا، و قد كانوا يصلّون خلف النبيّ و الأئمّة صلوات اللّٰه عليه و عليهم أجمعين إلى أن وصل إلينا، فهذا المرسوم بينهم هو الذي كان قد علّمهم النبيّ و الأئمة صلوات اللّٰه عليه و عليهم و شاهدوه منهم عليهم السّلام.

و لو لا ذلك أمكن أن يقال: إنّ المستفاد من الأدلّة المثبتة للجهر في موضعه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 108

رفع الصوت بحيث يعرف صاحبها عند السامع لو كان بينهما معارفة، و من الإخفات ما يقابله، و لا يخفى أنّه مع خفاء جوهر الصوت و لو كان على نحو البحّة لا يعرف الصاحب لو خفي شخصه، بخلاف ما إذا أظهر جوهر الصوت.

و لكن على هذا يلزم الالتزام بعدم كفاية ما كان على وجه الهمهمة مع ظهور جوهر الصوت، بل و اللازم عليه دخول ذلك في الإخفات، و السيرة تأباه و إن كان لا تأبى عدم دخوله في الجهر، و إلّا فمن حيث الجهات الأخر مطابق مع السيرة، فإنّ محلّ السيرة في الجهر هو ما لا يتعدّى في العلوّ عن المتعارف كما هو ديدن المؤذّنين، و لا يصل في الخفاء إلى حدّ الهمهمة، كما أنّ محلّها في الإخفات هو الإخفاء لجوهر الصوت و لو بلغ حدّ البحّة، لكن هذا ممّا لا يساعده شي ء من الكلمات، لاتّفاق كلّها على دخول الهمهمة في الجهر، و إن كان الظاهر من البعض دخولها في الإخفات أيضا، هذا

حدّ الجهر و الإخفات.

و أمّا حدّ أصل القراءة الذي لو تجاوزه خرج عن اسم القراءة فأقلّه أن يسمع نفسه، فالأقلّ من ذلك خارج عن اسم القراءة عرفا، مضافا إلى النهي عنه في بعض الأخبار، فراجع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 109

[المسألة] الخامسة يستحبّ في الصلوات الإخفاتيّة الجهر بالبسملة مطلقا

على المشهور، و قيل:

يختصّ الاستحباب بالإمام دون غيره، و قيل: يختصّ بالأوليين دون الأخيرتين لو اختار فيهما القراءة، و قيل بالوجوب مطلقا، و قيل به في خصوص الأوّلتين، هذه أقوال المسألة.

و أمّا الصلوات الجهريّة فيجب فيها الجهر بالبسملة كغيرها من أجزاء القراءة اتّفاقا، فالخلاف إنّما هو في الإخفاتيّة، و ينبغي التيمّن أوّلا بذكر ما ورد عن أهل بيت العصمة و الطهارة من الأخبار.

فنقول: منها: ما رواه في الكافي عن صفوان الجمّال «قال: صلّيت خلف أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أيّاما، فكان عليه السّلام إذا كانت صلاة لا يجهر فيها جهر ببسم اللّٰه الرحمن الرّحيم، و كان يجهر في السورتين جميعا» «1».

و منها: ما رواه فيه أيضا عن هارون عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: كتموا بسم اللّٰه الرحمن الرّحيم، فنعم و اللّٰه الأسماء كتموها، كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إذا دخل إلى

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 110

منزله و اجتمعت عليه قريش يجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرّحيم و يرفع بها صوته، فتولّى قريش فرارا، فأنزل اللّٰه تعالى وَ إِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً «1».

و بعد ملاحظة كتمان العامّة للبسملة في ابتداء الفاتحة و السورة أو تركها رأسا يصير هذا الخبر ظاهرا في باب الصلاة.

و منها: ما رواه الشيخ قدّس سرّه

عن صباح الحذّاء عن رجل عن أبي حمزة «قال:

قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: يا ثمالي، إنّ الصلاة إذا أقيمت جاء الشيطان إلى قرين الإمام فيقول: هل ذكر ربّه، فإن قال: نعم، ذهب، و إن قال: لا، ركب على كتفيه و كان إمام القوم حتّى ينصرفوا، قال: فقلت: جعلت فداك، أ ليس يقرءون القرآن؟

قال عليه السّلام: بلى، ليس حيث تذهب يا ثمالي، إنّما هو الجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم» «2».

و منها: ما رواه الصدوق قدّس سرّه عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين «قال عليه السّلام: و الإجهار ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم في الصلاة واجب» «3».

و عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه عليه السّلام إلى المأمون لعنه اللّٰه «قال عليه السّلام: و الإجهار ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم في جميع الصلوات سنّة» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2. و الآية في سورة الإسراء: 46.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 111

و عن رجاء بن أبي الضحّاك عن الرضا عليه السّلام «إنّه كان عليه السّلام يجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرّحيم في جميع صلواته بالليل و النهار» «1».

و منها: ما رواه في الكافي عن سليم بن قيس الهلالي «قال: خطب أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله متعمّدين لخلافه، و لو حملت الناس على تركها

لتفرّق عنّي جندي، أ رأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي كان فيه، إلى أن قال عليه السّلام: و حرّمت المسح على الخفّين و حدّدت على النبيذ و أمرت بإحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم، إلى أن قال عليه السّلام: إذا لتفرّقوا عنّي» «2» الحديث.

بناء على أنّ المراد الجهر في الصلوات كما يشهد به سائر الروايات، و يشهد له الأخبار المستفيضة الواردة في أنّه من علائم المؤمن و الشيعة «3».

إذا عرفت ذلك فينبغي التكلّم في مقامات:

الأوّل: الظاهر من إطلاق روايتي الأعمش و الفضل بن شاذان عدم الفرق بين الإمام و المنفرد في رجحان الجهر، و يؤيّده ما عدّه من علائم المؤمن و الشيعة بعد ملاحظة مواظبة العامّة على الترك.

الثاني: و كذا لا فرق بحسب الظاهر بين الأوّلتين و الأخيرتين عند اختيار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 38 من أبواب الوضوء، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 56 من أبواب المزار، الحديث 2، و لم نعثر على غير هذه الرواية.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 112

القراءة، لشمول إطلاق الروايتين، مضافا إلى عدم الدليل على لزوم الإخفات، لانحصار دليل أصل الإخفات في الأخيرتين بالعمل و الإجماع، و الأوّل لم يعهد من النبيّ و الأئمة صلوات اللّٰه عليه و عليهم استقراره على الإخفات، بل لم يعلم اختيارهم القراءة مع أفضليّة التسبيح، فضلا عن إخفات البسملة، و الثاني مفقود، لوجود الخلاف حسب الفرض، فيكون إطلاق الروايتين سليما عن المزاحم.

الثالث: الظاهر أنّ المأموم المسبوق سواء في الجهريّة أم في الإخفاتيّة يخفت بالبسملة، أمّا في الجهريّة

فلأنّ الروايات الواردة بالجهر بالبسملة إنّما دلّت على رجحان الجهر بها في مقام يخفت بالقراءة، و إلّا ففي مقام يجهر بها لا حاجة إلى الأمر في خصوص البسملة، فمصبّها الصلوات الإخفاتيّة.

لا يقال: صلاة المأموم المذكور أيضا إخفاتيّة بالعارض و إن كانت جهريّة بالذات.

لأنّا نقول: نعم، و لكنّ الظاهر من الأخبار إثبات الرجحان في ما كانت إخفاتيّة بالذات لا أقلّ من عدم الجزم بالإطلاق لما كانت إخفاتيّة بالعارض، و إذن فيبقى إطلاق ما دلّ على الإخفات في حقّ المأموم المذكور سليما عن معارضة هذه الأخبار و إن كانت النسبة على تقدير شمول الإطلاق عموما من وجه.

و أمّا في الإخفاتيّة فيمكن دعوى القطع بأنّه إذا كان احترام الجماعة موجبا للإخفات في ما كان الجهر واجبا بحسب الذات ففي ما كان مندوبا، كذلك يكون موجبا بطريق أولى.

الرابع: لا إشكال في دلالة الروايات المذكورة على أصل الرجحان، و أمّا أنّه على سبيل الوجوب أو الندب فمقتضى رواية الأعمش هو الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 113

لا يقال: كلمة الوجوب لم يعلم ظهورها في لسان الأخبار في هذا المعنى المصطلح عند الفقهاء، بل هي باقية على معناها اللغوي من الثبوت، كما وقعت كذلك في بعض أخبار تحديد الغروب بذهاب الحمرة و هو قوله عليه السّلام: «فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار» «1» الخبر، و على هذا فلا دلالة لها على الوجوب المصطلح.

لأنّا نقول: نعم، و لكن إذا تمّت مقدّمات الإطلاق فهي محمولة على الوجوب المصطلح، فدلالتها عليه إنّما تكون بضميمة المقدّمات، لا بنفسها، و إذن فمقتضى الرواية المذكورة هو الوجوب.

و أمّا الأخبار الأخر فهي بين ما يحكي العمل، و لا منافاة فيه مع الوجوب، و بين

ما عبّر عنه بأنّه سنّة، و لا منافاة فيه أيضا، و بين ما ذكره من جملة علائم المؤمن و عدّه في عداد أشياء كلّها مستحبّات، و هذا أيضا غايته عدم الدلالة على الوجوب، لا أنّه من الأمارات على الاستحباب إمّا بوجه النصوصيّة أو الظهور الذي يترجّح على الخبر الأوّل، إذ من الممكن صيرورة واجب من خواصّ الشيعة كما في الولاية، كما يمكن عدّ مستحبّ في خواصّ هذه الأمّة، كما عدّ العاشوراء منها.

فالأولى أن يقال بموهونيّة ظهور نفس ذلك الخبر في الوجوب بعد ملاحظة صيرورة ترك الجهر شائعا بين العامّة و شعارا لهم، بحيث صار ذلك من بدعتهم التي اخترعوها، كما صرّح به في رواية سليم بن قيس، و رواية هارون المتقدّمتين، و إليه يشير قول مولانا الرضا صلوات اللّٰه عليه أنّه سنّة، فكأنّه عليه السّلام أراد أنّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 114

ما فعلوه بدعة، فالحكم بالإيجاب بواسطة شدّة العناية، فإنّ العناية بالمندوب و السنّة التي همّت جماعة على إماتتها و إخفائها أعلى بمراتب من غيره الذي لم يعرضه ذلك.

و بالجملة، فمن المحتمل قويّا ورود هذه الكلمة في مقام ردع العامّة في بدعتهم، و لا يستفاد منها في هذا المقام أزيد من أصل الرجحان.

هذا مضافا إلى ما يستفاد من رواية الثمالي من مفروغيّة صحّة الصلاة على كلا الوجهين، أعني: الإجهار و العدم، حيث رتّب على الأوّل ذهاب الشيطان، و على الثاني ركوبه على كتف الإمام، لا لبطلان الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 115

الموقع الرابع في وجوب تعلّم القراءة
اشارة

و ما يتعلّق به و كيفيّة أداء الكلمات مادّة و هيئة، و حكم من لا يحسن القراءة، فهنا مسائل:

[المسألة] الأولى يجب على المكلّف تعلّم القراءة في الوقت أو قبله تخييرا،
اشارة

و لو فرض عدم تمكّنه بعده يجب قبله تعيينا، و هذا ممّا تقرّر في مبحث مقدّمة الواجب من الأصول.

إنّما الكلام في أنّ وجوب التعلّم هل هو على سبيل التعيين أو التخيير بينه و بين الائتمام، أو اتّباع القارئ أو القراءة من المصحف، فهنا ثلاثة مقامات:

[المقام] الأوّل:

لو تمكّن من الائتمام فهل يجب عليه التعلّم تعيينا، أو يجوز الاكتفاء بالائتمام؟ الذي قوّاه صاحب الجواهر قدّس سرّه حاكيا له عن كاشف الغطاء قدّس نفسه هو الأوّل، و استدلّ عليه بأنّ الاقتداء ليس من أفعاله، لتوقّفه على أمور خارجة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 116

عن قدرته، كعدم حدوث الحائل بينه و بين الإمام في أثناء الصلاة و نحوه من الموانع المحتمل حدوثها في الأثناء، و ما هذا شأنه كيف يصير متعلّقا للتكليف؟ و فرّع عليه أنّه لو ترك التعلّم في سعة الوقت و ائتمّ أثم و صحّت صلاته، هذا.

و فيه أنّه كما تكون الجماعة أفضل الفردين في حقّ المحسن للقراءة و معناه أنّه مع الفراغ عن المقدّمات الغير الاختياريّة يكون الأمر متعلّقا بما يرجع إليه و يكون من قبله، فكذلك هذا المعنى متحقّق في حقّ غير المحسن بلا شبهة.

و أمّا ما حكاه عن كاشف الغطاء قدّس سرّه فيمكن أن يكون نظره إلى صورة ترك التعلّم مع عدم الاطمئنان بحصول اقتداء صحيح له في آخر الوقت، بل بمجرّد احتمال الحصول، فإنّه إن لم يتّفق له ذلك كان آثما بلا شبهة، و لو اتّفق صحّت صلاته و عليه إثم التجرّي، لكونه مقدّما على ما يحتمل معه تفويت الواجب المنجّز.

و يمكن أن يكون نظره إلى كون التعلّم واجبا نفسيّا كما يحكى عن بعض.

و على كلّ حال فعلى ما هو الحقّ من

عدم الوجوب النفسي للتعلّم فلا إشكال في جواز تركه مع الاطمئنان بحصول الجماعة الصحيحة.

المقام الثاني: هل يجب عليه التعلّم تعيينا مع التمكّن من اتّباع القارئ؟

و بعبارة أخرى: لا إشكال في تقدّم الاتّباع عند تعذّر التعلّم على اختيار البدل الاضطراري للقراءة كالتسبيح و التهليل على تفصيل يأتي إن شاء اللّٰه تعالى، إنّما الكلام في أنّه مع التمكّن منه و من التعلّم يكون عدلا للتعلّم أو لا؟

الظاهر الأوّل، لعدم ما يدلّ على تقييد القراءة الواجبة بكونها عن ظهر القلب في مقابل اتّباع القارئ إلّا دعوى الانصراف في إطلاقات القراءة و كون الاتّباع خارجا عن السيرة العمليّة المستمرّة من لدن زمان المعصومين عليهم السّلام و خصوصا مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 117

قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»، مضافا إلى أصالة الاشتغال على تقدير الشكّ.

و فيه منع الانصراف و منع إفادة السيرة للتقييد بعد احتمال ابتنائها على أسهليّة الحفظ من الاتّباع و منع دلالة قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: صلّوا إلخ على الوجوب بعد اشتمال صلاته صلّى اللّٰه عليه و آله على المندوبات و منع كون الأصل هو الاشتغال في نظائر المقام كما قرّر في الأصول.

المقام الثالث: لا إشكال في تعيّن القراءة من المصحف مع عدم التمكّن من التعلّم

و الحفظ و كونه مقدّما على التسبيح و نحوه، و هل يكون مخيّرا بينها و بين الحفظ في صورة التمكّن، أو يجب عليه الحفظ تعيينا؟

قد يقال بالثاني، لصحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام «قال: سألته عن الرجل و المرأة يضع المصحف أمامه ينظر فيه و يقرأ و يصلّي، قال عليه السّلام: لا يعتدّ بتلك الصلاة» «1».

و فيه أوّلا: احتمال كون المراد هو القراءة الغير الواجبة، لكن في حال الصلاة، كما لو قرأ بعد فراغه من الحمد و السورة بقصد مطلق القرآن، فيكون السؤال لأجل احتمال كون ذلك مع النظر إلى المصحف عملا خارجيّا

مضرّا بالصلاة، فأجاب عليه السّلام بعدم الاعتداد بتلك الصلاة، فمقصوده عليه السّلام إثبات المانعيّة لذلك في القراءة الغير الواجبة، لا شرطيّة الحفظ أو مانعيّة النظر في القراءة الواجبة.

و ثانيا: سلّمنا أنّها ناظرة إلى القراءة الواجبة في الصلاة أعني: الحمد

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 41 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 118

و السورة، لكن يجب حملها على الكراهة بقرينة صحيحة الحسن بن زياد الصيقل «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما تقول في الرجل يصلّي و هو ينظر في المصحف يقرأ فيه السراج قريبا منه؟ فقال عليه السّلام: لا بأس بذلك» «1».

و استدلّ أيضا بأنّ القراءة من المصحف مكروهة إجماعا، و لا شي ء من المكروه بواجب.

و فيه أنّ الكراهة إن تعلّقت بخصوص القراءة الواجبة في الصلاة، فهي من الكراهة العباديّة الغير المنافية مع الصحّة، كما في الصلاة في الحمّام، و إن تعلّقت بمطلق القراءة فالمورد من قبيل اجتماع الأمر و النهي إذا أتى بالقراءة الصلاتيّة من المصحف، و قد تقرّر في الأصول أنّه على القول بالامتناع يجب تقييد النهي، لبقاء الملاكين بلا تزاحم بينهما في الوجود، و ملاك الوجوب يقتضي الفعل بنحو اللزوم، و ملاك الكراهة يقتضي الترك مع الرخصة في الفعل، فالفعل مرخّص شرعا مع وجود ملاك الوجوب فيه، و هذا يكفي في عباديّته، غاية الأمر أنّه بالإضافة إلى الفرد الغير المبتلى بهذه الخصوصيّة مرجوح لابتلائه بالحزازة دون غيره، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 41 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 119

المسألة الثانية
اشارة

قد عرفت أنّ المتمكّن من التعلّم له الخيار بين تحصيل العلم بالقراءة و بين أحد الأمور الثلاثة،

هذا في سعة الوقت، و لو ضاق الوقت فإن تمكّن من اتّباع القارئ أو القراءة من المصحف فلا إشكال في تعيّنه إن لم يتمكّن من الائتمام و التخيير بين ذلك و الائتمام مع التمكّن منه.

و أمّا لو لم يتمكّن من القراءة بأحد النحوين أيضا و تمكّن من الائتمام فهل يجب عليه الائتمام أو يتخيّر بينه و بين ما يتمكّن من القراءة الناقصة؟ قد يقال بالثاني، نظرا إلى إطلاق أدلّة جعل البدل الاضطراري في حقّ من لا يحسن لحالتي القدرة على الائتمام و العجز عنه، و إلى إطلاق استحباب الجماعة حتّى بالنسبة إلى من لا يحسن.

كيفيّة جعل البدل الاضطراري

أقول: تحقيق الكلام في المقام يتوقّف على تمهيد مقال لبيان الحال في عامّة التكاليف البدليّة الاضطراريّة و كيفيّة جعلها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 120

فنقول و باللّه الاستعانة و منه الهداية إلى سواء السبيل: تارة يكون المستفاد من الدليل أنّ هناك مصلحة واحدة تقوم بفعل القادر مع خصوصيّة كذا و بفعل العاجز مع خصوصيّة أخرى، بحيث لوحظ القدرة و العجز في الدليل المثبت لتكليف المختار و المثبت لتكليف المضطرّ كعنواني السفر و الحضر منوّعين للموضوع، و على هذا فلا بدليّة في البين، و ليس أحدهما أوّليا و الآخر ثانويا، بل كلاهما تكليفان عرضيّان و لا إثم في تحصيل المكلّف عنوان العجز لنفسه، لأنّه كتحصيل السفر.

و اخرى يكون مفاد الأدلّة أنّ هناك مصلحة تامّة لزوميّة قائمة بالفعل المقيّد بخصوصيّة كذا، غاية الأمر أنّ الإيجاب لمّا لم يصحّ إلّا بالنسبة إلى القادر يكون العاجز خارجا عن تحت الخطاب مع فوت المصلحة عنه، لكن جعل في حقّه من باب ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه الفعل الفاقد للخصوصيّة المعجوز عنها بدلا للفعل

التامّ، و على هذا يصحّ البدليّة و كون تكليف المختار أوّليا و هذا ثانويا، و لا يجوز تحصيل الاضطرار اختيارا، هذا بحسب مقام الثبوت.

و أمّا بحسب الإثبات فإن كان القيد الواقع في الدليل المتضمّن لخلاف دليل آخر من القيود الغير المعتبرة في الهيئة عقلا، كما لو ورد: أكرم العالم، و ورد أيضا:

لا تكرم العالم الفاسق، و مثله في العبادات: صلّ أربعا، و صلّ إن كنت مسافرا ركعتين، فهذا من قسم تنويع الموضوع، فيصير الموضوع منوّعا إلى نوعين:

واجد القيد المذكور و فاقده، و يبقى تحت الدليل الأوّل فاقده و تحت الثاني واجده، و إن كان من القيود المعتبرة في الهيئة كذلك، كما لو ورد: صلّ مع القراءة الصحيحة أو مع القيام، ثمّ ورد: صلّ إن كنت عاجزا مع الملحونة أو مع القعود، فهذا من التكاليف الأوّلية و الثانوية.

و وجهه أنّ تقييد هيئة الدليل الأوّل بقيد القدرة عقليّ، فلا يبقى ظهور للدليل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 121

الثاني في أزيد من تقييد الهيئة، و يبقى إطلاق المادّة في الدليل الأوّل المقتضي لإطلاق المصلحة اللزوميّة في الفعل التامّ في كلّ من حالتي القدرة و العجز بحاله.

فإن قلت: فعلى هذا يلزم تحقّق الفوت في حقّ العاجز و لو أتى بتكليف المضطرّ، فيكون مشمولا لدليل وجوب القضاء، فما الوجه في إفتائهم بسقوط القضاء عنه.

و بعبارة اخرى: إن كان القدرة و العجز منوّعين فعدم القضاء صحيح و لا يبقى لحكمهم بالعصيان لو حصّل الاضطرار اختيارا وجه، و إن لم يكونا منوّعين فالعصيان صحيح، و لا يبقى لسقوط القضاء وجه.

قلت: قد دفعنا هذا الإشكال في مسألة العاجز عن أداء تكبيرة الإحرام، فراجع تلك المسألة.

إذا عرفت هذا فنقول: عنوان من لا يحسن القراءة

عامّ بحسب اللغة لمن تمكّن من التعلّم و قصر حتّى ضاق الوقت عنه، و لمن كان لآفة في لسانه، و لكن حيث إنّ إطلاق المادّة في الصلاة مع القراءة الصحيحة مقتض لوجود المصلحة حتّى في حقّ هذا الشخص، فيجب عقلا اختيار الائتمام مع التمكّن منه، فهذا تقييد عقلي في دليل جعل القراءة الناقصة، سواء بالنسبة إلى العاجز المقصّر أم بالنسبة إلى العاجز المعذور، كما أنّه مع عدم التمكّن منه يتعيّن العصيان في حقّ المقصّر مع لزوم الإتيان بالقراءة الناقصة، و في حقّ المعذور يتعيّن القراءة الناقصة بلا عصيان، و استحباب الجماعة بحسب الذات لا ينافي وجوبها بالعارض كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 122

المسألة الثالثة يجب القراءة على النهج العربي الصحيح
اشارة

من حيث أداء الحروف على وجه يمتاز بعضها عن بعض، و من حيث كيفيّاتها من التشديد و المدّ و الحركات و السكنات، سواء كانت عارضة على أواخر الكلم إعرابا أو بناء، أم على أوائلها.

و تحرير الكلام في المقام أنّ الإخلال تارة بذات الحروف إمّا نقصا، و إمّا تبديلا، و إمّا بكيفيّاتها المقرّرة لها في اللغة.
أمّا الأوّل فلا إشكال في أنّ النقص و لو حرفا واحدا موجب للبطلان،

لعدم الإتيان بالمأمور به و هو الكلمة التامّة.

و أمّا التبديل

فهو على قسمين، قسم سائغ في اللغة، و قسم غير سائغ، فالأوّل كقلب النون الساكنة التي منها التنوين عند وصولها إلى أحد حروف «يرملون» إلى جنس ذلك الحرف، ثمّ إدغامها في ما بعدها، و هذا غير مختصّ بلغة العرب، بل جار في كلّ لغة.

ألا ترى أنّ أهل لسان الفرس لا يتكلّمون بكلمة «أنبار و أنبر» بنحو إبانة النون، و كذلك كلمة «أنور» لو جعلت علما، و كذلك «من مى آيم» و «من رفتم»

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 123

و هكذا البواقي، فلا يكون هذا القلب خروجا عن قانون وضع الكلمة، فلا إشكال في الاجتزاء معه.

إنّما الكلام في ما لو أتى بدون القلب، و الظاهر الحكم بالصحّة أيضا، لما نرى من أنّ أحدا منّا أهل الفرس لو تكلّم بكلمة «أنبار» بإظهار النون بدون قلبها بالميم لا يقال: إنّه غلط في المقال.

إذا عرفت هذا فنحن نقطع أنّ ما مهّده علماء التجويد ليس إلّا متّخذا من هذا الذي سنخه يكون بأيدينا أيضا، غاية الأمر أنّهم أخرجوا المتداول في الألسن في قوالب الضوابط و جعلوها علما، كما هو الحال في علم الفصاحة و البلاغة أو الميزان، و لا نشكّ في أنّ تلك القواعد ليست متّخذة من تعبّد إمّا من الشرع أو من واضع اللغة، لما نرى من ثبوت سنخه في جميع الألسنة و اللغات.

و حيث رأينا أنّ ما بأيدينا ليس على نحو اللزوم، بل على نحو السهولة في الجري على اللسان، و إلّا فليس الجري على خلافه مخالفة للوضع، فاللازم هو الحكم بالصحّة في ما لو قرأ «لم يكن له» في سورة التوحيد بإظهار النون، أو محمّد و آل محمّد صلّى

اللّٰه عليه و آله في الصلوات بإظهار التنوين، حتّى لو فرض أنّا قطعنا بأنّ النبيّ الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله و تلفّظ بهما على نحو القلب لا يجب علينا اتّباعه صلّى اللّٰه عليه و آله في هذه الجهة.

و أمّا القلب الغير السائغ

كتبديل العين بالهمزة أو نحو ذلك فلا إشكال في كونه خروجا عن الوضع و غلطا و لحنا فيكون باطلا. و أمّا تبديل اللام من الألف و اللام إذا دخلت على الحروف الشمسيّة فلا إشكال في أنّ ذلك مجز، و هل هو أيضا مبنيّ على السهولة على اللسان، فلو خالفه و أتى باللام بدون قلب لم يكن غلطا و لحنا أو أنّه من الخروج عن وضع الكلمة، و ليس مثله في لغتنا حتّى نجزم بأحد الطرفين،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 124

و حيث إنّ الموجود في كلماتهم هو الحكم بلزوم المراعاة و عدم الصحّة مع عدمها، فالأحوط عدم تركه.

و أمّا التشديد

فقد عرفت حال ما كان منه يحدث عند إدغام النون الساكنة في حروف يرملون، و عند إدغام اللام الساكنة من الألف و اللام في الحروف الشمسيّة، و أمّا ما كان داخلا في وضع الكلمة، كتشديد «مدّ» فلا إشكال في لزومه و خروج الكلمة بدونه سواء مع التخفيف أو مع التكرار بنحو فكّ الإدغام عن وضع اللغة، فهذا القسم ملحق بنقص الحرف في الحكم.

كما لا إشكال أيضا في تبديل الحركات البنائية

العارضة على أواخر الكلم كفتح نون «إنّ» و الحركات الثابتة لأوائلها، مثل فتح ضاد وراء «ضرب» و كونه موجبا للغلط و اللحن، فكما أنّ لذات الحرف مدخلا في الوضع، كذلك للهيئة الحاصلة لها بهذه الحركات، فالإخلال بها إخلال بقانون الوضع.

إنّما الكلام في الحركات العارضة على الأواخر ممّا يسمّى إعرابا،

فهل يكون تبديلها كنصب الفاعل و رفع المفعول موجبا للغلط أو لا؟

قد يحتمل الثاني من أجل أنّ جوهر الكلمة لا يتغيّر و لا يتبدّل بهذا التغيير كما كان يتغيّر بتبديل سائر الحركات، فإنّ حال هذه الحركات حال الكلمة المستقلّة الموضوعة لمعنى مستقلّ و إن كانت ليست مستقلّة بالتلفّظ و لا مستقلّة بالوضع لمعنى حتّى كوضع الحروف، بل هي علائم على وجود معنى الفاعليّة أو المفعوليّة أو نحو ذلك في المدخولات و باب العلائم غير باب حكاية الألفاظ عن معانيها، و لكنّ الإخلال بها لا يوجب إلّا الإخلال بتلك العلائم أعني: أنّه لم ينصب العلامة على الواقع، بل نصب على خلافه إذا نصب الفاعل و رفع المفعول أو لم ينصب عليه و لا على خلافه إذا رفعهما أو نصبهما معا، و لو سلّم دخالة الإعراب فليس بدخيل في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 125

أصل جوهر الكلمة كحركات أوائلها، و إنّما له الدخل في كيفيّة قرائتها عربيّا و على قانون العربي الصحيح، فخلافه يوجب اندراج القراءة في القراءة الغير الصحيحة، لا خروج الكلمة عن كونها غير الكلمة الكذائيّة.

مثلا لو قال أحد: إنّا أرسلنا، بضمّ همزة «إنّا» و همزة «أرسلنا» و سينها، أو قال: الحمد للّٰه بوضع الخاء المعجمة مكان المهملة، قيل: إنّه ما تكلّم بالقرآن، و أمّا إذا قال: إنّ اللّٰه كان عليم حكيم، برفع ميمي عليم و حكيم، لما قيل بأنّ ما تكلّمه غير قرآن،

بل يقال: إنّه قرآن و لكنّه قرأها قراءة غير صحيحة.

و اتّصاف الكلمات على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و أو على لسان جبرئيل و إن كان بالنحو الفصيح فضلا عن الصحيح، لكنّ التعبّد بالنزول من عند اللّٰه تعالى الذي هو الملاك في صيرورته قرآنا و كلاما منزّلا من عند اللّٰه تعالى لم يثبت إلّا بجواهر الكلمات، و أمّا بهذه الكيفيّات التي هي الطريقة الجارية بين العرب في أداء الكلمات فيمكن عدم التعبّد بالنزول.

ألا ترى أنّه لو كان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله وقف على موضع أو وصل ليس القراءة على خلافه مخرجا للكلام عن القرآنيّة، و هل ذلك إلّا لأنّ الوصل و الوقف ليسا ممّا يكون التعبّد بالنزول ملحوظا فيه، بل هما من خصوصيّات النطق بالكلمات؟

و هكذا يقال بالنسبة إلى الأعراب، فلو فرض أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله اختار إعرابا خاصّا، فليس الخروج عنه إلى الأعراب الآخر الصحيح على حسب القواعد النحويّة فضلا عمّا كان غلطا بحسبها مخرجا للكلام عن القرآنيّة، فإنّ ذلك ممّا جرت عادة لسان العرب في أداء الكلمات، غاية الأمر على نحو الشرطيّة في الصحّة لا الكمال، لكن لا بحيث يخلّ خلافه بجوهر الكلمة و تصيّرها خارجة عن القرآنيّة، و لسنا ندّعي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 126

الجزم و الاطمئنان بعدم الدخالة و عدم التعبّد، بل نقول: لا أقلّ من الشكّ.

ألا ترى أنّ المرتكب للخلاف لا يقال في حقّه: ما قرأ القرآن، بل يقال: قرأ القرآن، و لكن قراءة غير صحيحة.

و حينئذ نقول: الذي دلّ عليه الدليل في باب الصلاة هو لزوم أن يكون المقروّ من مصاديق القرآن، فلو قال: الخمد بالخاء المعجمة ما حصل الامتثال، و

أمّا لو قال: الحمد بكسر الدال فلا يقال ما قرأ القرآن، غاية الأمر يقال: قراءته ملحونة، لكنّه قرأ القرآن، و من أين لنا إقامة الدليل على اعتبار كون القراءة أيضا صحيحة، مضافا إلى كون المقروّ قرآنا، و لعلّ نظر سيّدنا الشريف المرتضى علم الهدى قدّس سرّه حيث حكي عنه القول بالصحّة مع اللحن الأعرابي إلى ما ذكرنا.

و الحاصل أنّ كلام السيّد قدّس سرّه ممكن الإرجاع إلى وجه صحيح.

هذا في الغلط الأعرابي، و أولى منه بالجواز ما لو ثبت قراءة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله بطريق التواتر مثلا و بنحو كان بحسب القواعد العربيّة جائز الوجهين أو الوجوه من الإعراب، فالتخطّي من قراءته إلى الوجه الآخر الصحيح أيضا صحيح بناء على ما قلنا من عدم ثبوت التعبّد بالنزول في هذه الخصوصيّات الناشئة من الإعراب، لكن الأمر من هاتين الجهتين- أعني من جهة التخطّي عن الصحيح الأعرابي إلى الغلط، أو عن الصحيح الثابت جريانه على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله إلى الصحيح الغير الثابت أو الثابت عدم جريانه على لسانه صلّى اللّٰه عليه و آله- سهل، بمعنى أنّا نلتزم عملا بترك ذلك، فلا نتكلّم إلّا بالصحيح، و إلّا بالصحيح الذي قرأه صلّى اللّٰه عليه و آله.

[في اختلاف القرّاء]

لكنّ الذي هو العمدة بالبحث في هذا المقام موارد اختلاف القرّاء في نقلهم لقراءته صلّى اللّٰه عليه و آله بعد بعد كون القرآن الواقعي متعدّدا، فلا يكون جميع القراءات السبع متواترا، للزوم التعدّد بناء عليه، و على فرض الاحتمال كيف يمكن تحصيل هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 127

التواتر لنا مع قيام الأمارات على خلافه.

و يشتدّ الإشكال بالنسبة إلى موارد اختلافهم في بنية الكلمة، كيطهرن بالتخفيف و

التشديد، و مالك و ملك، و كفوا بأربعة أنحاء، فهل هنا مخلص عن الاحتياط بالتكرار بأن يقرأ في صلاة واحدة بالكيفيّتين إذا أمكن قصد الذكريّة على تقدير عدم القرآنيّة، و بأن يصلّي صلاتين كلّ منهما بإحدى الكيفيّتين إذا لم يمكن ذلك، كما في «يَطْهُرْنَ» بالتخفيف و التشديد أو لا؟

قد يقال بوجود المخلص و جواز الاكتفاء بالقراءة على طبق إحدى القراءات السبع، لورود الأخبار المستفيضة بالإرجاع إلى ما يقرأ الناس، أو كما تعلّمتم، أو كما علّمتم.

لكنّ الاستدلال بهذه الأخبار محلّ إشكال، و ذلك لأنّ الناظر فيها يكاد يقطع بأنّها ناظرة إلى القراءة التي أودعها الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم إلى بعض الرواة بنحو الأسرار، فالنهي في هذه الأخبار راجع إلى إفشاء تلك الأسرار، و بعبارة أخرى:

القراءة المختصّة بهم عليهم السّلام على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: ما يرجع إلى الإسقاطات التي أسقطها المخالفون لمكان منافاة الإبقاء لأغراضهم.

و الثاني: ما يرجع إلى التغييرات في الكلمات التي يكون أيضا ناشئا من كون الكلمة الأصليّة منافية لأغراضهم، مثل كلمة «خَيْرَ أُمَّةٍ» حيث ورد أنّها مبدّلة «خير أئمّة».

و الثالث: ما لا يرجع إلى ذلك و لا هذا، و هو ما كان كسائر القراءات، حيث قرأ بعض القرّاء بوجه و قرأ أهل البيت عليهم السّلام بوجه آخر، من دون منافاة لأغراضهم، بل على سبيل اختلاف القراءة الواقعة بين قارئين من السبعة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 128

و حينئذ نقول: لا إشكال في أنّ هذه الأخبار غير ناظرة إلى القسم الأوّل، بل ناظرة إلى كيفيّة قراءة ما هو الموجود في الدفّتين على نحو ما يقرؤه الناس، دون ما يقرؤه الأئمة عليهم السّلام.

و يبعد أن يكون المراد القسم الأخير أيضا بأن يكون ردعا عن قراءة أهل البيت

مع كونها معروفة مشهورة معدودة في عرض سائر القراءات، بل بعض القراءات منتهية إلى قراءة علي عليه السّلام.

فتعيّن أن يكون المقصود هو الردع عن القسم الوسط، لأنّه المناسب للأمر بالكتمان، لكونه من الأسرار المودعة.

و حينئذ فيبقى الأمر على أشكاله بالنسبة إلى ما إذا تردّد أمر الكلمة بين وجهين اختصّ بكلّ منهما قار من القرّاء السبعة المعروفة، و لم يعلم انتساب واحد منهما معيّنا إلى أهل البيت عليهم السّلام، إذ الأخبار المذكورة غير ناظرة إلى هذا المورد حتّى يستفاد منها التخيير في نحو ذلك، فلا محيص عن الاحتياط بالتكرار.

لكن هذا في غير ما وقع في خصوص الحمد من الاختلاف كقراءة مالك و ملك، و قراءة صراط بالصاد و السين، فإنّ شدّة الحاجة إلى تكرار هذه السورة المباركة في كلّ يوم و ليلة أورثت انتساب جميع كلماتها على النحو المرسوم الآن منها بين المسلمين المتّخذ خلفا عن سلف إلى أهل بيت الوحي صلوات اللّٰه عليهم أجمعين انتسابا قطعيّا، حيث كان النبيّ و الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم أفصح من نطق بالصاد و الضاد، و من كان كذلك لا يشتبه نطقه أنّه كان بالصاد أو بالسين، و كانت الصلوات الجهريّة منهم صلوات اللّٰه عليهم بمسمع من خلفهم من المصلّين.

فهذا الموجود في أيدي المسلمين هو الذي أخذوه عنهم عليهم السّلام من غير شكّ و لا شبهة، و الشكّ فيه شكّ في مقابلة البديهة كالدغدغة في أنّ ملك أقرب إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 129

الفصاحة من مالك، فإنّ إضافة ملك إلى الزمان شايعة، كما يقال: سلطان. العصر، أو الوقت، و أمّا إضافة مالك إلى الزمان فغير مأنوسة إلّا مع تقدير الأمر بأن يكون التقدير: مالك أمر يوم الدين، و

أمّا الإضافة إلى الزمان باعتبار كونه مملوكا كما يقال: مالك الفرس، فيبعّدها عدم اختصاص مالكيّة اللّٰه تعالى بالزمان، بل يعمّ جميع الأشياء.

و أمّا سائر السور المباركة فموارد اختلاف القرّاء فيها لا بدّ من مراعاة ما هو الحال في اختلاف الطرق العقلائيّة، فإن كان بينها طريق أوثق بحيث يوجب الوثوق العقلائي كان هو المتّبع، و إلّا فاللازم طرح الكلّ، لسقوطها عن الطريقيّة بالنسبة إلى المدلول المطابقي و الرجوع إلى الأصول كما هو الحال في تعارض عامّة الطرق العقلائيّة التي لم يرد فيها تعبّد شرعي، كما ورد في تعارض الروايات الحاكية عن الأحكام.

و حاصل الكلام من أوّل المسألة إلى هنا أنّ الأمر من كثير من الجهات الراجعة إلى القراءة سهل كالإخلال ببعض حروفها بالنقص حيث لا إشكال في عدم كفايته، و إمّا بالتبديل، فبعض أقسامه شائع في جميع الألسنة، مثل تبديل النون الساكنة بحروف يرملون و إدغامها فيه مع الغنّة في خصوص الواو و الباء و بدونها في البواقي، و كذلك بعض الحروف الشديد المخرج بجلب بعض الحروف الضعيف المخرج إلى نفسه كجلب الظاء للذال في: إذ ظلموا، و لا حاجة في تجويز هذا القسم إلى مراجعة العرب، لوجود جميع ذلك في كلّ لسان، كما لا حاجة إلى مراجعتهم في تميّز الحروف، فإنّ الباء مثلا موجود في جميع الألسنة، و هكذا.

و كذلك الحركات، فالكسرة موجودة في كلّ لسان، بل و إشباعها عند الوصول إلى الياء، كما يقال في الفارسيّة: «بيا» بالإشباع، لا «بيا» بدونه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 130

و أمّا وجوب هذا الإشباع كوجوب الإدغام في حروف يرملون بحيث لا يجري بدونهما فغير معلوم، و أولى منه بذلك الإدغام الكبير المراد به إدغام أحد الحرفين المتماثلين

الواقعين في كلمتين المتحركتين بعد إسكان أوّلهما، كسلككم، بل فكّ الإدغام في مثل هذا أقرب بيقين البراءة، كما أنّ المدّ في مثل «وَ لَا الضّٰالِّينَ» ممّا وصل الألف بالحرف المشدّد ربما يكون ممّا يحتاج إليه النطق، إذ لولاه إمّا يصير «ضلّين» بدون الألف أو «ضالين» بدون تشديد اللام، فحفظ كليهما محتاج إلى مدّ في الصوت.

و أمّا في مثل «جاء» فلم يقم دليل على الوجوب، لكن مراعاة الاحتياط في جميع هذه المراتب سهلة و واضحة، كما هو الحال في رعاية الصحّة و المطابقة لقواعد النحو في الإعراب، بل و موافقة القرّاء في ما إذا توافقوا، نظرا إلى ما ربما يورد في كلامهم بطريق الرواية مرسلا من أنّ القراءة سنّة متّبعة، فإنّ كلّ ذلك لا دليل على لزوم رعايته.

لكنّ الاحتياط في مقام العمل يقتضي رعايتها بعد سهولته، إذ أوّلا يمكن أن يقال: لم يثبت التعبّد بالقرآنيّة إلّا بالنسبة إلى بنية الكلمات و ماهيّاتها المتصوّرة بأيّ صورة من الإعراب كانت، كما هو الحال في إسناد ألفاظ الكتب و القصائد إلى أربابها، فإنّ الناطق ربما ينطق بها بطرز القواعد النحويّة، و ربما ينطق على خلافها، و الكلمات على كلّ حال كلمات ذلك الكتاب و تلك القصيدة، و جريان الإعراب الصحيح بل الفرد الخاصّ منه على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أعمّ من وروده بعنوان التعبّد، إذ لعلّه من جهة كونه من أفصح العرب و لا ينطق إلّا بالوجه الأفصح.

و ثانيا: لو سلّمنا التعبّد بالماهيّات متقيّدة بالهيئات الإعرابيّة على النهج الصحيح، لكن من أين يثبت التعبّد بخصوص ذلك الفرد من الصحيح الجاري

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 131

على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، فلعلّ اختياره

صلّى اللّٰه عليه و آله له كان من باب أنّه أحد الأفراد، فإذن لا يلزم علينا الفحص عن القراءات، بل يكفينا العلم بقواعد النحو و رعايتها حين القراءة.

لكن عرفت أنّا نحتاط في العمل و لا نتخطّى عن طريقة القرّاء رعاية لاحتمال ورود التعبّد بخصوص الكيفيّات الخاصّة الإعرابيّة التي ثبت جريانها على لسان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و هذا الاحتياط أيضا سهل كما تقدّمه، و لكنّ الذي يصعب في هذه المسألة و ينبغي إعمال الوسع فيه فهم الحال بالنسبة إلى موارد تخالف القرّاء إمّا في الإعراب و إمّا في شكل الكلمة و ماهيّتها في غير سورة الحمد كقراءة يطهرن و يطّهرن فهل اللازم في مثله معاملة الاحتياط بالتكرار؟

فيقع الكلام في موارد لا يقبل للذكريّة في شبهة كونه كلاما آدميّا أو أنّ الكلام الآدميّ منصرف إلى المحاورات العرفيّة المرسومة.

أو أنّ لنا في هذه المقامات طريقا إلى إثبات التخيير بين تلك القراءات و يرتفع عنّا كلفة الاحتياط، فالعمدة في الباب هو التكلّم في هذه الجهة، و إلّا فسائر الجهات كما عرفت يسهّل الأمر من حيثها، فإنّ الأخذ بالمتيقّن يقتضي مراعاة كلّ ما يحتمل دخله و إن لم يقم عليه دليل.

جواز القراءة بأيّ من القراءات السبع

و حينئذ فنقول و على اللّٰه التوكّل: قد يتشبّث لإثبات التخيير في القراءة بأيّ من القراءات السبع المعروفة شاء المصلّي بذيل التواتر و أنّ كلّا منها مقطوع الثبوت عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و لازمة أنّ جبرئيل نزل سبع مرّات في كلّ مرّة بواحدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 132

من هذه القراءات.

و لكن قد عرفت أنّ دون إثبات هذا التواتر خرط القتاد، إذ لو لم يكن أصل هذا المعنى أعني: تعدّد النزولات مقطوع

الخلاف، فلا أقلّ من عدم إمكان تحصيل التواتر عليه، فلا يبقى إلّا التواتر المنقول.

و قد يتشبّث في إثبات المرام المذكور بذيل الأخبار الواردة بإرجاع الرواة إلى قراءة الناس أو إلى المعلّمين للقراءة، و حيث إنّ المسألة من المهمّات و كثيرة البلوى يجب التعرّض أوّلا لذكر هذه الأخبار، ثمّ النظر في سندها و كيفيّة دلالتها، فنقول و باللّه الاستعانة و منه الهداية إلى سواء السبيل:

منها: ما رواه ثقة الإسلام عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن سالم بن أبي سلمة «قال: قرأ رجل على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: كفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم (صلوات اللّٰه عليه و عجّل فرجه) فإذا قام القائم (عج) قرأ كتاب اللّٰه على حدّه و أخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه السّلام» «1» الحديث.

و منها: ما رواه أيضا عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد، عن محمّد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن عليه السّلام «قال: قلت له: جعلت فداك، إنّا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها و لا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال عليه السّلام: لا، اقرءوا كما تعلّمتم، فسيجيئكم من يعلّمكم» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 74 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 74 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 133

و منها: ما رواه أيضا عنهم عن سهل عن عليّ بن الحكم عن عبد اللّٰه بن جندب،

عن سفيان بن السمط «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن ترتيل القرآن؟

فقال عليه السّلام: اقرءوا كما علّمتم» «1».

و أمّا سند هذه الروايات، فعبد الرحمن جليل من أصحابنا ثقة ثقة، صه، جش، و سالم بن أبي سلمة، الظاهر أنّه أبو خديجة، بقرينة رواية عبد الرحمن، و أبو خديجة قال في حقّه سيّد الحكماء: الأرجح عندي فيه الصلاح كما رواه «كش» و الثقة، كما حكم به الشيخ رحمه اللّٰه في موضع إن لم يكن الثقة مرّتين، كما نصّ عليه «جش» و قطع به، و ذكره في الحاوي في قسم الثقات و قال: الأرجح عدالته لتساقط قولي الشيخ و تكافئهما، فيبقى توثيق «جش» و شهادة «عل» له بالصلاح، و في المشتركات وصفه بالثقة.

و سهل بن زياد مختلف في توثيقه، لكنّه من مشايخ الإجازة للكتب المشهورة، مع أنّ المشايخ العظام نقلوا عنه كثقة الإسلام و الصدوق و الشيخ قدّس أسرارهم، مع أنّ الشيخ كثيرا ما يذكر ضعف الحديث بجماعة و لم يتّفق في كتبه مرّة أن يطرح الخبر بسهل بن زياد، و يروي عنه علّان خال الكليني و محمّد بن أحمد بن يحيى و أحمد بن أبي عبد الهّٰل.

و محمّد بن سليمان الظاهر أنّه إمّا الديلمي الذي روى عنه أحمد بن أبي عبد اللّٰه و أبوه محمّد بن خالد، و إمّا النوفلي الذي روى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى مع معلوميّة حاله مع الرواة، و أمّا غير هذين فإمّا مقدّم على سهل في الطبقة لكونه من أصحاب الصادق عليه السّلام، و إمّا مؤخّر، لكونه من أصحاب أبي محمّد عليه السّلام.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 74 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص:

134

و عليّ بن الحكم إن كان واحدا- و إن عبّر عنه تارة بعليّ بن الحكم و أضيف إلى أهل الأنبار و اخرى بعليّ بن الحكم بن الزبير مولى النخعي الكوفي، و ثالثة بعليّ بن الحكم الكوفي، و يشهد بالاتّحاد أمارات مذكورة في رجال أبي علي، من أراد فليراجعه- فالأمر سهل، للتصريح في كلام «كش» بأنّه تلميذ ابن أبي عمير، و لقي من أصحاب الصادق عليه السّلام الكثير، و هو مثل ابن فضّال و ابن بكير، و لا يخفى دلالة كلّ ذلك على المدح، مضافا إلى رواية الأجلّاء عنه.

و إن كان متعدّدا كما نسب إلى العلّامة أعلى اللّٰه مقامه، بل قيل دعوى الاشتراك توهّم أصله العلّامة قدّس سرّه في الخلاصة و اقتفاه من تأخّر عنه، انتهى.

فحينئذ نقول: إن كان هذا هو الأنباري فقد تقدّم كلام الكشّي في حقّه، و إن كان ابن الزبير النخعي فيروي عنه محمّد بن إسماعيل الثقة و أحمد بن أبي عبد اللّٰه، و إن كان الكوفي فيروي عنه أحمد بن محمّد، و هو محتمل لابن خالد و لابن عيسى، لكن الظاهر في مثل هذا الإطلاق هو الثاني.

و عبد اللّٰه بن جندب ثقة من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السّلام، و كان وكيلا عنهما و عابدا رفيع المنزلة لديهما، و لمّا مات قام عليّ بن مهزيار مقامه، روى الكشّي أنّ أبا الحسن عليه السّلام أقسم أنّه عنه راض و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و اللّٰه، و قال عليه السّلام فيه: إنّ عبد اللّٰه بن جندب لمن المخبتين.

و سفيان بن السمط البجلّي الكوفي لم يذكر في حقّه إلّا قول الشيخ أسند عنه بعد عدّه في أصحاب الصادق عليه السّلام، و

اختلف في معنى الكلمة المزبورة و صيغتها أنّها المعلوم أو المجهول، و يستفاد منه على بعض المعاني التوثيق و الاعتماد، من أراد ذلك فليراجع الفوائد المذكورة في أوّل رجال أبي على، و لا يخفى أنّ رواية مثل عبد اللّٰه ابن جندب عنه من أمارات الثقة و الاعتماد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 135

و بالجملة، أظنّ أنّ الخدشة في السند ليس على ما ينبغي، و لا أقلّ من الخبر الأوّل.

و أمّا الدلالة فربما يخدش بأنّها غير مسوقة في مقام هذا الحكم، و إنّما المقصود منها الردع عن مصحف عليّ عليه السّلام و أنّه مكتوم إلى يوم ظهور الحجّة صلوات اللّٰه عليه، و الأخذ بالإطلاق فرع ورودها لأجل تأسيس الحكم بالإرجاع إلى القرّاء، فيقال حينئذ مقتضى الإطلاق الأخذ بقراءة أيّهم شاء المكلّف.

و أمّا إذا كان ورودها لأجل سدّ باب الطمع عن ذلك المصحف الشريف فهذه الجهة أعني: الرجوع إلى القرّاء مغفول عنها نصّا و إثباتا، نعم يعلم بنحو الإجمال أنّها المرجع، و أمّا بنحو الإطلاق أو له شرط فليس بهذا المقام.

و الحقّ أنّ هذه الخدشة في غير المحلّ، بل الظاهر أنّها ناظرة إلى كلا المقامين، أعني: صرف الناس عن المصحف العلويّ صلوات اللّٰه على جامعه و إرجاعهم إلى القراءات المعروفة بين الناس، فالأخذ بإطلاق الكلام من جهة الفقرة الثانية لا بأس به، و تقريبه بعد مقدّمتين:

الاولى: أنّ الأمر تارة يتعلّق بالقراءة للقرآن فهو كالأمر الوارد بالصلاة يجب على المكلّف تعلّم ماهيّة الصلاة و القرآن جزءا و شرطا إمّا بالاجتهاد أو بالتقليد حتّى يفرغ عن عهدة الامتثال.

و اخرى يتعلّق الأمر بقراءة ما يقرؤه الناس، فالتكليف على هذا متوجّه عن القرآن الواقعي إلى ما يقرؤه الناس، فهو المكلّف به

الفعلي، و ليس علينا الفحص و التفتيش عن القرآن الواقعي و لو فرض اليأس و تردّد بين متباينين وجب علينا الاحتياط بالجمع، بل المتّبع هو ما يقرؤه الناس، إذ ليس علينا بعد ذلك عهدة بالنسبة إلى القرآن الواقعي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 136

و حينئذ نقول: نفس هذه الأخبار هذا النّفس، أعني: إنّكم غير مكلّفين بالفحص عن القرآن الواقعي، فلا وجه لسؤالكم عنه، و إنّما عليكم قراءة هذا الذي بأيدي الناس و لا يسأل عنكم إذ وافقتموه عمّا عداه.

الثانية: أنّ صرف التكليف إلى ما يقرؤه الناس يكون بحسب التصوير على نحوين:

الأوّل: على نحو الطريقيّة، كما هو الحال في الأمر بالرجوع إلى الثقات في أخذ الأحكام، و شأن الطريقيّة هو ثبوت التعبّد به عند احتمال الإصابة، دون صورة القطع بالمخالفة كما هو واضح، فلا يفي على هذا البيان هذه الأخبار بإثبات الحجّية في ما إذا علمنا بمخالفة القرّاء للقرآن الواقعي، كما لو علمنا أنّ الصورة الواقعيّة لقوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كانت «خير أئمّة» و لقوله تعالى وَ اجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً كانت «و اجعل لنا من المتّقين إماما» بل المتّبع حينئذ ما علمناه قرآنا واقعيّا.

الثاني: على نحو الموضوعيّة بأن اقتضت المصلحة الموجودة في نفس موافقة المكلّف لقراءة العامّة في حدّ نفسها من غير نظر إلى جهة طريقيّته و كشفه عن الواقع البعث و الأمر نحوها، فجعلت القراءة على وفقهم نازلة منزلة القرآن الواقعي و لو مع القطع بخلافهم للواقع.

و حينئذ نقول: ظاهر الأخبار هو القسم الثاني، أعني: أنّ المصلحة في نفس اتّباع قرائتهم و المعاملة معها معاملة القرآن الواقعي، فلنفس اتّباع القوم سببيّة لإحداث المصلحة، و الدليل على ذلك هو الأمر بالقراءة على نحوهم بعد فرض

السائل التخالف بين ما يقرءونه و بين المصحف الواقعي، فأراد الاطّلاع على ذلك المصحف الشريف، فردعه الإمام عليه السّلام و أحال الاطّلاع عليه إلى ظهور الحجّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 137

صلوات اللّٰه عليه، و قال ما مضمونه: إنّ تكليفكم اليوم القراءة بنحو قراءتهم يعني حتّى في هذه الموارد التي قطعتم تفصيلا بمخالفتها مع القرآن الواقعي، و قد عرفت أنّ شأن الطريقيّة عدم الحجيّة مع العلم بالتخلّف عن ذي الطريق، فلا يبقى إلّا أن يكون هذا الأمر بنحو السببيّة.

و إذا ثبت كونه بنحو السببيّة فنقول: لا إشكال مع التوافق، و أمّا مع التخالف فالباب باب اجتماع الأسباب المتعدّدة، فكلّ قراءة في حيالها سبب تامّ لحدوث المصلحة في اتّباعها، فالمكلّف بالخيار في اختيار أيّها شاء، و اللّٰه العالم بحقيقة الحال.

نعم لو كان الأمر المذكور على نحو الطريقيّة أوجب التخالف سقوط كليهما عن الحجّية، كما هو الأصل في باب تعارض الطرق و الأمارات إلى أن يجي ء التعبّد الشرعي بالتخيير.

و الحاصل أنّ الأصل الأوّلي في باب تعارض الطرق هو التوقّف و الرجوع إلى القواعد و الأصول، دون التخيير، و أمّا في تعارض الأسباب فالأصل الأوّلي العقلي هو التخيير، كما هو الحال في إنقاذ الغريقين.

لا يقال: ليس المقام كإنقاذ الغريقين، لإمكان الجمع بتكرار الصلاة على وفق القراءتين.

لأنّا نقول: نعم، لكن المصلحة قائمة بصرف الوجود، و هو حاصل بموافقة إحداهما، فالمكلّف بالخيار في تعيين تلك الواحدة من بينهما كتخييره في اختيار أيّ فرد شاء من الطبائع المأمور بها باعتبار صرف الوجود.

بقي في المقام مطلب ينبغي أن ينبّه عليه و هو أنّه ذكر في الصافي أنّه اشتهرت الرواية من طريق العامّة عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه «قال:

نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 138

كاف شاف» و قد ادّعى بعضهم تواتر أصل هذا الحديث، إلّا أنّهم اختلفوا في معناه على ما يقرب من أربعين قولا، إلى أن قال: و من طريق الخاصّة ما رواه في الخصال بإسناده عن حمّاد «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ الأحاديث تختلف عنكم، قال: فقال عليه السّلام: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، و أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه، ثمّ قال عليه السّلام: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب».

إلى أن قال أيضا: و من طريق الخاصّة ما رواه في الخصال بإسناده عن عيسى ابن عبد اللّٰه الهاشمي عن أبيه عن آبائه «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أتاني آت من اللّٰه عزّ و جلّ فقال: يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: يا ربّ وسّع على أمّتي، فقال: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف» «1» انتهى.

و الكلام تارة في فهم معنى هذا الخبر و ما فرّعه عليه الإمام عليه السّلام في رواية حمّاد من قوله عليه السّلام: و أدنى ما للإمام إلخ.

و اخرى في أنّه حكى في الصافي أيضا عن أصحابنا أنّهم رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام «قال: إنّ اللّٰه تبارك و تعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كلّ قسم منها كاف شاف، و هي أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و مثل و قصص» «2»، فهل المراد بالسبعة الأحرف هذه الأقسام، أو هما متغايران.

و ثالثة: في أنّه حكى في الصافي أيضا عن الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليهما السّلام

«قال: إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، و لكنّ الاختلاف يجي ء

______________________________

(1) تفسير الصافي: الجزء الأوّل، المقدّمة الثامنة.

(2) الصافي: 1، المقدّمة الثامنة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 139

من قبل الرواة» «1».

و بإسناده عن الفضيل بن يسار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن على سبعة أحرف، فقال عليه السّلام: كذبوا أعداء اللّٰه، و لكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد» «2».

فكيف التوفيق بين هذين و الخبرين السابقين المصرّحين بتسليم أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف؟

أمّا الكلام في الجهة الأولى فنقول: أمّا رواية حمّاد فأولى و أسدّ ما يقال في تفسيرها- و اللّٰه العالم- أن يقال: إنّ المراد من السبعة الأحرف هو الظاهر و الباطن، و باطن الباطن و هكذا إلى السبعة، و على هذا يحصل المناسبة في وقوعه جوابا لسؤال الراوي عن اختلاف الروايات و توطئة لقوله عليه السّلام: أدنى ما للإمام.

أمّا الأوّل: فيتّضح بعد بيان الثاني.

و أمّا الثاني: فلأنّ الظاهر مثلا إذا كان عامّا و كان في الباطن أزيد منه الخاصّ، بمعنى أنّه أودع الخاصّ عند الإمام عليه السّلام فهو عليه السّلام إن رأى مصلحة الوقت يفتي بما هو ظاهر القرآن و يستدلّ به، و إن رأى يفتي بما هو مودع عنده من مراده الباطني المخصوص علمه بالإمام عليه السّلام، و هكذا الحال في باطن الباطن إلى السبعة، بل إلى السبعين على حسب ما يستفاد من بعض الأخبار، و قوله عليه السّلام: عقيب هذا البيان: هذا عطاؤنا إلخ يدلّ على عظمة شأن المطلب و أنّه أعطاه مطلبا عظيما و نعمة جسيمة، و هو أيضا يناسب مع هذا المعنى.

و أمّا احتمال أن يكون المراد أنّ في القرآن عامّا

و خاصّا و مطلقا و مقيّدا

______________________________

(1) الصافي: 1، المقدّمة الثامنة.

(2) الصافي: 1، المقدّمة الثامنة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 140

و ناسخا و منسوخا فكذا في أحاديثنا، فيدفعه أنّ الظاهر كون قوله عليه السّلام: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف جوابا للسائل، و على هذا فيكون من قبيل الاستشهاد، و أيضا لا يبقى معنى لتفريع أنّ أدنى ما للإمام عليه السّلام أن يفتي بسبعة وجوه على المطلب المذكور، كما لا يخفى.

و أمّا رواية عيسى بن عبد اللّٰه فحملها على القراءات السبع بعيد، إذ أوّلا أيّ تضييق في قراءة الكلمة بالنصب مثلا أو بهيئة واحدة دون غيرهما حتّى يكون في جوازها بوجه آخر توسعة.

و ثانيا: التعبير عن وجوه القراءة بالإعراب و الهيئة المختلفين بالأحرف لا يخلو عن بعد، فإنّ الظاهر من الحرف هو اللغة.

و حينئذ فالظاهر في تفسير هذه الرواية أيضا- و اللّٰه العالم- أن يقال: إنّ طوائف العرب مختلفة في لهجاتهم عند التكلّم بالكلمة الواحدة، فربّ طائفة يتفوّهون بالكاف مكان الجيم، فيقولون: الحكر، مكان الحجر، و ربّ قوم يتفوّهون بالميم مكان اللام في «ال» كما قال قائلهم: أمن امبرّ امصيام في امسفر، إلى غير ذلك من أنحاء اللهجات، و نظيره ما نجده في الطوائف المختلفة من أهل لغتنا، فبعضهم يتفوّهون بالكسرة مقام الفتحة، و هكذا.

و على هذا فالنبيّ الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله سأل اللّٰه تعالى التوسعة على أمّته بملاحظة أنّه لو كان جميع الطوائف ملزمين بالتفوّه بألفاظ القرآن على حسب لغة الحجاز في لهجاتهم عند أداء الحروف كان شاقّا عليهم، و التوسعة يقتضي الرخصة لأهل كلّ لهجة في التفوّه بما يوافق لهجته، و هذا المعنى في غاية القرب بحسب اللفظ، لكن عيبه أنّه

غير مفتى به، فلا يجوّزون في القراءة الصلاتية مع الاختيار تبديل الحروف حسب اقتضاء اللهجة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 141

و أمّا الكلام في الجهة الثانية فلا إشعار في الخبر بكونه تفسيرا للسبعة الأحرف، فمن الممكن كونهما مطلبين مستقلّين، فأحدهما راجع إلى تقسيم القرآن بحسب المضامين و المطالب المندرجة في الآيات، و الآخر إمّا راجع إلى التقسيم إلى الظهر و البطن في كلّ آية أو إلى الترخيص للقارئ في سبعة لهجات.

و من هنا ظهر الكلام في الجهة الثالثة، فإنّ ما أثبته في الطائفة الاولى هو السبعة الأحرف بالمعنى الذي عرفت، و هو غير ما نفاه في الطائفة الثانية، فإنّهم تخيّلوا أنّ القراءات السبع كلّها قرآن، فردعهم الإمام عليه السّلام عن هذا المعنى الذي تخيّلوه، و قال عليه السّلام: إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، و لكن الاختلاف يجي ء من قبل الرواة، يعني ليس الاختلاف من عند اللّٰه تعالى كما تخيّله أعداء اللّٰه.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون مراد القائل بتواتر القراءات هو السيرة العمليّة الجارية من المسلمين في عامّة الأعصار و الأمصار في قراءتهم القرآن على اتّباع القرّاء إذ المصاحف الموجودة الآن مأخوذة من السابقة، و هي من الطبقة العليا و هكذا، و هي مرسومة على طبق قراءة القرّاء، و كذا في حال القراءة يراعون قراءة هؤلاء القرّاء بلا ترجيح بينهم، كما هو المتداول الآن، فإنّا نقطع بأنّ هذا ليس شيئا مستحدثا، بل مستمرّ من لدن زمن أئمتنا المعصومين صلوات اللّٰه و سلامه عليهم أجمعين، و هم قد اطّلعوا عليه و سكتوا عن الإنكار و الردع، و هو قرينة قطعيّة على الرضى بذلك، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 142

المسألة الرابعة في حكم من لا يحسن القراءة
اشارة

إمّا

لضيق الوقت و تقصيره في ترك التعلّم، أو لآفة في اللسان، قد عرفت أنّه يجب عليه الائتمام مع التمكّن منه، و كذا اتّباع القارئ أو القراءة من المصحف، و لو لم يقدر على شي ء من هذه الثلاثة ففيه تفصيل، لأنّ من لا يحسن القراءة على قسمين:

أحدهما: من لا يحسنها صحيحة و يحسنها ملحونة، و الثاني: غيره، و الأخير إمّا يعلم بعض فاتحة الكتاب أو لا، و على كلّ حال إمّا يعلم من غير الفاتحة قرآنا أو لا.

لا إشكال في القسم الأوّل، فإنّ مقتضى قاعدة الميسور وجوب الإتيان بما يسمّى عرفا ميسورا للفاتحة، و لا يتوجّه إليه التكليف بالبدل، حتّى أنّه لو علم الفاتحة بتمامها دون السورة فليس مكلّفا بالتعويض لأجل السورة، و حكي عدم الخلاف في عدم التعويض عن السورة من المنتهى، و استظهر من الذكرى.

و أمّا من لا يعلم تمام الفاتحة و يعلم بعضها فإمّا يصدق على البعض المعلوم أنّه قرآن، و إمّا لا يصدق فعلى الأوّل لا إشكال في وجوب قراءته، و هل يجب عليه التعويض عن المجهول أو لا؟ قولان، المشهور الثاني و هو الذي قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه في صلاته.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 143

و عليه فهل يجب تكرار ما يعلم بمقدار المجهول أو اختيار البدل من غير الفاتحة من سائر القرآن إن علم، و إلّا فمن الذكر؟ فيه أيضا خلاف، و الذي اختاره شيخنا المرتضى قدّس سرّه هو الإبدال من الغير، إن قرآنا فقرآنا و إن ذكرا فذكرا، مع تقديم القرآن على الذكر.

كما أنّه لو لم يعلم من الفاتحة شيئا وجب عليه القراءة من غيرها إن علمه، و إلّا وجب عليه الذكر، و هذا ممّا لا خلاف فيه

و في كلّ مقام حكم بالتعويض، فهل يجب مساواة العوض مع المعوّض في الآيات أو الحروف، الذي قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه الثاني في ما كان العوض قرآنا، و أمّا إذا كان ذكرا فقوّى عدم لزوم المساواة رأسا.

و لا بدّ أوّلا من ذكر ما هو المدرك في الباب ثمّ النظر في ما يستفاد منه.

بيان حقيقة القراءة

فنقول: روى ابن سنان في الصحيح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه عليه السّلام «قال:

إنّ اللّٰه فرض من الصلاة الركوع و السجود، ألا ترى لو أنّ رجلا دخل في الإسلام لا يحسن أن يقرأ القرآن أجزأه أن يكبّر و يسبّح و يصلّي» «1».

و روي عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه «قال: و إذا قمت إلى الصلاة فإذا كان معك قرآن فاقرأ به و إلّا فاحمد اللّٰه و هلّله و كبّره» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) سنن البيهقي 2: 380.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 144

و في نبويّ عامّي آخر أورده في التذكرة أنّه قال له صلّى اللّٰه عليه و آله رجل: إنّي لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن، فعلّمني ما يجزيني في الصلاة، «قال صلّى اللّٰه عليه و آله: قل: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، قال: هذا اللّٰه، فما لي؟

قال صلّى اللّٰه عليه و آله: قل: اللّٰهمّ اغفر لي و ارحمني و اهدني و ارزقني و عافني» «1».

و عن الذكرى و غيره نحوه بإسقاط لفظ «في الصلاة».

و في نبويّ ثالث أورده في محكيّ المنتهى أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله فقال:

إنّي لا أستطيع أن أحفظ شيئا من القرآن فما ذا أصنع؟ «فقال صلّى اللّٰه عليه و آله له: قل سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه».

و حينئذ فنقول: قد مرّ سابقا في تعيين السورة عند البسملة أنّ قراءة القرآن يتوقّف على كون التلفّظ بالألفاظ النوعيّة بقصد حكاية الألفاظ الشخصيّة المنزلة، لا الحكاية الجزميّة التصديقيّة التي هي مدلول قول القائل: قال اللّٰه تعالى كذا، بل الحكاية التي هي شأن الألفاظ عن معانيها، و المقصود ها هنا الإشارة، و من أراد التفصيل فعليه بمراجعة ما هناك، فكما أنّ القراءة يتوقّف على هذا الجزء القصدي يتوقّف على صدق القرآنيّة على الملفوظ من حيث ذاته و أنّه بأن كان بهيئة خاصّة غير موجودة إلّا في القرآن، إذ الهيئات المشتركة كقولك: سلام عليكم، و قولك:

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم، و قولك: الحمد للّٰه ربّ العالمين لو تلفّظ بها النائم و الغافل أو ارتسمت بحركة الريح مثلا، أو فاعل آخر غير ذي شعور لا يصدق أنّ ذلك الملفوظ قرآن أو ذلك المرسوم كذلك.

نعم لو تلفّظ النائم و الساهي بألفاظ سورة التوحيد تماما أو ارتسمت براسم

______________________________

(1) سنن البيهقي 2: 381.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 145

غير ذي شعور كذلك صدق أنّ هذه الألفاظ ألفاظ قرآنيّة، فيدخل تحت حرمة المسّ، فهذا القسم صدق القرآنيّة عليه ذاتي، فإذا انضمّ إليه قصد الحكاية عند التلفّظ به صدق قراءة القرآن.

و أمّا القسم الأوّل فهو مسلوب عنه اسم القرآنيّة، و لو فرض أنّ كاتبا أراد كتابة الألفاظ القرآنيّة مقطّعة كما لو أراد كتابة كلمة «إن» الموجودة في القرآن فقط، و كذلك كلمة «فرعون» و كذلك كلمة «وَ لَا الضّٰالِّينَ» فلا يصدق أنّه يكتب القرآن، كما أنّ لافظا لو أراد

التلفّظ بهذه المقطّعات فقط بقصد الحكاية لا يصدق أنّه يقرأ القرآن، و لازم ذلك عدم حرمة المسّ بكتابته كذلك.

ألا ترى أنّ كلمة: إنّا أرسلنا، و كلمة: فرعون، و كلمة: بشيرا و نذيرا، و كلمة: و لا الضالّين موجودة كلّها في القرآن فلو تلفّظ اللافظ بها بهذا الترتيب فقال: إنّا أرسلنا فرعون بشيرا و نذيرا و لا الظالّين بقصد حكاية كلّ واحدة منها في موطنها لما صدق عرفا عليه قارئ القرآن، و لا وجه له إلّا أنّ كلّ واحدة من هذه الكلمات وحدها ليست من مختصّات القرآن، لا لأنّ تواليها مضرّ أو عدم كونها كلاما و جملة، إذ شي ء من ذلك غير معتبر في قراءة القرآن.

و لهذا لو قال: سلام عليكم طبتم، كان قرآنا، فلو ضمّ إليه قصد الحكاية صدق عليه قارئ القرآن، و من هنا لو أراد الاحتياط في ردّ الجواب في أثناء الصلاة بردّ الصيغة القرآنيّة فالظاهر لزوم ضمّ كلمة «طِبْتُمْ» إلى قوله «سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ» حتّى يخرج عن الاشتراك.

نعم لو أراد الكاتب أو القائل أن يتمّ الآية أو المقدار الذي يختصّ بالقرآن فعاقه عائق عن التتميم يصدق على ما برز من لسانه أو قلمه أنّه قرآن، و لو كان من المشتركات، فيحرم مسّ المكتوب منه، فهو مثل ما إذا قرض من ورق القرآن مقدار كلمة منه مشتركة، فإنّه لا إشكال في حرمة مسّه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 146

إنّما الكلام في ما إذا أراد الكاتب أو القائل كتابة أو قول المقطّع القرآني المشترك الوجود بينه و بين غيره بوصف المقطّعيّة و عدم الانضمام.

و حينئذ فيتفرّع على ما ذكرنا أنّه لو علم من الفاتحة البسملة و الحمدلة لا يجب عليه قراءتهما، لأنّه داخل في عنوان

من لا يحسن أن يقرأ القرآن و عنوان من ليس معه قرآن، و قد حكم في الصحيحة و النبويّ المتقدّمين في العنوانين بالانتقال إلى الذكر، هذا هو الكلام بحسب الكلّية.

و أمّا ما يتعلّق بمقامنا فنقول: أمّا المتمكّن من الملحون إعرابا أو مادّة على وجه يصدق عليه اسم الحمد عرفا لا إشكال في تكليفه بقراءته كالنمنام و الفأفاء و نحوهما، فإنّه المتمشّي في حقّه من قراءة الحمد، فإذا خوطب بخطاب اقرأ الحمد موجّها له إلى عامّة الناس الذين منهم هذا الأعجمي اللسان كان المستفاد من قراءته الفاتحة هو هذا الذي يتأتّى منه، فإنّه حمد بالنسبة إليه و إن لم يكن كذلك بالنسبة إلى غيره، فاستفادة ذلك ممكنة من الدليل الأوّلي، و يكون غير مشمول للدليل الثانوي الجاعل للعوض.

هذا مضافا إلى الأخبار الخاصّة الواردة بالاجتزاء بهذه القراءة الملحونة في حقّ العاجز مثل رواية مسعدة بن صدقة المرويّة عن قرب الإسناد «قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهما السّلام يقول: إنّك قد ترى من المحرّم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح، و كذلك الأخرس في القراءة في الصلاة و التشهّد و ما أشبه ذلك، فهذا بمنزلة العجم و المحرّم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلّم الفصيح» «1» الحديث.

و المحرّم كمعظّم على ما حكي عن القاموس: يقال: ناقة محرّمة لما لم يخرج بعد عن حالة الصعبيّة، و جلد محرّم لما لم يتمّ دباغته، فالمراد- و اللّٰه العالم- إمّا الرجل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 59 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 147

الذي ليس له عقل و لسان أصلا، أو كانا و لكن مع النقصان. و مثل رواية السكوني

عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّ الرجل الأعجميّ من أمّتي ليقرأ القرآن بعجمته فترفعه الملائكة على عربيّته» «1».

و في الخبر: «سين بلال شين عند اللّٰه» «2».

فالمستفاد من هذه الأخبار أيضا عدم انتقال تكليف العاجز إلى البدل.

و أمّا العاجز عن القراءة حتّى الملحونة فإن كان قادرا على بعض الفاتحة بمقدار يصدق أنّه من الفاتحة على ما عرفت تفصيله فهل يجب عليه قراءة هذا البعض، و بعدها هل يكتفى به عن البقيّة، أو يجب التعويض؟ و على الثاني هل يجب تكرار ما يعلم من الفاتحة، أو يجب الإبدال من سائر القرآن إن علم، و إلّا فاختيار الذكر بمقدار البقيّة؟

استفادة الحكم من هذه الجهات من الصحيحة و النبويّات الثلاث المتقدّمة في غاية الإشكال، إذ هي مبنيّة على ورودها مورد البيان و إعطاء الضابط في هذا المقام، و الصحيحة غير واردة كذلك، بل هي بمقام بيان أنّ ما فرض اللّٰه أنّه من أجزاء الصلاة هو الركوع و السجود.

و استشهد لهذا المطلوب بقوله عليه السّلام: ألا ترى لو أنّ رجلا دخل في الإسلام إلخ، و المراد أنّ القراءة ممّا يمكن فقد الصلاة إيّاها و ليست كالركوع و السجود من الأركان، فلا يمكن استفادة الضابط من هذا الكلام و أخذ المفهوم منه بأن يقال: إنّ المستفاد منه أنّه لو أحسن شيئا من القرآن يجب عليه ذلك الشي ء، بل المستفاد هو الحكم إجمالا بأنّ من لا يحسن أصلا يجب عليه الذكر مكان القراءة، فيجب الأخذ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 23 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2،

ص: 148

بالقدر المتيقّن و هو من لا يحسن من الفاتحة و لا من غيرها شيئا، و أمّا من أحسن بعضا من الفاتحة أو شيئا غيرها فالرواية ساكتة عن التعرّض لحكمه، هذا حال الصحيحة.

و أمّا النبويّ صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا قمت إلى الصلاة إلخ فمضافا إلى عدم السند له يمكن الخدشة في دلالته من جهة أنّه لا يعلم أنّه أريد بقوله عليه السّلام: إن كان معك قرآن، مطلق القرآن، إذ لعلّ الخطاب كان متوجّها إلى شخص متمكّن من الفاتحة، فالمراد بالقرآن حينئذ هو الفاتحة، و احتمال أنّ المراد هو الجامع و إرادة الخصوصيّة في حقّ المتمكّن استفيدت من الخارج، كقوله: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، لا يخلو عن برودة.

فالظاهر أنّه للعهد إلى ما يتعارف قراءته في الصلاة، نعم لو كان المفروض كون المخاطب عاجزا عن الفاتحة أو فرض سؤاله عن صورة العجز كان الاستدلال تماما، لكن الشأن في إثباته.

و إذن فيبقى من يحسن بعضا من الفاتحة، و كذا من لا يحسن شيئا منها و يحسن بعضا من غيرها من القرآن غير مستفاد حكمها من الخبرين، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر القواعد.

فنقول: أمّا وجوب قراءة البعض من الفاتحة، و كذا من لا يحسن شيئا منها و يحسن بعضا من غيرها من القرآن غير مستفاد حكمها من الخبرين، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر القوائد.

فنقول: أمّا وجوب قراءة البعض من الفاتحة في حقّ من يحسنه فالظاهر أنّه موضع وفاق، فيبقى الشكّ بالنسبة إلى تكليفه بالتعويض لما يجهله، و حيث إنّ الشكّ في أصل التكليف يكون المرجع فيه البراءة.

نعم لو أراد الاحتياط يجمع بين تكرار ما يعلم بمقدار المجهول و قراءة غيره من القرآن كذلك

و الذكر كذلك، و أمّا من لا يحسن من الفاتحة شيئا و يحسن من سائر القرآن فحيث إنّ التكليف في حقّه مردّد بين المتبائنين أعني: التعويض من القرآن أو من الذكر فالواجب بمقتضى الاحتياط اللازم هو الجمع بينهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 149

الموقع الخامس في ما يتعلّق بثالثة المغرب و أخيرتي الرباعيّة.
اشارة

و فيه مسألتان:

[المسألة] الأولى
اشارة

يتخيّر المصلّي في ثالثة المغرب و الأخيرتين من الظهرين و العشاء بين قراءة فاتحة الكتاب و التسبيحات.

و يدلّ على التخيير عدّة روايات:

منها: رواية عليّ بن حنظلة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال عليه السّلام: إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب، و إن شئت فاذكر اللّٰه فهو سواء، قال: قلت: فأيّ ذلك أفضل؟ فقال عليه السّلام: هما و اللّٰه سواء، إن شئت سبّحت، و إن شئت قرأت» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 150

لكن يقع الكلام في مقامين:

أحدهما: في رفع التعارض بينها و بين خصوص ما دلّ على تعيّن القراءة في ما لو نسي قراءة الأوليين.

و الثاني: في رفع التعارض بين نفس الأخبار الواردة في كلّي المسألة أعمّ من النسيان المذكور و عدمه.

أمّا المقام الأوّل،

فاعلم أنّ ما دلّ على تعيّن القراءة عند نسيان قراءة الأوليين رواية واحدة، و هي: رواية الحسين بن حمّاد عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

قلت له: أسهو عن القراءة في الركعة الأولى؟ قال عليه السّلام: اقرأ في الثانية، قلت: أسهو في الثانية، قال عليه السّلام: اقرأ في الثالثة، قلت: أسهو في صلاتي كلّها، قال عليه السّلام: إذا حفظت الركوع و السجود فقد تمّت صلاتك» «1».

و هذه و إن كانت أخصّ مطلقا بالنسبة إلى أخبار التخيير كما هو واضح، لكنّها في خصوص موردها معارضة بصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت: الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأوّلتين فيذكر في الركعتين الأخيرتين أنّه لم يقرأ؟ قال عليه السّلام: أتمّ الركوع و السجود؟ قلت:

نعم، قال عليه السّلام: إنّي أكره

أن أجعل آخر صلاتي أوّلها» «2».

وجه المعارضة أنّ الظاهر من السؤال في هذا الخبر كون السائل متوهّما لزوم القراءة في الأخيرتين عند نسيانها في الأوّلتين، و زوال التخيير الثابت بحسب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 151

التشريع الأوّلي بملاحظة هذا العارض، و هو أنّه لو اختار التسبيح فيهما في الفرض المذكور لزم خلوّ الصلاة عن فاتحة الكتاب، و قد قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في الخبر المعروف:

«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ففي هذا الفرض يقوم الركعتان الأخيرتان مقام الأوّلتين في أنّه يتعيّن قراءة فاتحة الكتاب مع السورة فيهما بحيث لو تركها عمدا بطلت الصلاة، نعم لو تركها سهوا فلا شي ء كما في الأوّلتين، فأجاب الإمام عليه السّلام عن هذا التوهّم بعد ما سأله عن إتمام الركوع و السجود، فقال: نعم بقوله عليه السّلام: إنّي أكره أن أجعل آخر صلاتي أوّلها.

و المراد و اللّٰه العالم إمّا الجعل بحسب الفتوى، يعني إنّي لا أفتي بصيرورة آخر الصلاة أوّلها في الحكم أي في تعيّن فاتحة الكتاب و السورة، بل هو باق على ما كان قبل هذا النسيان من التخيير، و لم يحدث من قبل النسيان المذكور تغيير في حال الركعتين الأخيرتين.

أو بحسب العمل، يعني إنّي لا أعامل مع الأخيرتين معاملة الأوليين و لا أقرأ فاتحة الكتاب و السورة فيهما بعنوان التعيين و الوظيفة.

و على كلّ تقدير يكون هذا الخبر معارضا لرواية الحسين على فرض اعتبار سندها.

و حينئذ إمّا نحكم بتقديم هذا الخبر لصحّته، و إمّا لأجل موافقته للسنّة و هي عمومات التخيير،

مضافا إلى ضعف سند الرواية على ما قيل و إعراض الأصحاب عن ظاهرها، إذ لم يحك الفتوى به عن أحد سوى الشيخ قدّس سرّه في الخلاف، مع أنّه أيضا لم يثبت، بل ربما نسب إليه أنّه جعله أحوط.

فإن قلت: على فرض الإغماض عن ضعف السند و الإعراض يمكن الجواب عن معارضة الصحيحة المزبورة بعدم المنافاة بينها و بين الرواية، فإنّ مفاد الصحيحة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 152

كراهة جعل آخر الصلاة كأوّلها في الحكم، و هو الإتيان بما هو وظيفة الأوليين من مجموع الحمد و السورة في الأخيرتين على أنّه وظيفتهما، فلا ينافي هذا تعيّن قراءة الفاتحة خاصّة و بدون السورة لأجل رعاية نسيانها في الأوليين كما هو مفاد رواية الحسين، فيتعيّن على هذا تخصيص عمومات التخيير بهذه الرواية، لسلامتها عن المعارضة بهذا التقريب.

قلت: ما ذكر في مقام رفع التعارض بينهما غير صحيح لثلاثة وجوه:

أمّا أوّلا: فلأجل أنّ المذكور في كلتيهما هو السهو عن القراءة في الأوليين، فإن كان المراد بها هو مجموع الحمد و السورة فليكن كذلك في كليهما، و إن كان خصوص الحمد فكذلك، و لا وجه للتفكيك.

و أمّا ثانيا: فعلى هذا التوجيه في الصحيحة يلزم أن يكون الإمام عليه السّلام أجاب السائل بما ليس جوابا عن سؤاله، فإنّه سأل عن الوظيفة في الحال المفروضة، فأجاب الإمام عليه السّلام بأنّي أكره أن أقرأ الحمد و السورة معا في الأخيرتين، و أمّا أنّ الوظيفة ما ذا فهل هي القراءة معيّنا أو التخيير فساكت عنه، و قد كان السؤال عن الوظيفة العمليّة، و هذا الجواب لم يرفع حيرته.

و أمّا ثالثا: فلأجل أنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: إنّي أكره أن أجعل آخر صلاتي أوّلها،

أنّ آخر الصلاة بعد طروّ الحالة المذكورة لم يحدث فيه تغيّر حال، بل هو على حاله قبل طروّها و هو التخيير، فيكون معارضا مع الرواية المثبتة لتعيين القراءة بملاحظة طروّها.

و الحاصل أنّ دلالة الصحيحة على بقاء حكم التخيير و عدم زواله بهذا الطارئ ممّا لا ينكر، و قد كان مفاد الرواية زواله و تبدّله بتعيين أحد طرفيه و النسبة هي التباين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 153

هذا مضافا إلى إمكان أن يقال: إنّ رواية الحسين ليست النسبة بينها و بين العمومات إلّا التباين دون العموم و الخصوص المطلقين على تقدير، و لا منافاة لها معها على تقدير آخر.

و توضيحه أنّ قوله عليه السّلام في تلك الرواية بعد السؤال عن سهو القراءة في الركعة الأولى: «اقرأ في الثانية) بعد القطع بأنّ النسيان ليس سببا لإيجاب القراءة في الثانية، بل إنّما يؤتى بالقراءة في الركعة الثانية لأجل كونها وظيفة نفسها، فيرجع حاصل المراد إلى أنّه إن فاتك القراءة في الركعة الأولى فاستحفظ حتّى لا تفوتك في الثانية، فإنّها أيضا محلّ لها، و هذا نظير ما يقال: إن مات ولدك زيد فلا تغتمّ، بل اسأل اللّٰه أن يطيل عمر ولدك الآخر عمرو، فإذا سقط السهو عن الموضوعيّة بالنسبة إلى الركعة الثانية فهكذا الكلام بالنسبة إلى الثالثة.

فالمعنى- و اللّٰه العالم-: و إن فاتك القراءة في الركعتين فلا تغتمّ، إذ لم يفتك محلّها في الركعة الثالثة، و مفاد ذلك أنّ الركعة الثالثة بنفسها محلّ القراءة، لا أنّها صارت محلّا لها بملاحظة السهو، كما أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى الركعة الثانية.

و حينئذ نقول: إمّا يحمل العبارة على تعيّن القراءة و عدم إجزاء غيرها في الثالثة كما في الثانية، فالرواية على هذا

التقدير من الأدلّة على تعيين القراءة في الأخيرتين مطلقا، و إمّا يحمل على أفضليّة القراءة و أنّ تعيينها للإرشاد إلى كونها أفضل الفردين للواجب التخييري، فالرواية على هذا من الأدلّة الدالّة على أفضليّة القراءة فيهما مطلقا، و على التقدير الأوّل تكون معارضة مع عمومات التخيير بالتباين، و على الثاني تكون معارضة مع عمومات أفضليّة التسبيح كذلك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 154

و إمّا يحمل على أنّ ذكر القراءة للإشارة إلى ما هو الوظيفة في الركعة الثالثة، و ذكر القراءة من باب المثال، فالمعنى أنّه: إن فاتك القراءة في الأوليين فاهتمّ حتّى لا يفوتك ما هو الوظيفة في الركعة الثالثة مثل القراءة، و على هذا التقدير لا منافاة لها مع شي ء من عمومات التخيير أو الأفضليّة أصلا كما هو واضح.

فتحقّق أنّ الرواية إن حملناها على موضوعيّة النسيان صارت النسبة بينها و بين عمومات التخيير عموما و خصوصا مطلقا، و لكنّها معارضة بالصحيحة، و إن حملناها على عدم الموضوعيّة للنسيان، فحينئذ ليست النسبة إلّا التباين على تقدير، و لا ينافي بينها و بين تلك العمومات على تقدير آخر.

و على كلّ حال لا يتحقّق من قبل هذه الرواية مانع من الأخذ بتلك العمومات، أمّا على الأوّل و الأخير فواضح، و أمّا على الوسط فلوجود الجمع العرفي حينئذ بينهما، كما علم ممّا سبق، و ذلك لكون العمومات السابقة نصّا في التخيير، و هذه ظاهرة في التعيين، فيصرف عن ظاهرها إلى بيان أحد الأفراد بنصوصيّة تلك، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام و أمنائه الكرام عليهم صلوات اللّٰه الملك العلّام.

و أمّا المقام الثاني، فاعلم أنّ الأخبار على طوائف:
الأولى: ما دلّ على تعيّن التسبيح مطلقا

كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال: عشر ركعات، ركعتان من الظهر و ركعتان من العصر، إلى أن قال

عليه السّلام:

فزاد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله سبع ركعات هي سنّة ليس فيهنّ قراءة، إنّما هو تسبيح و تهليل و تكبير و دعاء» «1» الحديث.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 155

و صحيحته الثانية عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال عليه السّلام: كان الذي فرض اللّٰه على العباد عشر ركعات و فيهنّ القراءة، و ليس فيهنّ و هم (يعني سهوا) فزاد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله سبعا و فيهنّ الوهم و ليس فيهنّ قراءة» «1».

و صحيحته الثالثة عنه عليه السّلام أنّه «قال: لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير إمام، قال: قلت: فما أقول فيهما؟ قال عليه السّلام: إن كنت إماما أو وحدك فقل: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه، ثلاث مرّات تكمله تسع تسبيحات، ثمّ تكبّر و تركع» «2».

و صحيحته الرابعة عنه عليه السّلام «قال عليه السّلام: إذا أدرك الرجل بعض الصلاة و فاته بعض خلف إمام يحتسب بالصلاة خلفه جعل ما أدرك أوّل صلاته إن أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعتين، وفاته ركعتان قرأ في كلّ ركعة ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب، فإذا سلّم الإمام قام فصلّى الأخيرتين لا يقرأ فيهما، إنّما هو تسبيح و تهليل و دعاء ليس فيهما قراءة، و إن أدرك ركعة قرأ فيها خلف الإمام، فإذا سلّم الإمام قام فقرأ أمّ الكتاب ثمّ قعد فتشهّد، ثمّ قام فصلّى ركعتين ليس فيهما قراءة» «3» هكذا عن الفقيه «4».

و عن التهذيب نحوه، إلّا أنّه «قال: فإذا سلّم الإمام قام فصلّى

ركعتين لا يقرأ فيهما، لأنّ الصلاة إنّما يقرأ فيها في الأوليين في كلّ ركعة بأمّ الكتاب و سورة، و في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 47 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 4.

(4) الفقيه 1: 256- 1162.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 156

الأخيرتين لا يقرأ فيهما، إنّما هو تسبيح و تهليل و دعاء ليس فيهما قراءة» «1».

و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما، فقل: الحمد للّٰه و سبحان اللّٰه و اللّٰه أكبر» «2».

و المرسل المرويّ عن الفقيه و العلل عن الرضا عليه السّلام «إنّما جعل القراءة في الركعتين الأوليين و التسبيح في الأخيرتين للفرق بين ما فرضه اللّٰه من عنده و بين ما فرضه اللّٰه من عند رسوله» «3».

الثانية: ما دلّ على أفضليّة التسبيح مطلقا،

كخبر محمّد بن عمران أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام «فقال: لأيّ علّة صار التسبيح في الركعتين الأخيرتين أفضل من القراءة؟ قال عليه السّلام: إنّما صار التسبيح أفضل من القراءة في الأخيرتين، لأنّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله لمّا كان في الأخيرتين ذكر ما رأى من عظمة اللّٰه عزّ و جلّ فدهش، فقال:

سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر، فلذلك صار التسبيح أفضل من القراءة» «4».

الثالثة: ما دلّ على مساواة الأمرين مطلقا

مؤكّدا بالحلف في بعضها و هو ما تقدّم في صدر المسألة من رواية عليّ بن حنظلة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال عليه السّلام: إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب، و إن شئت فاذكر اللّٰه، فهو فيه سواء، قال: قلت: فأيّ ذلك أفضل؟

______________________________

(1) التهذيب 3: 45- 158.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 157

فقال عليه السّلام: هما و اللّٰه سواء، إن شئت سبّحت و إن شئت قرأت» «1».

و من هذا القبيل صحيحة عبيد بن زرارة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الركعتين الأخيرتين من الظهر؟ قال عليه السّلام: تسبّح و تحمد اللّٰه و تستغفر لذنبك، و إن شئت فاتحة الكتاب، فإنّها تحميد و دعاء» «2».

الرابعة: ما دلّ على أفضليّة القراءة مطلقا،

و هو رواية محمّد بن حكيم «قال:

سألت أبا الحسن عليه السّلام: أيّما أفضل، القراءة في الركعتين الأخيرتين أو التسبيح؟

فقال عليه السّلام: القراءة أفضل» «3».

الخامسة: ما دلّ على تعيّن القراءة للإمام و التسبيح للمأموم و التخيير للمنفرد

كصحيحة معاوية بن عمّار «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين، فقال عليه السّلام: الإمام يقرأ فاتحة الكتاب و من خلفه يسبّح، فإذا كنت وحدك فاقرأ فيهما، و إن شئت فسبّح» «4».

و رواية جميل بن درّاج «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عمّا يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة؟ فقال عليه السّلام: بفاتحة الكتاب، و لا يقرأ الذين خلفه و يقرأ الرجل فيهما إذا صلّى وحده بفاتحة الكتاب» «5» بناء على أنّ قوله عليه السّلام: و يقرأ الرجل إلخ لكونه واقعا عقيب النهي عن القراءة في حقّ المأموم لا ظهور له في أزيد من

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 10.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 158

الرخصة و عدم كونه منهيّا في حقّه.

و صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت إماما فاقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب، و إن كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل» «1».

السادسة: ما دلّ على تعيّن التسبيح للإمام و تعيّن القراءة للمأموم،

و هو صحيحة أبي خديجة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت إمام قوم فعليك أن تقرأ في الركعتين الأوّلتين، و على الذين خلفك أن يقولوا سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر و هم قيام، فإذا كان في الركعتين الأخيرتين

فعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب، و على الإمام أن يسبّح مثل ما يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين» «2».

السابعة: ما دلّ على تعيّن القراءة مطلقا،

و هو التوقيع المرويّ عن الاحتياج و كتاب الغيبة للشيخ أنّه كتب إلى القائم عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف يسأله عن الركعتين الأخيرتين و قد كثرت فيهما الروايات، فبعض يرى أنّ قراءة الحمد وحدها أفضل، و بعض يرى أنّ التسبيح فيهما أفضل، فالفضل لأيّهما لنستعمله؟

فأجاب عليه السّلام: «قد نسخت قراءة أمّ الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح، و الذي نسخ التسبيح قول العالم عليه السّلام: كلّ صلاة لا قراءة فيها فهي خداج» «3» الحديث.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 11.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 14.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 159

هذه جملة ما عثرنا عليه من طوائف الأخبار في الباب.

و الذي أفاده أستاذنا

الاعتماد أطال اللّٰه بقاه في وجه الجمع بينها أنّ ما دلّ على التسوية أو الأفضليّة سواء في جانب القراءة أم التسبيح بملاحظة مفادها الالتزامي الذي هو باختلافها حجّة فيه، حيث إنّ الخبرين المتعارضين يؤخذ بهما في نفي الثالث، و هو هنا رفع تعيين أحد الأمرين و وجوبه التعييني يكون قرينة صارفة لظهور ما دلّ على تعيين القراءة مطلقا و ما دلّ على تعيين التسبيح كذلك، إذ مقتضى الجمع العرفي رفع اليد عن الظاهر بواسطة النصّ، فإذا كان مفاد تلك الطوائف الثلاثة بنحو الصراحة و النصوصيّة إجزاء كلّ من الأمرين، غاية الأمر باختلاف في التعبير إمّا بنحو التسوية و إمّا بنحو تفضيل القراءة، و إمّا بنحو تفضيل التسبيح فهذا المفاد الصريح مأخوذ و يكون قرينة على صرف الظاهر في الطائفتين الأخريين اللذين كلّ منهما ظاهر في تعيين أحد الأمرين بالخصوص بدون شراكة

غيره، فإنّه قابل للحمل على خلاف ظاهره بأن يقال: إنّ المراد من قوله عليه السّلام: ليس فيهنّ قراءة نفي الجعل التعييني كما كان هو الثابت في الركعات التي هي فرض اللّٰه تعالى.

فيكون حاصل المراد- و اللّٰه العالم- أنّها لمكان كونها فرض اللّٰه لا يجتزئ فيها بغير القراءة، و أمّا هذه السبع الركعات فلعدم الاهتمام بها بمثل تلك المثابة يكتفى فيها، قرأت أو لم تقرأ، و ليس من المتحتّم قراءة أمّ الكتاب فيها، بل أجزاء أمّ الكتاب أيضا ليس من باب كونه قرآنا، بل من باب أنّه تحميد و دعاء، كما صرّح بذلك في صحيحة عبيد المتقدّمة.

و هكذا قوله: لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير إمام، قال: قلت: فما أقول فيهما، قال عليه السّلام: إن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 160

كنت إماما أو وحدك فقل: سبحان اللّٰه إلخ.

و هذه الرواية قد صرّح فيها بعدم الفرق بين الإمام و غيره، و الروايات المتقدّمة أيضا سياقها يشهد بعدم الفرق، بمعنى إبائها عن التقييد، فإنّ مقتضاها أنّ ذلك من خواصّ كون هذه الركعات السبع فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، لا فرض اللّٰه تعالى، و من المعلوم إباء هذا المضمون عن التقييد بالإمام مثلا، فهي بالسياق و هذه الرواية بالنصوصيّة يدلّ على أنّ المجعول التعيّني في الركعتين الأخيرتين ليس هو القراءة.

نعم يبقى سؤال أنّ التأكيد بالنون في الرواية الأخيرة ربما يأبى عن الجمع المذكور، إذ لو كان مجرّد النهي أمكن أن يقال: إنّه وارد في مقام توهّم الوجوب، فالمعنى: إن شئت أن لا تقرأ فلا تقرأ، و لست كما في الأوليين ملزما بالقراءة، و أمّا النهي المؤكّد بالنون فلا

يصلح إلّا في مقام يكون في الفعل بأس، إلّا أن يقال: إنّه يصلح مع البأس و لو كان كراهيّا.

بل يمكن أن يقال: إنّها آبية و لو مع قطع النظر عن التأكيد بالنون بملاحظة تعقّبه بالسؤال بقوله: فما أقول فيهما، إذ لو لم يفهم السائل من هذا النهي المنع، بل صرف عدم الإلزام بالفعل لما يحسن منه السؤال المذكور، و إنّما يحسن إذا فهم المنع كما لا يخفى.

فيستفاد من هذا الخبر مضافا إلى أنّ القراءة غير مجعولة تعيينا أنّها مكروهة و مفضولة بالنسبة إلى التسبيح أيضا، فيكون بالنسبة إلى إفادة أصل المرجوحيّة الأعمّ من البالغة مرتبة المنع عن النقيض و غيرها نصّا أو كالنصّ، بحيث يخرج عن قانون المحاورة لو حمل على المساواة، فضلا عن أفضليّة القراءة، فإنّ التعبير عن أحد المتساويين أو الفرد الأفضل بالنهي المؤكّد بالنون غير مأنوس في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 161

المحاورات العرفيّة.

فإذن تكون هذه الرواية معارضة مع ما دلّ على المساواة، و كذا مع ما دلّ على أفضليّة القراءة مطلقا، أو على تعيينها في حقّ الإمام، أو مطلقا كالتوقيع الشريف.

نعم ما دلّ على تعيين التسبيح للإمام و القراءة للمأموم، و هو رواية أبي خديجة، يمكن القول بعدم منافاتها مع تلك الرواية، لإمكان حمل قوله عليه السّلام:

فإذا كان في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك أن يقرءوا فاتحة الكتاب، و على الإمام أن يسبّح على معنى أنّه إذا تحقّق الجماعة في الركعتين الأخيرتين بأن كان المأموم مسبوقا بركعتين و لا حقا بالإمام في الركعتين الأخيرتين فحينئذ على الإمام أن يسبّح كما يسبّح القوم في الركعتين الأخيرتين من صلاتهم حين ما ينفردون عن الإمام، و على المأمومين أن يقرءوا، لأنّ هاتين الركعتين

أوليان بالنسبة إليهم.

و يشهد لذلك ما رواه الشيخ بإسناده إلى أحمد بن النضر عن رجل عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: قال لي: أيّ شي ء يقول هؤلاء في الرجل إذا فاتته مع الإمام ركعتان؟ قال: يقولون: يقرأ في الركعتين بالحمد و السورة، فقال عليه السّلام: هذا يقلّب صلاته فيجعل أوّلها آخرها، فقلت: فكيف يصنع؟ قال: يقرأ بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة» «1».

إذ الظاهر من هذه الرواية أنّ العامّة كانوا يقولون بالذكر في الأوليين في الصورة المفروضة و القراءة في الأخيرتين، و الإمام عليه السّلام ردعهم بقوله عليه السّلام: هذا يقلّب صلاته فيجعل أوّلها آخرها.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 47 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 162

فالرواية السابقة أيضا ناظرة إلى ردع هذا المعنى و أنّ التكليف لا ينقلب بواسطة فوات الركعتين مع الإمام، بل وظيفة الأوليين على حالها و وظيفة الأخيرتين أيضا كذلك.

و بالجملة فهذه الطائفة ممكنة الجمع مع الصحيحة المزبورة، كما أنّ الطائفة الدالّة على أفضليّة التسبيح و الطائفة الدالّة على تعيّنه أيضا غير منافيتين معها.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 162

فيبقى الطائفة الدالّة على تعيّن القراءة مطلقا، و الطائفة الدالّة على أفضليّتها مطلقا، و الطائفة الدالّة على المساواة مطلقا، و الطائفة المفصّلة بين الإمام و المأموم بالأمر بالقراءة للأوّل و التسبيح للثاني كلّها معارضة معها.

مضافا إلى معارضة نفس الطوائف الستّ بعضها مع بعض بحسب المدلول المطابقي.

و المعارضة الأخيرة أعني: ما كان بين نفس تلك الطوائف قابلة للارتفاع، بأن يقال بأنّ الأخبار الفارقة بين فرض اللّٰه و فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله ناظرة إلى بيان المجعول الأوّلي مع

قطع النظر عن طروّ الحالة الثانية، فكما أنّ إثبات القراءة في فرض اللّٰه يكون بلحاظ أصل التشريع و الجعل الأوّلي و طبع الصلاة بما هي هي فلا ينافي سقوطها عن المأموم لعارض الجماعة، فكذلك نفي الجعل في فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله الذي صار معناه بمقتضى صحيحة عبيد بن زرارة أنّ الأصل في فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله هو التسبيح و التحميد و الدعاء، و فاتحة الكتاب أيضا غير خارج عن ذلك.

فيقال: إنّ هذا المعنى إنّما هو بملاحظة طبع الصلاة لو خلّيت و نفسها، فلا ينافي رجحان القراءة لعارض الجماعة في حقّ الإمام.

و على هذا فيحصل التوفيق بين جميع أخبار الباب غير الصحيحة المتقدّمة الناصّة بمساواة الإمام و غيره في النهي عن القراءة بأن يقال: إنّ مطلقات مساواة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 163

الأمرين ناظرة إلى مقام الجعل الأوّلي، و كلّ واحدة من مطلقات أفضليّة التسبيح أو أفضليّة الحمد محمولة على الحكم الثانوي المجعول بملاحظة عارض الجماعة بقرينة التفصيل الواقع في بعض الأخبار بين الإمام و المأموم بالقراءة للأوّل و التسبيح للثاني.

فيكون حاصل الجمع بين الكلّ

أنّ الأمرين بحسب الجعل الأوّلي متساويان، إلّا أنّه خرج عن هذا المقتضى الأوّلي إلى أفضليّة القراءة في حقّ الإمام، و إلى أفضليّة التسبيح في حقّ المأموم لعارض الجماعة، و أمّا المنفرد فباق على المقتضي الأوّلي، فيكون الأمران متساويين في حقّه بحسب الشأنيّة و الفعليّة معا.

لكن هذا كلّه في المعارضة الواقعة بين أخبار الباب مع قطع النظر عن الصحيحة الناهية عن القراءة مع التأكيد بالنون و التنصيص بعدم الفرق بين الإمام و غيره، فإن أمكن حملها على ما لا ينافي المعنى المذكور تعيّن المصير إليه، و إلّا فلا محيص

عن معاملة التعارض.

و الذي أفاده الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه في وجه الجمع احتمال أن تكون هذه الصحيحة أيضا كصحيحة أبي خديجة المتقدّمة ناظرة إلى ردع ما ذهب إليه العامّة في المأموم المسبوق، حيث يعاملون مع الركعتين اللتين يدركهما مع الإمام معاملة الأخيرتين، و مع الركعتين اللتين يتمّهما وحده و في حال انفراده عن الإمام معاملة الأوليين، و قال الإمام عليه السّلام في الخبر المتقدّم أنّ هذا يقلّب أوّل صلاته آخرها، فالنهي و التأكيد بالنون في صحيحة زرارة أيضا لأجل إخراج هذا المذهب الفاسد عن الأذهان.

و حاصل المراد- و اللّٰه العالم- بناء على هذا أنّ الإمام و المأموم المسبوق لا يفترقان في الركعتين الأخيرتين، فكما لا يقرأ الإمام، بل يسبّح في ركعتيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 164

الأخيرتين فكذلك المأموم المسبوق عند توحّده عن الإمام و إتيانه للركعتين الأخيرتين لا بدّ أن يترك القراءة.

و وجه تعيين التسبيح في الذيل عند سؤاله بقوله: فما أقول فيهما لعلّه لنكتة أن يعتاد عملا بإتيان التسبيح و يخرج عن ذهنه ذلك الرأي السخيف الناشئ من العامّة بالكلّية، و يشهد لهذا قوله عليه السّلام في الجواب عن السؤال الواقع في الذيل:

إن كنت إماما أو وحدك إلخ، حيث إنّه عليه السّلام لم يتعرّض لحكم المأموم، فإنّ سرّه على ما ذكرنا واضح، إذ هو في مقام رفع التمايز بين الإمام و المأموم المسبوق الذي يصير في الركعتين الأخيرتين وحده و منفردا و أنّ كليهما مشتركان في أنّ وظيفتهما التسبيح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 165

المسألة الثانية هل يكفي على تقدير اختيار الذكر الإتيان بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة،

أو يجب ثلاث مرّات، أو يكفي الإتيان بحذف التكبيرة ثلاث مرّات، أو يكفي ثلاث سبحان اللّٰه، أو يكفي مطلق الذكر بأيّ صورة كانت؟

فاعلم أنّ الأخبار اختلف

في ذلك، ففي بعضها مطلق الذكر، و هو رواية عليّ بن حنظلة المتقدّمة في أدلّة المساواة المشتملة على قوله عليه السّلام: و إن شئت فاذكر اللّٰه «1».

و في آخر: سبحان اللّٰه ثلاثا، و هو رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: أدنى ما يجزي من القول في الركعتين الأخيرتين ثلاث تسبيحات أن تقول:

سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه» «2».

و في ثالث: الاكتفاء بقول الحمد للّٰه و سبحان اللّٰه و اللّٰه أكبر، و هو صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا قمت في الركعتين الأخيرتين لا تقرأ فيهما،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 166

فقل الحمد للّٰه و سبحان اللّٰه و اللّٰه أكبر» «1».

و في رابع: الاكتفاء بالتسبيحات الأربع بالصورة المعهودة مرّة واحدة، و هو ما رواه ثقة الإسلام قدّس سرّه في الصحيح عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: ما يجزئ من القول في الركعتين الأخيرتين؟

قال عليه السّلام: أن تقول: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر و تكبّر و تركع» «2».

و في خامس: تعيين سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه ثلاث مرّات، و هو ما رواه الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال:

لا تقرأنّ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات شيئا إماما كنت أو غير إمام، قال: قلت: فما أقول فيهما؟ قال عليه السّلام: إذا كنت إماما أو وحدك فقل:

سبحان اللّٰه

و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه ثلاث مرّات تكمله تسع تسبيحات، ثمّ تكبّر و تركع» «3».

قال في الوسائل: و رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب حريز ابن عبد اللّٰه عن زرارة مثله، إلّا أنّه أسقط قوله: تكمله تسع تسبيحات، و قوله:

أو وحدك، و رواه في أوّل السرائر أيضا نقلا من كتاب حريز مثله، إلّا أنّه قال:

فقل: سبحان اللّٰه و الحمد للّٰه و لا إله إلّا اللّٰه و اللّٰه أكبر ثلاث مرّات، ثمّ تكبّر و تركع.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 167

أقول: و إن كان مقتضى الجمع بين الجميع هو الاكتفاء بمطلق الذكر كما حكي عن البحار و يحمل الاختلاف على مراتب الفضل، لكن لكون ذلك خلاف المشهور لا يعوّل عليه، بل و كذا على ما اشتمل على غير التسبيحات الأربع، و قد عرفت أنّ المشتمل عليها روايتان كلتاهما صحيحتان رواهما حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام، إحداهما تشتمل على التسبيحات المذكورة و مقتضى إطلاقها الاكتفاء بها مرّة واحدة كما يظهر تقريبه إن شاء اللّٰه تعالى، و الأخرى تشتمل على تلك التسبيحات ثلاثا بناء على نسخة أوّل السرائر و بدون التكبير ثلاثا بناء على نسختي الصدوق و مستطرفات السرائر، و قد حكى القول بمضمون الصحيحة الأولى عن الأشهر بل المشهور بين المتأخّرين و متأخّريهم كما حكي القول بالتسع، كما هو مقتضى النسخة الثانية من الصحيحة الثانية عن حريز و الصدوقين و ابن أبي

عقيل و أبي الصلاح، و حكي القول بالاثنتي عشر كما هو مقتضى النسخة الاولى من الصحيحة الثانية عن صريح النهاية و الاقتصاد و مختصر المصباح و التلخيص و البيان و ظاهر ابن أبي عقيل، و الأوّل هو الأقوى.

فإن قلت: كيف و مقتضى الصناعة تقييد الصحيحة الظاهرة في الاكتفاء بالمرّة بإطلاقها بالصحيحة الثانية المصرّحة بالثلاث، فإنّ النسبة بينهما الإطلاق و التقييد.

لا يقال: إنّ المقيّد قاصر عن التقييد بملاحظة أنّ الأمر الواقع فيها بذلك واقع عقيب قوله عليه السّلام: لا تقرأنّ، المحمول على الكراهة قطعا، فلا دلالة في الأمر المذكور أيضا على الوجوب.

لأنّا نقول: غايته حمله على بيان أفضل فردي الواجب التخييري، و أمّا في مقام تعيين ذلك الفرد و أنّه أيّ شي ء هو فلا ينكر ظهوره في كون ما ذكره هو ذلك الفرد الأفضل دون غيره، و إذن فاللازم حمل تلك الصحيحة الأولى على هذه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 168

قلت: ما ذكر في استظهار الخصوصيّة من الصحيحة الثانية في مقام بيان أفضل الفردين بمعنى نفي الثالث حقّ، و لكن مع ذلك تقييد الصحيحة الأولى بها في غاية الإشكال، و ذلك لأنّه إن كانت تلك الصحيحة واردة في الجواب عن سؤال ما يقال أمكن أن يقال: إنّه في مقام بيان سنخ القول في الأخيرتين، و أمّا عدده فليس في مقامه، و الصحيحة الأخرى بصدد البيان من كلتا الجهتين، و أمّا بعد كون السؤال في الأولى عمّا يجزي من القول في الأخيرتين و معلوم أنّه سؤال من الإجزاء عن كلّ جهة فالصحيحة تصير أظهر في الاكتفاء بالمرّة و خصوصا بملاحظة قوله عليه السّلام: و تكبّر و تركع.

و بالجملة و إن كان مع ذلك لا تخرج الصحيحة عن

كونها مطلقة مع كون الأخرى مقيّدة بناء على نسخة إثبات التكبير، و إلّا فبناء على حذفه فالأمر أوضح، لأنّهما حينئذ من المتباينين و مقتضى الجمع العرفي هو التخيير، و لكن ليس كلّ مطلق و مقيّد يتعيّن فيهما حمل المطلق على المقيّد، بل رفع اليد عن الإطلاق الوارد في مقام البيان، كما عرفته في الصحيحة الأولى في غاية الإشكال، بحيث يمكن أن يقال بترجيح التصرّف في هيئة المقيّد بحملها على الرجحان و الأفضليّة على التصرّف في مادّة المطلق المذكور، و حينئذ فالعمل على الصحيحة الاولى هو الأقوى.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 169

البحث الخامس في الركوع

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 171

و هو واجب في الصلاة إجماعا، و ركن تبطل الصلاة بتركه عمدا و سهوا، و هو ممّا لا إشكال فيه في الجملة.

نعم وقع الخلاف في ما إذا سها عنه إلى أن سجد السجدتين، فذهب الشيخ قدّس سرّه إلى عدم البطلان، بل يحذف السجدتين و يأتي بالركوع و ما بعده إلى آخر الصلاة، و هو قول في الحقيقة بعدم إضرار زيادة السجدتين، لا إنكار ركنيّة الركوع.

و كيف كان فالمشهور ذهبوا إلى البطلان حتّى في ما إذا سها إلى أن سجد واحدة، فهنا مسألتان:

الأولى: حكم ما إذا سها و قد دخل في السجدتين.

و الأخرى: حكم ما إذا تذكّر بعد السجدة الواحدة.

أمّا [المسألة] الأولى

فالأخبار فيها مختلفة، ففي بعضها الحكم بالإعادة و لزوم الاستئناف، و هو عدّة روايات.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 172

منها: ما رواه الشيخ في الصحيح عن رفاعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

سألته عن رجل ينسى أن يركع حتّى يسجد و يقوم؟ قال عليه السّلام: يستقبل» «1».

و منها: عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا أيقن الرجل أنّه ترك ركعة من الصلاة و قد سجد سجدتين و ترك الركوع استأنف الصلاة» «2».

و منها: موثّق إسحاق بن عمّار «قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الرجل ينسى أن يركع، قال عليه السّلام: يستقبل حتّى يضع كلّ شي ء موضعه» «3».

و منها: خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل نسي أن يركع؟ قال عليه السّلام: عليه الإعادة» «4».

و بعضها صريح في الصحّة و إلقاء السجدتين ثمّ إتيان الركوع و ما بعده، و هو خبر واحد مرويّ في التهذيب و الفقيه و مستطرفات السرائر

عن محمّد بن مسلم، لكن مع اختلاف في التعبير.

ففي الأوّل هكذا: عن أبي جعفر عليه السّلام في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع «قال عليه السّلام: فإن استيقن فليلق السجدتين اللتين لا ركعة لهما، فيبني على صلاته على التمام، فإن كان لم يستيقن إلّا بعد ما فرغ و انصرف فليتمّ الصلاة بركعة و سجدتين و لا شي ء عليه» «5».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 4.

(5) التهذيب 2: 149- 585.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 173

و في الثاني: عن أبي جعفر عليه السّلام- على ما في الحدائق- و عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام- على ما في المدارك- في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع؟ «فقال عليه السّلام: يمضي في صلاته حتّى يستيقن أنّه لم يركع، فإن استيقن أنّه لم يركع فليلق السجدتين اللتين لا ركوع لهما و يبني على صلاته على التمام، و إن كانت لم يستيقن إلّا بعد ما فرغ و انصرف فليقم و ليصلّ ركعة و سجدتين و لا شي ء عليه» «1».

و في الثالث: عن أبي جعفر عليه السّلام «قال في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع؟

قال عليه السّلام: يمضي على شكّه حتّى يستيقن و لا شي ء عليه، و إن استيقن لم يعتدّ السجدتين اللتين لا ركعة معهما، و يتمّ ما بقي من صلاته و لا سهو عليه» «2».

و السند في رواية الفقيه صحيح على ما قيل، فيبقى الكلام في وجه الجمع، فعن

الشيخ قدّس سرّه حمل الاولى على الركعتين الأوّلتين، و الأخيرة على الأخيرتين، و لعلّه شهادة ما دلّ من الأخبار على أنّه لا سهو في الأوّلتين و ما يؤدّي هذا المضمون.

و لكن فيه أنّ الظاهر كما يظهر بمراجعة الأخبار أنّ المراد بنفي السهو في الأوليين حفظ أعدادهما و عدم قبولهما العلاج الذي ذكروه في الأخيرتين للشكّ في عدد الركعات، فلا ربط لها بما نحن فيه الذي هو سهو في الفعل.

و ربما يجمع بين الطائفتين بحمل كلّ منهما على بيان أحد أفراد الواجب التخييري، فالمكلّف مخيّر بين الاستئناف و حذف السجدتين.

و لكن فيه أنّه لا بدّ من مساعدة العرف على الجمع، لا كونه محتملا عقلا، فقوله عليه السّلام: استأنف الصلاة، أو عليه الإعادة، ظاهر كالصريح في الحكم بالبطلان،

______________________________

(1) الفقيه 1: 228- 1006.

(2) مستطرفات السرائر: 81- 17.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 174

و معلوم أنّه لا معنى للتخيير بين البطلان و الصحّة، و لازم حذف السجدتين و الإتمام هو الصحّة.

نعم هنا احتمال موهوم في غاية الوهم، بحيث يكاد يلحق الكلام من كثرة موهونيّته في أنظار العرف بالمعمّا لو أريد منه، و هو احتمال أن يكون المراد من الاستئناف أنّه يقطع الصلاة أوّلا ثمّ يستأنف، فإنّ الصلاة بنفسها صحيحة غير باطلة، و بالجملة يكاد يطمئنّ النفس ببطلان هذا الجمع و عدم كونه مقبولا عند العرف.

بقي جمع آخر و هو حمل قوله عليه السّلام: يستقبل، على الاستقبال من الوسط، لا من الأوّل حتّى يكون مساوقا مع البطلان، فيكون المقصود منه أيضا ما شرحه الصحيحة من حذف السجدتين و الإتيان بالركوع المنسيّ، و هو أيضا- خصوصا في قوله عليه السّلام: استأنف الصلاة- في مخالفة الظاهر بمكان، بحيث يصحّ دعوى الاطمئنان بخروجه

عن ديدن العرف في المحاورات.

ثمّ بعد عدم جريان شي ء من الوجوه المذكورة في وجه الجمع لو كنّا نجزم بأحد الأمرين: إمّا بمخالفة أخبار البطلان مع العامّة و موافقة الأخبار الأخر معهم، و إمّا بإعراض الأصحاب عن الصحيحة الحاكمة بالصحّة، لكان الأمر سهلا، إذ على الأوّل دخل المقام تحت الأخبار المتعارضة مع كون بعضها مخالفا للعامّة، فيكون هو المتعيّن بالأخذ، و على الثاني كانت الصحيحة ناقصة الحجّية من حيث جهة الصدور، لاختلال أصلها العقلائي الجاري في الجهة بواسطة الإعراض.

لكنّ العمدة عدم الجزم بشي ء من الأمرين، و بذلك يصعب الأمر، فلا محيص عن الاحتياط بإتمام الصلاة بالطريق المذكور ثمّ الإعادة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 175

و أمّا المسألة الثانية
اشارة

فقد عرفت أنّ مقتضى إطلاق بعض الأخبار الأول هو الحكم بالبطلان، فإن تمّ دعوى الانصراف إلى صورة التذكّر بعد السجدتين يرجع في حكم صورة التذكّر بعد الدخول في الاولى إلى مقتضى القواعد و هو الصحّة، إذ لا يلزم من التدارك إلّا زيادة السجدة الواحدة، و هي ليست ركنا، و زيادة الكلام لعلّها يأتي إن شاء اللّٰه تعالى في مبحث الخلل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 176

و الواجب في الركوع أمور:
منها: أن ينحني بقدر ما يمكن وضع يديه على ركبتيه.

أمّا أصل الانحناء فمأخوذ في حقيقته، فلا يحتاج إلى إقامة الدليل، و هل الحدّ الخاصّ الذي عيّنه الشارع له من باب الحقيقة الشرعيّة، أو أنّه أطلقه الشارع من باب الإطلاق على أحد الأفراد؟ لا ثمرة عمليّة مترتّبة على ذلك و إن كان الظاهر من الوجهين هو الأخير.

و أمّا الحد الخاصّ فاعلم أنّ هنا كلاما في أنّه هل يعتبر وصول اليد إلى الركبة فعلا، أو يكفي الانحناء بمقدار يمكن الوصول و لو لم يتحقّق الوصول، و كلاما آخر في تعيين مقداره و أنّه هل المعتبر الانحناء إلى مقدار وصول أطراف الأصابع أو إلى مقدار وصول الراحة.

أمّا الكلام الأوّل فالظاهر من كلام القائل في مقام تحديد القامة، فلأن يصل يده إلى الطاق الرفيع أنّه يتمكّن من ذلك و لو لم يصدر منه هذا العمل خارجا و لو مرّة واحدة، و هذا ظاهر مقام التحديد، و الأخبار الواردة في المقام أيضا ظاهرة في كونها بمقام التحديد للانحناء، فلا يمكن استفادة اعتبار فعليّة الوصول منها، و إن كان ظاهر الصيغة لو خلّيت و نفسها هو الفعليّة، لكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر، للورود في مقام التحديد، و هذا ظاهرا واضح لا يحتاج إلى مزيد تأمّل.

و يشهد لذلك موثّقتا عمّار، إحداهما:

عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال: إن نسي الرجل القنوت في شي ء من الصلاة حتّى يركع فقد جازت صلاته و ليس عليه شي ء، و ليس له أن يدعه متعمّدا» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القنوت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 177

و الأخرى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل ينسى القنوت في الوتر أو غير الوتر؟ «قال عليه السّلام: ليس عليه شي ء، و قال عليه السّلام: إن ذكره و قد أهوى إلى الركوع قبل أن يضع يديه على الركبتين فليرجع قائما و ليقنت ثمّ يركع، و إن وضع يده على الركبتين فليمض في صلاته» «1».

فإنّ المحصّل منهما أنّ حدّ النسيان الذي لا رجوع معه هو الدخول في الركوع و هو عبارة عن الانحناء بمقدار يضع يده على الركبتين.

و بالجملة، المدّعى أنّ قوله «2» عليهم السّلام: بلّغ بأطراف أصابعك عين الركبة، أو إن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك، و أحبّ إليّ أن تمكن كفّيك من ركبتيك، ظاهرها أنّها في مقام تحديد الركوع الواجب في الصلاة، و حيث إنّ من الضروري عدم مدخليّة الفعليّة في التحديد كان المقصود هو التقدير و الشأنيّة.

نعم يحتمل حمل الأخبار المذكورة على الموضوعيّة لا التحديد، فيكون المقصود أنّ نفس الوضع من المستحبّات في الركوع، و على تقدير وجوبه يكون واجبا آخر محلّه في الركوع، فلا ربط لها بتحديد الركوع الواجب و إن كان يتوقّف تحصيل ذلك المستحبّ أو الواجب على بلوغ الانحناء إلى ذلك الحدّ، لكنّه من باب المقدّميّة، لا للمدخليّة في الركوع الركن.

و على هذا فلو نسي ذلك و أتى بما هو مسمّى عرفا بالركوع و هو مطلق الانحناء

في قبال الاستقامة- ألا ترى أنّه يقال: شيخ راكع بمحض انحناء رأسه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القنوت، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 28 من أبواب الركوع، الحديث 2 و 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 178

و عنقه عن الاعتدال الأوّل و لو يسيرا- فقد أتى بما هو الركن و إنّما نسي المستحبّ أو الواجب الغير الركن.

فينحصر المخلص في الإجماع على أنّ الركوع في الشرع لم يبق على نفس مفاده، بل قيّد بقيد و إن اختلف فيه أنّه ما ذا.

و الحاصل: يلزم على هذا عدم كون الأخبار بصدد ذلك التحديد أصلا، و هو من المستبعد جدّا، و بعد كونه مستبعدا كما يؤيّده فهم الأصحاب أيضا، فإنّ الظاهر أنّ إجماعهم مستند إلى الفهم من الأخبار، فمن الواضح أنّ المناسب بمقام التحديد هو الوجود التقديري لا الفعلي، لعدم مساس الفعليّة بمقام التحديد كما هو واضح.

نعم يبقى حينئذ أنّه لا دليل في الأخبار على استحباب الوضع في نفسه، إذ كلّ ما كان من مثل هذه التعبيرات فهي إشارة إلى تحديد الانحناء، فهنا مقداران من الانحناء، أحدهما حدّ الإجزاء، و الآخر حدّ الاستحباب و الفضل، فالأوّل ما كان ملزوما لوصول الأصابع ابتداء الركبة، و الآخر ما كان ملزوما لتمكين الكفّ من عين الركبة.

أمّا الكلام في مقدار الانحناء فقد عرفت أنّ في بعض الأخبار التعبير عنه بوصول أطراف الأصابع، و في آخر: بلّغ بأطراف أصابعك عين الركبة، و هو محتمل للعين المهملة، و المراد من عين الركبة وسطها، و هو ملازم مع تمكين الراحة و الكفّ من الركبة، و للغين المعجمة، و هو أيضا ملازم لذلك، فإنّ بلوغ جميع الأصابع التي منها الإبهام إلى الركبة يلازم

تجاوز أطراف الأصابع الأربع عن العين و وقوع الكفّ بنحو الاستيلاء عليه.

و هذا بخلاف التعبير الأوّل أعني: وصول جميع الأصابع إلى الركبة، فإنّ الركبة مشتملة على أعلى و وسط و أسفل، و يمتدّ مقدارها تقريبا إلى أربع أصابع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 179

متفرّجات، فإذا وصل جميع الأصابع الخمسة إلى مسمّى الركبة و لو كان جزؤها الأعلى المتّصل بالفخذ فهذا ملازم مع وقوع جزء من الكفّ المتّصل بأصول الأصابع على الجزء الأعلى من الركبة.

و هذا هو الحدّ الأقلّ الذي لا يجزي أقلّ منه، بدليل قوله عليه السّلام «1»: فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك، و أحبّ إليّ أن يمكّن كفّيك من ركبتيك.

فيكون المراد من الحدّ الأحبّ الأفضل هو الانحناء الأزيد الذي يوجب وقوع الراحة بنحو الاستيلاء على الركبة، و هو الذي عبّروا عليهم السّلام عنه ببلوغ أطراف الأصابع عين الركبة.

و إذن فيرتفع الاختلاف عن البين و يظهر أنّ الحقّ هو اعتبار الانحناء إلى مقدار يمكن وصول الراحة.

ثمّ إنّ من الأدلّة على أنّ أمثال هذه التعبيرات للإشارة إلى تحديد مقدار الانحناء ما وقع في صحيحة زرارة الواردة في كيفيّة ركوع المرأة حيث «قال عليه السّلام:

فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلّا تطأطأ كثيرا فترتفع عجيزتها» «2».

فكأنّه قال عليه السّلام: حدّ ركوعها الانحناء الواصل إلى هذا المقدار الملازم مع إمكان وضع اليدين فوق الركبتين على الفخذين، و ذلك لئلّا يزيد الانحناء فيوجب ارتفاع عجيزتها.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 28 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 180

و هل هذا التعبير ترخيص لها في النقص عن مرتبة الركوع

الأفضل أو عن مرتبة الركوع المجزي في حقّ الرجال؟ الظاهر الأوّل، فإنّ الظاهر أنّ كون حدّ الركوع أمرا واحدا و مرتبة خاصّة لا يتفاوت فيها بين الرجال و النساء كان من المفروغ عنه، و قد بيّن الحدّ المشترك في سائر الأخبار، و إنّما الغرض في هذه الصحيحة بيان مواضع الاختلاف بينهما في الفضل.

و قد عرفت أنّ حدّ الإجزاء وصول أوّل أجزاء الراحة أوّل أجزاء الركبة و أنّ الفضل في تمكين الراحة على الركبة، و لمّا كانت الركبة محلّ جمع العظمين فالتمكين عليها يوجب بحسب الغالب ردّ الركبة إلى الخلف، و هو يوجب زيادة الانحناء و ارتفاع العجيزة.

و أمّا إذا وضعت الأصابع الخمسة على أوّل الركبة مع وقوع معظم الكفّ على الفخذ فالاستقرار لا يقع على الركبة حتّى يوجب الردّ إلى الخلف، فالصحيحة يمكن كونها ناظرة إلى اختيار المرأة هذا الفرد الذي هو المجزي لئلّا يرتفع عجيزتها.

نعم ظاهر الصحيحة كون تمام اليد واقعة على الفخذ، و هو يوجب عدم وقوع شي ء منه و لو أطراف الأصابع على الركبة، و لكن إطلاق معاقد الإجماعات و الفتاوى يجعل القول الأوّل أحوط، فإنّه على تقدير إرادة الأخير لا شبهة في عدم كونه متعيّنا، بل يجوز لها اختيار الانحناء الأزيد، لكون الصحيحة بصدد بيان الفضل في ركوعها، كما يشهد به ملاحظة تمامها.

مضافا إلى أنّ ملاحظة الأخبار المحدّدة لمطلق الركوع شاهدة بأنّها في مقام شرح حقيقة جنس الركوع من أيّ شخص صدر من غير فرق بين الرجال و النساء، و إن كان المخاطب هو الرجل، لكنّه لا يوجب الاختصاص، و إذن فالأحوط لها أن لا تتعدّى عن مقدار الإجزاء في حقّ الرجال و إن كان عدم استحباب تمكين الراحة في حقّها

قدرا متيقّنا على كلّ حال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 181

و منها: الذكر

و لا إشكال في أصل وجوبه، إنّما الكلام في كفاية مطلق ما يسمّى ذكرا و لو كان تكبيرا أو تهليلا أو غير ذلك كما عن بعض الأصحاب قدّس أسرارهم، أو تعيّن التسبيح كما نسب إلى الأكثر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

و على الأوّل هل يكفي بأيّ قدر كان، أو لا بدّ من كونه بقدر التسبيحات الثلاث، و على الثاني هل يكفي الصغرى و لو واحدة، أو لا يكفي إلّا الكبرى، أو لا بدّ من ثلاث صغريات، أو واحدة كبرى؟ لا بدّ في تحقيق كلّ من هذه الوجوه من الرجوع إلى أخبار أهل الطهارة.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و به الاعتصام: إنّ الأخبار الواردة في هذا المقام بين طوائف، ففي بعضها التعرّض للتسبيح بدون التعرّض لغيره، و هذه أيضا بعضها متعرّض لخصوص الكبرى، بل و نفي الصلاة بدونها، و بعضها مشتملة عليها و على الثلاث الصغريات، و في بعضها التعميم و لو حال الاختيار لمطلق الذكر.

فمن القسم الأوّل أعني: ما تعرّض لخصوص التسبيحة الكبرى رواية أبي بكر الحضرمي «قال: قال أبو جعفر عليهما السّلام: أ تدري أيّ شي ء حدّ الركوع و السجود؟ فقلت: لا، قال: سبّح في الركوع ثلاث مرّات: سبحان ربّي العظيم و بحمده، و في السجود: سبحان ربّي الأعلى و بحمده ثلاث مرّات، فمن نقص واحدة نقص ثلث صلاته، و من نقص ثلثين نقص ثلثي صلاته، و من لم يسبّح فلا صلاة له» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 182

و أوضح منها: خبر هشام بن سالم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه

عليه السّلام عن التسبيح في الركوع و السجود؟ فقال عليه السّلام: تقول في الركوع: سبحان ربّى العظيم، و في السجود: سبحان ربّي الأعلى، الفريضة من ذلك تسبيحة و السنّة ثلاث، و الفضل في السبع» «1».

و من القسم الثاني أعني: ما دلّ على كفاية مطلق التسبيحة و لو الصغرى صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: قلت له: ما يجزي من القول في الركوع و السجود؟ قال عليه السّلام: ثلاث تسبيحات في ترسّل، و واحدة تامّة تجزي» «2».

و صحيحة معاوية بن عمّار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أخفّ ما يكون من التسبيح في الصلاة؟ قال عليه السّلام: ثلاث تسبيحات مترسّلا تقول: سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه سبحان اللّٰه» «3».

و من القسم الثالث أعني: الدالّ على التعميم لمطلق الذكر اختيارا صحيحة هشام بن سالم سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: «يجزي عنّي أن أقول مكان التسبيح في الركوع و السجود: لا إله إلّا اللّٰه و الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر؟ قال عليه السّلام: نعم كلّ هذا ذكر اللّٰه» «4».

و صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: أ يجزي عنّي أن أقول مكان التسبيح في الركوع و السجود: لا إله إلّا اللّٰه و الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر؟

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 183

قال عليه السّلام: نعم كلّ هذا ذكر» «1».

إذا عرفت ذلك فنقول و على اللّٰه التوكّل و به

الاستعانة: أمّا القسم الأوّل ففي نفسها أمارة الاستحباب موجودة، ألا ترى إلى قوله عليه السّلام في رواية الحضرمي:

من نقص واحدة نقص ثلث صلاته إلخ، فإنّه لا شبهة في كون المراد نقص صلاته من حيث الكمال، لا من حيث الماهيّة، و إلّا فيكفي في انتفاء الماهيّة انتفاء أدنى شي ء من أجزائها، و لا يقبل التبعيض، لأنّها غير متقسّطة على الأجزاء، و كذا المراد بقوله عليه السّلام: من نقص ثنتين نقص ثلثي صلاته.

فإذا كان المراد بهاتين الفقرتين نقصان الكمال لا الأصل و الماهيّة فليكن كذلك المراد بقوله عليه السّلام في الفقرة الأخيرة: و من لم يسبّح فلا صلاة له، يعني من حيث الكمال، لا الأصل، لأنّ الظاهر أنّ النفي في الأخيرة أيضا من سنخ ما نفى في الأوليين، فإذا كان المنفي فيهما الكمال فهو المنفي في الأخيرة، غاية الأمر بنحو البعضيّة في الأوليين، و بنحو الكلّية في الأخيرة.

و إذن فلا حاجة إلى ملاحظة الأخبار المصرّحة بإجزاء الصغريات في حمل هذا القسم على الاستحباب، لما عرفت من عدم دلالتها على أزيد من الاستحباب.

بقي الكلام في النسبة بين القسمين الأخيرين، و لا إشكال في أنّ مقتضى الجمع بينهما كفاية مطلق الذكر، لكن مع ذلك قد يستشكل في ذلك نظرا إلى اشتهار القول بتعيين التسبيح في ما بينهم، حتّى جعله في محكيّ الانتصار من متفرّدات الإماميّة، و عن الغنية و غيره نسبته إلى إجماعهم، و هذا قد يوهن في وجه الصدور في خبري كفاية مطلق الذكر و إن كان السند صحيحا، بل كلّما ازداد صحّة ازداد و هنا، و مجرّد

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب الركوع، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 184

اشتهار القول به بين

المتأخّرين لا يجدي شيئا.

لكن إعراض الأصحاب بحيث يوجب الوهن في جهة الروايتين لم يثبت، لقوّة احتمال أن يكون ذلك لأجل فهمهم في مقام الجمع، لا لخدشة في السند أو جهته، كما وقع ذلك في مسألتي انفعال البئر و منجّزات المريض، فالأخذ بأخبار مطلق الذكر لا يخلو عن قوّة، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا ينافي تقيّد التسبيح في صورة اختياره بثلاثة صغريات أو واحدة تامّة، بمعنى أنّه لا يكفي واحدة صغيرة أو ثنتان صغيرتان اختيارا، فإنّ غاية مفاد الروايتين الأخيرتين جواز تبديل جنس القول و أنّه يكفي مطلق الذكر، و أمّا بحسب الكمّ و المقدار فلا ينافي اعتبار حدّ خاصّ، و قد عرفت في القسم الثاني اعتبار التثليث في صورة اختيار الصغيرة في الأجزاء.

نعم في صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام «قال: سألته عن الركوع و السجود كم يجزي فيه من التسبيح؟ فقال عليه السّلام: ثلاث، و يجزيك واحدة إذا أمكنت جبهتك من الأرض» «1».

و في صحيحته الأخرى أيضا عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يسجد، كم يجزيه من التسبيح في ركوعه و سجوده؟ فقال عليه السّلام: ثلاث، و تجزيه واحدة» «2».

و ظاهرهما كفاية الواحدة الصغيرة في حال الاختيار، فلا يجامع مع ما مرّ من كون أقلّ حدّ الإجزاء ثلاث صغريات، و دفع المنافاة بأحد وجهين:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 185

إمّا حمل الهيئة في الأخبار المتقدّمة على الاستحباب، فالمقصود بيان حدّ الإجزاء في مقام إدراك الفضل، لا الوجوب، و هذا في مقام بيان

حدّ الإجزاء بالنسبة إلى امتثال الوجوب، و إمّا حمل التسبيح في هاتين الصحيحتين على الكبرى حتّى يطابق مع ما مرّ من قوله في خبر هشام: الفريضة من ذلك تسبيحة و السنّة ثلاث.

و أمّا حمل الثلاث على الصغريات و الواحدة على الكبرى فبعيد غايته، إذ الخبر يكاد يكون صريحا في اتّحاد سنخ ما فرض فيه التثليث و الوحدة، فينحصر الأمر في الاحتمالين الأوّلين، و لا يخفى أظهريّة الثاني منهما.

فإن قلت: يمكن حفظ ظهور الهيئة في الأخبار المتقدّمة في الوجوب، غاية الأمر يتصرّف في ظهورها في التعيينيّة فيقال: إنّ الثلاث الصغريات واجب مخيّر، و كذا الواحدة الصغرى.

قلت: التخيير بين الأقلّ و الأكثر التدريجيين محال، إلّا إذا قيّد الأقلّ بكونه بشرط لا، فحينئذ يخرج عن الأقلّ و الأكثر و يصير من باب المتباينين، و حمل الصحيحتين على هذا القسم أيضا خلاف الظاهر جدّا، فإنّه إذا قيل: يجزيك ثلاث و يجزيك واحدة إذا كان ذات الواحد كافية لا مع وصف الوحدة.

و بالجملة أظهر الاحتمالات و لو بعد ملاحظة ما مرّ من أنّ الواحدة الكبرى فرض اللّٰه و الثلاث الكبريات فرض الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله هو الحمل على التسبيحة الكبرى.

و لعلّه يؤيّد هذا أيضا قوله عليه السّلام في إحدى الصحيحتين: و يجزيك واحدة إذا أمكنت جبهتك من الأرض، فكان فيه إشعارا بأنّ جعل الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله للثنتين الكبريات إنّما هو بملاحظة الواحدة الكبرى التي هي فرض اللّٰه حتّى يقع في حال استقرار البدن، فلو حصل اضطراب إمّا من جانب الهويّ أو من طرف الرفع من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 186

الركوع كان ذلك في التسبيحتين الأخيرتين و كانت تسبيحة واحدة واقعة في حال الاستقرار،

فإذا أراد الاكتفاء بالواحدة الكبرى فلا بدّ أن يلاحظ تحصيل وصف الاستقرار في هذه الواحدة.

ثمّ بناء على كفاية مطلق الذكر هل يكتفى بمسمّاه أو لا بدّ من كونه بمقدار التسبيح، و قد عرفت أنّ أقلّه ثلاث صغريات أو واحدة كبرى، و هي أيضا مشتملة على ثلاثة أفراد من ثناء اللّٰه جلّ ذكره، و تمجيده تعالى، أعني التسبيح و التعظيم و التحميد، فلو اختار ذكرا آخر لا بدّ أن يراعي هذا القدر، فلا يكفي أن يقول:

لا إله إلّا اللّٰه، إلّا إذا ضمّ معه الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر مثلا، أو يكرّر واحدة من هذه ثلاث دفعات؟

فلا يخفى أنّ الدليل الدالّ على كفاية مطلق الذكر ليس في مقام الإطلاق من هذه الجهة، فإنّ قوله عليه السّلام: نعم كلّ هذا ذكر إنّما هو في مقام كفاية هذا القول مقام التسبيح، و أمّا كمّا فليس في مقامه.

نعم إن حملنا قول السائل: يجزي عنّي أن أقول مكان التسبيح في الركوع و السجود: لا إله إلّا اللّٰه و الحمد للّٰه و اللّٰه أكبر على معنى أنّه هل يكفي كلّ واحد من هذه الأذكار الثلاثة كان الرواية ظاهرة في عدم اعتبار التثليث، و لكن هذا الحمل خلاف الظاهر كما لا يخفى.

و منها: الطمأنينة فيه بقدر المسمّى
و هي سكون الأعضاء في هيئة الراكع

باتّفاق علمائنا، كما في المعتبر و المنتهى، و بإجماعهم كما في جامع المقاصد، و عن الناصريّات و الغنية.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 187

و استدلّ له

بأنّه المنقول من فعل النبيّ و الأئمّة عليه و عليهم السّلام.

و بما رواه في الذكرى مرسلا من أنّ رجلا دخل المسجد و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جالس في ناحية المسجد فصلّى، ثمّ جاء فسلّم عليه، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك السّلام، ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ، فرجع فصلّى، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله له مثل ذلك، فقال الرجل في الثالثة: علّمني يا رسول اللّٰه، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثمّ استقبل القبلة فكبّر، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعا ثمّ ارفع رأسك حتّى تعدل قائما ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجدا، ثمّ ارفع حتّى تستوي قائما، ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها» «1».

و خبر بكير بن محمّد الأزدي المرويّ عن قرب الإسناد للحميري عن الصادق عليه السّلام: «إذا ركع فليتمكّن» «2».

و مصحّحة زرارة «قال: بينا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي فلم يتمّ ركوعه و لا سجوده، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني» «3».

و رواية عبد اللّٰه بن ميمون القدّاح المرويّ عن محاسن البرقي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: أبصر عليّ بن أبي طالب عليه السّلام رجلا ينقر صلاته، فقال عليه السّلام: منذ كم صلّيت بهذه الصلاة، فقال له الرجل: منذ كذا و كذا، فقال عليه السّلام:

مثلك عند

اللّٰه كمثل الغراب إذا ما نقر، لو متّ متّ على غير ملّة أبي القاسم

______________________________

(1) الذكرى: المسألة الأولى من مسائل الركوع.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 14.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الركوع، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 188

محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله، ثمّ قال عليه السّلام: أسرق الناس من سرق من صلاته» «1».

و النبويّ المرويّ عن الذكرى «لا تجزي صلاة الرجل حتّى يقيم ظهره في الركوع و السجود» «2».

لكن لا يخفى أنّ غاية ما يستفاد من هذه الأخبار اعتبار الاستقرار في الركوع في الجملة في مقابل عدمه رأسا الصادق معه عنوان كونه نقرا كنقر الغراب، و أمّا احتمال ركنيّتها فهو و إن كان موافقا للأصل من جهة الإبطال بالنقيصة و لو سهوا، لكنّه مناف لعموم قوله عليه السّلام: لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة.

إلّا أن يقال: إنّ المنافاة إنّما يكون مع الركنيّة المستقلّة، و أمّا بمعنى شرطيّتها أو شطريّتها في الركوع الذي هو الركن فلا ينافي العموم المذكور، و بعبارة أخرى:

بعد العلم باعتبار الطمأنينة بالقدر المذكور و العلم بأنّها ليس بركن مستقلّا نشكّ في أنّها هل هي قيد للركن الذي هو الركوع أو قيد للصلاة في عرض الركوع، غاية الأمر يعتبر في حال الركوع كالذكر الواجب حاله.

و يظهر الثمر في فرعين:

الأوّل: في ما لو سها عنها و تذكّر في حال الانتصاب من الركوع، فعلى تقدير القيديّة للركوع يجب عليه العود، إذ لم يأت بالركوع الصلاتي بعد و محلّه باق، و على تقدير القيديّة للصلاة يجب عليه المضيّ إلى السجود، لأنّ إتيانه ثانيا بالركوع يوجب زيادة الركن.

و الثاني: في ما لو سها عنه و تذكّر

بعد ما دخل في السجدة الثانية، فعلى

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

(2) الذكرى: المسألة الرابعة من مسائل الركوع، و كنز العمّال 4: 97.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 189

تقدير القيديّة للركوع يحكم بالبطلان، لنقيصة الركن و هو الركوع المقيّد مع عدم إمكان تداركه، لاستلزامه زيادة السجدتين، و على تقدير القيديّة للصلاة يحكم بالصحّة كما هو واضح.

و التكلّم في هذه المسألة تارة في صحّة التمسّك بإطلاق دليل الاعتبار و عدم محكوميّته بدليل لا تعاد، و عدمها.

و بعبارة أخرى: نتكلّم في أنّه هل للدليل المذكور إطلاق يمكن التمسّك به لإثبات القيديّة حتّى في حال السهو الملازم مع كونها قيدا للركوع، أو لا يمكن التمسّك به.

و اخرى: في أنّ مقتضى الأصل العملي العقلي أو الشرعي ما ذا؟

فنقول و على اللّٰه التوكّل و به الاستعانة في جميع الأمور: قد يقال: إنّ التمسّك بإطلاق دليل وجوب الطمأنينة بالنسبة إلى إتيانه لحال السهو غير جائز، لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، إذ بعد القطع الخارجي المستفاد من حديث لا تعاد بأنّ كلّ قيد كان راجعا إلى الصلاة فهو معفوّ أو مرفوع بالنسبة إلى حال السهو، و المفروض الشكّ في كون الطمأنينة هل اعتبر في الصلاة أو في الركوع، و كون الدليل مجملا بالنسبة إلى ذلك فلا محالة لا يجوز التمسّك بحديث لا تعاد لرفع القيديّة، و لا بإطلاق دليل الاعتبار لإثبات القيديّة.

أمّا الأوّل: فللشكّ في أنّه من مصاديق المستثنى في حديث لا تعاد، أو من أفراد المستثنى منه.

و أمّا الثاني: فلما قرّر في الأصول من عدم جواز التمسّك بالعامّ في ما شكّ من مصاديقه في انطباق عنوان الخاصّ عليه، و عنوان الخاصّ في

المقام القيود الراجعة إلى الصلاة، هذا ما قد يقال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 190

و الحقّ خلافه، بيانه أنّه من المقرّر في الأصول أيضا أنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة له فردان، أحدهما ممنوع، و الآخر جائز. إمّا الجائز فهو ما إذا احتملنا أنّ المتكلّم بالعموم قد ساق العموم بعد استقصاء الأفراد و العلم بعدم انطباق عنوان الخاصّ على واحد منها، كما هو الحال في ما إذا شككنا في وجود المصلحة أو المفسدة في فرد من أفراد العامّ، فإنّ استقصاء حال الأفراد من هذه الجهة في الحكيم أو من جهة الشكّ في تعلّق الغرض في مطلق المتكلّمين من وظيفة المتكلّم.

و أمّا الممنوع فهو ما إذا شككنا في انطباق عنوان خاصّ ليس من وظيفة المتكلّم استقصاء حال الأفراد من جهته، و لو فرض كونه عالما بالحال فإنّما هو من جهة كونه عالما بالغيب، لا من جهة كونه متكلّما بهذا الكلام، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، فإنّه ليس من شأنه بما هو متكلّم بهذين الكلامين الاستقصاء لحال العلماء، بل هو و المخاطب على حدّ سواء، و لو فرض علمه بذلك فهو من جهة أخرى من علمه بالغيب.

إذا عرفت هذا فنقول: مقامنا من قبيل الأوّل، فإنّ اعتبار القيد قيدا في الصلاة أو في الركوع من شأن الشارع، و رفع الجهل من هذه الجهة يكون من وظيفته، و الشبهة من جهته شبهة حكميّة يرجع فيها إلى الشارع، فالاستقصاء محتمل و غير خارج عن وظيفته، فيكون التمسّك بالإطلاق بلا مانع.

فإن قلت: كيف يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات القيديّة في حال السهو ثمّ استكشاف كونه قيدا للركوع مع كون الخطاب موجّها إلى الذاكر، و أيضا لا معنى

للأخذ بإطلاق الحكم بالنسبة إلى حالتي وجود المتعلّق و عدمه، و المقصود في المقام ذلك.

قلت: المقصود التمسّك بإطلاق المادّة و أنّ المطلوب الصلاتي قائم بالمقيّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 191

بالاطمئنان بمقدار الذكر حتّى في حقّ الساهي، كما نقول في حقّ النائم، و قد قرّر تفصيل ذلك في الأصول، هذا هو الكلام بحسب الدليل.

و أمّا التكلّم في الأصل العملي العقلي فاعلم أنّه البراءة بناء على ما هو التحقيق في دوران الأمر بين المطلق و المقيّد، بمعنى أنّا نعلم بتقيّد الصلاة بهذا القيد في حال العمد، و نشكّ فيه في حال السهو، فالأصل البراءة عنه في حال السهو.

لكنّ التمسّك به تارة يكون في الفرع الأوّل من الفرعين المتقدّمين أعني: ما إذا سها و تذكّر بعد رفع الرأس عن الركوع، و اخرى يكون في الفرع الثاني منهما و هو ما لو سها و تذكّر بعد الدخول في السجدة الثانية.

فإن كان في الثاني فحاله حال سائر موارد الدوران بين الإطلاق و التقييد في باب الصلاة عند رفع اليد عن القيد المشكوك أو الجزء كذلك و الدخول في الركن المتأخّر، حيث إنّه قد يستشكل بثبوت العلم الإجمالي حينئذ بوجوب أحد الأمرين، إمّا إتمام الصلاة، و إمّا لزوم الإعادة، و لكنّا قد أجبنا عنه في محلّه، و ليس المقصود ها هنا التعرّض له.

و إن كان في الأوّل فهو محلّ إشكال، بل منع، لأنّ العلم الإجمالي حينئذ حاصل بأنّ إتيان الركوع ثانيا إمّا واجب و إمّا ممنوع، و العلم الإجمالي بذلك إذا كان في التكاليف النفسيّة فالمرجع هو التخيير، لعدم إمكان الموافقة القطعيّة، و حصول الموافقة الاحتماليّة على أيّ تقدير.

و أمّا في مثل المقام ممّا إذا كان في الوضعيّات حيث

نعلم بأنّ الركوع إمّا جزء و إمّا مانع للمركّب الصلاتي فلا بدّ فيه من الاحتياط بأن يأتي ببقيّة هذه الصلاة إمّا مع الركوع أو بدونه ثمّ الإعادة.

لا يقال: المفروض حصول العلم الإجمالي في شخص هذه الصلاة، و التمكّن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 192

من الاحتياط غير حاصل في هذا الشخص، و إنّما يكون حاصلا بالنسبة إلى الكلّي، و هو غير مورد للعلم الإجمالي.

لأنّا نقول: منشأ الشكّ في الشخص أيضا هو الشكّ في الكلّي، بمعنى أنّا نشكّ في كلّي الصلاة إذا ابتليت بهذه الواقعة، بل يكون الركوع الثاني جزءا لها أو مانعا، غاية الأمر الابتلاء بهذا العلم يكون دائما في أثناء الصلاة الشخصيّة، فيلزم علينا الخروج عن عهدته. ثمّ هذا في الطمأنينة بمقدار المسمّى.

و من هنا يظهر الحال في الطمأنينة بمقدار الذكر الواجب، فإنّه و إن لم يكن هذا التحديد مدلولا لدليل، و لكنّه لا أقلّ من كونه محتملا، كيف و قد ادّعى بعض الأعاظم الإجماع على ذلك، و في بعض كلماتهم دعوى عدم الخلاف، و في محكيّ المنتهى: يجب الطمأنينة في الركوع بقدر الذكر الواجب، إلى أن قال: و هو قول علمائنا أجمع.

و هذه العبائر و إن لم تكن صريحة في اشتراط ذلك في الركوع، إلّا أنّه ليس لنا طريق إلى الجزم بالعدم أيضا.

و بعبارة اخرى: إنّا نحتمل كون الطمأنينة بمقدار الذكر، و لو انفكّت عن الذكر، معتبرا مستقلّا، و نحتمل عدمه، و إنّما الواجب هو الطمأنينة حال الذكر تبعا له.

ثمّ على تقدير الاعتبار أيضا يكون محلّا للاحتمالين المذكورين، أعني:

القيديّة للصلاة أو الركوع، فالعلم الإجمالي المذكور لا يرتفع غائلته على هذا أيضا.

و حينئذ نقول: المخلص عن العلم المذكور هو الرجوع إلى الأصل الشرعي الموجب

لانحلاله، و هو إمّا البراءة الشرعيّة المستفادة من حديث الرفع بناء على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة و تعميمه لمطلق الآثار، فنقول: قيديّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 193

الطمأنينة بمقدار الذكر بناء على الشكّ في أصل القيديّة مرفوعة بمقتضى الحديث.

نعم لا يجوز التمسّك بذلك بالنسبة إلى أصل الطمأنينة و مسمّاها، لأنّ المفروض علمنا بأصل الاعتبار و شكّنا في أنّه قيد للصلاة أو للركوع، فالحديث بالنسبة إلى رفع القيديّة عن كلّ من الأمرين متعارض، و بالجملة بعد جريان الأصل في الفرض الأوّل تصير الصلاة مطلقة عن القيد المذكور في مرحلة الظاهر، فيأتي ببقيّة الصلاة.

و إمّا الاستصحاب، أعني: استصحاب وجوب الركوع الثابت قبل تحقّق الركوع المسهى عن طمأنينته بمقدار الذكر.

و لا يرد على هذا الاستصحاب ما أورد على نظيره في مبحث الأقلّ و الأكثر، حيث تمسّك القائل بالاشتغال بأصالة بقاء التكليف بالصلاة بعد الإتيان بها بلا سورة مثلا، فأوردوا عليه بأنّ الوجوب الاستصحابي ليس حاله بأقوى من الواقعي المقطوع، فإذا فرضنا أنّ الثاني لا يوجب عقلا علينا أزيد من الإتيان بالمهملة، فهكذا الحال بالنسبة إلى الثاني.

فهذا الإيراد غير وارد هنا، لأنّ الاستصحاب ها هنا يوجب الإتيان بالركوع مع الطمأنينة، لأنّ المفروض وجوب الطمأنينة في حال العمد، و الشكّ إنّما هو في حال السهو.

و بالجملة يفيد الاستصحاب ها هنا في إتيان القيد المشكوك ها هنا و إن لم يفد في المبحث المذكور، و عليه يكون الواجب في ما نحن فيه الإتيان بالركوع ثمّ إتمام الصلاة و ينحلّ العلم المذكور.

و لكن يرد على الاستصحاب المذكور إشكال آخر و هو أنّ احتمال التقييد إذا كان في الموضوعات الخارجيّة التي هي متعلّقات للأفعال، كما إذا شكّ في الماء بعد

كتاب

الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 194

زوال تغيّره من قبل نفسه أنّه هل صار طاهرا أو باق على النجاسة فلا إشكال في جريان الاستصحاب، لبقاء الموضوع العرفي، و أمّا إذا كان محلّ القيد المحتمل نفس الفعل الذي وقع موردا للتكليف كما إذا طرأ العجز عن جزء من أجزاء المركّب المأمور به فشككنا في بقاء التكليف بالخالي عنه و ارتفاعه فليس لنا التمسّك بالاستصحاب، لأنّ الفعل الكلّي المقيّد مغاير عرفا مع الكلّي الخالي عن القيد.

و هذا بخلاف ما إذا كان مصبّ القيد هو الفرد، فإنّ الشخص الخارجي لا يتعدّد موضوعه و هذيّته العرفيّة بوجود وصف فيه ثمّ زواله.

و ما نحن فيه من قبيل الثاني، فإنّا نشكّ في قول الشارع: اركعوا مع الراكعين هل هو الركوع المطلق أو المقيّد، و هما موضوعان عرفا متغايران.

فنقول: الوجوب الذي نجعله متيقّنا سابقا هل كان متعلّقا بالمطلق أو بالمقيّد، و المفروض أنّه مشكوك من الأوّل على كلّ من التقديرين.

نعم قد تقرّر منّا في الأصول جريان الأصل بالنسبة إلى المهملة حيث إنّ التكليف بأيّ من المطلقة أو المقيّدة تعلّق، فلا محالة قد تعلّق بالمهملة، لعدم انفكاك المقسم عن أقسامه.

و لا يرد عليه أنّ استصحاب الأحكام لا بدّ من انتهائه إلى جعل المماثل للحكم المستصحب، و لا معنى للجعل بالنسبة إلى المهملة بين القسمين، و الجعل بالنسبة إلى أحد القسمين ممكن، لكنّه يخرج عن المماثلة.

وجه عدم الورود ما تقرّر في الأصول أيضا من أنّا لا نلتزم بالمماثلة، بل ننظر إلى وجود العمل لليقين السابق، و لا شكّ أنّ التكليف بالمهملة المنتزع من أحد القسمين له عمل، فمفاد الاستصحاب هو إلزام العمل المذكور في اللاحق.

و لكن يرد عليه أيضا مثل ما يرد على استصحاب الأمر

بالصلاة من عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 195

نفعه، لإتيان القيد المشكوك، إذ عمل المهملة ليس إلّا الإتيان بفرد منها و لو كان فاقدا للقيد المشكوك، هذا.

فالحقّ انحصار الأصل الشرعي في البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى اعتبار قيد الطمأنينة بمقدار الذكر.

و أمّا اعتبارها في مسمّى الركوع في مقابل النقر كنقر الغراب الذي قد عرفت دلالة الأخبار المتقدّمة عليه فيمكن الذهاب إلى عدم قيديّته للركوع بإطلاق الأخبار الواردة في مقام تحديد الركوع المتعرّضة لما يعتبر في الركوع من الواجبات و المستحبّات، مثل انفراج ما بين القدمين و انفراج الأصابع، و تقدّم اليد اليمنى في الوضع على الركبة اليمنى على اليسرى في الوضع على اليسرى، فإنّ الإنسان يكاد يطمئنّ بأنّ هذه الأخبار مع هذه المبالغة التامّة في بيان تحديد الركوع من المستبعد جدّا أن يكون قد أهمل فيها ذكر قيد الطمأنينة مع كونه من الواجبات و ذكر فيها المستحبّات المذكورة، فهذا آية عدم الدخل في الركوع بما هو ركوع، نعم هو معتبر في الركوع كسائر ما له دخل في حاله، كالطهارة و الاستقبال و الذكر و نحو ذلك، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

في سقوط الطمأنينة عن المريض

و لو كان مريضا لا يتمكّن من الطمأنينة فلا إشكال في سقوطها عنه، إذ الصلاة لا تترك بحال، حتّى لو فرضناها قيدا للركوع، إذ ليس حاله بأقوى من نفس الركوع، فكما يسقط عند العذر نفس الركوع فكذا قيده، و هذا لا إشكال فيه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 196

دوران الأمر بين الركوع قائما بلا طمأنينة أو جالسا معها

إنّما الإشكال في ما إذا دار الأمر بين الركوع قائما بلا طمأنينة أو جالسا معها، فهل القاعدة يقتضي تقديم أيّهما؟

الذي قوّاه شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه ترجيح الأوّل، بيانه أنّا فهمنا من استدلال الإمام عليه السّلام بأنّه نفي الحرج لرفع قيديّة المماسّة للبشرة في مسح الوضوء، حيث قال في رواية عبد الأعلى: «هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّٰه، مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، امسح على المرارة» «1» أنّه كلّما كان المقيّد أو المركّب المأمور به معجوزا عنه، لكن بسبب العجز عن واحد من قيوده أو أجزائه، فالمرفوع بسبب العجز ذلك الجزء أو القيد لا غيره، و لا المجموع المركّب أو المقيّد.

و حينئذ نقول في ما نحن فيه إنّ الشارع نوّع المكلّفين في تكليفهم الصلاتي إلى نوعين: القادر على القيام و العاجز عنه، فأوجب على القادرين عليه الصلاة القياميّة، و على العاجزين عنه الجلوسيّة، و هذا الشخص المفروض في ما نحن فيه لا شكّ أنّه من قسم القادرين على القيام، فهو مكلّف بالصلاة الواقع قراءتها و ركوعها في حال القيام و لكن مع الطمأنينة، و هذا المقيّد قد حصل العجز عنه بواسطة العجز عن قيده، فمقتضى الاستدلال المذكور التمسّك هنا بقاعدة الميسور لرفع ذلك القيد مع بقاء البقيّة بحالها، لا الانتقال إلى الركوع الجلوسي مع الطمأنينة، لأنّه خلاف وظيفته، حيث قد فرضنا كونه

قادرا على القيام، و المفروض كون

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 197

الوظيفة في حقّه القيام في حال الركوع لا الجلوس، فهو غير قادر على الطمأنينة في الركوع الذي هو وظيفته و إن كان متمكّنا منها في الركوع الخارج عن وظيفته.

فإن قلت: لنا قلب الدليل بأن نقول: هذا الشخص قادر على الطمأنينة، و لكنّه مع حفظها غير قادر على القيام، فإنّ العجز عن كلّ من الأمرين لا يصحّ بقول مطلق، لفرض التمكّن من كلّ منهما منفردا عن الآخر، فكما يصحّ أن يقال: هو قادر على القيام و عاجز في حاله عن الطمأنينة، كذلك يصحّ أن يقال: هو قادر على الطمأنينة و عاجز في حالها عن القيام، فكما يوجب الأوّل دخوله في صنف من وظيفته الركوع القيامي، يوجب الثاني دخوله في نوع من وظيفته الركوع الجلوسي، فلا مرجّح لأحدهما على الآخر.

قلت: نعم هذا الشخص لا يصدق عليه العجز عن القيام بقول مطلق، بل يصدق القدرة عليه كذلك، و الحال بالنسبة إلى الطمأنينة أيضا كذلك، لكن الأوّل يوجب عليه الركوع القيامي لتعليقه في الأدلّة على القدرة عليه بقول مطلق المفروض صدقها في المقام.

و أمّا دليل الطمأنينة فلم يوجبها بقول مطلق على القادر عليها في عرض دليل اعتبار القيام، بل اعتبرها في حال الركوع المختلف بحسب أحوال الأشخاص، فمن كان وظيفته القيام كان اعتبار الطمأنينة بالنسبة إليه في الركوع القيامي، فكأنّه ورد بهذه الصورة: ليكن ركوعك القيامي مع الطمأنينة.

و لعلّ هذا هو السرّ في إطلاق فتوى المحقّق قدّس سرّه سقوط الطمأنينة عن المريض الذي لا يتمكّن منها، فإنّها بإطلاقها شاملة لمحلّ الفرض.

و من هنا يظهر أنّ مقتضى القاعدة

أيضا هو الانتقال إلى الإيماء قائما بدلا عن الركوع كذلك عند العجز عنه و لو فرض تمكّنه من الركوع جالسا، و بعبارة أخرى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 198

عند دوران الأمر بين حفظ القيام و بين حفظ الركوع، و لا يجوز له الانتقال إلى الركوع الجلوسي كما أفتى بذلك في نجاة العباد.

[و منها:] رفع الرأس من الركوع

و منها: رفع الرأس منه بلا خلاف على الظاهر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع، و يشهد له جملة من الأخبار، مضافا إلى الأخبار الحاكية لفعل النبيّ و بعض الأئمة صلوات اللّٰه عليه و عليهم.

ففي النبويّ المتقدّم المرويّ عن الذكرى: «ثمّ ارفع رأسك حتّى تعتدل قائما» «1».

و في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتّى ترجع مفاصلك» «2».

و في خبره الآخر عنه عليه السّلام أيضا: «قال: إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك، فإنّه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه» «3». و لا إشكال في دلالتها على أصل الوجوب.

و أمّا القول بالركنيّة كما حكي عن الشيخ في الخلاف فلعلّ مستنده الخبر الأخير الظاهر في نفي الحقيقة بدون إقامة الصلب، و لكن لا يخفى حكومة حديث

______________________________

(1) الذكرى: المسألة الاولى من مسائل الركوع.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 199

لا تعاد الحاكم بعدم بطلان الصلاة بالسهو عن غير الخمسة المستثناة على هذا الخبر و ما يشبهه كما ورد نحوه في فاتحة الكتاب.

و منها: الطمأنينة في الانتصاب

بلا خلاف على الظاهر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع، و هو أن يعتدل قائما و يسكن و لو يسيرا، و استدلّ عليه بعد الإجماع بقوله عليه السّلام في خبر أبي بصير المتقدّم: «إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتّى ترجع مفاصلك» «1».

و في خبره الأخير: «فأقم صلبك، فإنّه لا صلاة لمن لم يقم صلبه» «2».

و في النبويّ المتقدّم: «ثمّ ارفع رأسك حتّى تعتدل قائما» «3».

و قد يستشكل في دلالتها بأنّ من الممكن

حصول الاعتدال و الإقامة بدون بقائه في الزمان و لو يسيرا، فإنّ هذا العنوان من العناوين الآنيّة الحصول التي لا يحويها زمان مثل الفصل و الوصل.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بأنّه إذا أضيف ذلك إلى زمان كان قبل، أو حدّ الاعتدال و استقامة الصلب في زمان رفع الرأس من الركوع فالعرف يفهم منه إطالته بمقدار يقع مظروفا للزمان، و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّه مفاد قوله عليه السّلام: إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك، فإنّه بمنزلة قولنا: أوجده في وقت رفع الرأس و في زمانه، فتدبّر.

______________________________

(1) تقدّم قريبا.

(2) تقدّم قريبا.

(3) تقدّم قريبا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 200

فروع
الأوّل [لو دار الأمر بين القيام في جزء سابق و بينه في الجزء اللاحق]
اشارة

قد عرفت حال دوران الأمر بين الركوع القيامي مضطربا و الجلوس مطمئنّا، و أنّ مقتضى تنويع المكلّف تقديم الأوّل، و كذا الحال في الدوران بين القيام موميا للركوع و الجلوس راكعا.

فاعلم أنّه ليس مثل ذلك ما لو دار الأمر بين القيام في جزء سابق و بينه في الجزء اللاحق، كما لو قدر على القيام زمانا لا يسع القراءة و الركوع و إن صرّح الجواهر بتقديم القراءة و الجلوس للركوع.

و حكي عن المبسوط و النهاية و السرائر و المهذّب و الوسيلة و الجامع تقديم الركوع على القراءة، بل نسبه في الأوّل إلى رواية أصحابنا.

و أورد عليه في الجواهر بأنّه مخالف لمقتضى الترتيب، و الرواية لم تصل إلينا، و التعليل بأنّه أهمّ لأنّه ركن مع أنّه اعتبار لا يصحّ لأن يكون مدركا لحكم شرعي، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدّس سرّه.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن أن يقال بالفرق بين هذا الفرع و الفرعين المتقدّمين، فإنّك عرفت تقوية ترجيح القيام و الركوع مضطربا على الجلوس و الركوع

مستقرّا، و كذلك تقديم القيام و الإيماء على الجلوس مع الإتيان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 201

بحقيقة الركوع.

و أمّا في هذا الفرع أعني: دوران الأمر بين القيام في القراءة مثلا و الجلوس في حال الركوع أو العكس، و كذا بين القيام في الركعة الاولى و الجلوس في الثانية أو العكس، فليس لنا ترجيح القيام للجزء المتقدّم و اختيار الجلوس في المتأخّر بمحض اعتبار الشارع التدرّج و الترتيب بين الجزءين بعد تساويهما في الوجوب و فعليّته، و كذلك فعليّة القدرة عليهما، فإنّ تدرّجهما في الوجود لا يمنع عن تقارنهما في الوجوب و القدرة، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور حقيقة، و لا يشترط في فعليّة القدرة على شي ء إمكان إيجاده في زمان تحقّق القدرة، فإنّا لا نشكّ في كوننا قادرين على الكون على السطح فعلا، مع أنّه نحتاج إلى صعود الدرج، و ليس حكمنا بثبوت القدرة بعد صعودنا على الدرجة الأخيرة المتّصلة بالسطح، بل يصحّ الحكم و لو قبل النصب فضلا عن الصعود كما هو واضح.

و إذن فمجرّد اعتبار الترتيب بين الوجودين لا يمنع صحّة إضافة القدرة على وجه الفعليّة بدون التعليق إلى الشي ء الثاني المرتّب، بل يصحّ النسبة إليه كما يصحّ بالنسبة إلى الشي ء المرتّب عليه على وجه سواء، و كذا يتساويان في الوجوب الشرعي، هذا حال نفس إيجاب الجزءين في الصلاة.

و حينئذ نقول: إذا اعتبر الشارع على القادر على إتيان الجزءين في حال القيام أن يأتي بهما كذلك، و المفروض أنّه غير قادر على الجمع بينهما قائما، و إنّما يقدر على الإتيان بواحد قائما و بالآخر جالسا فترجيح القيام للجزء السابق ترجيح بلا مرجّح.

نعم حكى أستاذنا العلّامة عن بعض معاصريه الذهاب إلى أنّ المقدور بالواسطة

غير مقدور، و إنّما المقدور هو الواسطة، و لهذا ذهب إلى أنّ المقدّمات

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 202

المتدرّجة في الوجود لا بدّ من أن يتّصف كلّ واحدة واحدة بالوجوب النفسي على حسب تدرّجها في الوجود، و كذا أجزاء المركّب المتدرّج الوجود مثل الصلاة، و بالجملة، كلّما كان الوجود متدرّجا، فالوجوب أيضا مثله.

فعلى هذا المذاق لا إشكال في تقديم القيام للجزء الأوّل، لأنّ الجزء الثاني غير واجب فعلا، و إنّما يصير واجبا بعد فعل الجزء الأوّل، و المفروض أنّ التكليف بالجزء الأوّل قسّم المكلّف إلى القادر على القيام و غيره، لكن بعد ما لم نذهب إلى هذا المذاق و قلنا بأنّ المقدور بالواسطة فعلا مقدور و إن كان وجوده متأخّرا و لهذا نقول:

يتحقّق التكليف به فعلا.

فهنا واجبان مطلقان فعليّان قد اشترط في كلّ منهما إيجاد متعلّقهما في حال القيام على القادر، و الشخص المفروض قادر على القيام بالنسبة إلى كلّ منهما منفردا، و غير قادر منضمّا.

فمقتضى القاعدة الأوّليّة سقوط التكليف رأسا، للعجز عن المكلّف به، و بعد محكوميّتها بالقاعدة الثانوية الواردة في باب الصلاة من أنّها لا تسقط بحال، بل لا بدّ من إسقاط ما عجز عنه المكلّف و الإتيان بالباقي يصير الأمر في المقام مردّدا بين الأمرين بلا مرجّح في البين.

فإن قلت: لا إشكال في اعتبار الترتيب على جميع الأجزاء السابقة التي منها القيام، فالركوع كما أنّه مرتّب على القراءة، كذلك على القيام حالها، و لا شكّ أنّ المكلّف غير قادر على الركوع القيامي المرتّب على القراءة القياميّة متعيّنا، و متمكّن من القراءة القياميّة، فيتعيّن عليه تقديمها.

قلت: مضافا إلى أنّ العجز غير حاصل متعيّنا بالنسبة إلى ذات القيام الثاني، بل بالنسبة إلى وصفه

و هو ترتّبه على القيام الأوّل، فيتعيّن هو للسقوط، و إذا سقط

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 203

الترتيب بين القيامين عاد المحذور و هو عدم المرجّح في البين، يرد على هذا الكلام أنّ القيام في الأدلّة لم يعتبر في كلّ جزء جزء على حدة، و بعبارة أخرى في جزئيّة الجزء، بل اعتبر في الصلاة في عرض سائر الأجزاء، فالأجزاء إنّما هي ذات القراءة و ذات الركوع إلى آخر أخواتهما، و الترتيب معتبر بين هذه الذوات، و كذا القيام لوحظ قيدا في الصلاة مقارنا لهذه الذوات المرتّبة من دون ملاحظة الترتيب بين القيامات.

و بعبارة أخرى: لم يلحظ القيام أشياء عديدة و قيامات متعدّدة، بل شيئا واحدا مستمرّا باستمرار الصلاة، فإذا دار الأمر بين حصوله في الجزء السابق أو اللاحق لم يكن هنا مرجّح لأحدهما، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن نقول: القدرة حين العمل جعلت شرطا شرعيّا، كما أنّ التكليف بالصلاة مشروط بالقدرة في الوقت، كنفس الوقت، ففي ما نحن فيه التكليف بالقيام حال الركوع مشروط بالقدرة في ذلك الزمان، أعني: زمان وقوع الركوع، فللمكلّف رفع هذا الشرط و سلبه عن نفسه، كما يصحّ له سلب عنوان الحاضر إلى المسافر، فبالنسبة إلى القراءة الشرط موجود، فيجب الإتيان بها مع القيام، و بذلك ينتفي موضوع التكليف بالقيام بالنسبة إلى الركوع، و أمّا العكس فتفويت للواجب الفعلي، لتحصيل شرط الواجب الغير الفعلي، و من المعلوم عدم جوازه.

قلت: قد حقّقنا في بعض المباحث السابقة أنّ القيود على قسمين: قسم راجع إلى الطلب مثل القدرة و العجز، و قسم غير راجع إليه، و لا محالة راجع إلى المادّة مثل الحضر و السفر.

ففي القسم الثاني لا

محيص عن تقييد المادّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 204

و أمّا الأوّل فإن كان متّصلا كما لو قال: افعل كذا إن قدرت عليه فاللفظ يصير مجملا من حيث تردّد الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة و الطلب، أو إلى المادّة و المطلوب، و إن كان منفصلا كما لو قال: افعل كذا، ثمّ قال منفصلا: ذلك تكليف القادر و كما في ما نحن فيه، حيث ورد اعتبار القيام في دليل منفصل عن دليل تخصيصه بالقادر و تعيين الجلوس للعاجز.

فإذن مقتضى ظهور إطلاق المادّة في الدليل الأوّل و الشكّ في تقييده بالدليل الثاني لاحتمال كونه في مقام تقييد الطلب هو عدم كون القدرة في المقام و أمثاله قيدا شرعيّا، و مقتضاه عدم جواز تفويتها، لاستلزامه تفويت المطلوب المطلق للمولى، و يلزم من ذلك حصول الدوران في مسألتنا بين مطلوبين مطلقين للمولى مع عدم إحراز الأهميّة في شي ء من الجانبين، غير أنّ أحدهما أخذ مترتّبا في الوجود على الآخر، و أيّ فرق بينه و بين ما إذا فرضا عرضيين كمسألة إنقاذ الغريقين الذي لم يقدر إلّا على أحدهما، فكما يحكم العقل فيه بالتخيير فليحكم في المترتّبين.

كلام لبعض الأعاظم في المقام

و لبعض الأعاظم قدّس سرّه في المقام كلام ينبغي التعرّض له، قال قدّس سرّه بعد تقويته إلحاق المقام بالمتزاحمين الذين يجب فيهما رعاية الترجيح إن كان، و إلّا فالتخيير ما لفظه:

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّه يكفي في ترجيح الأوّل في مثل الفرض عدم ثبوت أهميّة الثاني في نظر الآمر، إذ لا استقلال للعقل بجواز تركه مقدّمة لامتثال الأمر بالثاني ما لم يثبت أهمّيته لدى الآمر، و الفرق بين الواجبين المتزاحمين الذين اتّحد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 205

زمانهما، حيث يستقلّ العقل

بالتخيير بينهما ما لم يثبت أهمّية أحدهما هو أنّ كلّا منهما في حدّ ذاته مقدور يجب الإتيان به إطاعة لأمره ما لم يشتغل بضدّه الآخر الذي يمتنع معه إطاعة هذا الأمر، و متى اشتغل بكلّ منهما قاصدا به إطاعة أمره يصير عاجزا عن فعل الآخر، فيقبح مؤاخذته على تركه، كما أنّه يقبح مؤاخذته على ترجيح المأتيّ به على المتروك بعد أن لم يثبت لديه أهميّته شرعا.

و لتمام التحقيق في ذلك و بيان أنّ مجرّد احتمال الأهميّة غير مانع عن حكم العقل بالتخيير في مثل المقام الذي نشأ الحكم بالتخيير من قبل مزاحمة الواجبين المنجّزين لظاهر دليلهما مقام آخر.

و أمّا مع الترتّب في الوجود فليس فعل الثاني بنفسه مؤثّرا في صيرورة الأوّل غير مقدور، لتأخّره عنه في الرتبة، فالمانع عن فعل الأوّل في وقته ليس إلّا إرادة فعل الثاني الذي يمتنع حصوله مع الأوّل، فليس له عند تركه للأوّل مقدّمة لامتثال الأمر بالثاني أن يعلّله بعدم قدرته عليه في وقته، فإنّه حال مطلوبيّته لم يعجز عن فعله أصلا، و لكنّه تركه مع قدرته عليه مقدّمة للواجب الآخر الذي لا يقدر عليه إلّا على تقدير ترك الأوّل، فله الاعتذار بهذا لا بالعجز.

فيتوجّه عليه حينئذ سؤال الترجيح الموجب لمخالفة الأمر المنجّز مقدّمة لإطاعة الأمر المعلّق، و العقل لا يجزم بجوازه ما لم يثبت لديه مرجّح شرعي، فالأقوى في المقام هو ما عرفت من تقديم القيام حال القراءة، إذ لم يتعلّق العجز به و لم يثبت أهميّة غيره أي القيام للركوع كي يستقلّ العقل بجواز تركه مقدّمة، انتهى موضع الحاجة من كلامه، رفع في الخلد أعلامه.

و فيه أنّ العجز عن الجمع بين مطلوبين مطلقين ثابت في كلتا الصورتين من

غير انتظار شي ء، و لهذا لا يصحّ تكليفه بالجمع و لا عقابه على تركهما لو تركهما، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 206

ارتفع التكليف بالجمع و بقي بالنسبة إلى الواحد و المفروض مساواتهما في المطلوبيّة فتعيين أحدهما بلا معيّن قبيح، فلا محيص عن التخيير من غير فرق في جريان هذا البيان بين العرضيين و المترتّبين في الوجود كما لا يخفى.

هذا و لكنّ الالتزام ببقاء إطلاق المادّة في ما نحن فيه و عدم تقييده بالقدرة الخاصّة و هي المقارنة لوقت العمل لازمة القول بالتخيير حتّى في مثل ما إذا دار الأمر بين القيام في واحدة من الصلاتين إمّا الظهر و إمّا العصر، بل بناء على ما هو التحقيق من كون الواجب المشروط الذي نعلم بحصول شرطه في ما يأتي كالمطلق بحسب الآثار، يلزم ذلك أيضا في ما لو دار بين القيام إمّا في العصر، و إمّا في المغرب.

و كذا يلزم في من نذر الحجّ ماشيا فعجز عن المشي زائدا على أربع فراسخ مثلا تخييره بين الركوب في أوّل المسافة و المشي بالمقدار المذكور في آخرها و العكس، و الالتزام بذلك في جميع هذه الفروع و نظائرها لا يخلو عن شي ء.

و كذلك القول بتقييد المادّة بالقدرة الخاصّة لازمة جواز سلب الإنسان القدرة من نفسه اختيارا و عدم إثمه بذلك و كونه كجعل نفسه مسافرا، و هذا أيضا ممّا لا يرتضيه الوجدان، فكلّ من طرفي المسألة له لازم غير مرضيّ.

و إذن فيمكن أن يقال في المطلوبات الضمنيّة كأجزاء المركّب المأمور به عند العجز عن واحد منها: ليس لنا إطلاق مادّة يقتضي الإتيان بالناقص حتّى يدور الأمر على حسبه بين الإتيان به بأيّ كيفيّة من الكيفيّتين أعني برعاية

القيام في الجزء المتقدّم أو في المتأخّر، لأنّ كلّا منهما خارج عن مقتضى الأدلّة الأوّليّة الجاعلة للأجزاء و الشرائط الصلاتيّة، بل مقتضى تلك الأدلّة سقوط التكليف عن هذا المكلّف بالمرّة، لعدم قدرته على المركّب بواسطة العجز عن بعض أجزائه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 207

و لو لا على التعيين.

فالحاصل: ليس هنا مقام الأخذ بإطلاق المادّة و ملاحظة قاعدة التزاحم، بل اللازم حينئذ مراعاة الدستور الواصل من الشارع في صورة العجز، فإن كان ظاهر الدليل الوارد في مقام الدستور الثانوي هو اعتبار القدرة و العجز بالنسبة إلى حال العمل، فليس لنا تقديم الجزء الثاني و الإتيان بالأوّل قاعدا، لأنّ القدرة بالنسبة إلى الجزء الأوّل حاليّة، و بالنسبة إلى الثاني سابقة، و هي ليست بموضوعة للعجل الثانوي حسب الفرض، فالموضوع للجعل الثانوي بالنسبة إلى الجزء الأوّل محقّق، و بالنسبة إلى الثاني غير محقّق.

و على هذا فنقول: تحصيل العجز اختيارا محرّم، لكونه مقتضى إطلاق المادّة في الدستور الأوّلي، و أمّا بعد العصيان أو حصول العجز لا عن اختيار فهنا دستور ثانوي من الشرع، و اللازم اتّباع دليله، فإن اعتبرت القدرة في هذا الدليل بالأعمّ من السابقة و المقارنة حصل التزاحم في مفروضنا، و أمّا إن اعتبرت القدرة المقارنة فلا موقع للتزاحم.

و لا يخفى أنّ قوله عليه السّلام: المستطيع يقوم و العاجز يقعد، ظاهره الاستطاعة الحاصلة حين العمل، و كذا العجز الحاصل حينه.

فإن قلت: لم لا تجعل هذا الدليل مقيّدا لإطلاق المادّة في إطلاقات اعتبار القيام من مثل قوله عليه السّلام: لا صلاة لمن لم يقم صلبه، مع أنّ ظاهره تقييد أصل المطلوب الصلاتي بحال الاستطاعة الخاصّة، و معه لا يبقى مورد للإطلاق في سائر الأدلّة.

قلت: لا منافاة

بين هذا الدليل و ذلك الإطلاق، لأنّه متعرّض للدستور الثانوي، و ذلك الإطلاق للأولى و القرينة على كونه بصدد الدستور الثانوي تعرّضه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 208

للتفصيل بين القدرة و العجز، فإنّ العجز إذا كان موضوعا لحكم فلا يخفى أنّه دستور ثانوي غير مربوط بالحكم الأوّلي، فكذلك القدرة التي جعلت عدلا له، فكأنّه قيل:

دستورك الأوّلي الإتيان بالأجزاء و الشرائط الخاصّة، ثمّ إذا صرت في مقام امتثال ذلك التكليف فدستورك رعاية القدرة و العجز الحاليين بالنسبة إلى كلّ الأجزاء أو بعضها، و لا أقلّ من الاحتمال و الإجمال.

و إذن فاللازم حصول الإثم بسلب القدرة كما مرّ و لزوم تقديم الجزء الأوّل برعاية القيام حاله لكونه واجدا للشرط و هو القدرة المقارنة حاله، دون الجزء الثاني، لأنّ القدرة بالنسبة إليه متقدّمة لا مقارنة، و حفظ القدرة المتقدّمة إلى أن تصير مقارنة من قبيل حفظ الموضوع الذي ليس بلازم عقلا مع كونه مفوّتا للواجب المنجّز الفعلي.

الفرق بين قيد القدرة و سائر العناوين
اشارة

و حاصل الكلام أنّ لنا دعويين:

[الدعوى] الاولى:

أنّه إذا ورد دليلان موضوع أحدهما ذات المركّب من عدّة أمور، و موضوع الآخر تنويع المكلّف إلى القادر و العاجز بالنسبة إلى ذلك المركّب و تخصيص كلّ منهما بوظيفة خاصّة به فهذا الدليل الثاني ليس حاله كحال الدليل المنوّع إلى غير هذين العنوانين مثل عنواني الحضر و السفر، حيث يجعلهما في عرض الدليل الأوّل و مقيّدا لمادّته، بل يجعل الدليل المنوّع المذكور في الرتبة المتأخّرة و ناظرا إلى دستور مقام امتثال ذلك التكليف الأوّلي بالمركّب التامّ، و التقييد فرع العرضيّة، و لا أقلّ من احتمال ذلك ها هنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 209

فإطلاق المادّة بالنسبة إلى الأوّل بحاله من دون ورود مقيّد في رتبته، و هذا الاستظهار لما بين عنواني القدرة و العجز و سائر العناوين من الفرق، حيث لا يستظهر ذلك في سائرها، بل المستظهر هو العرضيّة، و فيهما تستظهر الطوليّة، أو نحتمل احتمالا مساويا.

و الدعوى الثانية

بعد حمل الدليل المتعرّض لحالتي القدرة و العجز على المرتبة المتأخّرة عن الدليل الأوّلي نقول: ليس الملحوظ خصوص القدرة و العجز بالنسبة إلى تمام العمل من أوّله إلى آخره حتّى يكون حكم صورة قدرته مثلا على القيام في نصف الصلاة و عجزه عنه في نصفه الآخر غير مستفاد منه، بل الملحوظ الأعمّ من ذلك و من القدرة و العجز المتحقّقين في الأبعاض، فإنّ المصلّي ما دام في الصلاة يسمّى مصلّيا و يقال في حقّه: إنّه يصلّي، فإذا قيل: القادر يصلّي قائما و العاجز يصلّي جالسا، فكما يفهم منه العجز و القدرة المستوعبان، فكذا ما كان في بعض العمل.

و بعد هاتين الدعويين نقول: إطلاق المادّة في الدليل الأوّلي بحاله، و يترتّب عليه آثاره من عدم جواز سلب القدرة عن

بعض أجزاء المركّب اختيارا، و كذا عدم جواز البدار إلى عمل المضطرّ إلّا مع اليأس عن زوال العذر إلى آخر الوقت، نعم إطلاق الهيئة فيه ساقطة لدى العجز لا بواسطة هذا الدليل، بل بحكم العقل، و مع ذلك يجب تقديم القيام للجزء الأوّل، لما تقدّم من استفادة القدرة المقارنة و العجز كذلك من الدليل المتعرّض لإصلاح حال الدليل الأوّلي في مرحلة الامتثال.

فإن قلت: ما الفرق بين عنواني السفر و الحضر و بين عنواني القدرة و العجز، حيث لا نجعلهما دستورا لمقام الامتثال، بل قيدين للمطلوب الأوّلي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 210

قلت: قد ذكرنا سابقا أنّا لا نحتمل في مثل ذينك العنوانين رجوعهما إلى الهيئة، فيتعيّن كونهما راجعين إلى المادّة، و أمّا في القدرة و العجز فهنا احتمالان:

الأوّل: رجوعهما إلى تقييد المادّة.

و الثاني: كونهما ناظرين إلى دستور ثانوي متأخّر عن الأوّلي و مجعول بملاحظته، نظير الأحكام الظاهريّة بالنسبة إلى الواقعيّة، فإذا كان الأمران محتملين في عرض واحد و المفروض كونهما منفصلين عن إطلاق دليل اعتبار الجزء أو الشرط كان إطلاق المادّة في الدليل المذكور باقيا بحاله، فيترتّب الثمرة على الإطلاق المذكور من حرمة سلب القدرة، و على الدليل الثانوي من تقديم القيام للجزء الأوّل في مسألتنا كما تقدّم تقريبه، و اللّٰه تعالى هو العالم بحقائق أحكامه، فافهم و اغتنم، فإنّ شرح هذه المطالب مختصّ ببحث شيخنا الأستاذ العلّامة و من فوائده الخاصّة به، أدام اللّٰه أنفاسه القدسيّة علينا و على جميع المحصّلين بمحمّد و آله الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 211

الفرع الثاني لو تجدّد القدرة للعاجز عن القيام في أثناء الصلاة
اشارة

فلا يخلو إمّا يكون ذلك قبل القراءة أو في أثنائها، أو بعد إتمامها، و قبل الركوع أو بعده قبل

الطمأنينة، أو بعده و بعدها و قبل الذكر الواجب، أو بعد إكمال الذكر و قبل الرفع أو بعده قبل الطمأنينة أو بعده و بعدها.

لا إشكال في أنّه ينتقل إلى القيام في جميع هذه الصور و يكون صلاته ملفّقة من القيام و القعود، كما أنّه في العكس أعني تجدّد العجز بعد القدرة في الأثناء في جميع الصور المذكورة ينتقل إلى القعود و يصير صلاته أيضا ملفّقة من الأمرين، لكن

الإشكال يقع في بعض الكيفيّات.
منها: لو ارتفع العجز في حال الركوع قبل الطمأنينة أو بعدها و قبل الذكر

فهل يجب عليه القيام متقوّسا لحفظ الطمأنينة في الركوع القيامي أو الذكر كذلك، أو يكفي الإتيان بالأمرين في ركوعه الجلوسي ثمّ انتصابه من ركوعه الجلوسي قائما؟ الظاهر جواز الثاني، بل و عدم خلوّ الأوّل لو اختاره عن الإشكال.

أمّا جواز الثاني فلأجل أنّه لا دليل على اعتبار القيام الركوعي مستقلّا للطمأنينة أو الذكر، و إنّما المسلّم اعتبار ذلك في الركوع الصلاتي و اعتبار القيام فيه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 212

و المفروض سقوط القيام فيه هنا، لوقوعه حال العجز عن القيام، فالطمأنينة و الذكر لو وقعا وقعا في الركوع الصلاتي.

نعم لو فرض تقييد الركوع بالأمرين فما كان خاليا عنهما غير ركوع معتبر في الصلاة، فاللازم انتصابه من رأس و استئناف الركوع عن الانتصاب القيامي، لكنّه أيضا خلاف المستفاد من الأدلّة و قد تقدّم.

و أمّا وجه إشكال الأوّل فهو أنّه حينما يمرّ عن الانحناء الذي دون الركوع القيامي و فوق الجلوسي خارج عن الحدّين فيكون الركوع القيامي حادثا بعد الانعدام، و يكون فيه شبهة زيادة الركوع.

و منها: لو ارتفع عن الركوع جلوسا فقدر و لمّا يطمئنّ

فهل يجب عليه القيام لتحصيل الاطمئنان المعتبر في رفع الرأس من الركوع؟ قد يقال: نعم، حيث إنّه يجب عليه أمران، أحدهما: رفع الرأس، و قد حصل، و الثاني: الاعتدال مع الاطمئنان، و المفروض عدم حصوله بعد، فيجب، و يحتمل هنا أيضا ما تقدّم في ذكر الركوع و طمأنينته من الاكتفاء بإيجادهما حال الجلوس بأن يقال: الاعتدال و الطمأنينة أخذا وصفين للرفع، لا مستقلّين، فكلّ رفع احتسب للصلاة وجب توصيفه بالأمرين، و هو هنا الرفع الجلوسي دون القيامي، فتدبّر.

و منها: لو تجدّد القدرة في أثناء القراءة

بحيث كان الانتقال إلى القيام مفوّتا للموالاة المعتبرة في القراءة بين كلماتها و بين آياتها، حيث إنّها معتبرة بأزيد من الموالاة المعتبرة في نفس أفعال الصلاة التي ينافيها الفصل الطويل، و أمّا الموالاة في القراءة فينافيها الفصل الأقلّ من ذلك، فهل يجب عليه إتمام القراءة جالسا حفظا للموالاة في القراءة الشخصيّة أو قطعها و القيام ثمّ استئناف القراءة من رأس؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 213

قد يحتمل الأوّل، نظرا إلى أنّ المشروع بحسب الأدلّة إمّا الصلاة قائما، و إمّا جالسا، و أمّا الصلاة بين حدّي القيام و الجلوس أعني: في حال النهوض إلى القيام كما في مسألتنا، أو في حال الهويّ إلى الجلوس كما في عكسها فليس مشروعيّتها مستفادة من الأدلّة، بل ظاهرها عدمها.

و إذن فنقول: هذا الشخص إمّا قادر و إمّا عاجز، فعلى الأوّل تكليفه الصلاة قائما، و على الثاني الصلاة جالسا، فليس له الصلاة في حال النهوض، و إذا دار أمره بين الأمرين نقول: يتعيّن عليه اختيار الجلوس بمقدار تتميم الآية أو القراءة، لأنّه غير متمكّن من حفظ الموالاة قائما و متمكّن منه جالسا.

و لكنّ الظاهر هو الثاني، إذ أوّلا: لا دليل على وجوب إتمام

الجزء، و إنّما المسلّم وجوب إتمام الكلّ، فإبطال أصل الصلاة محرّم و إتمامها واجب، و أمّا إبطال القراءة الشخصيّة فما الدليل على حرمته.

و ثانيا: سلّمنا وجوب الإتمام في الجزء أيضا فيجب الموالاة في القراءة الشخصيّة، لكن حفظها غير ممكن هنا لا قائما و لا جالسا.

أمّا قائما فواضح، و أمّا جالسا، فلأنّه ليس لوجوب الموالاة في القراءة الشخصيّة على تقدير تسليمه إطلاق ناظر إلى الحالات حتّى يجوز لنا بملاحظة مراعاتها الجلوس مع القدرة على القيام، بل غايته الإطلاق الذاتي و أنّها من حيث هي واجبة في هذا الحال.

فإذا فرضنا أنّ دليل تعيين الوظيفة للقادر في القيام يجعل القراءة الجلوسيّة خارجة عن الوظيفة الصلاتيّة فاتّصالها غير نافع بحال الموالاة المذكورة، فلا محيص عن اختيار القيام ثمّ استئناف القراءة من رأس.

لا يقال: كما أنّ دليل الموالاة الشخصيّة على تسليمها ليس له إطلاق أحوالي،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 214

كذلك دليل اعتبار القيام، فما الترجيح؟

لأنّا نقول: نعم دليل كلّ جزء أو شرط ليس له إلّا إطلاق ذاتي غير شامل لحال توقّفه على ترك الآخر، لكنّا نقول: إنّ الموالاة في القراءة من أوصافها و يكون وجوبها فرع وجوب أصل القراءة، و مقتضى تعيين الوظيفة للقادر في الصلاة القياميّة عدم مشروعيّة هذه القراءة الجلوسيّة من القادر و كون الإتيان بها كالإتيان بالأقوال الأخر التي لا يمكن احتسابها جزءا من الصلاة.

و الحاصل أنّ دليل القيام يكون واردا على دليل الموالاة الشخصيّة، لأنّ دليل الموالاة إنّما يثبتها في فرض كون القراءة وظيفة صلاتيّة، و دليل القيام يسلب عنها هذا العنوان و يثبته للقراءة القياميّة بعد تجدّد القدرة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 215

الفرع الثالث إذا كان كالراكع خلقة أو لعارض،
اشارة

فإن تمكّن من الانتصاب و لو بالاعتماد على شي ء وجب

للقراءة و للركوع و للرفع منه، و إن لم يتمكّن فإن تمكّن في بعض الحالات وجب، و إن لم يتمكّن أصلا فإن تمكّن من الأقرب إلى الانتصاب تعيّن هو، و إن لم يتمكّن من الارتفاع عن حاله أصلا فتارة يكون انحناءه بالغا حدّ أوّل الركوع بحيث لو انحنى أزيد منه لا يخرج عن حدّ الركوع، و اخرى يكون في أقصى مرتبة الركوع أو في أوّلها، لكن لا يمكنه الانحناء الزائد عن حاله.

فإن فرضناه غير بالغ حدّ الأقصى و متمكّنا من الانحناء الزائد فلا إشكال في اكتفائه بهيئته للقيام، بل يمكن دعوى صدق القيام عليه حقيقة بدعوى أنّ القيام مقابل للجلوس و النوم، و بعبارة أخرى: يكون عبارة عن الاعتماد على القدمين مع انتصاب الرجلين.

و أمّا انتصاب الظهر فأمر زائد خارج عن حقيقته و هو واجب آخر في حقّ المتمكّن، و لو فرض أنّه قد أخذ في مفهومه انتصاب فلا إشكال في أنّ المفهوم منه بالنسبة إلى هذا الشخص هذا المعنى، فلو أمره أحد بالقيام لا يقول: لا أتمكّن منه.

و أمّا الركوع فإن قلنا بأنّه عبارة عن نفس الهيئة الخاصّة و ليس من قبيل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 216

الفعل فالمأمور به حينئذ إبقائها و عدم تبديلها بالأضداد مع النيّة القلبيّة بكونها ركوعا، و إن قلنا: إنّه عبارة عن فعل الانحناء فلا إشكال أيضا في أنّ ركوعه بزيادة الانحناء عن الحدّ الذي هو عليه.

ألا ترى لو قال له أحد: اركع تعظيما للأمير، لا يقول: إنّي لا أتمكّن من الركوع، بل يخفض ظهره يسيرا بعنوان التعظيم، فإذا كان المأمور به في الصلاة هو الركوع التعظيمي فيكون هذا مصداقه بالنسبة إلى هذا الشخص.

إنّما الإشكال في الفرض الآخر

و هو من كان انحنائه بالغا أقصى حدّ الركوع، فهل ركوعه أيضا الانحناء الزائد يسيرا، أو تبديل تكليفه إلى الإيماء، لعدم تمشّي الركوع منه؟

توضيح المقام يحتاج إلى تمهيد مقدّمات:
الاولى: إنّه ليس لنا حالة واسطة بين القيام و القعود،

بل كلّما ارتفع عن حالة القعود و خرج عن حدّه دخل في حدّ القيام، و يشهد بذلك موارد إطلاقات القيام عند العرف، حيث يرون القيام شيئا و انتصاب الظهر شيئا آخر زائدا عليه لا داخلا في مفهومه، و يرون تحقّقه في حقّ الراكع على وجه الحقيقة، غاية الأمر أنّ هذا الفرد مخصوص باسم خاصّ و هو الركوع، فهو قسم القيام لا قسيمه.

و لا ينافي هذا ما سبق منّا من إنكار القراءة في حال النهوض أو الهويّ مستندا إلى خروجه عن كلتا الوظيفتين المستفادتين من الأخبار أعني: الصلاة القياميّة و الجلوسيّة، فإنّ ذلك الإنكار مستند إلى عدم قرار البدن في حالتي النهوض و الهويّ كجسم الطائر في حال الطيران، حيث حنّه ليس في محلّ معيّن من المسافة، بل ما دام طائرا يكون بين الحدّين، فهكذا الشخص في حالتي النهوض أو الهويّ.

الثانية: إنّه يعتبر في الركوع الصلاتي وقوعه عن قصد التعظيم

و إن كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 217

لا دخل له في صدق مفهومه، نعم له دخل في صدق مفهوم السجود، فما كان هناك محقّقا للماهيّة يكون قيدا هنا للمطلوبيّة، غاية الأمر تارة يقصد ذلك تفصيلا، و اخرى إجمالا، كما إذا قصد إتيانه امتثالا للأمر الوارد به من الشارع، فإنّه قصد لذلك العنوان إجمالا، فإنّ الركوع المأمور به شرعا هو ما كان صادرا بعنوان التعظيم.

الثالثة: إنّه يعتبر إحداث الركوع

و لا يكفي إبقاء ما كان منه حادثا، كما إذا ركع بقصد أخذ شي ء من الأرض ثمّ قصد بإبقاء ركوعه تعظيم المولى، و هذا بخلاف الحال في القيام المأمور به في الصلاة، فإنّه لو كان قائما لداع نفساني يجوز له إبقاؤه لتكبيرة الإحرام.

الرابعة: إنّ من بلغ حدّ أقصى الركوع الصلاتي يتحقّق منه مسمّى الركوع التعظيمي حقيقة عند العرف،

ألا ترى أنّ الشخص المذكور يخفض ظهره أزيد من هيئة الحاصلة في محضر السلاطين و الأمراء و يحتسب ذلك منه تعظيما حقيقة لا تجوّزا، إلّا أنّه مع صدقه العرفي كذلك خارج عن الحدّ الذي أمر به الشارع، فكما أنّ ما قبل أوّل حدّ الركوع الشرعي غير مجز في الصلاة و إن كان ركوعا حقيقة، فكذلك ما تجاوز عن الأقصى أيضا يكون بهذا المنوال.

إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول:

أمّا البالغ حدّ أقصى الركوع الغير المتمكّن من الرفع و لو إلى أوّل حدّ الركوع الشرعي و لو بمعونة عصا و نحوه لا إشكال حسب ما مضى من المقدّمة الاولى في تكليفه القيامي، فإنّ ما هو موجود فيه مصداق حقيقي للقيام، و إنّما المنتفي في حقّه انتصاب الظهر و هو ساقط مع العجز.

فلا يستشكل بأنّ هذا الشخص غير قادر على القيام فلا بدّ أن يجلس للقراءة، و لا موقع للرجوع إلى قاعدة الميسور بعد تعيين الأخبار وظيفة العاجز عن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 218

القيام في الجلوس، فإنّك عرفت أنّ هذا الشخص قادر على القيام، فلا ينتقل إلى الجلوس، هذا حال قراءته.

و أمّا ركوعه فمقتضى المقدّمة الأخيرة عدم تمشيه منه بالحدّ الذي اعتبر فيه شرعا، لأنّه إن وقف بهذه الحالة و ضمّ قصد التعظيم لم يتحقّق منه إحداث الركوع، و إنّما تحقّق إحداث القصد، و قد كان المعتبر هو الأوّل، و إن تجاوز عنها و ضمّ القصد صدق عليه إحداث الانحناء التعظيمي و إن كان لم يصدق إحداث أصل الانحناء، بل يصدق أنّه صار من مرتبة من الانحناء إلى مرتبة اخرى منه، و لكن خرج عن الحدّ الشرعي، فلا بدّ أن ينتقل إلى البدل و هو الإيماء بالرأس، و إن أراد

الاحتياط يأتي بالإيماء و ذكر الركوع، و يأتي أيضا بالانحناء المتجاوز عن الأقصى و بالذكر أيضا بقصد رجاء المطلوبيّة و الاحتياط.

و أمّا من لم يبلغ انحناؤه إلى الحدّ الأقصى فحال قيامه للقراءة قد مضى، و أمّا حال ركوعه فمقتضى ما تقدّم كفاءة انحنائه أزيد ممّا فيه بقصد التعظيم، فإنّه بضميمة هذه الخصوصيّة أعني الركوع التعظيمي يصدق في حقّه الإحداث، و المفروض عدم خروجه بذلك عن الحدّ المعتبر شرعا، فليس له الانتقال إلى البدل و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 219

الفرع الرابع لو نسي الركوع حتّى سجد
اشارة

فالمشهور بطلان صلاته، و ذهب الشيخ إلى أنّه إذا كان ذلك في الركعتين الأخيرتين من الرباعيّة أسقط السجدة و قام فركع و أتمّ صلاته، و قد مرّ الكلام في المسألة في صورة نسيان الركوع إلى أن سجد السجدتين، و المقصود هنا التعرّض لشقّها الآخر و هو النسيان إلى أن سجد سجدة واحدة.

كيفيّة اعتبار الترتيب بين أجزاء الصلاة

و لا بأس بالتعرّض أوّلا لبيان كيفيّة اعتبار الترتيب بين أجزاء الصلاة التي منها الركوع، حيث اعتبر ترتّب السجود عليه و أنّ اللازم على كلّ نحو متصوّر منه ما ذا، ثمّ النظر في الأدلّة الخاصّة بالمسألة.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و بأذيال آل العباد صلوات اللّٰه عليهم التشبّث و التوسّل: إنّه قد يقال: إنّ المتصوّر بحسب مقام الثبوت من اعتبار الترتيب بين أجزاء المركّب المأمور اثنان لا ثالث لهما.

الأوّل: أن يعتبر في عرض سائر الأجزاء في نفس المأمور، فالمأمور به كما أنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 220

ملتئم من الحمد و السورة و الركوع، كذلك من الترتيب بين هذه الأجزاء المعتبرة فيه، فلو قدّم السورة على الحمد فقد أتى بالسورة التي هي جزء، و كذلك الحمد الذي هو جزء، و إنّما أخلّ بالجزء الثالث الذي هو تقديم الحمد على السورة.

و لازم هذا الوجه أنّه إذا صدر خلاف الترتيب سهوا كان مشمولا لحديث لا تعاد المخصّص لجزئيّة غير الخمسة المستثناة بغير حال السهو، و المفروض عدم كون الترتيب من جملة الخمسة و لا من قيودها، من غير فرق بين دخوله في ركن متأخّر، كما إذا قدّم السورة على الحمد و تذكّر بعد الركوع و بين عدمه، كما لو تذكّر في المثال قبل الركوع، فإنّه بعد فرض حصول ذات السورة و الحمد بوصف الجزئيّة

للصلاة فقد مضى محلّ الترتيب المنسي، و لا يمكن ثانيا تداركه.

و الثاني: أن يعتبر قيدا في نفس الأجزاء، فالسورة ليست بذاتها جزءا، بل المقيّدة بترتّبها على الحمد، و كذلك الحمد ليس الجزئيّة لمطلقها، و لازم هذا الوجه أنّه لو أخلّ بالترتيب سهوا أتى بالجزء المنسيّ ترتيبه و ما بعده، من غير فرق أيضا بين الصورتين، لأنّه بعد الدخول في الركن مثل الركوع أيضا لو عاد و أتى بالسورة مثلا ثمّ بالركوع لا يوجب زيادة الركن، لأنّ الركوع الذي وقع أوّلا كان صورة ركوع لا ركوعا صلاتيّا، لفقدانه قيد الترتيب المعتبر فيه.

و يؤيّد هذا الوجه، بل يدلّ عليه ما ورد من إلقاء السجدتين عند نسيان الركوع و التذكّر بعدهما، هذا.

و لكنّ المفتي به عندهم لا ينطبق على شي ء من الوجهين المذكورين، فإنّهم رضوان اللّٰه عليهم يفرّقون بين حكم الصورتين، أعني: صورة الدخول في الركن و عدمه بإمكان التدارك و بقاء المحلّ مع عدم الدخول و مضيّ المحلّ و عدم إمكان العود، لزيادة الركن مع الدخول، و لا يعلم وجه لما ذكروه ينطبق على القاعدة، فإنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 221

اعتبار الترتيب بين الأجزاء من الأركان و غيرها على نسق واحد، و ليس في الأركان قيدا للعمل و في غيرها قيدا في الواجب.

و الذي تفصّى به شيخنا الأستاذ دام بقاه عن هذا الإشكال هو اختيار وجه ثالث و هو أن يقال: إنّ الأجزاء اعتبرت في المركّب في لحاظ الترتيب لا بقيده، نظير ما يقال في مبحث مقدّمة الواجب من الوجوب تعلّق بها في لحاظ الإيصال لا بقيد الإيصال، و ما يقال في مسألة استعمال اللفظ في أكثر من معنى من أنّ الواضع وضع الألفاظ للمعاني

في حال الوحدة، لا بقيد الوحدة، و كما يمكن أن يقال: إنّ اعتبار داعي الأمر في العبادة يكون في لحاظ داعويّة الأمر لا بقيدها.

معنى قصد الإيصال في المقدّمة الواجب

و تفصيل هذا الإجمال أنّه وقع الخلاف في مقدّمة الواجب على القول بالوجوب في أنّ الوجوب هل تعلّق بالمقيّد منها بعنوان الإيصال، أو بذاتها بدون هذا القيد؟ فذهب المشهور إلى الثاني، و طعن بعضهم على القائل باعتبار قيد الإيصال بأنّه مستلزم لمحاذير عقليّة فصّلت في محلّها، و أنّه من مخالفة الوجدان بمثابة تضحك منه الثكلى، و طعن القائل باعتبار الإيصال على المشهور بأنّ اللازم من مذهبكم جواز أن يدخل في الأرض المغصوبة معتذرا بأنّه في طريق إنقاذ النفس المحترمة، ثمّ نام هناك من دون ترتّب الإنقاذ على هذا التصرّف، و هذا ممّا يبكي العريس. فتحصّل أنّ كلّا من طرفي المسألة بحيث يلزم منه محذور بديهي.

و لهذا وقع التصالح بينهما في كلام بعض المحقّقين المحشّين للمعالم بأنّ الواجب هو ذات المقدّمة، لكن في لحاظ الإيصال لا لقيده، و المقصود أنّه تارة: يكون هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 222

التقييد ملحوظا بعنوانه و بالمعنى الاسمي، كأن يقول: أطلب النصب الموصل إلى الكون على السطح، و هذا ممّا يترتّب عليه التوالي الفاسدة.

و اخرى: يكون ملحوظة بإطلاقها، و هذا أيضا خلاف الوجدان.

و ثالثة: يلاحظ كلّ قدم قدم، لكن في حال تواصلها و تسلسلها في الوجود إلى أن يتّصل سلسلتها إلى فعل المأمور به، فإذا نظر إلى المقدّمة و الحال أنّها في ذهنه متلبّسة بهذا التركيب و الشكل انقدح في نفسه المطلوبيّة و لا يحتاج إلى التقييد، لأنّه في هذا اللحاظ يرى القيد حاصلا، فالتقييد غير محتاج إليه.

و أمّا إذا تبدّل صورتها في الذهن بحالة

انفكاك كلّ واحدة عن الآخر أو عن المأمور به فلا يرى مطلوبيّة من نفسه، و هذا معنى التقييد، فإنّ المطلوبيّة يدور مدار وجوده و عدمه، و لكن ليس تقييدا اصطلاحيّا أعني ملحوظا بعنوانه و بالمعنى الاسمي، بل التقيّد الواقعي اللحاظي، و بعبارة أخرى ما هو بالحمل الشائع تقيّد، لا التقيّد بمفهومه.

و لعلّ هذا أيضا مراد المحقّق القمّي قدّس سرّه حيث قال: إنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني في حال الوحدة لا تقيّدها، و جعل الاستعمال في الأكثر من الواحد استعمالا في غير ما وضع له.

و لا يرد عليه الإشكال بأنّ مجرّد صدور الوضع حال الوحدة إن رجع إلى التقييد كان باردا و خلاف ما نرى بالوجدان في أوضاعنا الصادرة منّا، و إن لم يرجع إليه لا يوجب تخلّفه صيرورة الاستعمال في غير ما وضع له.

و دفع الإشكال بمثل ما مرّ من أنّه و إن لم يلحظ المعنى مقيّدا، و بعبارة أخرى:

لم يشترط الاستعمال في المعنى عند الوحدة، لكن إنشائه وقع على المعنى في لحاظ الوحدة، فإنّه حين الوضع لم يتعلّق نظره باثنين، بل بالحيوان المفترس مثلا منفكّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 223

عن الرجل الشجاع، و هذه الصورة الذهنيّة غير الصورة الأخرى، أعني: ملاحظته مجتمعا مع الرجل الشجاع، فإذا كان الموضوع له المعنى بتلك الصورة فلا وجه لسرايته إليه بالصورة الأخرى.

و يمكن دفع الإشكالات الواردة في تصوير اعتبار داعي الأمر في المأمور به من الدور و غيره أيضا بهذا الوجه، فإنّ الأمر إيجاد بالعناية و تحصيل للفعل من جوارح العبد، و في هذه الجهة و كيفيّة التأثير حاله حال العلل التكوينيّة، فكما أنّ العلّة التكوينيّة لا يعقل أن يؤثّر في الطبيعة المطلقة من حيث التسبّب

عنها و عن غيرها، بل لا محالة في الحصّة المضيّقة بتسبّبها منها، فكذا الحال في العلّة التشريعيّة التي هي إيجاد بالعناية، فهو في هذا النظر لا يرى تفكيكا بين الأمر و الفعل في الخارج، و لا يرى الفعل المتسبّب من غير هذا السبب، فلا حاجة له إلى التقييد، لكون القيد حاصلا في هذا النظر، و على هذا يكون الأصل في الأوامر هو التعبّديّة إلى أن يعلم من الخارج عدم مدخليّة هذا القيد اللّبّي في الغرض.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى ما نحن فيه فنقول: إنّ الآمر تعلّق أمره بذوات الأجزاء التي اعتبر المأمور به ملتئما منها، لكنّها في ذهنه متّصفة بوصف ترتّبها في الوجود من أوّلها إلى آخرها، بحيث لو تبدّلت عنها هذه الصورة الذهنيّة بنقشة اخرى على خلاف ذلك الترتيب لا يرى في نفسه مطلوبيّة لها، فذوات الأجزاء اعتبرت جزءا للمركّب، لكن في لحاظ الترتيب لا بقيد الترتيب.

و حينئذ نقول: إذا سها عن الترتيب في غير الأركان و لمّا يدخل في الركن فالمأتيّ به غير مطابق مع النقشة التي بها صارت الأجزاء مأمورا بها، فيكون غير مجزية، و المفروض عدم زيادة الركن لو عاد و تدارك، فيجب عليه ذلك.

و أمّا بعد ما دخل في الركن فمقتضى القاعدة الأوّليّة أيضا عدم الإجزاء بجميع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 224

ما أتى به على خلاف الترتيب الذي منه ذلك الركن، فإنّه صورة الركن و ليس بركن حقيقة، فلا يلزم زيادة الركن الصلاتي لو عاد و تدارك، لكن منعنا و عارضنا الإجماع القائم على أنّ زيادة الركن و لو كان صوريّا بمعنى أن يكون فاقدا للنقشة الذهنيّة الموجودة في ذهن الآمر، لا بمعنى أن يكون فاقدا لما اعتبر

فيه بعنوان القيديّة مبطلة، فلو عاد و ندارك يلزم بطلان الصلاة من حيث هذه الزيادة و لو لم يعده فبطلان صلاته لو كان مستندا إلى نقص الترتيب الذي وقع سهوا و هو خلاف حديث لا تعاد المخصّص للجزئيّة بغير حال السهو.

فإن قلت: لا حاجة إلى هذا البسط و التفصيل، إذ رجع حاصل ما قلت إلى أنّ الوجه في عدم العود و التدارك بعد الدخول إنّما هو الإجماع القائم على أنّ زيادة الركوع و لو صورة مبطلة، و إلّا فعلى حسب القاعدة المحلّ باق، و لمّا ينقض، و إذا رجع الأمر إلى التمسّك بالإجماع فأيّ فرق بين أن نقول باعتبار الترتيب في الأجزاء بنحو ما ذكرت من اعتبار لحاظه و بين اعتباره فيها بنحو التقييد بالمعنى الاسمي، و ما وجه التحاشي من الثاني و اختيار الأوّل بعد عدم إمكان إتمام المطلب على كلّ حال على طبق القاعدة بدون الحاجة إلى التماس دليل من خارجها؟

قلت: الفرق أنّا نرى عدم إجماعهم، بل إجماعهم على العكس بالنسبة إلى الزيادة الصوريّة في الركوع إذا كانت فاقدة لبعض الشرائط المعتبرة قيدا، مثل أن يأتي بصورة الركوع لا بقصد التعظيم الصلاتي، بل بقصد آخر من حكّ البدن أو أخذ شي ء من الأرض و نحو ذلك، فلو كان الإجماع قائما على مطلق إبطال الزيادة الصوريّة لكان اللازم الحكم بالبطلان في مثل هذا المثال، و من المسلّم بينهم عدمه.

فإن قلت: التمسّك بحديث لا تعاد محلّ إشكال في صورة نسيان السورة و التذكّر في الركوع، من حيث إنّ الركوع وقع أيضا ناقصا لنقصان قيده، و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 225

وقوعه عقيب السورة، فاللازم الحكم بالبطلان بمقتضى الاستثناء في الحديث.

قلت: لنا نقيصة و

زيادة و وقوع في غير المحلّ، و العرف في أمثال المقام شاهد بأنّ الركوع في المثال من قبيل الثالث، فيقولون: إنّ الركوع ليست زيادة و لا ناقصة، و إنّما وقع النقصان من ناحية السورة، فالركوع هو الركوع الصلاتي، لكن كان حقّه أن يقع قبله السورة، فالنقص من ناحيتها لا من ناحيته.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنرجع إلى مقتضى الأخبار الخاصّة فنقول و على اللّٰه التوكّل: قد عرفت في أوّل مبحث الركوع صحيح رفاعة «1»، و موثّق إسحاق «2»، و خبر أبي بصير «3» و السؤال في الأوّل عن نسيان الركوع حتّى يسجد و يقوم، و في الثاني و الثالث عن نسيانه مطلقا و الجواب في الأوّل و الثاني بالاستقبال، و في الثالث بالإعادة، و ظاهرها كما لا يخفى هو الحكم بالبطلان، حتّى لو تذكّر في السجدة الواحدة، و قد عرفت أيضا ما يعارضها من صحيح محمّد بن مسلم على اختلاف نسخته الحاكم بإلقاء السجدتين و البناء على صلاته على التمام، و قد أفتى بمضمونه أيضا بعض الأصحاب رضوان اللّٰه عليه.

لكن في بعض نسخة في ذيل الرواية شي ء مخالف للإجماع و هو قوله:

و إن لم يستيقن إلّا بعد ما فرغ و انصرف فليقم و ليصلّ ركعة و سجدتين و لا شي ء عليه، لأنّ المراد بقرينة قوله: «ليصلّ» هو السجدتان للصلاة، لا سجدتا السهو، و إلّا لم يصحّ إطلاق قوله عليه السّلام: «ليصلّ» فإنّ الكلام في قوّة قوله عليه السّلام: «ليصلّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 226

ركعة

و ليصلّ سجدتين» و اشتمال الرواية على مخالف الإجماع و إن لم يضرّ بحجّيّة سائر فقرأته و إن هو إلّا كالعامّ المخصّص، فإنّ دليل الحجّية قد خرج عنه هذه الفقرة و بقي الباقي تحته، لكن هذا في الحجّية الذاتيّة، و لا ينافي أن نجعله من الموهنات عند التعارض، بمعنى أن يرجّح الخبر المعارض الخالي عن هذا الموهن على المشتمل عليه كما في مقامنا، فإنّ الأخبار السابقة مع الخبر المذكور متعارضة و لا جمع عرفي بينها.

و حمل الاستئناف و الاستقبال على إعادة نصف الصلاة أو ربعها أو نحو ذلك، و بعبارة أخرى: على الإعادة من موضع النسيان بعيد غايته، و ليس بجمع مقبول عند العرف.

و إذن فيتعيّن الأخذ بسائر الأخبار بناء على التعدّي في باب المرجّحات من المرجّحات المنصوصة إلى مطلق المزيّة الموجودة في أحد الخبرين.

و حينئذ نقول: لا مساس ظاهرا لتلك الأخبار بمسألتنا و هي التذكّر في السجدة الواحدة، لأنّها بين ما ذكر فيه اسم السجود، لكن اقترن بما لا يصلح عمومه للسجدة الواحدة، و هو قوله: حتّى يسجد و يقوم، و بين مطلق لنسيان أن يركع، و ظاهره هو النسيان الرأسي و عدم التذكّر إلّا بعد الفراغ، و لا أقلّ من الشكّ، فلا دليل على البطلان بالنسبة إلى السجدة الواحدة، و مقتضى القاعدة بقاء المحلّ للتدارك، لعدم استلزامه إلّا لزيادة سجدة واحدة، و هي غير موجبة للبطلان، لعدم كونها من الأركان، و لكن لم يظهر الفتوى بالصحّة من أحد، و إذن فالاحتياط بالإتيان ثمّ الإعادة ممّا لا ينبغي تركه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 227

الفرع الخامس لو انحنى بقصد الركوع فنسي في الأثناء و هوى إلى السجود فللمسألة صور:
اشارة

الاولى: أن يكون النسيان قبل الوصول إلى حدّ الركوع و التذكّر بعد التجاوز عن حدّه حتّى الأقصى منه.

و الثانية:

هذه الصورة، لكن مع التذكّر قبل التجاوز عن الأقصى.

الثالثة: أن يكون النسيان بعد الوصول إلى حدّ الركوع و التذكّر بعد التجاوز عن الأقصى.

و الرابعة: هذه الصورة، لكن مع التذكّر قبل التجاوز عن الأقصى، و ذلك بأن يكون قصده الإجمالي للركوع باقيا إلى حدّ أوّل الركوع، ثمّ ذهل و هوى بقصد السجود فالتفت عند الوصول إلى أقصى حدّه.

أمّا الصورة الاولى:

فلا إشكال لو قام منتصبا ثمّ يهوي بقصد الركوع، لعدم استلزامه زيادة الركوع و هو واضح، و لا زيادة القيام المتّصل بالركوع، فإنّ القيام المتّصل بالركوع لا دليل عليه سوى الإجماع، و الظاهر من كلماتهم إرادة القيام الذي لم يتخلّل بينه و بين الركوع الشرعي الصلاتي شي ء خارجيّ، لا سكون و لا أمر خارج عن الركوع، و لهذا نقل شيخنا الأستاذ طاب ثراه أنّه كان يواظب على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 228

اتّصال ركوعه بالقيام سريعا لئلّا يتخلّل سكون في أثناء الهويّ فينفصل الركوع الشرعي عن القيام، و من المعلوم في مسألتنا أنّ القيام الأوّل قد انفصل عن الركوع الشرعي، فلا عبرة به.

نعم لو فسّرناه بالأعمّ منه و من المتّصل بالركوع العرفي تعيّن في مسألتنا القيام منحنيا بهيئة الركوع إلى محلّ النسيان ثمّ الهويّ منه إلى المحلّ الشرعي، لحصول القيام المتّصل بناء على هذا التفسير، و أمّا على الأوّل فلو فعل هكذا لا يكون مجزيا، لإخلاله بالقيام المذكور.

و من هنا يظهر الحال في الصورة الثانية،

فإنّ الحكم فيها أيضا مبنيّ على التفسيرين المذكورين للقيام المتّصل بالركوع، فعلى التفسير بالمتّصل بالركوع الشرعي يجب الانتصاب قائما، ثمّ الهويّ بقصد الركوع، و على التفسير الآخر يجب الانحناء متقوّسا إلى حدّ النسيان، و لا يجوز الانتصاب، لاستلزامه زيادة القيام المتّصل بالركوع الذي عدّ من الأركان و إن كان لا يلزم زيادة الركوع.

و أمّا الصورة الثالثة:

و هي ما إذا نسي بعد الوصول إلى حدّ الركوع و تذكّر بعد التجاوز عن أقصاه إلى قرب السجود.

فالتكلّم فيها يبتني على ذكر مقدّمة و هي أنّه لا إشكال في اعتبار القصد في الركوع الشرعي، لا بمعنى قصد الأمر، بل بمعنى قصد الخضوع الذي هو المعتبر في ماهيّة السجود عرفا، و يتحقّق و لو مع الحرمة، كما في سجود الصنم أو سجود الحائض في الصلاة، غاية الأمر عدم اعتباره في الركوع في ماهيّته بمعنى عدم توقّف تحقّق ماهيّته على حصوله بقصد الخضوع، بل يتحقّق و لو كان لأجل وضع شي ء على الأرض أو رفعه مثلا، كما يتحقّق بقصد التعظيم، و لكنّ المعتبر منه في الصلاة هو خصوص ما كان بالقصد المذكور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 229

و لهذا لو أتى بركوعين، أحدهما لا بقصد التعظيم فليس هذا بزيادة ركوع، و أمّا إذا أتى بالاثنين كليهما بقصد الخضوع و إن كان مشرّعا في أحدهما و محرّما كان من زيادته.

كما لا إشكال أيضا في اعتبار الأحداث في الركوع الصلاتي، فإبقاء الانحناء لا يكفي في الفراغ عن عهدة الركوع الصلاتي.

و كما أنّ من انحنى لغير غرض الخضوع ثمّ تبدّل قصده بعد الوصول إلى الحدّ الشرعي إلى قصد الخضوع لا يحتسب بركوعه هذا، كذلك من هوى إلى مقدار بغير قصد الخضوع ثمّ تبدّل من الوسط إلى

القصد المذكور إلى أن يبلغ الحدّ الشرعي كان غير كاف أيضا، لأنّ معنى الأحداث في حقّ القادر إحداث الهيئة الانحنائيّة من الهيئة القياميّة بقصد الخضوع، فإذا حدّده الشرع بالحدّ الخاصّ فاللازم وقوعها من الهيئة القياميّة إلى ذلك الحدّ بالقصد المذكور حتّى يتحقّق عنوان الإحداث، و إلّا لا يقال: إنّه ركع، بل إمّا يقال: زاد في انحنائه، أو يقال: بقي على انحنائه.

و بالجملة، لا إشكال في اعتبار القيدين المذكورين في الركوع المعتبر في الصلاة.

و هل هنا قيد ثالث معتبر في ماهيّته و هو الانتهاء إلى الحدّ و الانقطاع إلى غاية، فلو لم ينقطع، بل اتّصل هويّه حتّى خرّ على الأرض لا يصدق في حقّه اسم الركوع، بل اسم الهويّ، و لا نعني من الانقطاع حصول استقرار له في حالة انقطاع الهويّ، بل و لو كان عند الانقطاع متزلزلا أو ارتفع بلا مهلة.

فالذي يظهر من شيخ الجواهر قدّس سرّه تقوية عدم الاعتبار، فجعل صورة النسيان بعد الوصول إلى حدّ الركوع من باب نسيان الذكر و الطمأنينة، و الذي قوّاه بعض الأعاظم اعتباره، و لهذا حكم بالانتصاب.

و لا إشكال في الحكم بناء على اختيار كلّ من الشقّين، بمعنى أنّا لو قلنا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 230

باعتبار الانتهاء و الانقطاع في مفهوم الركوع فلا إشكال في أنّ الحكم في المسألة المذكورة هو العود إلى الانتصاب، كما كان هو الحال في الصورتين المتقدّمتين بناء على أحد الوجهين، لأنّ ما وقع منه في الخارج مركّب من قطعتين من الهويّ، إحداهما و إن كان واقعا بقصد الخضوع، و لكن ليس منتهيا، و الآخر و إن كانت منتهية، لكن ما وقعت بالقصد و تجاوزت عن الحدّ، فالمركّب من هاتين القطعتين أيضا

ليس بركوع معتبر.

فالقيام لم يتّصل بالركوع المعتبر بناء على أحد الوجهين في الصورتين المتقدّمتين، فيجب عليه الانتصاب قائما و الإتيان بالركوع المستأنف.

و لو قلنا بعدم اعتبار الانتهاء في مفهومه فلا بدّ أن يقال بأنّ النسيان في المسألة المذكورة قد تعلّق بالذكر و الطمأنينة، و أمّا الركوع فقد وقع في محلّه، لأنّ المفروض بقاء القصد إلى وصول الحدّ الشرعي، فالمنسيّ واجب آخر غير الركوع، و لا يوجب السهو عنه البطلان، و ليس محلّ التدارك باقيا، لأنّه إن عاد منحنيا إلى الحدّ الشرعي فليس هذا ركوعا مبدوّا به من القيام، بل بدأ به من حالة الهويّ القريب من السجود، و قد جعل محلّ الذكر و الطمأنينة شرعا هو الركوع الذي حصل و نشأ عن حالة القيام.

ألا ترى أنّ أحدا لو مضى من قم إلى بلدة كاشان يقال: إنّه جاء من قم، و أمّا إذا مضى من حوالي البلدة إلى بلدة أصفهان، ثمّ رجع منها إلى بلدة كاشان فلا يقال: إنّه جاء من قم، بل يقال: جاء من أصفهان، فإن كان الواجب لمن جاء من قم إلى كاشان إيجاد ذكر مخصوص فلا يجب على هذا الشخص.

فكذا في المقام، بل نقول في المقام بأنّه لا يجب عليه رفع الرأس الواجب من الركوع، لأنّ الانتصاب عقيب الركوع ليس واجبا مستقلّا، بل صار واجبا بمقتضى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 231

الأدلّة بعنوان كونه رفعا للرأس من الركوع، و لا يسمّى لهذا الذي انحنى إلى قرب السجود إذا صار مستقيما أنّه رفع رأسه من الركوع.

هذا هو الكلام بناء على اختيار كلّ من الشقّين.

و أمّا الكلام في أنّ المختار منهما ما ذا، فالإنصاف عدم الجزم بشي ء من الطرفين، لا بعدم الاعتبار كما

قوّاه شيخ الجواهر قدّس سرّه، و لا بوجوده كما اختاره بعض الأعاظم قدّس سرّه.

و إذن فالمرجع هو الأصل العملي، و هو في أمثال المقام من دوران الأمر بين الإطلاق و التقييد المفهومي هو البراءة كما حقّق في الأصول.

و أمّا الصورة الرابعة:

و هي ما إذا كان النسيان بعد الوصول إلى أوّل حدّ الركوع و التذكّر عند الوصول إلى أقصاه، فلا إشكال في جريان الوجهين المتقدّمين في الصورة الثالثة هنا أيضا، بمعنى أنّه لو قلنا باعتبار الانتهاء، فاللازم أن ينتصب قائما، لأنّ ما صدر منه خارجا ليس بركوع، لعدم تحقّق الانتهاء في قطعة منه و عدم تحقّق القصد في قطعة اخرى.

و أمّا إن قلنا بعدم الاعتبار كما هو مقتضى الأصل فيمكن القول هنا بوجوب الرجوع إلى الحدّ الأوّل الذي منه طرأ النسيان ثمّ الإتيان بالذكر الواجب مع الطمأنينة هناك، ثمّ رفع الرأس منه إلى الانتصاب.

و ذلك بدعوى أنّ العرف هنا يتناقض في المقال، فيقول بوجوب الرجوع و عدم الاكتفاء بإتيان الذكر في المحلّ الأقصى، و هذا يكشف عن اعتداده بهذا القدر و يحسبه زائدا على مقدار الركوع المأتيّ به بقصد الخضوع، و يقول أيضا بأنّ الشخص بعد رجوعه إلى المحلّ الأوّل يكون ركوعه ركوعا ناشئا من القيام، و هذا يكشف عن عدم اعتداده بذلك القدر اليسير و يحسبه كالعدم، و إلّا كان اللازم أن يقول: إنّه جاء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 232

من هذا الهويّ اليسير لا من القيام.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بذكر خاصّ إذا خرج من البلدة حتّى وصل إلى رأس القدم العشرين، فسهى العبد و مشى واحدا و عشرين، لا يأتي بالذكر في ذلك القدم الواحد و العشرين، بل يرجع إلى القدم العشرين

و يأتي به، و أمّا لو سئل عنه: إنّك ممّ جئت؟ لا يقول: من القدم الواحد و العشرين، بل يقول:

من البلدة.

و هذا بخلاف ما إذا سها و مشى خمسين قدما مثلا، فإنّه إذا عاد إلى القدم العشرين يقول: جئت من تلك الناحية، و ليس إطلاقه الأوّل في المثال الأوّل مبنيّا على المسامحة التي يراها مسامحة كما في باب الدوران، بل يحسبه مصداقا حقيقيّا و دقّيا عنده، و الميزان في الأحكام الشرعيّة هو ما يتفاهمه العرف من الخطابات اللفظيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 233

الفرع السادس هل التخيير في ذكر الركوع من باب الأقلّ و الأكثر أو لا؟
اشارة

قد عرفت إجزاء التسبيحة الكبرى مرّة واحدة و جواز الإتيان مرّتين أو ثلاثا، فهل التخيير هنا بين الأقلّ و الأكثر، أو أنّ الواجب هو الأقلّ و الزائد عليه يكون مستحبّا؟ ثمّ على الثاني هل له الاختيار في تعيين الواجب في أيّ منهما شاء، أو يتعيّن في الأوّل قهرا؟

فهنا مقامان:

[المقام] الأوّل:

لا إشكال في أنّ التخيير بين ذاتي الأقلّ و الأكثر بلا دخل قيد في طرف الأقلّ أصلا من المحالات، فإنّ الأقلّ بعد فرض كونه قائما بتمام الغرض الداعي إلى الإيجاب بلا دخل شي ء آخر، فإذا حصل فقد سقط الطلب، فلا يعقل بقاؤه مع ذلك حتّى يمتثل بالأكثر.

نعم يمكن دخل قيد في جانب الأقلّ مفقود مع وجود الأكثر، كقيد الوحدة، بأن يكون الغرض قائما إمّا بالواحد و إمّا بالثلاث مثلا، فلو أتى بالاثنين لما حصل من الغرض شي ء، و كقيد القصد، فيكون طرف التخيير هو الأقلّ المقصود و الأكثر كذلك.

و لا يخفى أنّ مقتضى الأدلّة عدم اعتبار قيد غير ذات التسبيحة الواحدة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 234

و إذن فيتعيّن كونها الواجب على التعيين و كون الزائدة مستحبّة كذلك.

المقام الثاني:

بعد فرض كون صرف وجود التسبيحة واجبة و هي متحقّقة بالمرّة الاولى فلا مجال لتعيينها في الثانية أو الثالثة، لأنّ معنى ذلك تعيين الصرف في الوجود الثاني أو الثالث، و هو من المحالات، نعم يمكن أن يكون هنا عنوان للواجب لا يتحقّق إلّا بالقصد، و كذلك للمستحبّ، كما هو الحال في الظهرين، فحينئذ يدور الاتّصاف بالوجوب مدار القصد، فإن قصد الاولى كانت هي الواجبة، و إن قصد غيرها فكذلك.

و لا يخفى أنّ هذا أيضا خلاف مقتضى الأدلّة، فالمتعيّن بحسبها عدم اختيار التعيين في غير الأوّل و حصول التعيّن في المرّة الأولى قهرا، سواء عيّنها أم لا، و تعيّن البقيّة للاستحباب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 235

البحث السادس في السجود

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 237

و لا إشكال في أصل وجوبه، إنّما الكلام في تحقّق حقيقته و هو من جهات:

[الجهة] الاولى: لا إشكال في اعتبار معنى الخضوع في مفهومه،

و الظاهر أنّه ليس مرادفا للخضوع، إذ كلّ فرد من الخضوع لا يسمّى سجودا، بل المراد أقصى الخضوع الغير الممكن فوقه، و هو في كلّ شي ء بحسبه، ففي الإنسان غاية خضوعه الانكباب بوجهه على الأرض.

[الجهة] الثانية: هل لخصوص الجبهة من الوجه مدخل في مفهوم السجود،

فلا يتحقّق بوضع الخدّ أو الذقن و نحوهما من سائر أجزاء الوجه، أو أنّ كلّ ذلك داخل في مفهومه، و إنّما وجب في الصلاة خصوص وضع الجبهة من باب واجب آخر؟

[الجهة] الثالثة: هل لخصوص الأرض أو ما أنبتته مدخل في مفهومه،

بحيث لو وضع الجبهة على الخارج عن العنوانين ما كان سجودا، أو يكفي الوضع على مطلق وجه الأرض، غاية الأمر وجوب أحد الأمرين في الصلاة من باب القيد الزائد عن مفهومه؟

و لا إشكال لو جزمنا بأحد الطرفين في كلتا الجهتين، و لو شككنا فالمرجع هو البراءة، لرجوع الشكّ إلى مدخليّة القيد الزائد، أعني: خصوص الجبهة أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 238

خصوص الأرض أو ما أنبتته الأرض، و المحقّق في محلّه الرجوع إلى البراءة في الشكّ المذكور، نعم هذا بالنسبة إلى التكليف الإيجابي.

و أمّا بالنسبة إلى التكليف التحريمي المتعلّق بالسجود لغير اللّٰه فمقتضى الأصل رعاية القيود المحتملة، بمعنى أنّه لا نحكم بالحرمة إلّا في الجامع للقيدين المحتملين، و أمّا الفاقد لهما أو لأحدهما فمقتضى الأصل براءة الذمّة من التكليف بتركه.

فلو فرض ابتلاء المكلّف بكلا التكليفين في مورد، كما إذا كان في أحد البقاع المتبرّكة للمعصومين صلوات اللّٰه عليهم و قد وجب عليه سجود التلاوة فإنّه يحدث له حينئذ علم إجمالي إمّا بحرمة السجود الفاقد للقيدين أو لأحدهما تعظيما لصاحب البقعة عليه السّلام، لأنّه سجود لغير اللّٰه تعالى، و إمّا بترك الواجب الفعلي أعني: سجود التلاوة، لأنّه إن كان القيدان معتبرين و كذا أحدهما لزم الثاني، و إلّا فالأوّل كما هو واضح، و حينئذ يجب عليه رعاية الاحتياط، لمكان هذا العلم الإجمالي.

و يجب في كلّ ركعة من الفريضة سجدتان، و هما معا من الأركان يبطل الصلاة بزيادتهما عمدا و سهوا، و كذا بنقيصتهما بأن

لا يأتي بشي ء منهما رأسا عمدا و سهوا، و أمّا السجدة الواحدة فزيادتها و نقيصتها عمدا يوجبان البطلان، بخلاف ما إذا كانتا سهوا، و تحقيق هذه الأحكام يأتي في مبحث الخلل إن شاء اللّٰه تعالى.

و ها هنا إشكال معروف و هو أنّ الركن على ما فسّره الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم عبارة عمّا يوجب كلّ من زيادته و نقيصته البطلان، عمدا كان أو سهوا، و لا ينطبق هذا التفسير على المقام، لأنّ الأمر لا يخلو من حالين، إمّا بجعل الركن مجموع السجدتين من حيث هما مجموع، و إمّا نجعله الطبيعة الصادقة على الواحدة و الثنتين.

فإن جعلناه الأوّل يلزم حصول نقيصة الركن بنقصان السجدة الواحدة، لأنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 239

ترك المجموع كما يتحقّق بترك تمام أبعاضه، كذلك يحصل بترك بعضها.

و إن جعلناه الثاني يلزم حصول زيادته بزيادة السجدة الواحدة.

و هذا الإشكال كما ترى إنّما يرد على كلمات الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم في تفسيرهم للركن بما ذكر، و إلّا فبحسب الأخبار حيث إنّها خالية عن ذكر الركن و تفسيره فلا إشكال، فإنّ الدليل إذا قام على المراتب المسطورة فنحن نأخذ به، سواء اندرج تحت اسم الركن أم لا، و لهذا لا ثمرة عمليّة لهذا الإشكال.

فإن قلت: يمكن الجواب من طرف الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم بأن يقال: إنّ المراد من نقيصة الركن تركه الرأسي، لا الأعمّ منه و من تركه بترك بعض أبعاضه.

قلت: كلّا، و إلّا فاللازم الحكم بالصحّة في ما لو ترك بعض الهويّ للركوع و أتى ببعضه سهوا، و لا يقولون به، بل يجعلونه من نقيصة الركوع، كما يجعلون ترك الهويّ رأسا أيضا منها.

و الذي أجال به شيخنا الأستاذ دام ظلّه عن الإشكال هو

أن يقال: إنّ الركن عبارة عن مشاكل كلّ ما كان مقوّما فعليّا للصلاة و عمودا حاليّا لها، فإذا أتى بسجدة و سها عن اخرى فالعمود الفعلي هو هذه السجدة الواحدة، فتصير هي المتّصفة بالركنيّة، فلا يصدق نقيصة الركن على نقص السجدة الثانية.

و أمّا إذا أتى بسجدتين معا فهما حينئذ يشتركان في العموديّة الفعليّة للصلاة، نظير العمود الظاهري للبناء و الخيمة، فإنّه ما دام متّحدا كان هو ما به القوام، فإذا انضمّ بجنبه آخر كانا معا عمودين فعلا، و حينئذ فلو زاد سجدة ثالثة لا يصدق أنّه زاد الركن، لأنّ الركن الفعلي هو السجدتان بوصف الانضمام، و الواحدة غير مشاكلة معهما.

و كيف كان فواجبات السجود أمور:
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 240

منها: وضع المساجد السبعة على الأرض
اشارة

و هي الجبهة و الكفّان و الركبتان و الإبهامان من الرجلين.

و هل إرغام الأنف واجب أيضا كما حكي عن بعض الأصحاب، أو مستحبّ كما ادّعى عدم الخلاف، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه، منشأ ذلك اختلاف الأخبار.

ففي صحيحة حمّاد: «و وضع الأنف على الأرض سنّة و هو الإرغام» «1».

و في صحيحة زرارة: «و ترغم بأنفك إرغاما، إلى أن قال: و أمّا الإرغام بالأنف فسنّة من النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله» «2».

و موثّقة عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام «قال: قال عليّ عليه السّلام: لا تجزي صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين» «3».

و مرسلة ابن المغيرة «قال: أخبرني من سمع أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: لا صلاة لمن لم يصب أنفه ما يصيب جبينه» «4».

و ظاهر هذين الخبرين هو الوجوب، و لا ينافيه إطلاق السنّة في الصحيحتين المتقدّمتين، لشيوع إطلاقها على الواجب الذي فرضه النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في مقابل فرض اللّٰه تعالى، كما ورد في القراءة و في الركعتين الأخيرتين من الرباعيّة و ثالثة المغرب، إلّا أنّها معارضة بخبر محمّد بن مصادف «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 241

إنّما السجود على الجبهة، و ليس على الأنف سجود» «1».

و حمله على إرادة نفي السجود و حمل ما تقدّم على إرادة كونه واجبا مستقلّا في السجود

خارجا عن عنوانه كوجوب كون المسجد ممّا يصحّ عليه السجود، حيث إنّه واجب شرطا في السجود و ليس بسجود فكذا هذا، يبعّده أمران:

الأوّل: صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

السجود على سبعة أعظم: الجبهة و اليدين و الركبتين و الإبهامين من الرجلين، و ترغم بأنفك إرغاما، أمّا الفرض فهذه السبعة، و أمّا الإرغام بالأنف فسنّة من النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله» «2».

فإنّ ظاهره حصر الفرق بين المواضع السبعة و الأنف في أنّها الفرض و هذه السنّة، فلو كان للإرغام عنوان مستقلّ غير السجود لكان الفرق في أمرين، أحدهما في ما ذكره عليه السّلام، و الثاني في أنّها السجود، و هذا غير سجود.

و الثاني: المناسبة العرفيّة الحاصلة بين الإرغام و المذلّة، فبضميمته يصير ذلّ السجود أكمل، و هو بخلاف الوضع على ما يصحّ السجود، فإنّه لا يفهم العرف مناسبته مع السجود و الخضوع.

و بالجملة، فإذا جعل الشارع الإرغام مشروعا فالمفهوم منه عرفا كونه تكميلا للسجود و ملحوظا فيه هذا العنوان، لا عنوان آخر أجنبيّ عنه، و إذن فيدور الأمر بين كونه سجودا مستحبّا أو سجودا واجبا، و حيث إنّ الثاني مخالف مع خبر ابن مصادف الناصّ في نفي الوجوب تعيّن الأوّل، و حينئذ فيحمل قوله: لا صلاة لمن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 242

لم يصب إلخ على نفي الكمال كما في كثير من أمثاله.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 242

و يشهد لما ذكرنا أنّ التعرّض لكون

السبعة فرض ذكرها اللّٰه في كتابه فقال:

وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ فَلٰا تَدْعُوا مَعَ اللّٰهِ أَحَداً «1» و كون الإرغام سنّة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله يبعد كونه بلا فائدة في مقام العمل منظورة ترتّبها، كما كان كذلك في عدد الركعات، حيث إنّ المقصود عدم قبول فرض اللّٰه للوهم و قبول فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله له، فلو كان في المقام مجرّد كون تلك فرضا من اللّٰه و هذا من النبيّ بدون اختلاف في أثر عملي أصلا كان بعيدا غايته.

فإن قلت: لعلّ الفائدة يحصل في مقام السهو، بمعنى أنّ السهو عن السجود على الجبهة مضرّ، لكونه فرض اللّٰه، و أمّا السهو عن الإرغام فلا بأس به.

قلت أوّلا: إنّ السهو الذي لا يغتفر في الأركان هو الترك الرأسي الحاصل بانتفاء الذات، و أمّا إذا تحقّق ذات الركن و انتفى قيد من قيوده المعتبر فيه شرعا فليس هذا داخلا في السهو عن الركن الغير المغتفر.

و ثانيا: سلّمنا أنّ ترك الركن يعمّ تركه بترك قيده، و لكن ليس هذا الأثر محلّ نظر في هذا الخبر، لأنّه ليس في مقام بيان حكم السهو، بل بصدد بيان حدّ السجود و أجزائه، فلا يناسب في هذا المقام ذكر الفرضيّة و السنّية بملاحظة ظهور في غير الأثر المقصود إثباته.

و الحاصل أنّ الظاهر كون المراد هنا بالفرضيّة الإيجابيّة، و بالسنّية الاستحبابيّة.

بقي الكلام في تحديد المواضع المذكورة و المقدار الواجب من السجود عليها.

______________________________

(1) الجنّ: 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 243

تحديد الجبهة

أمّا الجبهة فالظاهر أنّها مرادفة لما يقال له في الفارسيّة «پيشانى» و هو عبارة عن الموضع المسطّح الواقع فيما بين قصاص الشعر و الحاجب، فالطرفان المائلان إلى الصدغين من الحاجبين لا

يسمّى ما بينهما و بين القصاص بهذا الاسم، بل يسمّى جبينا على ما في كلماتهم في تفسير الجبين، و يدلّ عليه جعلهم الجبين معطوفا على الجبهة فيقولون: الجبهة و الجبينان.

و يدلّ على توسعة معنى الجبهة بمعنى كونه تمام مقدار المسطّح الواقع فوق الحاجبين لا خصوص المسامت منه للطرف الأعلى للأنف إلى الناصية كما توهمه بعض عبائر أهل اللغة قولهم: «أجبه» للرجل الواسع الجبهة، فإنّه لو كانت الجبهة عبارة عن الخطّ الموهوم الذي أحد طرفيه متّصل بالناصية و الآخر بطرفي الحاجبين المتّصلين بالطرف الأعلى من الأنف لم يفرض فيه توسعة.

و بالجملة، لا إشكال بحسب الظاهر في كلا الأمرين أعني: خروج الجبينين بالمعنى الذي ذكر عن حدّ الجبهة و كون تمام الداخل في الحدّ داخلا في مسمّاها بحسب العرف.

و أمّا بحسب الأخبار الواردة في المقام فلا بدّ أوّلا من التيمّن بذكرها، ثمّ النظر في أنّه هل يستفاد منها التخطئة في المفهوم العرفي أو لا؟

فنقول: منها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: سألته عن حدّ السجود؟

قال عليه السّلام: ما بين قصاص الشعر إلى موضع الحاجب ما وضعت منه أجزأك» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 244

و منها: الصحيح عن أحدهما عليهما السّلام «قال: قلت له: الرجل يسجد و عليه قلنسوة أو عمامة؟ فقال عليه السّلام: إذا مسّ جبهته الأرض فيما بين حاجبه و قصاص شعره فقد أجزأ عنه» «1».

و منها: الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: الجبهة كلّها ما بين قصاص شعر الرأس إلى الحاجبين موضع السجود، فأيّها سقط من ذلك إلى الأرض أجزأك مقدار الدرهم أو مقدار طرف الأنملة» «2».

و منها: خبر عمّار

الساباطي عن الصادق عليه السّلام «قال: ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد، فما أصاب الأرض منه أجزأك» «3».

و منها: خبر يزيد عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: الجبهة إلى الأنف أيّ ذلك أصبت به الأرض في السجود أجزأك، و السجود عليه كلّه أفضل» «4».

هذه جملة الأخبار التي عثرت عليها في هذا المقام، و قد عرفت أنّه وقع التعبير فيها تارة بما بين القصاص إلى موضع الحاجب، و اخرى بما بين الحاجب إلى القصاص، و ثالثة بما بين القصاص إلى الحاجبين، و رابعة بما بين القصاص إلى طرف الأنف.

و يجمع بينها بحملها على إرادة عدم لزوم الاستيعاب و عدم كونها بمقام تحديد حدّ الجبهة و إيكاله إلى الفهم العرفي، لوضوحه و عدم احتياجه إلى البيان، و إنّما

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب السجود، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 245

المحتاج إليه بيان أنّ اللازم استيعابها، أو كفاية مقدار المسمّى منها، فإذا فرضنا ورود الكلّ بصدد الثاني بعد الفراغ عن المسمّى العرفي، فكلّ ما يذكر في هذا المقام محمول على المثال.

فواحد يذكر ما بين القصاص و الحاجبين، و آخر ما بينه و بين طرف الأنف، و هما منطبقان ظاهرا على الخطّ المتّصل من طرفي الحاجبين إلى الناصية، أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلأنّه الظاهر من تثنية الحاجبين، فإنّ الظاهر منه عرفا إرادة البينيّة للقصاص و مجموع الحاجبين لا أحدهما، و هو منحصر في ما بين القصاص و طرف الأنف، لكن

حيث إنّ المقصود بذكر ذلك المثاليّة للجبهة العرفيّة في مقام عدم لزوم الاستيعاب لا يفهم منه التقييد.

و يؤيّد هذا الاحتمال اشتمال كلّ الأخبار المذكورة على لفظ الأجزاء المستعمل في هذا المقام، أعني مقام توهّم لزوم الزيادة و الاستيعاب.

و حاصل ما ذكرنا أنّ محلّ ابتلاء السائلين حيث كان السؤال عن الطول بواسطة سقوط مقدار من العمامة و الچفية العربيّة و تغطيته مقدارا من فوق الجبهة فصار ذلك سببا لبيان الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم أنّ ذلك لا يضرّ بموضع السجود بواسطة توسعته و امتداده إلى طرف الأنف، فكلّما سقط من ذلك شي ء يبقى من موضع السجود، إذ الغالب عدم تغطية أمثال ما ذكر لتمام الجبهة حتّى طرف الأنف منها، فهذا سرّ كونهم عليهم السّلام بصدد بيان التوسعة الطوليّة و عدم التعرّض للعرض.

هذا بالنسبة إلى خبري التحديد بطرف الأنف أو بالأنف.

و أمّا موضع الحاجب و الحاجبين فيمكن إرجاعهما أيضا إلى هذا المعنى، فيراد من موضع الحاجب النقطة المسامتة للحاجبين الخالية عن الشعر، و هو ما بينهما، و يراد من الحاجبين أيضا ما فوق الأنف، إذ هو مجمع طرفيهما، فجميع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 246

الأخبار على هذا بمضمون واحد بلا اختلاف بينها.

فلا يرد على إطلاق قوله عليه السّلام: ما بين قصاص الشعر إلى موضع الحاجب إلخ أنّه صادق حتّى بالنسبة إلى الطرفين المنحدبين من الحاجب إلى سمت الصدغين، مع كونه خارجا عن الجبهة، حتّى نحتاج في إخراجه إلى التمسّك بالإجماع، فجميع الأخبار بصدد تحديد السجود من حيث الطول.

و يؤيّد ذلك أنّه لم يرد في شي ء منها السؤال عن تحديد الجبهة و لا ورد خبر ابتداء في هذا المعنى، و ليس إلّا لكونه أمرا واضحا غير محتاج إلى

السؤال، فالسؤال إنّما هو عن حدّ السجود، و المسئول عنه في هذه الجهة أيضا هو حدّه بحسب الطول، لأنّه مورد الابتلاء كما ذكرنا فذكر ما بين القصاص إلى الأنف إنّما هو على سبيل المثال لا التحديد.

و إذن فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاقات الجاعلة لمطلق الجبهة من المساجد السبعة المقتضية لكفاية كلّ ما يصدق عليه ذلك الاسم.

هذا هو الكلام في مقام التحديد.

المقدار الواجب من السجود هو المسمّى عرفا لا مقدار الدرهم

و أمّا بيان أنّ اللازم هل الاستيعاب، أو مقدار خاصّ، أو يدور الأمر مدار صدق المسمّى عرفا؟

الظاهر الثالث، أخذا بالإطلاقات مع عدم ما يصلح للتقييد، بل صراحة جملة من الأخبار بعدم لزوم الاستيعاب و أنّ السجود على الكلّ أفضل، فلا إشكال في عدم لزوم الاستيعاب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 247

و أمّا احتمال لزوم مقدار خاصّ كمقدار الدرهم كما ينسب إلى بعض نظرا إلى التصريح به في الصحيحة المتقدّمة، ففيه مضافا إلى التصريح بطرف الأنملة و هو أقلّ منه أنّ المتبادر من أمثال هذا التعبير عرفا عدم فهم التحديد، بل بيان عدم التحديد و أنّه يكفي أيّا ما كان، كما صرّحت به سائر الأخبار، فهذا الخبر أيضا مؤيّد لما فيها.

ألا ترى أنّك تقول في مقام عدم التحديد لماء الغسل للنجاسة: إنّه يكفي بمقدار الذرّة، و ليس المراد خصوص الذرّة، و من هذا القبيل أيضا ما ورد في غسل البول عن القضيب من أنّه يكفي مثلا ما على الحشفة، فليس المقصود خصوص هذا المقدار، بل الإشارة إلى عدم التحديد.

ثمّ لو فرض الشكّ فلا أقلّ من الإجمال، فيبقى سائر الإطلاقات محكّما سالما عن التقييد، هذا تمام الكلام في الجبهة.

تحديد الكفّ

و أمّا الكفّان فقد ورد التعبير عنهما باليدين في بعض الأخبار، و بالكفّين في آخر، و الظاهر اتّحاد المراد بهما، بمعنى أنّ استعمال اليد في أمثال المقام لا ينسبق منه إلى الذهن إلّا مقدار الكفّ لا فوقه.

ألا ترى أنّه لو قال أحد: ضربت بيدي، لا يفهم منه إلّا الضرب بالكفّ دون المرفق و الساعد و الذراع، فكذا إذا قيل: اسجد على يديك لا يفهم منه عرفا إلّا الكفّان.

ثمّ على فرض الإطلاق يكون ما وقع فيه التعبير بالكفّين شاهدا

على التقييد، و حينئذ هل المراد بالكفّين خصوص ما فوق الأشاجع و هو ما يعبّر عنه بالراحة، أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 248

الأعمّ منه و من الأصابع؟ الظاهر من إطلاقه العرفي هو الثاني، فإنّ الظاهر امتداده عرفا من الزند إلى رءوس الأصابع، لا انتهائه بالأشاجع، و على فرض الشكّ يكفي إطلاق اليد في التعميم للراحة و الأصابع، هذا.

و لكن في الخبر المرويّ عن العيّاشي في تفسيره عن مولانا أبي جعفر الجواد عليه السّلام أنّه سأله المعتصم عن السارق من أيّ موضع يجب أن يقطع؟ «فقال عليه السّلام: إنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ، قال: و ما الحجّة في ذلك؟ قال عليه السّلام: قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: السجود على سبعة أعضاء، الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرافق لم يبق له يد يسجد عليها و قال اللّٰه تبارك و تعالى أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ يعني بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، فلا تدعوا مع اللّٰه أحدا، و ما كان للّٰه لا يقطع» «1».

و ظاهره أنّ وصف المسجديّة ثابت للكفّ بمعنى ما فوق الأشاجع دون ما دونه، و لهذا يقطع من الأشاجع، لأنّه ليس من اللّٰه تعالى، و أمّا ما فوقه فهو من اللّٰه تعالى، و ما كان من اللّٰه فلا يقطع.

و على هذا فلو كان السند في درجة الاعتبار فبحسب الدلالة لا عيب فيه، فيصلح لتقييد المطلقات، لكنّ العمدة عدم الركون من حيث السند خصوصا مع إعراض الأصحاب عنه.

و يمكن أن يقال: إنّ الرواية ذات وجهين:

الأوّل: ما ذكره و عليه يتعيّن تقييد المطلقات لو فرض عدم ضعف السند، و

الثاني: ما يلائم المطلقات، و هو أن يكون المراد أنّ هذا السطح قد اجتمع فيه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحدود و التعزيرات، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 249

حقّان، حقّ للّٰه و حقّ للنّاس، فحقّ الناس يمكن استيفائه بقطع الأصابع و بقطع مفصل الزند، و لكنّ الثاني يوجب فوات موضوع حقّ اللّٰه و كون الشخص بلا مسجد رأسا، فبملاحظة الجمع بين الحقّين وجب أن يقطع من مفصل الأصابع حتّى يبقى الكفّ للمسجديّة.

و أمّا في قطع الرجل اليسرى الواجب في المرّة الثانية فقد تجاوز اللّٰه سبحانه عن حقّه، فلهذا أوجب القطع من وسط القدم، فيبقى بلا مسجد.

و الحاصل أنّ هذا المعنى محتمل في الرواية إمّا مساويا للاحتمال الأوّل، و إمّا مع ظهور الأوّل في الجملة، و على الأوّل فاللازم الإجمال، و لا يسري من المنفصل إلى المنفصل، و على الثاني يبعد تقييد المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان بهذا الخبر مع هذا الظهور القابل للإنكار.

بقي الكلام في مقدار ما يجب وضعه هل هو تمام الكفّ بنحو الاستيعاب، أو يكفي و لو رءوس الأصابع، أو أصل الزند؟ يمكن أن يقال: إنّ المنساق إلى الذهن من إطلاق: ضع كفّك على الأرض بمناسبة الحكم و الموضوع هو وقوع الكفّ بمعنى الراحة، بمعنى أنّه المتعارف في مقام اعتماد البدن، فلا يعتمدون على رءوس الأصابع، بل و لا على مجموع الأصابع مبسوطة، بل و لا عليها مضمومة إلى الكفّ.

ألا ترى أنّ الساقط من الشاهق بحسب طبعه يضع يده مفروشة لا مضمومة، فإنّ أسهل الأنحاء و أقربها إلى الاستراحة و البعد عن الأذى هو افتراش الكفّ بواسطة استحكامه، دون الأصابع، فهذا الأمر الطبعي و المناسبة الطبعيّة

ربما يوجب انصراف هذا المعنى إلى الذهن من نحو وضع يده، أو ضع يدك على الأرض.

و من هنا لا يبعد القول بالاكتفاء بوضع الراحة في السجود و لو كانت أصابعه غير ملاصقة إلى الأرض.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 250

و هل يجب تمام الراحة أو المقدار المعتدّ به منها؟ لا يبعد الثاني الذي يصلح في مقام استراحة البدن وضع ثقل البدن عليه بحيث لا يخرج عن المتعارف في مقام الوضع على الأرض، هذا، و لكن لا يخفى أنّ مقتضى الاحتياط رعاية وضع المجموع حتّى الأصابع.

و قد يقال بكفاية مسمّى السجود على الكفّين أيضا كالجبهة، فلا يعتبر فيهما أيضا الاستيعاب، و يحكى ذلك عن المشهور، بل عن الفوائد المليّة و المقاصد العليّة دعوى الإجماع، و في الحدائق نسبته إلى ظاهر كلام الأصحاب إلّا العلّامة، حيث إنّه مع تصريحه في أكثر كتبه بهذا الحكم تردّد في المنتهى فقال: هل يجب استيعاب جميع الكفّ بالسجود؟ عندي فيه تردّد، و الحمل على الجبهة يحتاج إلى دليل، لورود النصّ في خصوص الجبهة، فالتعدّي بالاجتزاء بالبعض يحتاج إلى دليل، انتهى.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه على رءوس العباد: نظر المشهور إلى إطلاق اليد و الكفّ و أنّ صدق الاسم غير منوط بالاستيعاب، فيكون الحكم في الجبهة أيضا على طبق القاعدة و لو لم يرد نصّ بكفاية مقدار الدرهم أو طرف الأنملة، و نظر العلّامة إلى أنّ الاسم و إن كان صادقا على البعض فيقال: الجبهة على بعضها و الكفّ على بعضه، إلّا أنّه خلاف المنصرف عند إضافة بعض الأفعال إليه.

ألا ترى أنّ الكفّ الخضيب لا يطلق بمجرّد خضاب رءوس الأصابع أو بعض من الراحة، بل يتوقّف على خضاب جميع ما دون الزند

ظهرا و بطنا، و كذا الحال في إضافة الوضع على الأرض إلى الجبهة و الكفّ، غاية الأمر أنّ وضع الظهر لا يكتفى به هنا، لعدم التعارف.

و أمّا البطن فيجب فيه الاستيعاب بمقتضى القاعدة إلى أن يظهر الخلاف، و قد ظهر في الجبهة لوجود النصّ، و لم يظهر هنا، و القياس ممنوع، هذا ما يمكن أن يقال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 251

من الاستدلال للطرفين.

و لكن للنظر في كليهما مجال، أمّا الأوّل، فلأنّ إطلاق اسم اليد على أبعاضه و إن كان مسلّما، لكن بواسطة خصوصيّة المقام يمكن انقلاب الظهور و تحقّق الانصراف إلى بعض مخصوص.

ألا ترى أنّ اليد مع صدقه على جميع ما دون الكتف إلى رءوس الأصابع لو قيل: اغسل يدك بعد الغذاء، لا يفهم منه غسل المرفق، بل المفهوم غسل مجموع ما دون الزند حتّى الظهر، و كذا في الأمر بخضاب اليد، و لو قيل: اضرب فلانا بيدك، كان المتبادر بواسطة التعارف المقامي خصوص الضرب بالباطن من ما دون الزند دون الظهر و دون ما فوقه.

و من هذا القبيل ما نحن فيه، فإذا قيل: ضع يديك على الأرض فالمتعارف في مقام إلقاء ثقل البدن على اليدين ليس هو الإلقاء على المرفق أو ما فوقه، بل يختصّ بما دون الزند، و ليس أيضا الإلقاء على ظهر الكفّ، بل على البطن و لا على المسمّى و لا على الأصابع فقط، و لا على الراحة فقط، بل على المجموع من الراحة و الأصابع.

و أمّا الثاني، فلأنّ هذا المعنى لا ينطبق على الاستيعاب الذي احتمله العلّامة قدّس سرّه، فإنّ الظاهر أنّه أراد الاستيعاب الذي يضرّ به رفع بعض من إصبع واحدة أيضا، فضلا عن الزائد عنه، نعم

لم يرد الاستيعاب الحقيقي المستلزم لوصول جميع الخلل و الفرج الواقعة بين الأصابع أو الراحة، لكونه مقطوع العدم، فالمقصود هو الاستيعاب العرفي في مقابل هذا المعنى، و أمّا إذا رفع إصبعا واحدة فليس داخلا في الاستيعاب و لو بالمسامحة العرفيّة.

و الذي نحن نقول هو المعنى الذي يكون متوسّطا بين ما ذكره المشهور و الاستيعاب الذي احتمله العلّامة، فإنّه لا ينافي ما ذكرنا رفع إصبع واحدة، فإنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 252

غير خارج عن المتعارف في مقام إلقاء الثقل.

لا يقال: لعلّ نظر المشهور ليس إلى الإطلاق حتّى يرد عليه ما ذكرت من المناسبة المقاميّة الدالّة على التقييد، بل نظرهم إلى ما يستفاد من أخبار الجبهة، حيث جعل التوسعة فيها متفرّعة على مسجديّة كلّها، حيث قال عليه السّلام: الجبهة كلّها موضع السجود، فأيّما سقط من ذلك إلى الأرض إلخ، فيعلم من ذلك أنّه كلّما كان وصف المسجديّة ثابتا لمجموع ذي أبعاض يصحّ الاكتفاء ببعض أبعاضه.

لأنّا نقول: ليس مفاد قوله عليه السّلام: الجبهة كلّها موضع السجود، أنّ هذه القطعة من حيث المجموع كذلك، بل المراد أنّ كلّ جزء جزء منها كذلك، و بعبارة أخرى:

ليس المراد الكلّ المجموعي، بل الاستغراقي، فيكون حكما خاصّا بمورده، و لا يتعدّى عنه إلى غيره.

لا يقال: يمكن الاستدلال على عدم الاستيعاب بالخبر المرويّ في تفسير العيّاشي عن مولانا الجواد عليه السّلام حيث علّل وجوب كون القطع من مفصل الأصابع، لا من مفصل الزند أو المرفق بقوله عليه السّلام: «فإذا قطعت اليدين دون المرفق لم يبق له يد يسجد عليها» «1». و مفاده أنّه مع القطع من مفصل الأصابع يبقى له يد يسجد عليها، و لا يكون ذلك إلّا مع عدم الاستيعاب و

كفاية الراحة فقط بدون ضمّ الأصابع.

لأنّا نقول: قد ذكرنا سابقا أنّه من باب الجمع بين الحقّين و العدل و القسط كما في درهم الودعي حيث يحكم بالتنصيف لأجل الجمع بين الحقّين، فكذا ها هنا ينصّف الكفّ الذي بتمامه مورد حقّ اللّٰه تعالى بقطع نصفه لحقّ الناس و إبقاء نصفه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحدود و التعزيرات، الباب 4 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 253

الآخر لرعاية حقّ اللّٰه تعالى، و بالجملة، لا دلالة في الرواية على أزيد من هذا المعنى، و هو غير شاهد على عدم الاستيعاب.

و أمّا الركبتان فلا حاجة لنا في فهم مفهومهما إلى الرجوع إلى اللغويّين، إذ نقطع بأنّ ما نقوله بالفارسيّة (زانو) يقول له العرب: الركبة، و الظاهر أنّه ليس خصوص العظم النابت، بل هو و أطرافه جميعا مسمّى بالركبة، و كما أنّ هذا مفهوم الركبة، كذلك عندنا بالفارسيّة وضع الركبة و طرحها على الأرض، فيقال له:

(زانو زمين انداختن) و هو مفهوم مبيّن، فلا حاجة إلى الفحص عن أهل اللغة من هذا الحيث أيضا، فإنّا نعلم أنّه لا يعتبر فيه الاستيعاب، بل لعلّه من المتعذّر أو المعسّر، بل يكفي إيصال الزاوية السفلى منها إلى الأرض.

و أمّا الإبهامان فهما أيضا بحسب المفهوم مبيّنان لا إجمال فيهما، فإنّهما عبارتان عن تمام الإصبعين ظهرا و بطنا و طرفا، كما أنّ السجود عليهما أيضا له أنحاء ثلاثة، فتارة بوضع الظهر، و اخرى بوضع البطن، و ثالثة بوضع الطرف، و مقتضى الإطلاق كفاية الكلّ، لعدم ورود ما يصلح للتقييد، و ما ورد في تعليم مولانا الصادق عليه السّلام لحمّاد من أنّه عليه السّلام سجد على أنامل إبهامي الرجلين، قاصر عن إفادة الوجوب

كما لا يخفى، و ليس هنا مرسوم متعارف حتّى يوجب صرف الإطلاق إليه، و على فرض الشكّ فالمرجع البراءة.

و منها: أن ينحني للسجود حتّى يساوي موضع جبهة موقفه، إلّا أن يكون علوّا يسيرا بمقدار لبنة لا أزيد، و المستند في هذا الحكم ما رواه عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن السجود على الأرض المرتفع؟ فقال عليه السّلام: إذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن موضع بدنك قدر لبنة فلا بأس» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 254

و قد يناقش في سندها بوجود النهدي، و هو مشترك بين جماعة، منهم من لم يثبت توثيقه، لكن فيه أنّ الظاهر أنّ الموجود في هذا السند هو الهيثم بن أبي مسروق، بقرينة رواية محمّد بن عليّ بن محبوب عنه، و الهيثم المذكور ممدوح في الرجال و يروي عنه جماعة من الأجلّاء كمحمّد بن الحسن الصفّار و سعد بن عبد اللّٰه و محمّد بن أحمد بن يحيى، فالخدشة من جهة السند لا محلّ لها.

و قدّر العلماء رضوان اللّٰه عليهم اللبنة بمقدار أربع أصابع مضمومة، و الظاهر أنّه بحسب المتعارف في ذلك الزمان كما يشاهد في الأبنية القديمة، و أمّا أنّ لفظة «بدنك» بالباء الموحّدة و النون، أو باليائين التحتانيين فالظاهر هو الأوّل و أنّ الثاني من قلم النسّاخ، و الشاهد عليه أمارات:

منها: مرسلة الكليني قال رحمه اللّٰه: و في حديث آخر في السجود على الأرض المرتفعة قال: إذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن رجليك قدر لبنة فلا بأس «1»، فإنّ الظاهر أنّه إشارة إلى هذه الرواية.

و منها: أنّ الظاهر كون المقصود تعيين مقدار الانحناء

اللازم في السجود، و لا يخفى أنّه بعد مساواة مواضع الجبهة و الركبتين و الإبهامين لا يتفاوت الحال بين انخفاض موضع اليدين أو ارتفاعهما أو مساواتهما، فإنّه لا يختلف مقدار الانحناء في جميع هذه الصور.

و منها: أنّ السؤال إنّما هو عن السجود على الأرض المرتفعة، لا النقطة المرتفعة في الأرض المستوية، و لا يخفى أنّه بحسب الغالب إذا كانت الأرض في موضع الجبهة مرتفعة، فكذلك تكون مرتفعة بالنسبة إلى موضع اليدين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب السجود، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 255

إذا عرفت ذلك فنقول: لا إشكال في دلالة الرواية بحسب مفهوم الشرط و بحسب مقام التحديد كليهما في المنع عن الأزيد من مقدار اللبنة، و قد يقال: إنّ الاستدلال بحسب مقام التحديد فقط لا بمفهوم الشرط، لأنّ الشرطيّة مسوقة لتحقّق الموضوع، و لكن الحقّ أنّه بحسب كليهما تامّ.

أمّا التحديد فواضح، و أمّا مفهوم الشرط فلأنّ المفهوم من الشرط في أمثال المقام أنّه إذا لم يكن أزيد من مقدار لبنة فلا بأس، فالمفهوم أنّه إذا كان أزيد منه ففيه بأس، و إذن فالرواية وافية سندا و دلالة بإثبات الحكم المذكور.

إلّا أنّها معارضة بصحيحة عبد اللّٰه بن سنان «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن موضع جبهة الساجد أ يكون أرفع من مقامه؟ فقال عليه السّلام: لا، و لكن ليكن مستويا» «1».

و قد يقال في مقام الجمع بحمل الثانية على الاستواء العرفي الغير المضرّ في صدقه العلوّ اليسير و لو بمقدار اللبنة، فالمراد بالنفي أيضا نفي العلوّ في مقابل هذا الاستواء، و هو منحصر في ما زاد عن مقدار اللبنة.

و فيه أنّ الارتفاع التسنيمي و لو سلّمنا أنّه بمقدار اللبنة

لا يراه العرف ارتفاعا، و لكن لا شبهة في أنّ الارتفاع التسريحي و لو بمقدار اللبنة أيضا محسوب من الارتفاع، و قد فرض السائل أيضا الارتفاع، و أجاب الإمام عليه السّلام بنفيه على الإطلاق و إثبات الاستواء، و هو دالّ بظاهره على نفي العلوّ بمقدار اللبنة أيضا، فينافي الخبر الأوّل.

و لكنّ الجمع ممكن بحمل الثاني على الاستحباب، و يشهد له أيضا رواية

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 256

أبي بصير «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يرفع موضع جبهته في المسجد، فقال عليه السّلام: إنّي أحبّ أن أضع وجهي في موضع قدمي و كرهه» «1» هذا.

بقي الكلام في متن الرواية الاولى من حيث إنّ المراد بموضع البدن الذي اعتبر عدم علوّ موضع الجبهة عنه بأزيد من لبنة ما هو، و كيف يمكن تطبيقه على فتوى الفقهاء حيث عبّروا مكانه بالموقف، فاعتبروا عدم العلوّ الزائد عن مقدار اللبنة بين موضع الجبهة و الموقف، فإنّ الموقف عبارة عن محلّ استقرار البدن في حال القيام، و هو موضع القدمين.

و لكن قرينة المقام تشهد بعدم إرادة هذا المعنى في الرواية، بل المراد إمّا موضع استقرار البدن حال السجود و هو موضع الإبهامين و الركبتين و الكفّين، فيلزم اعتبار الاستواء و عدم العلوّ بالمقدار المذكور بين جميع المساجد السبعة، و هو خلاف ما قالوه.

و إمّا موضع استقراره حال الجلوس، فيلزم اعتبار المساواة في موضع الركبتين و الإبهامين مع موضع الجبهة، و هو أيضا خلاف ما قالوه من اختصاص ذلك بموضع القدم مع موضع الجبهة و إن كان موضع اليدين و الركبتين عاليا أو سافلا.

و يمكن أن يقال:

إنّ الظاهر كون المقصود من هذا التحديد تحديد الانحناء السجودي، و من المقطوع عدم المدخليّة في ازدياد الانحناء أو قلّته، لعلوّ موضع الركبتين أو اليدين أو انخفاضهما، بل المعيار كلّه هو موضعا الجبهة و القدمين، فمتى كانا متساويين حصل المرتبة الخاصّة من الانحناء، و متى كانا مختلفين اختلف

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 257

الانحناء كثرة و قلّة، فبهذه المناسبة المقاميّة يقال: إنّ المراد بموضع البدن موضع القدمين.

و منه يعلم أنّ العبرة بموضعهما حال السجود، لا حال القيام، فلو كان واقفا حال القيام على موضع منخفض، و في حال السجود انتقل إلى الموضع المتساوي مع موضع الجبهة صحّت صلاته.

لا يقال: لو أدخل مشط قدمه الذي هو أزيد من لبنة في مكان منخفض لم يتفاوت في مقدار انحنائه بعد كون محلّ الركبتين، بل و أصل القدمين مساويا مع محلّ الجبهة.

لأنّا نقول: هذا النزاع موضوعي، إذ بعد ما فهمنا أنّ المناط تحديد الانحناء نعلم أنّ كلّ ما له مدخل في ذلك يجب، و كلّ ما لا دخل له فغير واجب، و النزاع الموضوعي و أنّ الدخيل تساوي الركبتين مع الجبهة أو أصل القدمين معها أو الإبهامين معها خارج عن عهدة المقام، مع أنّ الظاهر كون الدخل لموضع الإبهامين، إذ لارتفاع المشطين مدخل في ارتفاع العجز الموجب لازدياد الانحناء و لو فرض انخفاض محلّ الركبتين، كما أنّ لانحطاطهما مدخلا في انحطاطه الموجب لقلّة الانحناء و لو فرض مساواة الركبتين بل و أصل القدم مع الجبهة.

فرع- لو وضع جبهته على موضع مرتفع بأزيد من لبنة:
اشارة

لو وضع جبهته على موضع مرتفع بأزيد من لبنة فهل يجب عليه الجرّ، أو جاز له الرفع، و هكذا الكلام لو وضعها على

النجس أو على ما لا يصحّ السجود عليه، لكونه خارجا من أجزاء الأرض و نباتها.

و التكلّم تارة على حسب ما يقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن النصّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 258

الخاصّ، و اخرى في ما يقال بملاحظته.

أمّا مقتضى القاعدة

فاعلم أنّ مقتضاها التفصيل بين ما إذا كان ما فقد من القيود المقدّمة لحقيقة السجدة عرفا أو شرعا بحيث لا يتحقّق تلك الحقيقة بغير ذلك القيد، و بين ما إذا لم يكن كذلك بل معتبرا في حال السجدة و خارجا عن حقيقتها و زائدا عليها دخيلا في الصلاة شطرا أو شرطا.

فإن كان من قبيل الأوّل و المفروض انتفائه في الوضع الأوّل، فلا يلزم من رفع الرأس زيادة سجدة، لما هو الفرض من تقوّم حقيقة السجدة بذلك الأمر المفقود، و لا إشكال في هذا.

إنّما الكلام في أنّه هل يجوز الجرّ في هذه الصورة، أو يتعيّن الرفع؟

الظاهر الأوّل، لعدم موجب للثاني سوى تخيّل اعتبار كون الوضع من أوّل وجوده معنونا بعنوان السجدة، و في هذا المقام تحقّق أوّلا غير معنون، ثمّ يجعل معنونا، لكنّه ممّا لا دليل على اعتباره، و إنّما اللازم إيجاد هذا العنوان، سواء كان بإيجاد الذات و الوصف العنواني دفعة، أم بإيجاد الذات أوّلا و توصيفها بالوصف ثانيا.

و إن كان من قبيل الثاني فاللازم هو الجرّ، و لا يجوز الرفع، لاستلزامه زيادة السجدة، لفرض تحقّقها بالوضع الأوّل، و الخطأ إنّما تعلّق بأمر آخر زائد على حقيقتها و إن كان شرطا أو شطرا في الصلاة حالها، و متى شكّ في القيد أنّه من أيّ القسمين فلا إشكال في جواز الجرّ، لأنّه المتيقّن على كلّ تقدير، كما أنّ مقتضى أصالة البراءة جواز الرفع أيضا، هذا بحسب القاعدة.

و أمّا الأخبار فهي مختصّة بما إذا وضع الجبهة على الموضع المرتفع، و أمّا ما إذا وضع على النجس، أو على ما ليس بأرض و لا نباتها فخال عن النصّ الخاصّ، و في الفرض الأوّل اختلفت النصوص.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 259

ففي بعضها الأمر بالرفع، و هو خبر الحسين بن

حمّاد «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أسجد فيقع جبهتي على الموضع المرتفع؟ فقال عليه السّلام: ارفع رأسك ثمّ ضعه» «1».

و في آخر النهي عن الرفع و الأمر بالجرّ، و هو صحيحة معاوية بن عمّار «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إذا وضعت جبهتك على نبكة فلا ترفعها، و لكن جرّها» «2». و النبكة بالنون و الباء الموحّدة المفتوحتين واحدة النبك و هي أكمة محدّدة الرأس، و قيل: النباك التلال الصغار.

و رواية أخرى للحسين بن حمّاد أيضا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له عليه السّلام: أضع وجهي على حجر أو على موضع مرتفع، أحوّل وجهي إلى مكان مستو؟ فقال عليه السّلام: نعم جرّ وجهك على الأرض من غير أن ترفعه» «3».

و الأحسن أن يقال في مقام الجمع بحمل الأمر بالرفع على كونه لمجرّد الرخصة، لكونه واردا عقيب توهّم الحظر، و الأمر بالجرّ على الاستحباب و الأفضليّة، فالأمران كلاهما جائز، إلّا أنّ الأفضل منهما اختيار الجرّ، و هذا هو المفتي به عند الأصحاب من غير خلاف يعرف على ما نسبه الحدائق إليهم رضوان اللّٰه عليهم، خلافا لصاحب المدارك قدّس سرّه حيث اختار وجوب الجرّ أخذا بظاهر خبر معاوية ابن عمّار، لصحّته، و طرحا لخبر الحسين، لضعفه، و لكنّه بعد المجبوريّة بالعمل لا وجه له.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 260

و أمّا في صورة الوضع على النجس أو على ما ليس بأرض و لا نبات

فاختار فيها صاحب الحدائق أيضا جواز الرفع، نظرا إلى بطلان الوضع الأوّل و عدم صيرورتها امتثالا للأمر بالسجدة، فلا يقع الثاني

تكرارا للسجود المأمور به، و لكنّه خلاف ما ينسب إلى الأصحاب من الفتوى بوجوب الجرّ.

و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة أنّه لو أحرز أنّ الفائت قيد للسجود الصلاتي و أنّ ما وقع ليس امتثالا له جاز الرفع، لعدم كون الثاني تكرارا للسجود الصلاتي، و إن أحرز أنّ الفائت اعتبر قيدا للصلاة، غاية الأمر محلّه السجود وجب الجرّ إن أمكن لتحصيله، و أمّا الرفع فهو مستلزم للزيادة العمديّة للسجود.

و حينئذ فإن أمكن الجرّ وجب، و إلّا بنى على اغتفار السهو عن ذلك الفائت و أنّ دليل الاغتفار يشمل الشرائط، أو يخصّ الأجزاء، فعلى الأوّل يحكم بالصحّة فينتصب جالسا، و على الثاني يحكم ببطلان الصلاة، هذا مع إحراز أحد الطرفين.

و أمّا لو شكّ في مورد بعد القطع بوجوبه في السجود في أنّه هل اعتبر قيدا في السجود أو في الصلاة في هذا المحلّ، فلا إشكال في جواز الجرّ، للقطع بالصحّة معه على كلّ تقدير، و إنّما الإشكال في الرفع.

فقد يقال بجوازه أيضا، لأنّا نقطع بامتثال تكليف السجود، سواء كان مطلقا أم مقيّدا، إذ لو كان مطلقا فقد امتثلناه بالمرّة الاولى، و إن كان مقيّدا فقد امتثلناه بالثانية، و كذلك نقطع بتحصيل ذلك القيد الواجب، نعم يحتمل حصول الزيادة بهذه المرّة الثانية، و هو أيضا مدفوع بأصالة عدم تحقّق الزيادة، فحال صورة الشكّ حال صورة إحراز الدخالة في السجود.

و لكنّ الحقّ أن يقال بلزوم الاحتياط بالاقتصاد على الجرّ، لأنّ المقام من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 261

موارد الشكّ في مقام الامتثال بعد القطع بثبوت التكليف، و معلوم أنّه مجرى الاشتغال، فإنّا نعلم بأنّا مكلّفون بوضع الجبهة على الطاهر مثلا في ضمن السجود الصلاتي، و نشكّ في أنّ

السجود الصلاتي هل اعتبر صرف الوجود بلا قيد حتّى يكون حاصلا بالمرّة الاولى، و على هذا التقدير يكون الوضع على الطاهر في المرّة الثانية وضعا حاصلا في غير السجود، و قد كان الواجب إيجاده في ضمنه، أو اعتبر مقيّدا بقيد طهارة المحلّ حتّى يكون غير حاصل بالمرّة الاولى و حاصلا بالثانية، و على هذا التقدير يكون وضع الجبهة في المرّة الثانية امتثالا للتكليف المعلوم، لأنّه وضع حاصل في ضمن السجود.

فنحن إذا تردّدنا بين هذين الاحتمالين فكيف يصحّ لنا القناعة بمثله في مقام امتثال ما علمناه من التكليف بإيجاد الوضع على الطاهر في ضمن السجود؟ فإنّا عالمون بهذه الجهة، غاية الأمر الشكّ في أنّه اعتبر قيدا للسجود أو للصلاة، و أمّا أنّ المعتبر كون محلّه السجود الصلاتي فغير مشكوك، و هذا المعنى غير محرز مع الرفع و محرز مع الجرّ كما هو واضح.

و يمكن أن نختار طريق آخر لوجوب الجرّ و عدم جواز الرفع في صورة الشكّ و هو أن نتمسّك بإطلاق دليل جزئيّة السجود للصلاة، فإنّا إذا شككنا في أنّ هذا الدليل هل قيّد بطهارة المحلّ مثلا بأن يكون جزئيّة السجود مقيّدة بهذا القيد أو لا، صحّ لنا رفع هذا الشكّ بإطلاق دليل الجزئيّة و أنّ ذلك الأمر واجب مستقلّ في الصلاة كالحمد و السورة لا ربط له بهذا الجزء، غاية الأمر أخذ فيه كونه مأتيّا في حال السجود، فيستكشف بذلك أنّه قيد للصلاة، و قد عرفت أنّه مع إحراز عدم الدخالة في السجود يجب الجرّ.

لا يقال: هذا الإطلاق معارض بإطلاق دليل الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 262

لأنّا نقول: دليل الصلاة أوّلا نقطع بتقييده، لأنّ قيد القيد قيد، و ثانيا:

لا إطلاق له، سواء قلنا

بالوضع للصحيح أم للأعمّ، إذ لا تظهر الثمرة بينهما في الأصل اللفظي، و إنّما تظهر في العقلي، فإنّه على الأوّل هو الاشتغال على الأصحّ، و على الثاني هو البراءة على ما هو التحقيق في الأقلّ و الأكثر.

و وجه عدم الأصل اللفظي عدم ورود أدلّة الصلاة إلّا في مقام الإهمال كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هذا بالنسبة إلى غير علوّ المسجد بأزيد من المقدار المغتفر.

و أمّا العلوّ المذكور فيمكن القول فيه بالدخالة في تحديد حقيقة السجود شرعا، و بعبارة أخرى كونه داخلا في مفهومه شرعا، لا معتبرا في كونه مأمورا به.

بيان ذلك أن يقال: إنّ الانتهاء إلى حدّ معتبر في مفهوم السجود عرفا كما قوّاه بعض في الركوع و قد تقدّم في بحثه، و هذا الحدّ كما يتحقّق عند العرف بمقدار اللبنة، كذلك بأزيد منه، و أمّا الشارع فلم يعتبر بالأزيد فالسجود عند الشارع عبارة عن الانحناء المنتهي بهذا الحدّ، فالمنتهي بما فوقه سجود عرفا، و ليس بسجود شرعا، نظير تحديد السفر شرعا بثمانية فراسخ، بحيث لو نقص منها و لو يسيرا و لو قدر شعيرة لم يتحقّق عنوان السفر الشرعي و إن كان سفرا عند العرف.

فالشارع تصرّف في العنوان، لا أنّه أضاف إليه قيدا في مرحلة الأمر و الطلب، فيكون جواز الرفع في العلوّ الأزيد من اللبنة على حسب القاعدة.

و من هنا ينقّح مطلب آخر و هو أنّ المستثنى في لا تعاد هو نفس السجود و الركوع، أعني نفس الانحناءين المنتهيين إلى الغايتين الشرعيّتين، فإنّهما السجود و الركوع عند الشارع، و ليس مجموع ما اعتبر في طلبهما و الأمر بهما بجعل الألف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 263

و اللام فيهما للعهد، فإنّه خلاف الظاهر، بل

الظاهر نفسهما دون شرائطهما، فلو فرض تحقّق السجود ذاتا و السهو عن بعض الأمور المعتبرة فيه كوضع سائر المواضع غير الجبهة كان داخلا في المستثنى منه، و ليس ذلك المسهى بركن حتّى يوجب البطلان، بل الركن نفس هذا المحدود الخاصّ، و هو الذي يوجب البطلان نقصه و زيادته و لو سهوا.

و يتفرّع عليه أنّا و لو فرض علمنا بدخالة تلك الأمور الأخر غير عدم العلوّ الأزيد من اللبنة في السجود لا في الصلاة صحّ القول بعدم جواز الرفع لو وقعت جبهته على فاقد القيد إذا كان السجود بالحدّ المعتبر الشرعي، أعني زائدا عن مقدار اللبنة في العلوّ عن موضع الجبهة، فإنّ السجود الركني قد تحقّق، فلو أراد الرفع لزم زيادة الركن فضلا عمّا إذا علمنا أنّه قيد في الصلاة أو شككنا في أنّه قيد لها أو للسجود، فلا حاجة لنا إلى التشبّث بذيل قاعدة الاحتياط أو أصالة الإطلاق المتقدّمتين آنفا.

نعم هذا كلّه بناء على القول بأنّ الانتهاء إلى غاية معتبر في مفهوم السجود، و أمّا لو لنا بعدمه و أنّ الحدّ أمر خارج عن مفهومه كالخطّ، حيث إنّ مفهومه صادق على حال ارتسامه و عدم انتهائه، كما يصدق عليه بعد الانقطاع فالحدود كالذرع و نصفه و نحوهما خارجة عن حقيقته و مفهومه، فلو فرض تقييد الأمر بالخطّ بكونه مقدار ذرع كان قيدا في المأمور به، لا في المفهوم.

و هذا بخلاف ما لو قلنا: إنّ مفهوم الخطّ عبارة عن الذي انتهى إلى الحدّ و انقطع، فإنّه لو أمر بالخطّ و قال في مقام شرحه: إنّه ما كان بحدّ الذرع فهم منه أنّ ما عداه ليس بخطّ عنده و إن كان خطّا عند غيره.

و بالجملة: فلو قلنا

بهذا في مقامنا لا محيص عن القول بأنّ المستثنى في حديث

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 264

لا تعاد هو السجود و الركوع المأمور بهما على نحو أمر بهما مع جميع القيود المعتبرة فيهما، للإجماع على أنّ زيادة السجود الغير البالغ إلى حدّ اللبنة غير مضرّة، فيجي ء الحاجة إلى قاعدة الاحتياط و أصالة الإطلاق المتقدّمتين في سائر المقامات غير مسألة علوّ الجبهة بأزيد من اللبنة عند الشكّ في اعتبار الأمر المفقود في السجود أو الصلاة، كما أنّه مع إحراز القيديّة للصلاة لا إشكال في عدم جواز الرفع، لكن مع ذلك يصحّ القول في هذه المسألة أعني: مسألة العلوّ بأزيد من اللبنة بجواز الرفع على القاعدة، لأنّ الحدّ و إن كان حسب الفرض خارجا عن المفهوم، لكنّه شي ء من سنخ السجود و ليس كالأمور الأخر، فيمكن استظهار كونه قيدا في السجود لا في الصلاة.

فلو فرضنا الشكّ في قول الشارع: لا يجوز السجود على غير الأرض و ما أنبتته الأرض، فلا نشكّ في ظهور قوله عليه السّلام: و ليكن موضع جبهتك في السجود غير أرفع عن لبنة عن موضع قدمك في أنّه تقييد للسجود لا للصلاة.

ثمّ هذا إذا أمكن الجرّ، و أمّا لو لم يمكن فهل يسقط اشتراط الشرط الفائت لعدم إمكان تداركه، أو يحكم ببطلان الصلاة، لأنّ مقتضى إطلاق الشرطيّة عدم اختصاصها بحال الالتفات و الاختيار، فإن جاز لزم فوت الشرط المذكور، و إن عاد لزم زيادة السجود عمدا، و قد قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه.

لكن استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّه قدّس سرّه إن جعل الفاقد للشرط من السجود الواقع في المستثنى فاللازم الحكم باغتفار الشرط، و إن كان شرطا للسجود و كونه داخلا

في المستثنى منه، و إن جعل السجود المستثنى خصوص الجامع للأجزاء و الشرائط فإطلاق الشرطيّة صحيح، و لكن لا معنى لعدم جواز الرفع معلّلا بحصول الزيادة للسجود.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 265

إذا ارتفعت الجبهة عن المسجد قهرا

و لا بأس بالتعرّض لحال فرع مبتلى به، و هو ما إذا ارتفعت الجبهة عن المسجد قهرا و بغير اختياره، و تفصيل الكلام فيه أنّه تارة يكون مضطرّا في الوقوع الثانوي، و اخرى مختارا في الإبقاء و العود، فعلى الأوّل لا كلام في أنّ هذا الوقوع الثانوي ليس سجودا ثانويّا، لاحتياجه إلى القصد، و المفروض عدم اقترانه به.

و هل هو عود للسجدة الأولى أو فعل لغو وقع قهرا؟ و تظهر الثمرة في وجوب الذكر و الطمأنينة على الأوّل و عدمه على الثاني.

و على الثاني يبتني الكلام فيه على القول بأنّ الوقوع الثانوي هل هو عود للسجدة الأولى عند الاضطرار أو لا، فعلى الأوّل يجب تحصيله في حال الاختيار للتمكّن من تحصيل الذكر و الطمأنينة في محلّهما، و على الثاني لا يجب، و على كلّ حال لا وجه للتفصيل بين وقوعه مضطرّا أو مختارا في الحكم بالوحدة مع الأوّل و بالتعدّد مع الثاني، إذ لا مدخليّة للاضطرار و الاختيار في الاثنينيّة و الوحدة.

و على هذا فإن تردّدنا بين الأمرين أعني: كون الوقوع ثانيا عودا أو شيئا أجنبيّا فلا إشكال في طريق الاحتياط في صورة الوقوع الاضطراري، لأنّه يأتي حينئذ بالذكر و الطمأنينة بقصد الاحتياط و الرجاء، لأنّه إمّا سجود فوقعا في محلّهما، و إمّا لا سجود فلا يضرّ الإتيان بهما بقصد الرجاء كما هو واضح.

إنّما الكلام في صورة الاختياريّة، فإنّ أمره دائر بين الوجوب و التحريم الوضعيّين، لأنّه إمّا واجب إن كان عودا،

و إمّا مانع إن كان غيره، لأنّه إذا أتى به بقصد عود السجود الأوّل و كان واقعا غير العود كان سجودا زائدا، و المفروض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 266

وقوعه عن عمد، و هو من الموانع، و إذن فالاحتياط اللازم في حقّه هو الإتيان بالصلاة بأحد النحوين ثمّ الاستئناف من رأس.

و يمكن استظهار الوجه الأوّل أعني كونه عودا من الخبر المرويّ عن الاحتجاج و كتاب الغيبة للشيخ قدّس سرّه عن محمّد بن أحمد بن داود القمّي «قال: كتب محمّد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري إلى الناحية المقدّسة (عج) يسأل عن المصلّي يكون في صلاة الليل في ظلمة فإذا سجد يغلط بالسجّادة و يضع جبهته على مسح أو نطع فإذا رفع رأسه وجد السجّادة هل يعتدّ بهذه السجدة أم لا يعتدّ بها؟

فوقّع عليه السّلام: ما لم يستو جالسا فلا شي ء عليه في رفع رأسه لطلب الخمرة» «1».

و هذه الرواية لا تصلح دليلا للقول بالرفع في المسألة المتقدّمة أعني: من وضع جبهته على ما لا يصحّ، حيث اخترنا وجوب الجرّ، و اختار صاحب الحدائق قدّس سرّه جواز الرفع، و ذلك لأنّ الرواية مصرّحة بأنّ الاستواء جالسا لا يجوز، و بغير الاستواء يجوز، و معلوم أنّه لا فرق عند القائل المذكور بين الاستواء و غيره.

فالرواية ناطقة بأنّ الاستواء لإيجابه ازدياد السجود غير جائز، و أمّا غيره، و الظاهر أنّ المراد به عدم الخروج عن حدّ صدق اسم السجود، فحيث لا يوجب الازدياد فلا بأس، فكيف يشهد الرواية لمن يذهب إلى أنّ السجود الثاني ليس بزيادة، لعدم الاعتداد بالسجدة الاولى مع تنصيصها بالاعتداد بها، و لهذا قال: ما لم يستو إلخ الذي مفاده أنّ الاستواء غير جائز.

و

بالجملة، فالرواية ظاهرة في أنّ العود إلى السجدة تتميم لها و ليس شيئا مستأنفا، و لم يعلم إعراض الأصحاب عن مضمونها أيضا، فلا بأس بالقول به، و عليه فلا بأس بمثل ذلك اختيارا أيضا، لتحصيل الأسهل أو الأفضل، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب السجود، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 267

و منها: الذكر، و قد مرّ تفصيله في الركوع، فإنّ الكلام فيه هو الكلام بعينه، إلّا أنّه يبدّل هنا كلمة العظيم في التسبيحة الكبرى بكلمة الأعلى، و بقيّة الكلام كما تقدّم حرفا بحرف، فلا حاجة إلى التطويل.

[و منها:] الطمأنينة في السجدة

و منها: الطمأنينة بمقدار الذكر الواجب.

و قد يستدلّ عليه بقوله عليه السّلام: «و تجزيك واحدة إذا أمكنت جبهتك من الأرض» «1».

و الحقّ عدم الدلالة، فإنّ الطمأنينة التي يكون المدّعى في المقام إثباتها استقرار جميع أعضاء البدن حال الذكر، و الرواية لا تدلّ إلّا على تمكين خصوص الجبهة و لو مع تزلزل غيرها، فالعمدة هو الإجماع.

و لكن يقع الكلام في أنّ الطمأنينة مضافا إلى شرطيّتها للذكر هل يكون شرطا للسجدة أيضا أو لا؟ و تظهر الثمرة في ما إذا عجز عن الذكر رأسا و قلنا بسقوطه عنه، فعلى القول الأوّل لا يجب عليه المكث بمقدار الذكر، و على الثاني يجب.

و الظاهر أنّ المرجع في هذا الشكّ هو البراءة، لكونه في التكليف الزائد، إذ نقطع بالشرطيّة بالنسبة إلى الذكر كما في سائر أقوال الصلاة، حيث إنّ الإجماع قائم على اشتراط الطمأنينة في جميعها، و إنّما نشكّ في أنّه مضافا إليه هل لها شرطيّة في السجدة أيضا أو لا، و من المعلوم أنّ المرجع حينئذ البراءة بناء على ما هو التحقيق في الأقلّ و الأكثر.

______________________________

(1)

الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الركوع، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 268

و منها: الجلوس بعد السجدة الأولى مطمئنّا، و المخالف هم المخالفون، حيث إنّ المحكيّ عن أبي حنيفة أنّ القدر الذي يجب أن يرفع ما يقع عليه اسم الرفع، و لو رفع بمقدار ما يدخل السيف بين وجهه و بين الأرض أجزأه. و ربما قالوا: الرفع لا يجب أصلا، فلو سجد و لم يرفع حتّى حفر تحت جبهته حفيرة فحطّ جبهته إليها أجزأه.

و أمّا علماؤنا فظاهرهم وجوب رفع الرأس معتدلا لأجل نفسه، لا للمقدّميّة للتعدّد بين السجدتين.

و كيف كان تدلّ عليه صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «و إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتّى ترجع مفاصلك، و إذا سجدت فاقعد مثل ذلك، و إذا كنت في الركعة الاولى و الثانية فرفعت رأسك من السجود فاستتمّ جالسا حتّى ترجع مفاصلك» «1».

و دلالتها على المطلب واضحة، إلّا أنّه لم يعلم وجه التقييد بقوله عليه السّلام: و إذا كنت في الركعة الاولى و الثانية إلخ، فإنّه حكم سار في جميع الركعات و لا اختصاص له بالأوليين.

و لعلّ العامّة كانوا يفرّقون بين الاولى و غيرها، فالغرض الإشارة إلى ردّهم، و ذكر الثانية من باب المثال، و وجه تخصيصها بالذكر اشتمال الصلوات كلّها عليها دون الثالثة و الرابعة، فالمقصود أنّه لا فرق بين الاولى و الركعة الأخرى في هذا الحكم، و اللّٰه العالم.

و منها: وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه

من الأرض و ما نبت منها غير المأكول و الملبوس على ما مرّ في بحث المكان.

و منها: طهارة موضع الجبهة،

و قد مرّ أيضا تفصيله في ذلك البحث.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 269

مسائل
الأولى يشترط مباشرة الجبهة لما يصحّ السجود عليه،

فلو كان هناك مانع أو حائل عليه أو عليها وجب رفعه، و الدليل عليه كونه داخلا في مفهوم السجود على الأرض و وضع الجبهة عليها.

و لو شكّ في وجود الحاجب فهل يجري أصالة العدم فلا يعتدّ بهذا الشكّ و لا يجب البحث عنه؟ الظاهر عدم جريانه بمعنى الاستصحاب، لكونه مثبتا، كما في باب الوضوء، فإنّه لا يثبت بأصالة عدم الحاجب هنا عنوان إلصاق الجبهة، كما لا يثبت بها هناك عنوان إيصال الماء للبشرة، و كما في استصحاب بقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين الذين أحدهما نجس و الآخر طاهر، فإنّه لا يثبت السراية و التأثير، و المفروض ثبوت الأثر لهذا العنوان، غاية الفرق أنّ هذا استصحاب أمر وجودي و مقامنا استصحاب أمر عدمي، هذا لو أريد بهذا الأصل الاستصحاب.

و أمّا لو أريد به الأصل العقلائي بدعوى أنّ بناء العقلاء في كليّة الحادثات على عدم تحقّقها كما في أصالة عدم القرينة و عدم التخصيص و أصالة عدم السهو و النسيان، و على هذا فالمثبت منه أيضا حجّة كما في أصالة عدم القرينة.

ففيه أنّ ثبوت البناء في جميع موارد الشكّ في وجود الحاجب و عدمه، حتّى في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 270

ما كان في معرض الوجود في غاية الإشكال، بل ممنوع، مثلا لو كان شغل أحد التعجين، فاحتمل وجود بعض أجزاء العجين على جبهته فلا نسلّم أنّ بناء العقلاء على عدم الاعتناء.

نعم لو كان تاجرا أو طالبا للعلم مثلا فاحتمل مثل ذلك أمكن أن يقال بوجود البناء، و هذا و إن

كان مقارنا غالبا مع الاطمئنان و الظنّ الشخصي بالعدم، لكن لا يبعد أنّ الميزان هو الظنّ النوعي و لو انفكّ عن الشخصي، و لعلّه المراد من عبارة حاشية شيخنا المرتضى قدّس سرّه على نجاة العباد حيث أفتى بوجوب الفحص في الشكّ في وجود الحاجب إلّا مع غلبة الظنّ بالعدم، هذا كلّه في الحاجب الذي من غير سنخ الأرض.

و أمّا لو لصق بجبهته الطين مثلا، فهل يجب إزالته للسجود أو لا؟

ربما يقال بالثاني، نظرا إلى أنّ الواجب عليه السجود مع لصوق جبهته بالأرض، و هذا حاصل هنا، و أمّا لزوم كون اللصوق حادثا مقارنا لحدوث السجود فلا دليل عليه، و مقتضى الأصل البراءة.

و يؤيّده تعليل استثناء المأكول و الملبوس عن جواز السجود على نبات الأرض بأنّهما مورد توجّه أهل الدنيا، فلا ينبغي للساجد الذي هو في عبادة اللّٰه تعالى وضع الجبهة على ما هو معبود أهل الدنيا، فإنّ مقتضاه أيضا أنّ الاعتبار بالأعمّ من الوجود الحدوثي و البقائي من السابق لحصول هذه العلّة، و هو عدم الوقوع على معبود أهل الدنيا في كليهما.

إلّا أن يقال بظهور الأمر بالسجود واضعا جبهته على الأرض في كون القيد حادثا بحدوث الذات و عدم كفاية بقائه من السابق.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ هذا التبادر من جهة غلبة الوجود حيث إنّ الغالب في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 271

من أراد السجود مع الوضع على الأرض أنّه يحدثهما في زمان واحد، و لكن ليس بحدّ يورث ظهور اللفظ، و لا أقلّ من عدم الجزم بوصوله إلى مرتبة الظهور و الانصراف الذي صار بمنزلة القيد اللفظي، فإنّه مع عدم الجزم أيضا يكون المرجع هو الأصل العملي، و حيث إنّ المورد من دوران

الأمر بين الإطلاق و التقييد بني على الخلاف فيه، و حيث إنّ الحقّ هو البراءة كان مقتضاها في المقام هو الحكم بالصحّة، فيكون التعليل المذكور صالحا للتأييد، و إن كان لو فرض الجزم بالظهور المذكور فليس ذلك إلّا حكمة لا يجوز رفع اليد بسببها عن الظهور المستقرّ، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 272

الثانية من بجبهته ما يمنع عن وضعها على الأرض

كالدمل إذا لم يستغرق جبهته، يحتفر حفيرة مثلا ليقع السليم من جبهته على الأرض، و إن لم يمكن وضع شي ء من الجبهة فالمشهور الانتقال إلى أحد الجبينين، و إن لم يمكن ذلك أيضا فإلى الذقن.

و لكن لم يوجد على هذا الترتيب دليل من الأخبار، و إنّما المتحقّق صرف الشهرة المحقّقة و الاجتماعات المنقولة.

و أمّا الأخبار فبين ما لا يستفاد منه إلّا الانتقال من موضع من الجبهة إلى موضع آخر منها غير متعارف وضعه في السجود، و بين ما حكم بالانتقال إلى الذقن من ابتداء الأمر، و ليس في شي ء منها إشارة إلى الانتقال إلى أحد الجبينين فضلا عن ترتيبه على الجبهة، و لا بأس بالتيمّن بذكرها، فنقول و على اللّٰه الاتّكال في كلّ حال:

منها: ما رواه الشيخ في الموثّق عن إسحاق بن عمّار عن بعض أصحابه عن مصادف «قال: خرج فيّ دمل، فكنت أسجد على جانب، فرأى أبو عبد اللّٰه عليه السّلام أثره، فقال عليه السّلام: ما هذا، فقلت: لا أستطيع أن أسجد من أجل الدمل، فإنّما أسجد منحرفا، فقال عليه السّلام لي: لا تفعل، و لكن احفر حفيرة و اجعل الدمل في الحفيرة حتّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 273

تقع جبهتك على الأرض» «1».

و يستفاد من الرواية بحسب أسلوب العبارة تقريره عليه السّلام للراوي، حيث

اعتقد الجانب مسجدا، فلم يقل له أخطأت في اعتقاده مسجدا، و إنّما خطّأه في اعتقاده أنّه لا يستطيع السجود على الجبهة، فنبّهه على هذا العلاج الذي كان غافلا عنه و لم يخطّئه في اعتقاده المسجديّة للجانب.

ألا ترى أنّه لو قال أحد: إنّي لا أستطيع السجود على جبهتي لمكان الدمل فأسجد على اذني، فاسلوب الجواب يقتضي أن يقال له: قد أخطأت في مقامين، أحدهما: اعتقادك أنّك لا تستطيع و الحال أنّ حفر الحفيرة ممكن، و الآخر: زعمك أنّ الإذن من المساجد، فإذا اقتصر في الجواب على الشقّ الأوّل علم تقريره في الشقّ الثاني، و معنى هذا أنّ الطرف مسجد لك، هذا.

و لكنّك خبير بأنّ الاستدلال بهذا الوجه مبنيّ على كون المراد من الجبهة تمامها، فيكون المراد من الجانب هو الجبين.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد من الجبهة ليس تمامها، بل خصوص ما تعارف السجود عليه منها، و هو ما بين العينين منها، و على هذا فيكون المراد من الجانب أحد طرفيه من الجبهة.

نعم لا بدّ حينئذ من حمل قوله عليه السّلام: لا تفعل على الإرشاد إلى الفرد الأفضل، و يستكشف منه أفضليّة السجود على ما بين العينين من السجود على أحد الجانبين.

و بالجملة، فلا يستفاد بناء على هذا الاحتمال في الرواية تقرير مسجديّة الجبين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 274

الذي يستلزم السجود عليه انحراف الوجه عن القبلة.

و منها: ما رواه الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم في كتابه في الموثّق عن أبيه عن الصباح عن إسحاق بن عمّار «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: رجل بين عينيه قرحة لا يستطيع أن يسجد عليها، قال عليه

السّلام: يسجد ما بين طرف شعره، فإن لم يقدر سجد على حاجبه الأيمن، فإن لم يقدر فعلى حاجبه الأيسر، فإن لم يقدر فعلى ذقنه، فقلت: على ذقنه؟ قال عليه السّلام: نعم، أما تقرأ كتاب اللّٰه عزّ و جلّ:

يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً» «1».

و هذه الرواية أيضا لا يستفاد منها إلّا العدول عن الأفضل إلى غيره عند تعذّر الأفضل، لا عن المسجد إلى ما ليس بمسجد حال الاختيار، نعم الفقرة الأخيرة يكون عدولا إلى ما ليس بمسجد اختياري، و ذلك لأنّ السائل فرض القرحة بين العينين و عدم الاستطاعة من السجدة عليها، فعيّن عليه السّلام له ما بين طرف الشعر، و إلّا فالحاجب الأيمن، و إلّا فالأيسر، و لا يخفى دخول كلّ ذلك في الجبهة عند العرف، فإنّ القصاص داخل في الجبهة و كذا الحاجبان، فليس في الرواية من هذه الجهة حكم بالسجود على غير الجبهة العرفيّة، نعم هو غير الجبهة التي يتعارف السجود عليها و هو ما يحاذي الأنف منها.

و بالجملة، فالرواية كالرواية الأولى ساكتة عن اسم الجبينين.

و منها: ما رواه في الكافي عن عليّ بن محمّد بإسناده «قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عمّن بجبهته علّة لا يقدر على السجود عليها، قال عليه السّلام: يضع ذقنه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب السجود، الحديث 3، و الآية في سورة الإسراء: 107.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 275

على الأرض، إنّ اللّٰه تبارك و تعالى يقول يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً» «1».

و هذه الرواية كما ترى متّحدة المفاد مع الروايتين المتقدّمتين على ما عرفت من عدم دلالتهما على الجبينين، بل الاولى غير متعرّضة لغير الجبهة العرفيّة، و الثانية متعرّضة بعدها للذقن مثل هذه الرواية، و إطلاقها شامل

لما تمكّن من السجود على أحد الجبينين و ما لم يتمكّن.

و منها: ما عن كتاب الفقه الرضوي عليه السّلام «قال: فإن كان في جبهتك علّة لا تقدر على السجود أو دمل فاحفر حفيرة، فإذا سجدت فاجعل الدمل فيها، و إن كان على جبهتك علّة لا تقدر على السجود من أجلها فاسجد على قرنك الأيمن، فإن تعذّر عليه فعلى قرنك الأيسر، فإنّ تعذّر عليه فاسجد على ظهر كفّك، فإن لم تقدر عليه فاسجد على ذقنك، لقول اللّٰه تبارك و تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذٰا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً إلى قوله تعالى وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» «2».

و التعبير بالقرن في هذه الرواية أيضا محتمل الانطباق على ما ذكرنا من العظم النابت في طرفي الجبهة الذي يكون الجبين من ورائه، محاذيا لطرف الحاجب المتمائل إلى السفل، فلا يكون الترتيب أيضا إلّا بين الأفضل و غيره.

نعم زاد فيها السجود على ظهر الكفّ أيضا و هو من المساجد الاضطراريّة عند تعذّر المسجد الاختياري، فمن الممكن أنّه إذا تعذّر أو تعسّر السجود على الأرض و ما نبت منها لأجل إيذائهما الجبهة جاز له السجود على ظهر الكفّ،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب السجود، الحديث 2.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب السجود، الحديث 1. و الآية في سورة الإسراء: 107.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 276

لكونه لينا لا يوجب الأذى.

فعلم أنّ شيئا من أخبار الباب لا يستفاد منه حكم الجبينين، فانحصر مدركه في الإجماعات المنقولة، و هي قد ثبت في الأصول عدم حجّيتها.

و حينئذ فإن أراد الاحتياط في مقام العمل أتى بسجدتين بعنوان الرجاء و الاحتياط، إحداهما على أحد الجبينين، و الأخرى على الذقن

إن لم يمكن وضع كليهما معا في سجدة واحدة، كما أنّه يجوز أيضا جرّ وجهه من السجدة الاولى و وضع الذقن أو أحد الجبينين، و ليس الرفع و الوضع مستلزما لزيادة السجدة إذا كان مأتيّا به بعنوان الاحتياط و الرجاء، كما أنّ القصد المعتبر في السجود أيضا حاصل بذلك، فإنّه يكفيه القصد الإجمالي إلى ما كان من أحد هذين الفعلين هو السجود المأمور به واقعا في علم اللّٰه تعالى.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 277

الثالثة و من الأمور التي قيل بوجوبها: الجلوس بعد السجدة الثانية مطمئنّا،

و هي جلسة الاستراحة، و نسب القول بوجوبه إلى سيّدنا المرتضى قدّس سرّه.

و استدلّ له بما رواه الشيخ عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا رفعت رأسك من السجدة الثانية في الركعة الأولى حين تريد أن تقوم فاستو جالسا ثمّ قم» «1».

و اعترضه في المدارك بأنّه معارض بما رواه الشيخ عن زرارة «قال: رأيت أبا جعفر و أبا عبد اللّٰه عليهما السّلام إذا رفعا رأسيهما من السجدة الثانية نهضا و لم يجلسا» «2» قال: و السندان متقاربان، انتهى.

و ربما تحمل هذه الرواية على التقيّة، لما رواه الشيخ في التهذيب عن الأصبغ بن نباتة «قال: كان أمير المؤمنين إذا رفع رأسه من السجود قعد حتّى يطمئنّ، ثمّ يقوم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، كان من قبلك أبو بكر و عمر إذا رفعوا رءوسهم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 278

نهضوا أي على صدور أقدامهم كما ينهض الإبل، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّما يفعل ذلك أهل الجفاء من الناس، إنّما هذا من توقير الصلاة» «1».

و ما رواه

زيد النرسي في كتابه، «قال: سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: إذا رفعت رأسك من آخر سجدتك في الصلاة قبل أن تقوم فاجلس جلسة، ثمّ بادر بركبتيك إلى الأرض قبل يديك و ابسط يديك بسطا و اتّك عليهما، ثمّ قم، فإنّ ذلك وقار المؤمن الخاشع لربّه، و لا تطش من سجودك مبادرا إلى القيام كما يطيش هؤلاء الأقشاب في صلاتهم» «2».

و ما رواه الصدوق في الخصال بسند معتبر عن أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: اجلسوا في الركعتين حتّى تسكن جوار حكم، ثمّ قوموا، إنّ ذلك من فعلنا» «3».

و عورض أيضا دليل الوجوب بما رواه الشيخ في التهذيب عن رحيم «قال:

قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: جعلت فداك، أراك إذا صلّيت رفعت رأسك من السجود في الركعة الاولى و الثالثة و تستوي جالسا، ثمّ تقوم، فنصنع كما تصنع؟

قال عليه السّلام: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا، اصنعوا ما تؤمرون» «4».

و أجيب عنه أيضا بالحمل على التقيّة، إذ لا شبهة في مرجوحيّة ترك الجلوس، فلم يكن أمرهم عليهم السّلام به و إلزامهم في هذا الخبر بموافقة ذلك الأمر إلّا لأجل التقيّة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 5.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 2.

(3) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب السجود، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 279

و حينئذ فيشكل صرف ما كان ظاهره الوجوب عن ظاهره لذلك، و لكن إطلاق الأمر به رعاية للتقيّة مع عدم مسيس الحاجة

إليها إلّا أحيانا، و كذا عدم تعارفه و اشتهاره في عصر الرضا صلوات اللّٰه عليه بين من يأتمر بأوامره من أقوى الشواهد على أنّه ليس من المهمّات التي لا يجوز الإخلال بها بلا ضرورة ملجئة إليه، بل هو من الآداب التي ينبغي رعايتها مهما أمكن، هذا ما يقال في هذا المقام في توجيه الأخبار المذكورة.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه على رءوس العباد: إنّ الحمل على التقيّة معناه طرح السند، و هو متأخّر رتبة عن الجمع الدلالي، فلو كان بين الخبرين جمع عرفي فلا وجه للحمل المذكور، فإنّه في الحقيقة ليس بجمع، بل طرح.

و حينئذ فنقول: ظاهر الأمر في الخبر الأوّل و إن كان هو الوجوب، إلّا أنّ فعل الإمامين عليهما السّلام الذي حكاه زرارة نصّ في جواز الترك، بل لعلّ ظاهر العبارة كون ذلك صادرا منهما عليهما غير مرّة، فإنّه ظاهر قوله: إذا رفعا رأسهما إلخ، إذ لا يقال مثل هذه العبارة إلّا في مورد تكرار العمل كثيرا، فكيف يكون مثل ذلك للتقيّة؟

و أيضا فإنّ العامّة لم يكن الجلوس عندهم محظورا، غاية الأمر كانوا لا يرون بتركه بأسا، لا أنّهم جعلوه سنّة، و لا يكون مجرّد فعل أبي بكر و عمر من باب الاتّفاق موجبا لكونه سنّة عندهم.

و كذا يبعّد حمل الخبر الأخير على التقيّة إطلاق قوله عليه السّلام: اصنعوا كما تؤمرون، مع أنّ التقيّة ليست مبتلى بها إلّا أحيانا، هذا لو أريد تقيّة السائل، و إن أريد تقيّة الإمام عليه السّلام فينافيه فعله عليه السّلام، فإنّه كان في عمله مخالفا لهم، فكيف راعى التقيّة في الفتوى؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 280

و بالجملة، الحمل على التقيّة مضافا إلى عدم المورد له يأبى عنه المقام

أيضا.

فالأحسن حمل الأمر في الخبر الأوّل على الفضل و الاستحباب، و لا ينافيه رواية زرارة الحاكية المشتملة على قوله: إذا رفعا رأسهما، لإمكان حمله على رؤية ذلك منهما دفعة، غاية الأمر أنّه خلاف الظاهر، و لا بأس به بعد ذلك الحثّ الأكيد الذي ورد في الأخبار برعاية الجلسة المذكورة المانع عن إبقاء هذا الظاهر بحاله.

و يشهد للاستحباب أيضا التعليل بالتوقير و عدم الطيش و أنّه وقار المؤمن الخاشع لربّه و أنّه من فعلنا، فإنّ هذه الألسنة لسان الاستحباب كما لا يخفى.

و لا ينافيه إطلاق الجفاء على تركه في قوله عليه السّلام: إنّما يفعل ذلك أهل الجفاء من الناس، فإنّ إطلاق الجفاء في ترك المستحبّات كثير في الأخبار، كما ورد في ترك زيارة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و غيره ممّا يظهر للمتتبّع، و إذن فالقول بالاستحباب لا يخلو عن قوّة.

و أمّا قول الرضا صلوات اللّٰه عليه: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا، اصنعوا كما تؤمرون، فليس المراد به ما ذكروه من التقيّة، بل المراد منه أنّ وظيفتكم أن تستفيدوا الإيجاب من لفظي و قولي و أمري، لا أن تستفيدوه من عملي، فإنّ السائل لمّا رأى مواظبته عليه السّلام على هذا العمل توهّم الوجوب، فلهذا سأله عليه السّلام: إنّا أيضا نصنع كما تصنع؟ فأجابه عليه السّلام بقوله: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا، و إذن فلا منافاة له مع الاستحباب أصلا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 281

الرابعة لا بأس بالسجود على غير الأرض و شبهها مثل الفراش في حال التقيّة،
اشارة

و لا يجب التفصّي عنها بالذهاب إلى مكان آخر، نعم لو كان في ذلك المكان مندوحة بأن يصلّي على البارية أو نحوها ممّا يصحّ السجود عليه وجب اختيارها، فهاهنا دعويان:

الأولى: صحّة الصلاة الفاقدة للشرط أو الواجدة للمانع إذا

كانت لتقيّة و إجزائها عن الأمر الصلاتي، لا صرف المعذوريّة مع بقاء التكليف بحاله بحيث متى زال العذر اقتضى الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه.

و الثانية: توسعة الأمر في هذا الباب على خلاف سائر الأعذار، حيث يدور الأمر فيها مدار الحاجة و الضرورة الغير المتمكّن عنها التفصّي و لو بتأخير العمل إلى آخر الوقت، و أمّا هنا فمتى تحقّقت التقيّة و لو كانت في أوّل الوقت جاز العمل بمقتضاها و لا يجب الصبر إلى آخر الوقت، لرجاء زوالها، بل أو القطع به.

أمّا الدعوى الاولى فلها طريقان:
الأوّل:

دعوى اختصاص الأدلّة الأوّلية المتضمّنة لجعل الشي ء شرطا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 282

أو مانعا و لو لضمّ البعض إلى بعض بصورة التمكّن من فعله و تركه بحيث كان مقتضاها نفي الشرطيّة عند الاضطرار إلى الترك، و نفي المانعيّة عند الاضطرار إلى الفعل، فيكون أحد أفراد الاضطرار التقيّة التي منشؤها الخوف على نفسه أو غيرها، بحيث يصدق عليه بعد ملاحظة تكليفه بحفظ النفس و دفع الضرر أنّه ملجأ و غير متمكّن من تحصيل ذلك الشرط أو ترك ذلك المانع، فتكون صلاته بذلك صحيحة.

و على هذا يشكل الأمر في موارد قام الدليل على الشرطيّة أو المانعيّة المطلقتين كما لو اقتضى التقيّة مثلا الصلاة بالتيمّم على التراب النجس، فإنّ أصل الطهارة بالأعمّ من المائيّة و الترابيّة من الشرائط المطلقة الغير المختصّة بحال الاختيار، و قد لزم فوتها في المثال.

و الطريق الثاني

- و هو أعمّ نفعا، لنفعه في مثل المثال من الشرائط المطلقة أيضا-: دعوى أنّ المستفاد من أدلّة الترخيص الوارد من الشارع في مورد الشرط و المانع في مقام التقيّة أمّا عموما و إمّا خصوصا بعد ملاحظة عدم تحقّق تكليف نفسي في الموردين حتّى يرجع الترخيص المذكور إلى رفعه، بل الثابت مجرّد الإيجاب الوضعي في الشرط، و المنع الوضعي في المانع، أنّ الشارع أسقط ذلك الشرط عن الشرطيّة، و ذلك المانع عن المانعيّة، فالترخيص في هذا المقام عبارة عن رفع ما كان فيه من الوضع، كما كان المراد به في مقامات التكليفات النفسيّة رفع ما كان فيها من تلك التكاليف.

و أمّا ما يدلّ عليه: فما رواه ثقة الإسلام عن الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن إسماعيل الجعفي و

معمّر بن يحيى بن سالم و محمّد بن مسلم و زرارة «قالوا: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: التقيّة في كلّ شي ء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 283

يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّٰه له» «1».

بتقريب أنّ الحلّية عبارة عن رفع المنع، ففي ما إذا كان المنع نفسيّا كان رفعه مفيدا أثر الإباحة و عدم الحرج في الفعل، و في ما كان غيريّا فرفعه عبارة عن صحّة العمل الواجد له، و كذلك حال الترك الممنوع، فالحلّية هنا للأعمّ من الحلّية التكليفيّة و الوضعيّة، و قد استعملت كثيرا في الأخبار في موارد الوضع كما لا يخفى على المتتبّع.

نعم قوله عليه السّلام: ما من شي ء إلّا و قد أحلّه اللّٰه عند الضرورة، يمكن أن يقال بعدم ظهوره إلّا في التكليف.

و الفرق بينه و بين الخبر السابق أنّ المتعارف في التقيّة اتّفاقها في أجزاء العبادة و شرائطها، و اتّفاقها في التكاليف النفسيّة في غاية القلّة، فلو حملنا الخبر على الحلّية التكليفيّة لزم تقييده بالفرد النادر، و هو ممّا نقطع بخلافه، مع وروده بصورة العموم و الكلّية، فهذا شاهد صدق على إرادة الحلّية بالمعنى الأعمّ و هو المطلوب.

و على هذا فلا يختصّ بباب دون باب، بل يجري في عامّة العبادات الصادرة على وجه التقيّة إمّا في شرطها أو في جزئها، فيحكم بالصحّة في الجميع، فالإفطار عن تقيّة في الصوم حاله حال الأكل عن سهو، و في الحقيقة ليس بإفطار، نعم إذا كان الضرورة الداعية إلى الأكل غير التقيّة مثل المرض و نحوه، فحينئذ يسمّى إفطارا معذورا فيه، و أمّا مع التقيّة فيكون كالأكل السهوي.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الباب 25 من أبواب الأمر و

النهي، الحديث 2، و فيه «معمّر بن يحيى بن سالم» بدل «معمّر بن سالم».

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 284

فإن قلت: لا يخلو إمّا أن يكون التقيّة تتأدّى بترك الصلاة، و إمّا لا تتأدّى إلّا بفعلها متكتّفا مثلا و لا تتأدّى بالترك.

فعلى الأوّل: لو اختار الفعل فهو بعد هذا الاختيار و إن كان مضطرّا، لكنّه بالاختيار لقدرته على الترك و أداء التقيّة بذلك على حسب الفرض، و لا تصير صلاته بمجرّد ذلك مورد الرخصة من جهة التقيّة.

و على الثاني: فغاية ما يستفاد من أدلّة التقيّة أنّه مأذون و مرخّص في إتيان الصلاة الباطلة، و ليست حالها بأولى من شرب الخمر الذي سوّغه التقيّة، و أين هذا من إسقاطها الإعادة و القضاء، بل الأمر بالصلاة الصحيحة على حالها.

قلت أوّلا: يكفينا الإيجاب الجزئي، فافرض انحصار رخصة التقيّة بالفرض الثاني، أعني ما إذا ألجأه التقيّة إلى الفعل مع التكتّف، و لكن نقول:

ليست الصلاة الباطلة محرّمة نفسا كشرب الخمر حتّى يرجع ترخيصها إلى الإذن التكليفي، بل ممنوعة وضعا، فالرخصة فيها معناها رفع هذا المنع الوضعي، و معناه الإجزاء عن الأمر الواقعي، فعلم أنّ قياس المقام بالمحرّم النفسي كشرب الخمر مع الفارق.

و ثانيا: نقول في الفرض الأوّل الذي يمكن أداء التقيّة بوجهين، ترك الصلاة و فعلها متكتّفا، إنّه لا إشكال في كونه مضطرّا بعد اختيار الفعل، فيكون موضوعا لأخبار التقيّة، فيكون المنع الوضعي مرتفعا.

نعم يبقى أنّ إطلاق مادّة الصلاة التامّة يقتضي بقاء مطلوبيّتها حتّى بالنسبة إليه، فيكون عاصيا من جهة تفويت المصلحة المطلقة اللازمة الاستيفاء.

لكن هذا أيضا أوّلا لا يضرّ بمرامنا من الإجزاء عن الأوامر الأوّلية بمعنى إسقاط الإعادة و القضاء، و ثانيا: بعد ملاحظة الترغيبات و التحريضات في الأخبار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 285

بإلقاء النفس في معارض التقيّة و محاضرهم و مجامعهم و العبادة معهم بصورة عبادتهم- كما يأتي شرحه إن شاء اللّٰه تعالى في المقام الآتي- نعلم أنّ المصلحة الأوّلية القائمة بالصلاة التامّة قد أخذ في موضوعها عدم الابتلاء بالتقيّة كما أخذ في موضوع الصلاة الرباعيّة عنوان الحضر بحيث يجوز تبديل العنوان إلى العنوان المقتضي للصلاة الفاقدة اختيارا.

و يدلّ على الإجزاء أيضا ما رواه في أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه «قال: التقيّة في كلّ شي ء إلّا في شرب المسكر و المسح على الخفّين» «1».

فإنّ استثناء المسح على الخفّين مع عدم ثبوت منع فيه إلّا من حيث الوضع دليل على عموم المستثنى منه، أعني: قوله عليه السّلام: كلّ شي ء، للممنوعات النفسيّة و الغيريّة، و معلوم أنّ ثبوت التقيّة في كلّ ممنوع بمعنى رفع المنع الثابت فيه، و هو مفيد للصحّة في الممنوع الوضعي، فيدلّ على رفع مانعيّة التكتّف في الصلاة و صحّة الوضوء بالنبيذ، و كذا غسل الرجلين فيه.

[و أمّا الدعوى الثانية:] إجزاء العمل بالتقيّة و عدم وجوب الإعادة و القضاء

و أمّا الدعوى الثانية: و هي توسعة الأمر في هذا الباب و ثبوت الإجزاء و لو مع عدم استيعابه لجميع الوقت أو إمكان ترك الصلاة رأسا، بل و ثبوت المندوحة في ذلك الزمان الذي توقع فيه العمل إمّا بالذهاب إلى مكان آخر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5، نقلا بالمضمون.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 286

ليس فيه من يتّقي منه، و إمّا بالتمكّن من إزعاجه من مكانه حتّى يعمل بلا تقيّة، و إمّا بالتمكّن من العمل على طبق الواقع مع إظهاره صورة أنّه يوافقهم، كأن يضع إحدى يديه في قرب

الأخرى بحيث يتوهّم الرائي أنّه متكتّف بواسطة تغطيتهما بالثوب.

فالظاهر الجزم باعتبار عدم النحو الأخير، فإنّ المفروض فيه إمكان الجمع بين غرض التقيّة من إظهار الموافقة معهم و إتيان الواقع، فلا داعي إلى إتيانه على وفق مذهبهم مع ذلك كما هو واضح، و ليس هذا أيضا مشمولا للأخبار.

بقي الكلام في غيره من سائر الأنحاء حتّى ما إذا كان العذر مستوعبا لجميع الوقت، سواء كان التفصّي بترك الصلاة رأسا ممكنا أم لا، إذ لا كلام في وجوب التقيّة حفظا لنفسه، لكن كونه مجزيا يحتاج إلى إقامة دليل.

نعم في خصوص باب الصلاة قام الدليل في هذه الصورة، و هو قولهم عليهم السّلام:

لا تترك الصلاة بحال، لكنّ المقصود إقامته في عامّة العبادات و في عامّة الأحوال حتّى في ما إذا تمكّن من الإتيان في مكان خال منهم، أو في ذلك المكان بنحو الإزعاج، فالمطلوب في هذا المقام إثبات الدليل على الإجزاء في جميع هذه الصور، إذ لقائل أن يقول: سلّمنا أنّ إظهار الموافقة معهم و لو مع المندوحة أمر مرغوب مستحسن، لكن أين هو من صيرورته مصداقا لأمثال أوامر العبادة؟

حكم التقيّة في الموضوعات كالحكم بثبوت الهلال

ثمّ لا بدّ من عموم ذلك الدليل حتّى بالنسبة إلى موارد الاختلاف الموضوعي، كحكم حاكمهم بثبوت هلال ذي الحجّة بالبيّنة العادلة عندهم إذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 287

لم يثبت عند الشيعة، فإنّه لو لا الدليل لا بدّ من إعادة الحجّ في القابل، لأنّه أتى بالوقوفين في غير موقعهما.

و بالجملة، المطلوب إثبات الإيجاب الكلّي في هذا المقام، كما كان المهمّ في المقام المتقدّم إثبات الإيجاب الجزئي، فإن ثبت الدليل العامّ فهو، و إلّا فلا بدّ من الوقوف في كلّ جزئي جزئي من الموارد على اتّباع النصّ الموجود فيه

إن كان، كما ورد في خصوص ردّ الشعر في الوضوء، حيث إنّ ظاهر الرواية هو الترخيص فيه بمعنى رفع مانعيّته، لكنّه لا دخل له بمسح الخفّ أو غسل الرجل مثلا، فضلا عن باب الصلاة أو الصوم أو الوقوفين أو غير ذلك.

و حينئذ نقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ الدليل العامّ على الإجزاء النافع لجميع العبادات و الأبواب و لجميع أنحاء العذر من المستوعب و غيره مع المندوحة في غير المستوعب و عدمها، لكن لا بنحو الذي تقدّم أنّه غير مستفاد من الأخبار، و هو إتيان العمل في محضر منهم بنحو يرى أنّه يوافقهم و الحال أنّه موافق الحقّ، هو الأخبار الكثيرة الدالّة على امتنان اللّٰه تعالى و تفضّله على المؤمنين بإعطاء الرخصة لهم في أن يظهروا لهم الموافقة في الأعمال مع التديّن في السرّ بالدين الحقّ.

جواز تحصيل الاضطرار و التقيّة المداراتيّة

فيستفاد من هذه الطائفة من الأخبار أنّ إيجاد عنوان الاضطرار و اللابدّية لنفسه يكون مجوزا، بل مندوبا مستحسنا بأن يعمل العمل في معارض التقيّة مع إمكان إتيانه مختفيا بتبديل المكان أو إزعاج الشخص أو تأخير الوقت، فضلا عن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 288

إمكان تركه رأسا، ثمّ بعد تحصيل الاضطرار لنفسه و مشغوليّته بالعمل يدخل تحت الإخلال المستفاد من طائفة أخرى من الأخبار الدالّة على أنّ التقيّة في موضوع الاضطرار و اللابدّية مشرّعة و رافعة للمنع الوضعي الثابت لولاها.

أمّا الطائفة الثانية فقد تقدّم جملة منها.

و أمّا الأولى فهي كثيرة. منها: ما رواه في الوسائل عن عليّ بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه نقلا من تفسير النعماني بإسناده عن عليّ عليه السّلام «قال: و أمّا الرخصة، التي صاحبها فيها بالخيار، فإنّ اللّٰه نهى المؤمن أن يتّخذ الكافر

وليّا، ثمّ منّ عليه بإطلاق الرخصة له عند التقيّة في الظاهر أن يصوم بصيامه و يفطر بإفطاره و يصلّي بصلاته و يعمل بعمله و يظهر له استعمال ذلك موسّعا عليه فيه، و عليه أن يدين اللّٰه تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأمّة» «1» الخبر.

و قوله عليه السّلام: و عليه أن يدين اللّٰه تعالى إلخ ليس يراد به إيجاب الإعادة أو القضاء في الباطن لعمله الذي أتى به في الظاهر حتّى ينافي مع الإحلال و رفع المنع المستفاد من الطائفة الأخرى، بل المراد أنّه في الباطن يكون على عقيدته و ديانته من موالاة الأئمة الهادين و الخلفاء الراشدين سلام اللّٰه عليهم أجمعين، و إن كان في الظاهر يظهر أنّه منهم و يعمل مثل عملهم.

و الحاصل أنّ عمل جانحته لا بدّ أن لا يوافق مع عمل جارحته، و أين هذا من إيجاب الإعادة و القضاء، و هو مفاد قول مولانا الباقر عليه السّلام في خبر أبي بصير:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 20، و راجع رسالة المحكم و المتشابه: 36.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 289

«خالطوهم بالبرانيّة، و خالفوهم بالجوانيّة إذا كانت الإمرة صبيانيّة» «1».

و منها: ما رواه فيه عن ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في رسالته عليه السّلام إلى أصحابه «قال عليه السّلام: و عليكم بمجاملة أهل الباطل، تحمّلوا الضيم منهم، و إيّاكم و مماظتهم، دينوا في ما بينكم و بينهم إذا أنتم جالستموهم و خالطتموهم و نازعتموهم الكلام بالتقيّة التي أمركم اللّٰه أن تأخذوا بها في ما بينكم و بينهم» «2».

و منها: ما رواه الحسن

بن محمّد الطوسي قدّس سرّهما بإسناده عن الصادق عليه السّلام «قال: قال عليه السّلام: عليكم بالتقيّة، فإنّه ليس منّا من لم يجعلها شعاره و دثاره مع من يأمنه لتكون سجيّته مع من يحذره» «3».

و منها: ما رواه ثقة الإسلام بسنده عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قال عليه السّلام:

ما بلغت تقيّة أحد تقيّة أصحاب الكهف أن كانوا ليشهدون الأعياد و يشدّون الزنانير فأعطاهم اللّٰه أجرهم مرّتين» «4».

و منها: ما رواه فخّار بن معد الموسوي في كتاب الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب عليه السّلام بإسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «إنّ جبرئيل نزل على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السّلام و يقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان و أظهروا الشرك، فأتاهم اللّٰه أجرهم مرّتين، و إنّ أبا طالب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 26 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 24.

(4) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 15.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 290

أسرّ الإيمان و أظهر الشرك، فآتاه اللّٰه أجره مرّتين، و ما خرج من الدنيا حتّى أتته البشارة من اللّٰه بالجنّة» «1».

و منها: ما رواه ثقة الإسلام بسنده عن هشام الكندي «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إيّاكم أن تعملوا عملا نعيّر به، فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا، و لا تكونوا علينا شينا، صلّوا

في عشائرهم، و عوّدوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و لا يسبقونكم إلى شي ء من الخير، فأنتم أولى به منهم، و اللّٰه ما عبد اللّٰه بشي ء أحبّ إليه من الخبإ، قلت: و ما الخبإ؟

قال عليه السّلام: التقيّة» «2».

هذه ما عثرت عليه من أخبار هذا المجال، و لعلّ المتتبّع يعثر على أزيد من ذلك، و من أراد فليراجع الوسائل في أبواب الأمر بالمعروف، و المستفاد من مجموعها محبوبيّة الخلطة و المجامعة مع المخالفين و الحضور في محاضرهم، و إظهار الموافقة معهم قولا و فعلا.

و بعبارة أخرى: تحصيل عنوان الاضطرار في حقّ نفسه بأن يحضر معهم في عبادتهم حتّى يضطرّ بإتيانها بصورة ما يأتونه، فيصير مجرى الطائفة الأخرى الدالّة على الإحلال في حقّ المضطرّ و من ليس له بدّ، هذا.

و لكن ربما يعارض هذه بأخبار أخر دالّة على اعتبار عدم المندوحة حال العمل، بل و لو بترك الصلاة رأسا، أو بالصبر إلى زمان آخر، و لكن لا بدّ من رفع اليد عن الظهور الثاني، كما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في رسالته المعمولة في التقيّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 17.

(2) الوسائل: كتاب الأمر و النهي، الباب 26 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 291

بواسطة القطع بأنّ الصلاة لا تترك بحال و صراحة بعض الأخبار بعدم اعتبار استيعاب العذر لمجموع الوقت المضروب للعمل، فيبقى الأخذ بالظهور الأوّل أعني:

اعتبار عدم المندوحة في الجزء الذي يعمل العمل فيه من الوقت بعدم إمكان تبديل المكان أو إزعاج الإنسان الذي يتّقى منه فمع إمكان ذلك لا موقع للتقيّة و لا يشرع العمل الموافق لها.

و أظهر شي ء في

هذا الباب رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن إبراهيم ابن شيبة «قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام عن الصلاة خلف من يتولّى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يرى المسح على الخفّين أو خلف من يحرّم المسح على الخفّين و هو يمسح، فكتب عليه السّلام: إن جامعك و إيّاهم موضع لا تجد بدّا من الصلاة معهم فأذّن لنفسك و أقم معهم، فإن سبقك إلى القراءة فسبّح» «1».

حيث إنّ مقتضى التقييد بقوله عليه السّلام: لا تجد بدّا إلخ عدم المشروعيّة مع وجدان الحيلة بأيّ طريق أمكن، فموضوع المشروعيّة عدم إمكان الاحتيال من كلّ وجه، و لكن قد عرفت أنّه بهذا العموم حتّى بترك الصلاة رأسا، أو بالصبر عن أوّل الوقت إلى جزء آخر مقطوع بخلافه من سائر الأخبار، فيبقى اعتبار عدم إمكان الحيلة في ذلك الحين و لو بالتبديل المكاني و نحوه.

و لكن حمل الرواية على إرادة خصوص هذا الفرد من المفهوم ليس بأولى من أن يقال: إنّ المراد هو المضطريّة مع حفظ عدم تغيير المسلك و كونه مصلّيا في المسجد في وقته المعتاد له إذا كان في أصحابه، فإنّه مع حفظ ذلك أيضا له حالتان:

الاولى: أن يكون مضطرّا إلى المماشاة مع العامّة لخوفه الضرر على نفسه مثلا في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 292

صورة الترك، لكونهم ذوي شوكة و سطوة و استيلاء على المؤمنين، و الثانية: عكس ذلك، بأن يكونوا في حال الابتذال و الذلّة غير مخوف منهم إيذاء و إضرار.

فالرواية يشترط في جواز إيجاد الصلاة على وجه التقيّة كونهم من القسم الأوّل حتّى يصير المكلّف مع محفوظيّة حاله

و عدم تغيير وضعه مضطرّا و داخلا في من لا بدّ و لا محيص له عن المماشاة و المداراة و إعمال العمل بصورة عملهم، و حينئذ أيضا يراعي في صلاته وظيفة المنفرد فيؤذّن في نفسه و يقيم و يقرأ كذلك، فإن أدّى ذلك إلى وقوع شي ء كان مانعا في صلاة الفرادى لو لا التقيّة مثل قطع الفاتحة عند خوف فوت اللحوق بركوع الإمام مثلا، فهذا ممّا حلّله التقيّة في هذه الصلاة و رفعت منعه الوضعي الثابت لولاها، فيكون بذلك صلاته صلاة فرادى صحيحة و إن كان بحسب الفضل و الثواب ربما يكون أفضل من الجماعة الصحيحة و كالاقتداء برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في الصفّ الأوّل.

و من هنا تقدر على هذا الجواب في كلّ رواية تشتمل على لفظة لا بدّ، أو الضرورة، أو الاضطرار، فإنّ الجواب عن الكلّ ما ذكرنا، و هو أنّه إذا فرض كونه في صورة المجامعة معهم مضطرّا و لا بدّ له من العمل مثل عملهم فقد رخّص له الأخبار إيجاد هذه المجامعة حتّى يحصل ذلك الاضطرار، و مع تحقّق الاضطرار فالأخبار ناطقة بصحّة العمل و صيرورته مصداقا للامتثال للأوامر الواقعيّة الأوّليّة، هذا.

و أمّا ما عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الثاني صلوات اللّٰه عليه:

«لا تصلّوا خلف ناصب و لا كرامة، إلّا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا و يشار إليكم، فصلّوا في بيوتكم، ثمّ صلّوا معهم و اجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا» «1»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 293

فلا ينافي ما ذكرناه من الإجزاء في التقيّة عن المخالفين، لإمكان اختصاص الحكم المزبور أعني: الصحّة و الإجزاء بخصوص التقيّة

عمّن عدا النصاب من سائر المخالفين و كون الحثّ و التحريص في حضور الجماعات المنعقدة أيضا مخصوصا بسائر أصنافهم ممّن عدا النصّاب، و أمّا النصّاب فحكمهم في ذلك حكم سائر الكفّار في أنّه ليس المخالفة و المراودة الصورية و الحضور في جماعاتهم مرغوبة أوّلا، و على فرض تحقّق الإلجاء و الخوف على النفس مثلا الداعي إلى التقيّة منهم فلا إشكال في وجوب التقيّة كالتقيّة عن سائر الكفّار، بل عن فسقة الشيعة، كما كان هو الحال في تقيّة أصحبا الكهف و مؤمن آل فرعون و سيّدنا أبي طالب عليه السّلام.

و لكن من الواضح عدم جريان حكم التقيّة عن المخالفين على التقيّة عن هؤلاء، فلو دعت التقيّة منهم إلى الصلاة بكيفيّة باطلة بحيث توقّف حفظ النفس مثلا عليها فلا إشكال في وجوبها، و لكن لا شبهة في عدم إجزائها عن الصلاة الصحيحة، فالخبر شاهد على كون النصّاب أيضا حالهم كذلك، فلا ينافي ما ذكرنا في سائر أصناف المخالفين.

و قوله: «لا كرامة» يعني ليسوا بقابلين للإكرام و معدودين من الإنسان و لفظة «كراميّة» مكانها الظاهر كونها تصحيفا.

و أمّا ما عن الفقه الرضوي من المرسل عن العالم عليه السّلام «قال: و لا تصلّ خلف أحد إلّا خلف رجلين، أحدهما من تثق به و بدينه و ورعه، و آخر من تتّقي سيفه و سوطه و شرّه و بوائقه و شيعته، فصلّ خلفه على سبيل التقيّة و المداراة، و أذّن لنفسك و أقم و اقرأ فيها، فإنّه غير مؤتمن به» «1».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 294

فالظاهر إرادة كون الرجل المتّقى منه ذا سطوة و شوكة بحيث يليق أن

يخاف منه، و ليس المراد به وجود الخوف و الضرر في ترك الصلاة الشخصيّة خلفه و ترتّب المضارّ المذكورة على تركها، بل إذا كان الرجل بتلك الصفة فالصلاة خلفه مرخّص فيها، و لو لم يترتّب على تركها ضرر، و المقصود نفي الصلاة خلف من ليس بتلك الصفة و لا يخشى من سطوته، فلا رخصة في الصلاة خلفه.

و بالجملة، هذه الرواية أيضا متّحد المفاد مع رواية إبراهيم بن شيبة و إن كانت إرادة ذلك فيها خلاف الظاهر منها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 295

الخامسة إذا نسي السجدتين أو إحداهما و تذكّر قبل الدخول في الركوع

وجب العود إليها، و إن كان بعد الركوع مضى إن كان المنسي واحدة و قضاها بعد السّلام، و تبطل الصلاة إن كان اثنتين، و إن كان في الركعة الأخيرة يرجع ما لم يسلّم، كلّ هذه ممّا لا كلام فيه بحسب الأدلّة ظاهرا، و ربما يأتي الكلام فيها مفصّلا.

إنّما الكلام في ما إذا تذكّر نسيان السجدة الأخيرة بعد السّلام، فالمشهور الحكم ببطلان الصلاة إن كان المنسيّ اثنتين، و القضاء إن كان واحدة.

و ربما يوجّه ما ذكروا بما ورد من كون آخر الصلاة التسليم، و ما ورد من كون تحليلها التسليم، و لازم المحلّلية عدم لحوق ما بعده بما قبله، و لا ينتقض بما إذا سلّم في الثالثة مثلا سهوا، حيث إنّ المحلّ قابل للحوق الرابعة، فإنّ هذا إنّما يرد لو قيل بكون جنس التسليم في أيّ محلّ وقع و بأيّ كيفيّة صدر محلّلا.

و لكنّا لا نقول به، بل نقول: إنّ محمول المحلّلية و الآخريّة يردان معا على موضوع واحد هو التسليم الذي وقع بعد تحقّق ما به قوام بنية الصلاة، فإذا كان في الصلاة الرباعيّة و قد سلّم في الثالثة مثلا فليس هذا

التسليم آخرا، بل وقع في غير المحلّ، و أمّا إذا أتى بأربع ركعات و إن نقص السجدتين من الأخيرة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 296

فإنّ قوام الركعة عرفا بركوعها، فسلّم، يصدق أنّ هذا التسليم واقع في الآخر، فيكون محلّلا.

و بالجملة، متى تحقّق عرفا اسم الفراغ من الصلاة فالسلام حينئذ متّصف بوصف المحلّليّة، و متى تحقّق هذا الوصف فاللازم عدم بقاء المحلّ للتدارك، فيتعيّن البطلان في نسيان السجدتين و القضاء في السجدة الواحدة.

و لكن يرد على هذا الوجه ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن الأعمش عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: لا يقال في التشهّد الأوّل: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، لأنّ تحليل الصلاة هو التسليم، فإذا قلت هذا فقد سلّمت» «1».

هذا مضافا إلى أنّه ليس صرف الفراغ و انتهاء العمل موجبا لعدم قابليّة المحلّ لتدارك ما فات، كما هو الحال في سائر الأعمال المركّبة لو فرض الإتيان بجزئها الآخر و حصل الفراغ منها، فإنّه مع عدم فوات الموالاة لو تذكّر فوات بعض أجزائها يعود و يتداركه، و المحلّ الذي لا يبقى إنّما هو المحلّ الذي يعتبر التجاوز منه في قاعدتي الشكّ بعد التجاوز و الشكّ بعد الفراغ، فإنّه مع تحقّق الفراغ عرفا لا يبقى محلّ للعود إلى المشكوك، كما لو شكّ بين الثلاث و الأربع بعد التسليم.

و أمّا المحلّ الذي يحكم بتلافي المسهي مع بقائه و بالاغتفار في غير الركن و بطلان الصلاة في الركن مع مضيّه فلا ينافيه صدق الفراغ عرفا.

و ليس المراد بمحلّلية التسليم أيضا أنّ من أثره كونه ما به يتحقّق الفراغ، فإنّ هذا شأن كلّ جزء أخير للمركّبات، بل المقصود أنّ المصلّي كما يدخل في

حريم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب التشهّد، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 297

الصلاة بالتكبير فيحرم عليه المنافيات، كذلك يدخل في الحلّ بالتسليم، فيصير تلك المحرّمات عليه محلّلة، و الخروج عن حريم الصلاة أمر زائد عن مجرّد الفراغ عن عمل الصلاة.

و حينئذ فمن الممكن كون هذا الأثر قد جعله الشارع من خواصّ التسليم في أيّ مكان حصل، و لا ربط له بكونه آخرا.

و لكن هذا المعنى يرد عليه ورود الأخبار الكثيرة في أنّ ناسي الركعة أو الركعتين إذا تذكّر يبنى على صلاته و يأتي بما نقص، و لو كان التسليم من أثره الوضعي الإحلال و الإخراج عن حريم الصلاة لما صحّ ذلك.

و يمكن أن يقال: إنّ دلالة الأدلّة الأوّليّة على ثبوت هذا الأثر الوضعي للتسليم و إن كانت غير قابلة للإنكار، و لكنّها محكومة بحديث لا تعاد، كما في سائر الآثار الوضعيّة الثابتة بحسب أدلّتها الأوّلية لذات الشي ء مثل المانعيّة لكلام الآدميين، فكما يحكم بمقتضى الحديث باختصاص المانعيّة بحال الذكر، كذلك يقال باختصاص هذا الأثر للتسليم في حال الذكر أيضا، فالتسليم الصادر عن سهو و لو في المنشأ غير موضوع للأثر المذكور. فلا منافاة له مع الأخبار الواردة في ناسي الركعة، و لا مع الخبر المتقدّم الدالّ على إثبات وصف التحليل لقول: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين في التشهّد الأوّل، لأنّ مورده التعمّد في قول ذلك، و لازم ذلك في مسألتنا القول بصحّة الصلاة حتّى في نسيان السجدتين إذا تذكّر قبل المنافي سهوا و عمدا، و ذلك لبقاء محلّ التدارك، فيأتي بالسجدتين أو بالسجدة الواحدة بعنوان التدارك، ثمّ يأتي بالتشهّد و التسليم، ثمّ بسجدتي السهو لزيادة التشهّد و التسليم

الصادرين منه قبل ذلك سهوا.

و لكن لمّا كان المشهور، بل ادّعى بعض عليه الإجماع هو ما ذكرنا من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 298

البطلان في نسيان السجدتين و القضاء في السجدة الواحدة، فلو أراد الاحتياط يأتي بالسجدة الواحدة بعنوان الاحتياط و عدم قصد الأدائيّة و القضائيّة، و كذا يأتي بالتشهّد و التسليم احتياطا، ثمّ بسجدتي السهو بقصد ما في الذمّة، و في صورة نسيان السجدتين يحتاط بإعادة الصلاة بعد إتيانهما مع التشهّد و السّلام و سجدتي السهو.

فإن قلت: كيف يمكن القول بالصحّة في نسيان السجدتين، و مقتضى لا تعاد إلخ البطلان به؟

قلت: كلّا، ليس مقتضى لا تعاد، البطلان بمحض النسيان، بل مع فوت محلّ التدارك، و المدّعى في المقام عدم فوته بالتسليم السهوي.

فإن قلت: اللازم الحكم بكون الحدث الواقع بعد هذا التسليم داخلا في الصلاة، لأنّ الفرض عدم إيجابه أثر التحليل و الخروج من الصلاة، فقد أحدث في الصلاة و هو موجب للبطلان حتّى في ما إذا نسي السجدة الواحدة أو التشهّد الأخير.

قلت: لا يخلو الحال إمّا نقول باعتبار الطهارة شرطا في الصلاة حتّى في أكوانها المتخلّلة بين أفعالها، فالمحدث غير مصلّ، لفقدانه شرط الصلاة، و إمّا نقول بكون الحدث قاطعا، بمعنى أنّه يمنع من ربط ما بعده بما قبله، و على كلّ من هذين التقديرين لا يلزم بطلان الصلاة كما هو واضح، إلّا في صورة نسيان السجدتين، لأنّ اللازم في صورة نسيان الواحدة ليس إلّا خلوّ الصلاة من سجدة واحدة، لعدم إمكان تلافيها، إمّا لعدم كون الشخص مصلّيا، و إمّا لوجود القاطع، و قد دلّت النصوص المستفيضة بأنّ الصلاة لا تعاد من نسيان سجدة واحدة، بل يكتفى بقضائها بعد الصلاة مع سجدتي السهو.

كتاب

الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 299

و الحاصل: ليس شأن الحدث المذكور بعد فرض عدم مخرجيّة التسليم السهوي و كون الشخص باقيا في الصلاة إلّا أحد الأمرين المذكورين، أمّا إعدام الشرط، و إمّا إحداث القاطع، و شي ء منهما غير مقتض لبطلان الصلاة بواسطة تلك النصوص الخاصّة الواردة في نسيان السجدة الواحدة.

و أمّا دعوى أنّ من شأن الحدث الصادر من الشخص الذي أتى بجميع أجزاء صلاته حتّى التسليم، إلّا أنّه فات منه سجدة واحدة في الركعة الأخيرة، و أوجب ذلك وقوع تسليمه في غير المحلّ، و عدم اتّصافه بوصف المحلّلية لذلك هو الإبطال لأصل صلاته، فلم يقم عليها دليل، بل مجرّد دعوى بلا بيّنة و شاهد، و لا يصير حاله كحال من أحدث قبل التسليم بدعوى أنّ السّلام في غير المحلّ كلا سلام، فكما أنّ الحدث الصادر قبل أصل التسليم موجب للبطلان على ما يظهر التسالم منهم عليه، فكذا هذا.

و ذلك لأنّ الأخبار المذكورة جعلت هذا السّلام الواقع في غير المحلّ بواسطة نسيان السجدة كالسلام في المحلّ، و قنعت مكان فعل السجدة بقضائها خارج الصلاة مع سجدتي السهو، فهذه الصلاة صلاة مشتملة على التسليم بحكم هذه الأخبار، لا خالية عنه، فلا يقاس بالصلاة الخالية عنه.

و من هنا يظهر الحال في نسيان التشهّد الأخير حتّى سلّم، فإنّ الحكم قبل صدور الحدث و نحوه هو الإتيان به تداركا لا قضاء، و بعده الإتيان به قضاء، و المحكيّ عن ابن إدريس في هذه الصورة القول ببطلان الصلاة لو أحدث بعد التسليم، و مقتضاه القول به في نسيان السجدة الواحدة من الركعة الأخيرة أيضا.

قال في ما حكى عنه في الحدائق: لو تخلّل الحدث بين الصلاة و التشهّد الأوّل

كتاب الصلاة (للأراكي)،

ج 2، ص: 300

لم تبطل الصلاة، لخروجه منها بالتسليم، و لو تخلّل بينها و بين التشهّد الثاني بطلت صلاته، لأنّ قضيّة السّلام الصحيح أن يكون بعد التشهّد، فوقوعه قبل كلا سلام، فيكون حدثه قد صادف الصلاة.

و اعترضه المحقّق في المعتبر فقال بعد نقل كلامه: و ليس بوجه، لأنّ التسليم مع السهو مشروع، فيقع موضعه، و يقضي التشهّد، لما روى حكم بن حكيم عن الصادق عليه السّلام في رجل نسي ركعة أو سجدة أو الشي ء منها، ثمّ تذكّر بعد ذلك «قال عليه السّلام: يقضي ذلك بعينه، قلت: أ يعيد الصلاة؟ قال عليه السّلام: لا» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الخلل، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 301

السادسة قد صرّح الأصحاب على ما في الحدائق بكراهة الإقعاء في جلوس الصلاة،

إلّا أنّه وقع الخلاف في حكمه و كيفيّته، فالمشهور بين الأصحاب هو الحكم فيه بالكراهة، بل ادّعى الشيخ في الخلاف عليه الإجماع، و نقل القول بالكراهة المحقّق في المعتبر عن معاوية بن عمّار و محمّد بن مسلم من القدماء، و نقل عن الشيخ في المبسوط و المرتضى رضوان اللّٰه عليهما أنّهما ذهبا إلى عدم الكراهة، انتهى.

و العمدة ذكر الأخبار الواردة في المقام، ثمّ التكلّم في ما يستظهر منها، فنقول و على اللّٰه التوكّل و بأذيال أصحاب الكساء صلوات اللّٰه و سلامه عليهم أجمعين التوسّل:

منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: لا تقع بين السجدتين إقعاء» «1».

و منها: ما رواه الحلبي عنه عليه السّلام «قال: لا بأس بالإقعاء في الصلاة بين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 302

السجدتين» «1».

و منها: ما رواه في التهذيب في الصحيح على ما في

الحدائق عن معاوية بن عمّار و محمّد بن مسلم و الحلبي «قالوا: لا تقع في الصلاة بين السجدتين كإقعاء الكلب» «2».

و منها: ما رواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار عن عمرو بن جميع «قال:

قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: لا بأس بالإقعاء في الصلاة بين السجدتين و بين الركعة الاولى و الثانية، و بين الركعة الثالثة و الرابعة، و إذا أجلسك الإمام في موضع يجب أن تقوم فيه تتجافى، و لا يجوز الإقعاء في موضع التشهّدين إلّا من علّة، لأنّ المقعي ليس بجالس، إنّما جلس بعضه على بعض، و الإقعاء أن يضع الرجل أليتيه على عقبيه في تشهّده» «3» الحديث.

و منها: ما رواه ابن إدريس قدّس سرّه في مستطرفات السرائر نقلا عن حريز عن زرارة «قال: قال أبو جعفر عليهما السّلام: لا بأس بالإقعاء في ما بين السجدتين، و لا ينبغي الإقعاء في التشهّدين، إنّما التشهّد في الجلوس و ليس المقعي بجالس» «4».

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ ها هنا مقامين:

الأوّل: في كيفيّة الجمع بين الأخبار و رفع التعارض عمّا بينها.

و الثاني: في تفسير الإقعاء و الاختلاف الواقع فيه بين الفقهاء و اللغويين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب السجود، الحديث 6.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب التشهّد، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 303

أمّا المقام الأوّل فقد عرفت أنّ الموجود في الأخبار ثلاث طوائف:

النهي المعارض بلا بأس، و هو في الإقعاء بين السجدتين، و النهي الخالص عن المعارض، و هو في التشهّدين، و اللابأس الخالي عن مزاحمة النهي، و هو في

جلسة الاستراحة.

فقد يقال بحمل روايات النهي على الإقعاء المنقول عن أهل اللغة، و هو الجلوس على الأليتين ناصبا فخذيه واضعا يديه على الأرض، مثل إقعاء الكلب، بقرينة رواية المشايخ الثلاثة المصرّحة بكون المنهيّ ما كان كإقعاء الكلب، و روايات الجواز على الإقعاء بالمعنى الذي عند الفقهاء بقرينة رواية عمرو بن جميع المصرّحة بتفسيره، هذا بالنسبة إلى الجلوس بين السجدتين.

و أمّا التشهّد فظاهر روايتي معاني الأخبار و السرائر هو المنع عن الإقعاء، و ليس لهاتين الروايتين بالنسبة إلى التشهّد معارض، بل في بعض الأخبار ما يؤيّدهما، مثل قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة الدالّة على النهي عن العقود على قدميه و أنّه يتأذّى بذلك، و لا يكون قاعدا على الأرض، و إنّما قعد بعضه على بعض، فلا يصبر للتشهّد و الدعاء.

و فيه أنّ التفسير في رواية عمرو بن جميع ظاهر في كونه تفسيرا للإقعاء الأعمّ من كونه متعلّقا للنهي أو للجواز، فحمله على تفسير خصوص ما كان موردا للجواز ممّا لا وجه له.

و أمّا قرينيّة قوله في رواية المشايخ: «كإقعاء الكلب» على إرادة المعنى اللغوي أيضا فيه ما سيأتي.

و يمكن أن يقال: إنّ هنا معنى واحدا صادقا على كلّ واحد من إقعاء الإنسان و الكلب بنحو الاشتراك، و هو عبارة عن عدم الاعتماد في حال الجلوس على جميع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 304

الأسافل من الاست و الساقين و الفخذين على وجه التساوي، بل كان الاعتماد على بعضها.

و حينئذ فمصداق هذا المعنى منحصر في الكلب بافتراش فخذيه و انتصاب يديه، و في الإنسان يمكن بنحوين، أحدهما: ما ذكره الفقهاء، و الثاني: ما ذكره أهل اللغة، و لكن الثاني ليس مناسبا لحال الصلاة، لصعوبته، بخلاف الأوّل،

بل يكون هو أسهل من غيره.

و على هذا فيقال: الأخبار محمولة على الجامع بين النحوين، و لا ينافيه قوله:

كإقعاء الكلب، إذ المقصود هو التشبيه في أصل الفعل، لا في كيفيّته كما يقال: لا أقرّ إقرار العبيد، و لا التعليل بأنّ المقعي ليس بجالس، إنّما جلس بعضه على بعض، لتحقّق ذلك في كليهما، أمّا في معنى الفقهاء فواضح، و أمّا في النحو الآخر فلأنّ الاعتماد على اليدين، فكأنّه جلس بعضه و هو النصف الأعلى من بدنه على بعضه و هو اليدان، و أمّا نفي الجلوس فباعتبار أنّه ليس بمتمكّن في الجلوس، بل على هيئة من يكون مستعجلا للقيام، فالمقصود أنّه ليس جلوسا تمكّنيا و إن كان جلوسا مطلقا، هذا في تفسير الفقهاء.

و أمّا في النحو الآخر فالمقصود نفي الكامل من الجلوس، و أمّا عدم الصبر للدعاء و التأذّي فوجودهما في كلا القسمين واضح.

و بالجملة، حمل الأخبار في طرفي الرخصة و المنع على الجامع بين القسمين ممّا لا تأباه تلك الأخبار.

و أمّا تفسيره في ذيل خبر المعاني في كلمات الفقهاء فلعلّه لأجل أنّ هذا القسم منه غالبا يقع محلّا للابتلاء بالنسبة إلى شخص المصلّي، فإنّ هذه الهيئة أنسب بحال من ينتقل من السجود إلى الجلوس، ثمّ يريد الانتقال ثانيا إلى السجود أو إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 305

القيام، كما هو المشاهد من ديدن المستعجلين، و أمّا النحو الآخر فبعيد الصدور منه، و يكون خارجا عن مورد ابتلائه بحسب الغالب.

و إذن فنقول: هذا المعنى مكروه في ما بين السجدتين، و أغلظ كراهة في حال التشهّدين، و لا كراهة فيه في جلسة الاستراحة، أمّا الأخير فلوجود دليل الرخصة فيه مع سلامته عن معارضة دليل المنع كما يعلم

بمراجعة الأخبار المتقدّمة.

و أمّا أصل الكراهة في التشهّدين مع سلامة دليل المنع فيه عن دليل الرخصة فلوجود أمارات الكراهة في نفس دليل المنع من التعليلات المتقدّمة المناسبة مع الكراهة كما لا يخفى.

و أمّا وجه أغلظيّتها فللجمع بين الرخصة في ما بين السجدتين مع المنع عنه في التشهّدين في الخبر المتقدّم، و بحسب التعليلات المتقدّمة أيضا وجهه ظاهر، حيث إنّ امتداد الجلوس فيه أزيد عمّا بين السجدتين، فلهذا يكون الجلوس المذكور الموجب للأذيّة و عدم الطاقة للدعاء أشدّ كراهة منه في ما بين السجدتين الذي لا يكون الامتداد فيه بهذا القدر.

و منه يظهر وجه الترخيص في جلسة الاستراحة حيث إنّها ليست في الركعة الاولى و الثالثة محلّا لدعاء أو تشهّد.

و من هنا يعلم دفع إشكال ربما يورد في المقام و هو أنّه ما وجه تقييد مورد النهي بما بين السجدتين في بعض الأخبار مع تعميمه لحال التشهّد، بل هو آكد و أشدّ كراهة.

فإنّه يقال في دفعه: إنّ النظر في هذا التقييد إلى الاحتراز عمّا بعد السجدة الثانية في ما إذا خلى عن التشهّد، فالمقصود بيان الفرق بين السجدة الاولى و الثانية في أنّ ما بعد الاولى يحتاج إلى أزيد من الجلوس المحتاج في ما بعد الثانية، و حيث إنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 306

الجلوس المذكور لا يناسب الطول فلا يناسب في ما بعد الاولى دون الثانية.

فالمراد بالإقعاء في كلام اللغويين عبارة عن الجلوس على الأليتين مع رفع الساقين و التساند إلى الظهر بأن يضع يديه على الأرض التي وراء ظهره و يعتمد عليهما.

و في تفسير الفقهاء عبارة عن الجلوس على العقبين مع وضع صدورهما على الأرض، و خلوّ بعض الكلمات من التقييد الأخير لا

يضرّ بعد كونه مفهوما من أوّل الكلام، فإنّه بدون وضع الصدور بل وضع ظهورهما على الأرض ليس الجلوس على خصوص العقبين، بل على تمام القدمين كما لا يخفى، بل عمدته على باطنهما.

و قد عرفت السرّ في اختلاف الفقهاء عامّة من الخاصّة و العامّة مع اللغويين في تفسيره و أنّ من الممكن كون المعنى واحدا في الإنسان و الكلب، و هو تخصيص الاعتماد بخصوص الأليتين على خلاف وضع المتعارف في الجلوس من كونه على تمام الساقين و الفخذين و القدمين، و هو في الإنسان يتمشّى بنحوين، و في الكلب بنحو واحد، لكنّ المبتلى به من القسمين المناسب بحال المصلّي الجالس بين السجدتين أو بين السجود و القيام هو ما ذكره الفقهاء، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور، فالأحوط في مقام الاجتناب عن الكراهة اجتناب القسمين معا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 307

خاتمة في سائر السجدات
اشارة

فاعلم أنّها بين واجب و مندوب، فمن الأوّل سجدتا السهو، و يأتي بيانها و بيان أحكامها إن شاء اللّٰه تعالى في مبحث الخلل، و منه السجدات القرآنيّة في العزائم الأربع، الم تنزيل، و فصّلت، و النجم، و اقرأ باسم ربّك.

و اعلم أنّ تمام السجدات القرآنيّة من الواجبة و المندوبة خمس عشرة، و قد دلّت الأخبار الكثيرة على الوجوب في العزائم الأربع، و أمّا الاستحباب في أحد عشر موضعا آخر فممّا ادّعي عليه الإجماع و مقطوع به- على ما في المدارك- في كلام الأصحاب، و المهمّ الآن التكلّم في مواضع:

السجدة في العزائم
الأوّل: لا إشكال في وجوب السجدة في العزائم الأربع

على القارئ و المستمع، لأنّهما المتيقّن من أخبار المسألة، و أمّا السامع بدون الإنصات فقد اختلفت فيه الأنظار، فذهب الشيخ قدّس سرّه إلى عدم الوجوب عليه، و قال ابن إدريس: يجب عليه، و المنشأ اختلاف الأخبار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 308

فممّا يدلّ على الثاني خبر أبي بصير «قال: إذا قرأ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد و إن كنت على غير وضوء، و إن كنت جنبا، و إن كانت المرأة لا تصلّي، و سائر القرآن أنت فيه بالخيار، إن شئت سجدت، و إن شئت لم تسجد» «1».

و الأخبار الحاكمة بالسجدة على السامع كثيرة.

و تقريب الاستدلال يحتاج إلى مقدّمة و هي أنّ الأفعال الاختياريّة التي يصحّ جعلها موردا للتكليف على صنفين، أحدهما ما كان قوّة الفاعل في نفسها معمولة كالضرب و نحوه، حيث إنّه يصدر من قوّة الضارب، و الآخر ما يكون قوّة الفاعل فيه مصروفة في مقدّماته دون نفسه، و منه الرؤية بالعين، فإنّها ليست بصادرة عن قوّة الرائي و إن كان متمكّنا من فتح العين و من إثبات المرئي في مقابله حتّى يقع رؤيته

عليه، و كذلك متمكّن من إيجاد المانع، فالاختياريّة في هذا القسم إنّما هو بواسطة اختياريّة المقدّمات و الموانع، و هذا واضح.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أضيف الفعل الذي من القسم الأوّل إلى الفاعل المختار كأن قيل: ضرب زيد، فالمتبادر منه هو الحصول عن قوّة و اختيار، لا عن سهو و قهر.

و أمّا إذا أضيف القسم الثاني كأن قيل: رأى زيد كذا، أو سمع كذا، فالمتبادر المذكور في هذا القسم ممنوع لو لم نقل بأنّ المتبادر هو الحصول القهري بلا سبق إعمال قدرة و اختيار.

و حينئذ فإذا قيل: من سمع آية السجدة يسجد، فحمله على صورة الاستماع

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 42 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 309

دون السماع القهري خلاف الظاهر، مضافا إلى إمكان كونه حملا على الفرد النادر.

و لكن يعارض هذا الظاهر صحيحة ابن سنان «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل سمع السجدة تقرأ؟ قال عليه السّلام: لا يسجد إلّا أن يكون منصتا لقراءته مستمعا لها، أو تصلّي بصلاته، فإمّا أن يكون يصلّي في ناحية و أنت تصلّي في ناحية أخرى، فلا تسجد إذا سمعت» «1». و دلالتها على عدم الوجوب واضحة بالغة حدّ الصراحة.

و المناقشة فيها باشتمالها على قراءة العزيمة في صلاة الجماعة مع اختصاص الجماعة بالفريضة، و عدم مشروعيّة العزيمة في الفريضة، يمكن الجواب عنها بإمكان حملها على صورة الاقتداء بالمخالفين، فتكون التقيّة هي الرافعة للمنع الوضعي الثابت للسجود لولاها، على ما تقدّم تفصيل الكلام في حكم التقيّة قبيل ذلك، هذا بحسب الدلالة.

و أمّا السند، [فربما يخدش فيه باشتماله على محمّد بن عيسى العبيدي، و ذكر ابن بابويه عن ابن الوليد أنّه

قال:] «2» فليس فيه إلّا محمّد بن عيسى عن يونس، و جلالة قدر يونس واضحة، و هو الذي ورد قولهم عليهم السّلام: خذ معالم دينك من يونس بن عبد الرحمن.

و أمّا محمّد بن عيسى الراوي عن يونس فهو و إن حكى الصدوق قدّس سرّه عن شيخه ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس و حديثه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 43 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 1.

(2) ما بين المعقوفتين زائد ظاهرا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 310

لا يعتمد عليه، و صار ذلك سببا لتضعيف الشيخ قدّس سرّه إيّاه في الفهرست، إلّا أنّ الشيخ الصدوق بعد حكاية هذا عن شيخه قال: و رأيت أصحابنا ينكرون هذا القول و يقولون: من مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى؟

و قال الكشّي قدّس سرّه: قال القتيبي: كان الفضل بن شاذان يحبّ العبيدي و يثني عليه و يمدحه و يميل إليه و يقول: ليس في أقرانه مثله.

و في الخلاصة: الأقوى عندي قبول روايته.

و في الوجيزة: ثقة.

و إذن فالرواية غير قابلة للخدشة لا دلالة، و لا متنا، و لا سندا.

و حينئذ نقول: مقتضى الجمع بينها و بين ما تقدّم من الأوامر الظاهرة في الوجوب بالنسبة إلى السامع أحد أمرين: إمّا التصرّف في مادّة تلك الأخبار بحمل السماع فيها على الاستماع الذي عرفت بعده، بل و استلزامه تقييد المطلق بغير الغالب، و إمّا التصرّف في متنها بحملها على الفضل و الرجحان، و الثاني أولى، فيكون الأقوى حينئذ هو الحكم بالاستحباب كما قوّاه الشيخ قدّس سرّه.

الثاني: هل السجدة عند القراءة أو الاستماع واجبة فورا، أو بالتراخي؟

لا بدّ من تمهيد مقال لتوضيح الحال، و هو أن يقال: إنّ القضايا الشرطيّة المشتملة على تعليق الطلب على شي ء مثل

قولك: إن جاءك زيد فأكرمه، أو إذا أذّن المؤذّنون فصلّ، أو إذا زالت الشمس فصلّ، و أمثال ذلك و إن كانت القيد بحسب ظاهر القضيّة راجعا إلى الهيئة، بمعنى أنّ الأمر مقيّد بحصول الشرط، لا إلى المادّة، إلّا أنّ المنساق و المتبادر العرفي منها كون زمان المأمور به أيضا إمّا متّحدا مع زمان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 311

الشرط، أو متّصلا به، و هذا هو المتبادر من الإطلاق.

نعم للمتكلّم أن يوقّته بوقت خاصّ، كأن يقول: إذا جاءك زيد فصلّ عند الأسبوع الآتي بعد مجيئه مثلا، و لكن لو لم يوقّت فالقضيّة ظاهرة في الاتّحاد أو الاتّصال، فلا يقال: إنّ القيد راجع إلى الهيئة، و مقتضاه أنّ الأمر و الإيجاب يكون بعد حصوله، و أمّا أنّ الواجب ظرفه ما ذا فليس القضيّة في مقام تعرّضه، بل هو كما إذا صدر الأمر بلا تعليق، فكما أنّ الأمر المنجّز ليس فيه تعرّض لزمان الفعل، فكذا هذا عند تحقّق المعلّق عليه.

إذا عرفت [ذلك] فنقول: إنّ قول الشارع: إذا قرأت أو استمعت آية السجدة فاسجد، يستفاد منه الفوريّة على حسب ما ذكرنا، فلا نحتاج إلى التشبّث بذيل الإجماع في إثبات الفور بعد وجود الظهور اللفظي.

الثالث: هل يتكرّر السجود بتكرّر سببه

إمّا بفردين من نوع واحد، و إمّا بفردين من نوعين، أو لا يتكرّر، بل يكفي إتيان سجدة واحدة عقيب الجميع؟ المسألة مبتنية على مسألة تداخل الأسباب و المسبّبات، و هي و إن قرّرت في الأصول و حقّق هناك أنّ الأصل ما لم يقم الدليل الخاصّ على خلافه هو التداخل و جواز الاكتفاء بمسبّب واحد عقيب الأسباب المتعدّدة و لو من أنواع متفاوتة، لكن لا بأس بالإشارة إليه ها هنا.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ

مدّعى القائلين بأصالة عدم التداخل و لزوم التعدّد يبتني على إثبات مقدّمتين:

الاولى: أنّ السبب هو الطبيعة السارية من الشرط، لا الصرف الغير القابل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 312

للتكرار، فيكون السببيّة منبسطة على الأفراد، بحيث يكون كلّ فرد فرد من الشرط سببا مستقلّا للجزاء.

و الثانية: أنّ المسبّب أيضا طبيعة قابلة للتكرار، لا صرف الوجود، ضرورة أنّه بفقدان كلّ واحدة من هاتين المقدّمتين لا يبقى مجال للقول بالتكرار، كما أنّه مع تماميّتهما لا مجال لإنكاره.

أمّا الأوّل: فلأنّه إذا كان الصرف الغير القابل للتكرار في طرف الشرط سببا، كما إذا قيل: إذا رأيت ميّتا فقل: الحمد للّٰه الذي لم يجعلني من السواد المحترم، حيث إنّ الظاهر عدم تفاوت المعنى المقصود بالشرط برؤية الأموات الكثيرة أو ميّت واحد، فالسبب غير متكرّر، فلا وجه لتكرّر المسبّب، كما أنّه إذا كان المسبّب كذلك فمن الواضح عدم الوجه لتكرّره أيضا و لو مع تكرّر الأسباب، كما لو تكرّر الأسباب و اجتمعت على قتل زيد.

و أمّا الثاني، فلأنّ كون كلّ من طبيعتي السبب و المسبّب قابلتين للتكرّر، فلا وجه لعدم التكرّر، و هل هو إلّا تخلّف المسبّب عن سببه؟

و حينئذ نقول: أمّا المقدّمة الأولى فيمكن الجزم بظهور الطبيعة السارية في خصوص باب الأسباب و لو بواسطة غلبة ذلك في الأسباب العرفيّة و عدم تحقّق سببيّة الصرف عندهم.

و أمّا الثانية، فهي و إن كانت سالمة عن الإشكال بأنّ المسبّب إذا كان هو الوجوب فاللازم من تكرّره شدّته، لا تكرّر الواجب، لما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في الجواب عنه في كتاب طهارته في مسألة منزوحات البئر بما حاصله أنّ المسبّب ليس هو الوجوب، بل هو الوجود، فالشرط يقتضي لوجود الجزاء، و الأمر

إنّما نشأ من قبل هذا الاقتضاء، فهو متعلّق بإعطاء المقتضي- بالكسر- مقتضاه، إلّا أنّها مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 313

ذلك مخدوشة بأنّ الظاهر من الطبيعة الواقعة تلو الأمر هو اعتبارها بنحو الوجود الصرف المعرّى عن القلّة و الكثرة و الوحدة و التعدّد، بحيث يكون هذه المفاهيم خارجة عن مفهومه، كخروج الزيديّة و العمرويّة عن مفهوم الإنسان.

و توضيح المقام أنّ الطبيعة بعد ما لم يكن من حيث هي إلّا هي و لا تقبل شيئا من الأعراض الذهنيّة أو الخارجيّة حتّى هذا العرض أعني قولنا: ليست إلّا هي، فلا بدّ من اعتبار وجود معها في قبول الإعراض إمّا ذهني و إمّا خارجي، و هذا الوجود المعتبر يكون على أربعة أنحاء:

الأوّل: اعتبار الوجود مقيّدا بقيد الوحدة.

و الثاني: مقيّدا بقيد الكثرة.

و الثالث: مطلقا و بلا قيد، بأن كان الملحوظ حقيقة الوجود، و لازم كون الشي ء عارضا على الطبيعة باعتبار حقيقة الوجود هو عدم انفكاكه عنها في الخارج، كما في حرارة النار و برودة الماء و حلّية البيع.

و الرابع: اعتباره لا بنحو التقييد بخصوصيّة إمّا خاصّة و إمّا عامّة، و لا بنحو الإطلاق و السريان، بل ينتزع عن جميع الوجودات معنى واحد يكون قهري الانطباق على أوّل الوجودات، و يكون ما بعده من الوجودات لواحق و طوارئ بالنسبة إليه.

فوجود الزيد المتأخّر مثلا عارض بالنسبة إليه، و من المعلوم مغايرة العارض مع المعروض، فالمطلوب غير منطبق عليه.

بخلاف النحو الثالث، فإنّ وجود الزيد أيضا كوجود العمرو المتحقّق أوّلا وجود المطلوب، فالمطلوب يتكرّر الوجود، و لا محالة يتكرّر العرض العارض عليه، سواء كان من سنخ الأعراض الخارجيّة، أم من سنخ الطلب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 314

و الإرادة و مباديه

من الحبّ و الشوق.

ألا ترى تكرّر معروض الحرارة و البرودة بتكرّر وجود الماء و النار، و لا محالة يتكرّر العرضان المذكوران، و هكذا حبّ الإنسان للجاه و المال يتكرّر بتكرّر وجودهما، و لكنّه لا يتكرّر المطلوب على النحو الرابع، بل هو أبدا شي ء واحد، و الوجود الثاني و الثالث و الرابع إلى آخر الأفراد كلّها معدود بالنسبة إليه طارئا و عارضا، و من المعلوم أنّ المعروض غير منطبق على عارضه، و لا يتكرّر بتكرّره، و لا محالة ينقطع تكرّر العرض أيضا على الوجود الأوّل، لانقطاع المعروض عليه و عدم كون الوجود البعد نفس المعروض، بل وصفه و عارضه.

ألا ترى أنّه يقال بكثرة الأفراد: إنّ الطبيعة صارت متكثّرة، و كذلك بقلّتها يقال: صارت الطبيعة قليلة، فالذي نجعله معروضا للقلّة و الكثرة و الوحدة و التعدّد هو هذا المعنى من الوجود، و إلّا فلا يتّصف شي ء من الوجودات الخاصّة بالكثرة و القلّة أو الوحدة أو التعدّد، و حينئذ فما هو معروض التعدّد و التكرّر غير التعدّد و التكرّر لا محالة و خارج من سنخهما.

و لا يذهب عليك أنّ هذا المعنى الذي نسمّيه بصرف الوجود ليس له أثر في كلمات الحكماء و لا في كلمات غيرهم، و لكنّه أمر يساعد عليه الوجدان، و لا محيص عن القول به، فإنّ متعلّق عرض الأمر لو فرض أنّه حقيقة وجود الطبيعة بلا تقيّد بقيد أصلا من زمان أو حال أو وحدة أو كثرة، فلا محالة يجب تعدّده بتعدّد وجودها في الخارج كما في سائر الأعراض التي يعرضها بهذا الاعتبار، و لا ينفكّ عنها خارجا، فإنّ الانفكاك الخارجي لا محالة يكون لأجل أحد أمرين:

إمّا عدم كون الوجود المنفكّ عنه مصداقا للطبيعة، و

إمّا تقييد الطبيعة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 315

المعروضة بخصوصيّة مفقودة في هذا المصداق، و كلاهما مخالف للفرض من كون الموجود مصداق الطبيعة و كون الطبيعة بوصف الإطلاق و السريان بلا تقييد بخصوصيّة لا خاصّة و لا عامّة.

إذا عرفت ذلك نعود إلى حكم مسألتنا و نقول: و إن كانت طبيعة السبب قابلة للتكرّر و يكون كلّ فرد فرد من القراءة و الاستماع لآية السجدة سببا مستقلّا بمقتضى القاعدة الجارية في عامّة باب الأسباب، المؤيّدة هنا بالنصّ الخاصّ أيضا، الوارد في من يتعلّم القرآن، حيث حكم بأنّه يجب على كلّ من المعلّم و المتعلّم متى قرأ آية السجدة سجدة التلاوة، و المسبّب لهذه الأسباب العديدة أيضا على ما أفادنا شيخنا المرتضى قدّس سرّه وجود السجدة، لا وجوبها، إلّا أنّه لمّا كان السجدة التي هي مسبّب معروضة للأمر على ما هو الحال في متعلّق سائر الأوامر بالنحو الرابع الغير القابل للتكرار مع إطلاق الطبيعة المسبّبة و عدم تقييدها في كلّ سبب بقيد خاصّ به، مثل الإتيان بها بعنوان ذلك السبب، كما في ردّ السّلام، حيث إنّ اقتضاء التسليمات العديدة ليس لصرف ردّ السّلام على وجه الإطلاق، بل خصوص الرّد إلى المسلّم.

و مفروض مقامنا عدم أخذ مثل هذا التقييد في السجدة المسبّبة، بل مقتضى الكلّ هو السجدة المطلقة من كلّ جهة بنحو صرف الوجود، فحال هذه الأسباب في التأثير لهذا المسبّب بعينه مثل حال إيراد السهم على بطن زيد و ضرب العمود على رأسه، حيث إنّ كلا منهما سبب مستقلّ في حدّ ذاته لقتله، و لكن إذا اجتمعا صارا منضمّين في التأثير، لعدم قابليّة المحلّ لمسبّبين، كما أنّه لو تقدّم أحدهما كان الثاني لغوا.

نعم في ما نحن

فيه لو وجد الفردان متعاقبين كان كما لو وجدا دفعة في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 316

الاشتراك في التأثير.

نعم إذا تخلّل وجود السجدة بين فردين من القراءة أو الاستماع وجب تكريرها عقيب الثاني، و إلّا لزم انعزال الثاني عن الأثر رأسا، لعدم إمكان شركته مع المتقدّم في السجود المتقدّم عليه وجودا.

مضافا إلى أنّ مقتضى ظاهر القضيّة اعتبار تأخّر الجزاء عن وجود الشرط، فالمسبّب ليس مطلق السجود، بل السجود المقيّد بكونه بعد القراءة، و السجود المتقدّم فاقد لهذه الخصوصيّة، فلا يقبل للمسبّبية بالنسبة إلى القراءة المتأخّرة.

و هنا فروع:

(1): هل السبب تمام الآية أو بعضها، أو خصوص لفظ السجدة؟ الظاهر الأوّل.

(2): هل الملفّق من القراءة و الاستماع حكمه حكم القراءة أو الاستماع الخالصين؟ الظاهر الأوّل، كما في الإناء الملفّق من النقدين.

(3): لو قرأ جماعة دفعة واحدة و بصوت واحد آية السجدة، فهل يجب على المستمع سجود واحد باعتبار أنّ الاستماع واحد و إن كان الأصوات متعدّدة، كما إذا كانت الرؤية واحدة و المرئيّ متعدّدا، أو سجودات بعدد القراءات؟ الظاهر الأوّل.

الرابع: يعتبر في السجود بعد تحقّق مسمّاه- مضافا إلى النيّة- إباحة المكان،

و أمّا سائر الشرائط المعتبرة في السجود الصلاتي من الطهارة و الاستقبال و الستر و صفات الساتر و غير ذلك، فالحكم الكلّي فيها أنّ الأخبار الدالّة على وجوب سجدة التلاوة الخالية عن ذكر تلك الشروط، بل المشتمل بعضها على التصريح

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 317

بعدم بعضها، مثل الطهارة عن الحدث الأصغر، بل و عن حدث الجنابة لا يخلو إمّا أن يكون إطلاقها واردا مورد البيان، و إمّا لا، فعلى الأوّل يكون المرجع في نفي كلّ ما شككنا فيه ذلك الإطلاق، و على الثاني يكون المرجع أصالة البراءة على ما هو المختار في الأقلّ و

الأكثر.

إلّا أنّ هنا بعضا من القيود أمكن أن يقال باعتبارها في هذه السجدة أيضا.

أحدها: اعتبار عدم علوّ موضع الجبهة عن الموقف، فإنّ الظاهر أنّه تحديد للانحناء المعتبر في مفهوم السجدة عند الشارع، فالغير البالغ هذا الحدّ مسلوب عنه الاسم شرعا و إن صدق عليه عرفا، فحاله حال الانحناء الخاصّ المعتبر في الركوع الشرعي، مع أنّ الركوع العرفي متحقّق بما دونه، فلو أوجب الشارع في غير الصلاة عنوان الركوع كان المتبادر ما حدّده له من الانحناء الخاصّ، و كذلك في السجود.

و الثاني: اعتبار كون موضع السجود ممّا يصحّ السجود عليه من الأرض و نباتها، فإنّه يمكن الاستئناس لاعتباره في المقام بالتعليل الوارد في بعض تلك الأخبار لمنع السجود على المأكول و الملبوس من نبات الأرض بأنّهما معبود أهل الدنيا، و الساجد في سجوده في عبادة اللّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته على معبود أهل الدنيا.

و هنا قيد ثالث اختلف فيه الأخبار، و هو طهارة المرأة عن حدث الحيض، فيستفاد من بعض الأخبار التصريح بعدم اعتبارها و أنّ السجود المذكور يجب على الحائض كما يجب على الجنب و من كان على غير وضوء «1».

و يستفاد من بعض آخر الاعتبار و أنّه لا يجب على الحائض، مثل صحيحة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب قراءة القرآن، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 318

عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الحائض هل يقرأ القرآن و يسجد سجدة إذا سمعت السجدة؟ قال عليه السّلام: تقرأ و لا تسجد» «1».

و قد يقال: إنّ مقتضى الجمع بينها و بين التصريح المتقدّم في الخبر المشار إليه المتقدّم حمل الأمر

على الاستحباب، و هذا النهي على الرخصة في الترك.

و فيه أنّ هذه الرواية آبية عن هذا الحمل، حيث إنّ السائل إنّما سأل عن أصل جواز قراءة غير العزائم و عن السجدة التي تسمعها من العزائم بعد مفروغيّة حرمة قراءة العزائم عليها عنده، و الجواب بقوله عليه السّلام: تقرأ، بعد هذا السؤال إنّما هو مفيد لأصل الجواز، فلا بدّ أن يكون قوله: و لا تسجد، مفيدا لنفي أصل الجواز.

و بالجملة، فالرواية مع ما دلّ على الثبوت متعارضان يجب الرجوع فيهما إلى المرجّحات، و الموجود منها في المقام مخالفة العامّة في جانب ما اشتمل على إثبات السجدة، لموافقة النهي، لما حكي عن أكثر الجمهور من القول باشتراط الطهارة من الحدثين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 36 من أبواب الحيض، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 319

البحث السابع في التشهّد

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 321

و هو واجب في الثنائيّة مرّة، و في الثلاثيّة و الرباعيّة مرّتين بلا خلاف بيننا على الظاهر، بل صرّح غير واحد بأنّه قول علمائنا أجمع، و إن كان يوهم الخلاف بعض الأخبار الذي وقع فيه التصريح بأنّه سنّة، حيث يظهر منه كون التشهّد مستحبّا و إن كان ورد التعبير بالسنّة في بعض الواجبات، و لكنّه في ذيل أخبار عدم الإعادة بالسهو و أنّه من خواصّ ما وجب بالسنّة في مقابل ما وجب بالقرآن.

و أمّا هنا فيستشعر، بل يستظهر من الخبر إرادة الاستحباب و عدم كونه من الواجبات، حيث علّل تماميّة الصلاة لو أحدث بعد ما يرفع رأسه من السجود الأخير بقوله عليه السّلام: «إنّما التشهّد سنّة في الصلاة، فيتوضّأ و يجلس مكانه أو مكانا نظيفا فيتشهّد» «1».

اللّٰهمّ إلّا أن يحمل السنّة هنا أيضا على الوجوب

المستفاد من السنّة و يقال بأنّ الحدث القهري أيضا كالسهوي غير مبطل إذا وقع قبل هذا الواجب، كما حكي الفتوى بذلك عن الصدوق قدّس سرّه، فإن أمكن الحمل على ذلك فهو، و إلّا فلا محيص عن

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 321

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب التشهّد، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 322

الطرح، لمخالفته إجماع الأصحاب، و يكفي في طرح الخبر إعراضهم عن العمل و لو لم يصل حدّ الإجماع فضلا عمّا وصل.

و مثل ذلك الحال في ما دلّ من الأخبار على كفاية مجرّد: الحمد للّٰه و أنّه لو كان كما يقولون واجبا على الناس هلكوا «1».

و في آخر بعد السؤال عن أيّ شي ء أقول في التشهّد و القنوت؟ فقال عليه السّلام:

«بأحسن ما علمت، فإنّه لو كان موقتا لهلك الناس» «2».

و ما دلّ على كفاية الشهادة الواحدة، و هي الشهادة بالوحدانيّة في التشهّد الأوّل و لزوم الشهادتين في الثاني، كالصحيح عن زرارة «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: ما يجزي من القول في التشهّد في الركعتين الأوليين؟ قال عليه السّلام:

أن تقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه وحده لا شريك له، قلت: فما يجزي في الركعتين الأخيرتين؟ فقال عليه السّلام: الشهادتان» «3».

فإنّ الإجماع المذكور يوجب القطع بمطروحيّتهما لو لم يقبلا الحمل على نفي وجوب الزيادات المذكورة في التشهّدين.

و ربما يؤيّده أنّ مجرّد الشهادتين ليس وجوبهما موجبا لهلاكة الناس، إذ ما من مسلم إلّا و يتمكّن من التلفّظ بهما، فالمناسب إرادة تلك الزيادات، لكونها كثيرة شاقّا على الناس خصوصا العوام حفظها و إتيانها.

و حينئذ فالمقصود في صحيح زرارة أيضا سؤالا و

جوابا هو تعيين ما لا يجزي

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب التشهّد، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب التشهّد، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التشهّد، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 323

أقلّ منه، و بعبارة أخرى تعيين الواجب عن المندوب من ذلك التشهّد الطولاني المشتمل على الزيادات، فأجاب عليه السّلام بقوله: أن يقول: أشهد إلخ، يعني أن تبدأ بهذه الكلمة إشارة إلى أنّ ما تقدّمها غير واجب.

و أمّا ما يلحقها من الشهادة بالرسالة فعدم ذكره من باب الإيكال على الوضوح، حيث إنّ السؤال كان عن لزوم ما زاد على الشهادتين بعد الفراغ عن لزومها، و لهذا اقتصر في التشهّد الأخير بذكر الشهادتين أيضا.

و بالجملة فإن صحّ هذا الحمل في هذه الأخبار أيضا، و إلّا فالمتّجه طرحها، لعدم العمل بها بين الطائفة قدّس سرّهم.

و إذن فلا شبهة في أصل وجوب التشهّد و لا في لزوم اشتماله على الشهادتين، سواء الأوّل أم الثاني.

و أمّا إضافة الصلاة على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله فالظاهر تحقّق الإجماع على الوجوب أيضا و إن كان إثباته من سائر الأدلّة التي تمسّكوا بها من الأخبار و غيرها في غاية الإشكال، بل ممنوعا، مثل ما دلّ على أنّ تماميّة الصلاة بالصلاة على النبيّ، كما أنّ تمام الصوم بإعطاء الزكاة، و لا صلاة له إذا ترك الصلاة على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، فإنّ مثل هذا التعبير يناسب الاستحباب كما لا يخفى.

و أوهن منه التمسّك بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ الآية بتقريب أنّه بعد القطع بعدم الوجوب في غير الصلاة يبقى الوجوب فيها مرادا من ظاهر الأمر، فإنّ

من المتعيّن حمل الأمر في أمثال هذه المقامات على الاستحباب.

و مثل ذلك التمسّك بالأخبار المشتملة على الصلاة مع بعض الإضافات الأخر المقطوع باستحبابها، فإنّ ذكر الشي ء في تلو المستحبّات يوهن الدلالة على الوجوب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 324

هذا مضافا إلى وجود الأخبار الأخر الدالّة على عدم وجوب و كفاية الشهادتين، بحيث لو كنّا و مقتضى الجمع لتعيّن القول بالاستحباب، و لكنّ العمدة ما عرفت من تحقّق إجماع الإماميّة على الوجوب، فما ينافيه إن كان قابلا للتوجيه فهو، و إلّا تعيّن الطرح و ردّ علمه إلى أهله.

تنبيه: المشهور استحباب الصلاة على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله عند ذكره للمتكلّم و السامع،

لا الوجوب، بل عن المحقّق في المعتبر و العلّامة في المنتهى دعوى الإجماع عليه، و في الذخيرة: لم أطّلع على مصرّح بالوجوب من الأصحاب.

و حينئذ فإن ورد في بعض الأخبار ما يدلّ بظاهره على الوجوب كالأمر به كلّما ذكرته صلّى اللّٰه عليه و آله أو ذكره ذاكر عندك في الأذان أو غيره، و كالدعاء على من تركه بدخول النار، و بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «أبعده اللّٰه» فلا محيص عن حمله على شدّة الاستحباب، فإنّ كثرة الابتلاء في اليوم و الليلة مرّات عديدة لكلّ مكلّف مع اشتهار القول بعدم الوجوب ممّا لا يجتمعان مع الوجوب، فالاشتهار المذكور آية عدم إرادة الظاهر من تلك الأخبار، هذا.

بقي الكلام في صورة التشهّد الواجب و أنّه هل يتعيّن صورة خاصّة و هي قول: «أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله» أو يكفي بأيّ صورة مشتملة على الشهادة بالوحدانيّة و الرسالة و لو مثل قول: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله سيّد رسله؟

مجمل الكلام

في المقام أنّه لو أحرز كون المطلقات الدالّة على إيجاب الشهادتين في مقام البيان، لكان الأولى بل المتعيّن في مقام الجمع بينها و بين المقيّدات المتعرّضة للصورة الخاصّة حمل تلك المقيّدات على بيان أفضل الأفراد، و ذلك لبعد حمل المطلق الوارد في مقام البيان على المقيّد المنفصل المتأخّر عنه و خصوصا في هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 325

المقام الذي يكون التشهّد محلّا للابتلاء في كلّ يوم و ليلة مرّات عديدة.

و هذا بخلاف التصرّف في هيئة المقيّد بحمله على الرجحان و الفضيلة، فإنّه ليس بتلك المكانة من البعد، بل في غاية من القرب، إلّا أنّ ورود المطلقات المذكورة في مقام البيان محلّ منع، كما تقدّمت الإشارة إليه و أنّ المقصود بها الإشارة إلى المعهود في الأذهان من الصورة الخاصّة، و المقصود نفي وجوب سائر الملحقات و الإضافات المذكورة في التشهّد الطولاني، هذا حال المطلقات.

و أمّا المقيّد فهنا رواية صحيحة ظاهرة في تعيين الصورة المشهورة، و هي رواية محمّد بن مسلم «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: التشهّد في الصلاة؟

قال عليه السّلام: مرّتين، قال: فقلت: كيف مرّتين؟ قال عليه السّلام: إذا استويت جالسا فقل:

أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، ثمّ تنصرف» «1».

و لا مناقشة في دلالتها إلّا اشتمالها على الانصراف عقيب التشهّد و عدم الأمر بالصلاة و التسليم مع كونهما واجبين.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد بالانصراف هو إيجاد سببه الشرعي و هو التسليم، و يؤيّده وقوعه موردا للأمر و حمل الانصراف في بعض الأخبار على التسليم، و أمّا عدم ذكر الصلاة فهو أمر مشترك في غالب أخبار الباب، و يمكن كونه إيكالا

على وضوح وجوبها، و لا يعارض هذه الصحيحة في ظهور تعيين هذه الصورة إلّا روايتان:

إحداهما: خبر عليّ بن جعفر المرويّ عن كتاب قرب الإسناد عن أخيه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التشهّد، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 326

موسى عليه السّلام «قال: سألته عن رجل ترك التشهّد حتّى سلّم؟ قال عليه السّلام: إن ذكرها قبل أن يسلّم فليتشهّد و عليه سجدتا السهو، و إن ذكر أنّه قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه، أو بسم اللّٰه أجزأه في صلاته، و إن لم يتكلّم بقليل و لا كثير حتّى سلّم أعاد الصلاة» «1».

و الثانية: خبر الحسن بن الجهم «قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل صلّى الظهر و العصر فأحدث حين جلس في الرابعة؟ قال عليه السّلام: إن كان قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمّدا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فلا يعيد، و إن كان لم يتشهّد قبل أن يحدث فليعد» «2».

أمّا الاولى فليست في مقام تحديد التشهّد، بل المقصود أنّه لو تذكّر ذلك إمّا أنّه يتيقّن بإتيان البقيّة على الكيفيّة، أو يشكّ، فيكون محكوما بالإتيان بقاعدة التجاوز، لا أنّه تذكّر القول المذكور بدون التلفّظ بغيره، كيف و إلّا فاللازم الاكتفاء بمجرّد قول بسم اللّٰه، و هو مقطوع الخلاف.

و أمّا الثانية و إن كان يظهر منها تطبيق التشهّد على القول المذكور، إلّا أنّ ما سيقت لأجله من التفصيل بين ما قبل التشهّد و ما بعده بعدم الإعادة في الثاني و لزومها في الأوّل، و إذن فلا يبعد القول بتعيّن ما تضمّنته صحيحة محمّد بن مسلم، كما هو المشهور الآن.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من

أبواب التشهّد، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 327

البحث الثامن في التسليم

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 329

اعلم أنّه اختلفت كلمات الأخيار في وجوب التسليم في الصلاة و ندبه،

و المنشأ اختلاف الأخبار.

فممّا استدلّ به على الوجوب ما ورد في الأخبار المستفيضة لو لم نقل متواترة من أنّ تحليل الصلاة التسليم.

و فيه أنّ دلالة ذلك على الجزئيّة محلّ منع، بل غايته جعل التسليم رافعا للمنع الوضعي و موجبا لعدم قدح المنافيات في الصلاة، و هذا المعنى يجامع مع الخروج عن المركّب المأمور به بدون التسليم.

نعم لو قلنا بأنّ حفظ الصلاة عن ورود ما ينافيها واجب وجب التسليم من باب المقدّمة لهذا التكليف النفسي، و أين هو من الوجوب الغيري و الجزئيّة للصلاة، و إن قلنا بعدم وجوب الحفظ فلا يثبت حينئذ استحباب التسليم فضلا عن وجوبه.

و الحقّ الاستدلال على الوجوب ببعض الأخبار الأخر المتفرّقة في الأبواب المتفرّقة المشتملة على الأمر بالتسليم الظاهر في الوجوب، و ما اشتمل على السؤال عن علّة وجوبه الظاهر في المفروغيّة عن وجوبه و ما اشتمل على أنّ آخر الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 330

أو اختتامها التسليم، فإنّ آخر الشي ء داخل فيه كأوّله.

و إذن فالعمدة هو النظر في المعارضات و ملاحظة ما يقتضيه الجمع، فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ منها المستفيضة المشتملة على أنّ النوم الواقع قبل التسليم و كذا الحدث و الالتفات الفاحش الواقعان قبله غير مضرّة بالصلاة، بتعبير أنّه قد تمّت الصلاة أو مضت.

و لكن فيه- مضافا إلى ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى- أنّه في نفس هذه الأخبار أمارة الوجوب قائمة و هو الأمر بالتسليم إذا كان مع إمام فوجد في بطنه أذى، و كذا إن كان رعافا، فإنّه غسله، ثمّ رجع فسلّم.

و منها: المستفيضة الحاكمة بمضيّ الصلاة أو الانصراف بالفراغ من الشهادتين على ما في بعضها،

أو التشهّد على ما في آخر.

و فيه أيضا- مضافا إلى ما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى- أنّ فيها الأمر بالتسليم إن كان مستعجلا في أمر يخاف أن يفوته، و أمّا الانصراف فقد عرفت أنّه يمكن إرادة التسليم منه، كما يشهد به خبر كهمس عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الركعتين الأوليين إذا جلست للتشهّد، فقلت و أنا جالس: السّلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللّٰه و بركاته، انصراف هو؟ قال: لا، و لكن إذا قلت: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، فهو الانصراف» «1».

و في صحيحة الحلبي: «و إن قلت: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، فقد انصرفت» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التسليم، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب التسليم، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 331

و الحقّ في المقام على ما أفاده شيخنا الأستاذ دام ظلّه على رءوس الأنام أنّ مقتضى الجمع بين ما دلّ على وجوب التسليم و كونه محلّلا للمحرّمات قبله، و ما دلّ على مضيّ الصلاة بتمام التشهّد، و ما دلّ على عدم إضرار الحدث الواقع قبل السّلام منضمّا إلى ما دلّ على أنّ الحدث الواقع في أثناء الصلاة مبطل لها، هو كون السّلام حدّا للصلاة و الصلاة محدودة بها، و حدّ الشي ء خارج عنه كالنقطة عن الخطّ، لا بمعنى كونه واجبا مستقلا، بل بمعنى جزئيّته للمركّب المأمور به و ارتباطه بسائر الأجزاء في تعلّق الأمر و أجنبيّته عن الأجزاء الصلاتيّة بما هي صلاة و مناجاة مع اللّٰه تعالى، نظير التوديع المرسوم إتيانه في آخر المجلس عقيب تمام المحاورة بين السيّد و عبده، فإنّه ليس من سنخ تلك

المحاورة، و لكنّه شرط و أدب واجب للحضور في محضر السيّد، بحيث لولاه بطل ما تقدّمه.

فهنا أيضا الصلاة عبارة عن الأقوال و الأفعال من أوّل التكبيرة، و ينتهي بالتشهّد، و أمّا السّلام فبمنزلة التوديع و ليس مجانسا لتلك الأجزاء، و على هذا فما دام لم يأت بالسلام لم يفرغ عن المأمور به، لأنّ بعض أجزائه السّلام، نعم هو بعد التشهّد فارغ من الصلاة و بقي توديعه مع ربّه.

و هذا مناسب مع قوله عليه السّلام لمن عرضه أذى في بطنه و هو خلف إمام يطيل في التشهّد فيسلّم و ينصرف و يدع الإمام «1».

و في آخر إذا فرغ من التشهّد فقد مضت صلاته، فإن كان مستعجلا في أمر يخاف فوته فسلّم و انصرف أجزأه «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 64 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب التسليم، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 332

و في ثالث: و إن كان مع إمام فوجد في بطنه أذى فسلّم في نفسه و قام فقد تمّت صلاته «1».

و مناسب أيضا مع أخبار دلّت على عدم إضرار الحدث الواقع قبل التسليم معلّلا بأنّ الصلاة قد تمّت أو مضت، و ذلك لأنّ الحدث الذي مبطل سهوا كان أم عمدا إنّما هو في ما إذا وقع في أثناء الصلاة، و هذا خارج عنها بالفرض.

نعم حيث بقي السّلام المحلّل فالإتيان بالمنافيات عمدا محرّم عليه، بل و كذا بعضها سهوا أيضا كإلحاق الخامسة أو السكوت الطويل، فهذه الأخبار جعلت الحدث بعد التشهّد بمنزلة التكلّم، حيث إنّ عمده مبطل دون غيره، و من هذه الجهة مناسب مع أخبار حصر التحليل في السّلام.

نعم يبقى المنافاة مع ما دلّ على

كون السّلام آخر الصلاة أو ختمها به، حيث إنّ ظاهره كون السّلام داخلا في الصلاة و جزءا لها، و نحن قلنا بخروجه عنها و دخوله في المأمور به، و لكن إطلاق آخر الشي ء و أوّله على حدّية الخارجين عنه غير خارج عن الطريقة المأنوسة في المحاورة.

و إن شئت قلت: الأمر دائر بين أمور أهونها ما ذكرنا.

الأوّل: حمل قوله: إذا فرغ من الشهادتين فقد مضت صلاته، على إرادة التشهّد الطويل، و هو مشتمل على: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، و المراد في قوله: سلّم و انصرف هو السّلام الأخير.

و الثاني: حمله على إرادة مضيّ معظم الصلاة.

و الثالث: ما احتملناه سابقا في الرواية الواردة في من أحدث بعد ما يرفع

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب التسليم، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 333

رأسه من السجود الأخير حيث قال عليه السّلام: قد تمّت صلاته و إنّما التشهّد سنّة.

و حاصله الفرق في الحدث القهري الواقع بين الصلاة بين ما إذا كان الأجزاء الباقية من الصلاة فرض اللّٰه و من الأركان، كالركوع و السجدتين، و بين ما إذا فهم وجوبه من السنّة كالتشهّد، فالبطلان مختصّ بالأوّل دون الثاني، لأنّ القسم الأوّل مطلوب على كلّ [حال] و لم يجاوز عنه الشارع، و إتيانه غير ممكن، لتخلّل الحدث و مانعيّته لنظم ما يليه مع ما سبقه، بخلاف القسم الثاني، فإنّه قد جاوز عنه الشارع و اكتفى بما تقدّم، فيكون هذا الحدث القهري غير مضرّ و إن وقع بين الصلاة.

لكنّ الأخير مع عدم تماميّته في ما دلّ على مضيّ الصلاة بالفراغ من التشهّد بدون تخلّل حدث الظاهر أنّه غير مفتى به، بمعنى أنّ الظاهر تحقّق الإجماع على

أنّ الحدث الواقع في ما بين أجزاء الصلاة مبطل لها، سواء كان من قبيل التشهّد و السجدة الأخيرة أم من غيرها.

و الحملان الأوّلان في مخالفة الظاهر بمكان بعد خلوّ ما ذكرنا عن مخالفة شي ء من الظواهر غير حمل الآخر على الحدّ الخارج عن المحدود، و هو أيضا معنى مأنوس في المحاورة، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

و أمّا احتمال الحمل على الاستحباب ففيه أنّه مضافا إلى مخالفته لظاهر ما دلّ على الوجوب خلاف أخبار حصر التحليل في التسليم، و معناه بقاء حرمة المنافيات إلى ما بعد السّلام، و بناء على الاستحباب يلزم جواز ارتكابها بعد الفراغ من التشهّد.

ثمّ لا يخفى أنّ الأصل في أمثال المسألة هو البراءة على ما هو الحقّ في دوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر، إلّا أنّه ربما يجعل الأصل مساعدا لجانب الوجوب و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 334

استصحاب بقاء حرمة المنافيات و استصحاب بقاء كون الشخص مصلّيا و في أثناء الصلاة.

و فيه على التقرير الأوّل أنّه مشكوك الموضوع، لأنّ حرمة المنافيات مقيّدة بكونه بين الصلاة، و المفروض الشكّ في ذلك، لاحتمال كونه خارجا عن الصلاة، لأنّ الفرض احتمال الاستحباب، و معناه الخروج عن الصلاة بالتشهّد.

و على الثاني أنّ الشبهة مفهوميّة، و قد تقرّر عدم حجّية الاستصحاب في ما كان الشبهة في صرف المفهوم مع تبيّن الحال خارجا، كما في الشبهة في مفهوم الغروب أنّه الاستتار أو الذهاب، فإنّه لا شكّ لنا في الخارج، إذ نقطع بإتيان ما عدي السّلام، و بعدم إتيان السّلام و إنّما نشكّ في انطباق المركّب الصلاتي على ما عدي التسليم أو على ما يشمله أيضا، و كذا في انطباق عنوان الحريم الصلاتي على الأقلّ الخالي

منه أو الأكثر المشتمل عليه، و كلّ من هذين شبهة في المفهوم كالشبهة الغروبيّة، و الحقّ فيها عدم جريان الاستصحاب، كما قرّر في محلّه.

بقي الكلام في صيغة التسليم

لا إشكال في جواز الاكتفاء بكلّ من الصيغتين المعروفتين، أعني: السّلام علينا و على عباد اللّٰه الصالحين، و السّلام عليكم و رحمة اللّٰه و بركاته.

أمّا الثانية: فلكونها قدرا متيقّنا من أدلّة اعتبار التسليم و محلّليته لو لم يكن منصرفا إليها.

و أمّا الأولى: فلما تقدّم في روايتي العيون و الخصال من التصريح بكونها مصداقا للسلام المحلّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 335

و إذن فيتخيّر المكلّف بين الصيغتين، نعم هذا مع اكتفاء المكلّف بإحداهما، و أمّا لو جمع بينهما فإن قدّم الاولى فلا إشكال في أصل المشروعيّة، للتصريح به في التشهّد الطويل، مضافا إلى كونه معلوما من ضرورة المذهب.

إنّما الكلام في تصويره، و المتصوّر فيه أمور أربعة:

الأوّل: أن تكون الصيغة الأولى مصداقا، و الثانية من باب تبديل الامتثال.

و الثاني: أن تكون الأولى محلّلة، و كانت الثانية أيضا جزءا للصلاة.

و الثالث: هذا الفرض مع كون الثانية مستحبّا مستقلّا كالتعقيب.

و الرابع: أن تكون الأولى محلّلة و بها يحصل الخروج من الصلاة، و أمّا المركّب المأمور به فكان تتميمه بالسلام الثاني بأن كان هو جزء من فرد المأمور به، لا من مقوّمات أصل الطبيعة.

ثمّ المتعيّن من هذه الأنحاء هو الأخير، لكون كلّ واحد ممّا قبله مقطوع البطلان.

أمّا الأوّل، فلأنّه إنّما يتصوّر في ما إذا كان الغرض الداعي إلى الأمر باقيا، و لمّا يحصل، و بمقتضى الأخبار الغرض ها هنا ليس إلّا التحليل أعني: سدّ باب الصلاة من أن يرد عليه الإفساد من قبل المنافيات، و هو قد حصل قهرا بواسطة السّلام الأوّل، و تقسيطه على السلامين

بحيث كان كلّ منهما مؤثّرا في بعض منه أيضا خلاف الفرض من كون كلّ منهما تامّا في الأثر.

نعم اشتراكهما بمعنى استناد الأثر إلى المجموع بحيث سقط كلّ واحد عن الاستقلال ممكن في صورة عرضيّة السببين، و أين هو من محلّ الفرض من كونهما مترتّبين في الوجود، و معه يستحيل استناد الأثر إلّا إلى الأوّل من غير استناد شي ء منه إلى الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 336

و الحاصل أنّ التخيير بين ذاتي الأقلّ و الأكثر بحيث لم يفرض لغير الذات دخل في التأثير أصلا حتّى لا يرجع إلى التباين كما يستحيل في باب الطلب، كذلك يستحيل في باب التأثير في أثر كالتحليل و غيره، و لهذا يستحيل اجتماع العلّتين التامّتين الطوليّتين على معلول واحد.

و أمّا الثاني، فخلاف الفرض من حصول الخروج عن الصلاة بالأولى، بحيث كلّما يقع من المنافيات يقع خارجا من الصلاة، فلا يجتمع الخروج مع الدخول، و مقتضى الجزئيّة هو الثاني.

و أمّا الثالث، فيمكن القطع بخلافه و أنّه ليس حال السّلام الأخير كحال التعقيب بحيث كان مستقلّا عن المأمور به الصلاتي، لا جزء للطبيعة و لا للفرد.

فيتعيّن الوجه الرابع، و هو كونه خارجا عن الصلاة، و لكنّه داخل في المأمور به، بمعنى كونه من مقوّمات الفرد الكامل، لا أصل الطبيعة، فيكون السّلام الثاني جزء للمحلّل بذاته، لا بوصف كونه محلّلا، بمعنى أنّ السّلام الطويل المركّب من السلامين مطلوب واحد، و لكن التحليل يحصل بجزئه الأوّل.

فالتسليم أشبه شي ء بالدهليز للدار، حيث إنّ الدهليز قد يكون قصيرا، و قد يكون طويلا، و في صورة الطويل يحلّ الممنوعات في الدار بأوّل الورود في مسمّى الدهليز، و لا يحتاج إلى إنهائه إلى الغاية في حصول التحليل المذكور،

و اللّٰه العالم.

و أمّا عكس هذا الترتيب و هو تقديم الثانية فلم يدلّ دليل على مشروعيّته، كما أنّه في صورة الاقتصار على الثانية فلا دليل على لزوم إضافة: و رحمة اللّٰه و بركاته، كما لا دليل على عدم اللزوم، فيبقى منفيّا بالأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 337

مسائل
الاولى لو نسي التسليم

فإن قلنا بعدم كونه جزءا واجبا فلا إشكال في الصحّة، و إن قلنا به فالأكثر على البطلان، لأنّ المخرج شرعا منحصر به، فكلّ ما يقع من المنافيات قبله تقع في الصلاة، و يشكل بعموم لا تعاد المقتضي لعدم البطلان من جهة الخلل في غير الخمسة المستثناة.

فإن قلت: المقام من تعارض العموم في جانب المستثنى منه للعموم في طرف المستثنى، حيث إنّ الحدث الواقع بعد نسيان التسليم موجب للبطلان بمقتضى المستثنى، بل لا تعارض، لأنّ الحكم بالصحّة من جهة نسيان التسليم حكم حيثي، و لا ينافيه البطلان الناشئ من جهة وقوع الحدث في الأثناء، فإنّه من قبيل المقتضي، و الأوّل من قبيل اللامقتضي، إذ ليس مفاده إلّا الصحّة من حيث فقدان التسليم، لا الصحّة الفعليّة، و من المعلوم عدم المنافاة بينها و بين البطلان من جهة أخرى.

نعم قد يكون بين مدلولي عام واحد متكفّل للحكم الحيثي نسبة الحكومة، كما في عموم «لا تنقص» بالنسبة إلى الشكّ السببي و الشكّ المسبّبي، فإنّه و إن كان حكما حيثيّا بطهارة الماء، و لكنّه يرفع به مع وصف كونه حيثيّا الشكّ في نجاسة الثوب، لأنّها من آثار تلك الطهارة الحيثيّة شرعا، فيتقدّم العموم بالنسبة إلى الفرد الأوّل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 338

على نفسه بالنسبة إلى الثاني للحكومة.

و مقامنا ليس من هذا القبيل، لأنّ الحكم بالصحّة من جهة فقدان التسليم ليس

من آثاره شرعا الصحّة من جهة أخرى حتّى يقال بحكومته على المدلول الآخر الذي هو الحكم بالبطلان من جهة وجود الحدث، فلا محيص عن القول بالبطلان.

قلت: لا بدّ من بسط المقال في الأنحاء التي يتصوّر اعتبار الطهارة في الصلاة، ثمّ تعقيبه بما هو اللازم على كلّ تقدير من تلك الأنحاء.

فنقول: تارة يعتبر الطهارة في كلّ جزء من الأجزاء بمعنى مقارنتها لذلك الجزء و استمرارها من أوّل الصلاة إلى آخرها، فلو انقطع استمرارها في أيّ من أزمان الصلاة كان ورد النقص على جميع الأجزاء، و هذا النحو من الاعتبار لا دليل عليه، بل يمكن أن يقال: ظاهر الأدلّة خلافه.

نعم على تقدير القول به فلا محيص عن القول بالبطلان في مسألتنا، إذ المفروض اختلال شرط جميع الأجزاء حتّى تكبيرة الإحرام، و هو موجب للبطلان بحكم المستثنى، و لا يثمر الإغماض عن جزئيّة التسليم المستفاد من المستثنى منه.

و اخرى: يعتبر شرطا للمصلّي ما دام مصلّيا، و اللازم من انتفائها انتفاء وصف كونه مصلّيا، و يشهد لهذا النحو ما هو مسلّم بينهم من إجراء استصحاب الطهارة مع أنّها لو كانت قيدا في الأجزاء لما أمكن إثبات تقيّد الأجزاء بها إلّا بالأصل المثبت، كما في سائر الشروط المعتبرة فيها، مثل اشتراط عدم كونها في جزء ما لا يؤكل.

و الثالثة: يعتبر شرطا في الأجزاء، بمعنى لزوم اقترانها مع كلّ منها، فقيد كلّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 339

هو الطهارة المقارنة، و لازمة أنّه لو تخلّل الحدث بين الأفعال فبادر إلى الوضوء بدون مناف صحّت الصلاة، و الظاهر أنّه ممّا [لا] قائل به و لو فرض ورود خبر به فهو مطروح متروك، لكنّا نتكلّم في المقام على تقدير كلّ من هذين

النحوين الأخيرين.

فنقول: تارة نقول: إنّ مفاد لا تعاد جعل مستقلّ في عرض الجعل الأوّلي للصلاة التامّة الأجزاء، فيخصّص ذلك الجعل بالذاكر العامد، و هذا جعل للصلاة الناقصة في حقّ غيره بناء على ما هو الحقّ المحقّق في محلّه من إمكان تخصيص الناسي بالخطاب.

و اخرى نقول بأنّه تصرف في مقام الامتثال للجعل الأوّلي، و مرجعه إلى تقبّل ما ليس بامتثال و ليس بمصداق مقام الامتثال و المصداق الحقيقي، بناء على ما ذهب إليه شيخ المشايخ المرتضى قدّس سرّه من عدم إمكان تخصيص الناسي بالخطاب.

فإن قلنا بالأوّل فمفاد القاعدة في مقامنا أنّ ناسي التسليم ليس صلاته محتاجة إليه، بل يكون جزؤها الأخير هو التشهّد، هذا بحسب مدلولها في طرف المستثنى منه.

و أمّا في جانب المستثنى فعلى الاحتمال الثاني «1» مفادها أنّ هذا الشخص الصادر منه الحدث ليس بمصلّ، و على الثاني يكون مفادها أنّ التسليم ليس قابلا للّحوق بالصلاة، و كلّ من هذين المفادين غير منافيين مع المفاد الأوّل، بل يجتمعان معه، فإنّ خروج الشخص عن كونه مصلّيا و التسليم من قابليّة اللحوق بالصلاة مع

______________________________

(1) كذا، و الظاهر أنّ الصحيح: الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 340

كون الصلاة مختومة بالتشهّد ممّا لا يتنافيان، فنأخذ بكليهما من دون تعارض.

و إن قلنا بالثاني فالأمر كالأوّل، إلّا أنّ الفرق أنّه على الأوّل لا تعارض أصلا بين المفادين، و على الثاني و إن كان بينهما تعارض، إذ الفرض وقوع الحدث بين الصلاة، إلّا أنّ المتعيّن تقديم العموم في المستثنى، لأنّ له لسان الحكومة.

و بعبارة أخرى: مفاد القاعدة إنّما هو الصحّة الواقعيّة، و هي المتفاهم منها بحسب العرف، و لكن الإشكال العقلي الذي هو عدم إمكان تخصيص الناسي بالخطاب ألجأنا إلى

تأويل الخطاب المذكور إلى تقبّل مرحلة الامتثال، مع كون اللسان أنّه صلاة واقعيّة، فيكون هذا اللسان حاكما على ما يقتضي كون هذا الشخص غير مصلّ، أو كون سلامه غير قابل اللحوق، فإنّه إنّما يقتضي ذلك بطلان الصلاة لأجل حاجتها إلى إلحاق التسليم، فإذا دلّ دليل على أنّ صلاتك تمّت و انقضت و لا احتياج لها إلى جزء آخر كان له حكومة على الدليل الأوّل.

لا أقول: إنّ من آثار الصحّة الحيثيّة هي الصحّة من جهات اخرى، بل أقول: إنّ من لوازم الحكم بتماميّة الصلاة من جهة فقد التسليم و المفروض عدم طروّ الخلل من ناحية ما تقدّمه هو عدم الإفساد من ناحية الحدث المتأخّر، فالحكم مع وصف حيثيّته حاكم على الحكم بالبطلان، كما في مثال الشكّ السببيّ و المسبّبي، و ذلك لأنّ الحدث إنّما يؤثّر إذا وقع في أثناء الصلاة، فالحكم بتماميّة الصلاة قبله معناه وقوع الحدث خارج الصلاة، و الحدث الخارج لا تأثير له، فلسان المستثنى أنّ هذا حدث في الأثناء، و هو مبطل و موجب للإعادة، و لسان المستثنى منه و لو مع كونه حيثيّا أنّه ليس بحدث في الأثناء، بل حصل امتثاله بالفراغ من التشهّد.

و بعبارة أخرى: نزّل بحكم المستثنى منه في حقّ ناسي التسليم مجموع ما أتى به منزلة المركّب التامّ، و لازم ذلك أنّه لو تخلّل هذا الذي أتى به حدث أو استدبار أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 341

مثلهما من الموانع المطلقة أو فات منه شرط من الشرائط المطلقة كان باطلا، و أمّا لو كان سالما ممّا ذكر و إن تعقّبه حدث فلا وجه لبطلانه، كما هو الحال في الامتثال الحقيقي للمركّب التامّ.

الثانية هل المحلّل ذات السّلام أو هي مع قصد الخروج؟

مقتضى قوله عليه السّلام في رواية

العيون و الخصال الواردتين في المنع عن قول: السّلام علينا في التشهّد الأوّل كما هو دأب العامّة معلّلا بأنّ التسليم تحليل و إذا قلت هذا فقد سلّمت هو الأوّل، لوضوح أنّ الآتي في التشهّد الأوّل لا يقصد به الخروج، بل يكون قاصدا للبقاء في الصلاة، و مع ذلك حكم عليه السّلام بأنّه تحليل.

و من الغريب الاستدلال على لزوم نيّة الخروج تارة بأنّ السّلام مناقض الصلاة، لأنّه كلام آدمي، فلو لم ينو به الخروج لم يقع جزء محلّلا، بل صار مبطلا، و اخرى بأنّ السّلام المخرج عمل، و لا عمل إلّا بنيّة، لوضوح فساد الأوّل بأنّ مناقضيّته إنّما هو إذا وقع في الأثناء، و أمّا إذا وقع في المحلّ الذي شرع فيه فليس مبطلا، كيف و قد علّل في الخبر محلّليته بكونه كلام آدمي.

و فساد الثاني بأنّ السّلام بعنوانه مقصود إجمالا كسائر أجزاء الصلاة، و أمّا هذا العنوان الثانوي فلا يجب الالتفات إليه فضلا عن قصده، لأنّه من الخواصّ المترتّبة قهرا على العمل حسب ما يستفاد من الروايتين المتقدّمتين.

و ممّا ذكر يعرف الحال في ما لو نوى الخروج بالثانية، فإنّه يخرج بالأولى، و أمّا الثانية فإن كان قصده الخروج بها جهلا بالحكم كانت امتثالا للسلام المستحبّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 342

و يلغو القصد المذكور و إن كان تشريعا، فإن كان التشريع موجبا لحرمة العمل القلبي كان معاقبا على العمل القلبي و ممتثلا للأمر الندبي بواسطة العمل الخارجي، و إن كان موجبا للحرمة الخارجيّة فلم يحصل الامتثال بالنسبة إلى الأمر الندبي، و على كلّ حال فالصلاة صحيحة.

الثالثة لا إشكال في أنّ الواجب مجرّد اللفظ

و إن لم يخطر المعنى في الذهن، لكنّ الكلام في أنّه لو أخطر المعنى و قصد المنفرد، التحيّة

على الملكين الكاتبين و الإمام، المأمومين مع ذلك، و المأموم، الإمام مع ذلك بأن قصد الردّ بالنسبة إليه فهل فيه منع أو لا؟

صريح نجاة العباد المنع مع تقرير المحشّين قدّس أسرارهم له.

و استشكل فيه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّ المنع إن كان من جهة أنّ القصد الاستقلالي المحتاج إليه لقصد الامتثال، حيث إنّ المأمور به هو اللفظ، لا يجتمع مع الفنائي المحتاج إليه للاستعمال في المعنى، إذ هما من الضدّين، فلا يجتمعان في لحاظ واحد.

ففيه أنّه لا بأس باجتماعهما طولا بأن يقصد أصالة إلى اللفظ و تبعا للمعنى، و كم له من نظير.

و إن كان من جهة أنّه مع القصد المذكور يصير كلاما آدميّا مبطلا.

ففيه ما مرّ من تعليل المحلّلية في الخبر بكونه كلاما آدميّا.

ثمّ إنّ المذكور في بعض الروايات أنّ المنفرد و الإمام يومئان إلى اليمين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 343

بسلامهما، و المأموم يأتي بقول: السّلام عليكم مرّتين، يومئ باولاهما إلى اليمين و بالثانية إلى اليسار، هذا لو كان في يساره أحد، و لو لم يكن فيسلّم واحدة موميا إلى اليمين كالإمام و المنفرد، و ليس في الروايات التقييد بمؤخّر العين، و إنّما قيّده الفقهاء قدّس أسرارهم، فإن كان الوجه رعاية جانب الاستقبال المعتبر بحسب دليله في جميع الحالات فالظاهر أنّه لا وجه له، لأنّ هذا المقدار من الالتفات اليسير بتمام الوجه أوّلا غير مناف لصدق الاستقبال عرفا، و ثانيا على فرض المنافاة فاللازم تقييد دليل الاستقبال بغير هذا الحال، و اللّٰه العالم.

الرابعة [في ما لو تبيّن الدخول بعد السّلام علينا و قبل السّلام عليكم]

لا إشكال في أنّه لو أحرز الوقت بالطريق المقرّر و دخل في الصلاة فتبيّن دخوله في الأثناء و لو قبل السّلام علينا، أو في أثنائه حكم بصحّة صلاته، إنّما

الكلام في ما لو تبيّن الدخول بعد السّلام علينا و قبل السّلام عليكم أو في أثنائه، فهل يحكم أيضا بالصحّة أو لا؟

مقتضى القاعدة أنّا لو قلنا بخروج الثانية من الصلاة رأسا بمقتضى ما دلّ على انقطاع الصلاة بقول: السّلام علينا، غاية الأمر كونه جزءا استحبابيّا للمركّب المأمور به، فلا وجه للقول بالصحّة، لأنّ شيئا من الصلاة لم يقع في الوقت، و إن قلنا بأنّه جزء استحبابي للصلاة فالظاهر أيضا ذلك، لأنّ معنى الجزئيّة الاستحبابيّة ليست إلّا الجزئيّة التقديرية دون المطلقة، بمعنى أنّه على تقدير الوجود يلتحق بالصلاة و يصير ملتئما مع الأجزاء السابقة، لا أنّه جزء مطلقا و يشترط في صدق كونه في أثناء العمل بقاء جزء مطلق الجزئيّة، و إلّا فإن تمّت تمام الأجزاء المطلقة غاية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 344

الأمر له ضمّ بعض الضمائم و له تركه فلا يصدق عليه، إلّا أنّه قد فرغ من الامتثال بالنسبة إلى طبيعة المأمور به و فرده.

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلأنّ ما وجد في الخارج مصداق للطبيعة، فقد فرغ عن المصداق، نعم بقي عليه امتثال الأمر الاستحبابي بضمّ تلك الضميمة الاستحبابيّة، و لكنّه لا يضرّ بصدق كونه بعد تماميّة الصلاة.

و من هنا يظهر الحال في فرع آخر و هو ما إذا طرأ له شكّ بالنسبة إلى الأجزاء أو الركعات في ما بين السلامين، حيث إن قلنا بابتناء المسألة على الشكّ بعد الفراغ و أنّ له عنوانا مستقلّا في قبال الشكّ بعد المحلّ فقد تحقّق الفراغ هنا، و أمّا إن قلنا بأنّ قاعدة الفراغ ليست قاعدة أخرى غير قاعدة التجاوز عن المحلّ الشرعي و قلنا: إنّ الشكّ بعد المحلّ أعمّ من كون المشكوك شيئا

وجوديّا أو عدميّا، و كذا أعمّ من الأجزاء الخارجيّة و من العقليّة إمّا بحسب الموضوع أو بملاحظة التعليل بأنّه حين العمل أذكر، فالحكم بالصحّة لا يحتاج حينئذ إلى تجشّم و تكلّف، بل هو ثابت على كلّ تقدير، كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 345

فصل في قواطع الصلاة و هي أمور:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 347

[أوّلها] الحدث في أثناء الصلاة

منها: ما ينقض الطهارة من موجبات الحدث الأصغر، كالبول و الغائط و أمثالهما، و موجبات الحدث الأكبر، كالجنابة و الحيض و نحوهما، و أمّا إبطال ذلك في صورة الوقوع العمدي فالظاهر أنّه ممّا لا إشكال فيه و لا خلاف، و عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، بل عن بعض عدّه من ضروريّات المذهب.

و أمّا في غير صورة العمد فالظاهر المصرّح به بعض عدم الخلاف فيه أيضا في ما يوجب الغسل، و في ما يوجب الوضوء خلاف، فالمشهور أنّه كالعمد مبطل للصلاة، و قيل: لو أحدث ما يوجب الوضوء قهرا و خارجا عن الاختيار تطهر و بنى على ما مضى من صلاته، و نسب هذا القول إلى السيّد و الشيخ في بعض كتبهما، و عن المفيد في المقنعة الفرق بين المتيمّم و غيره بإيجاب البناء في الأوّل إذا سبقه الحدث و وجد الماء، و الاستيناف في غيره، و اختاره الشيخ قدّس سرّه في النهاية و المبسوط، و ابن عقيل، و قوّاه في المعتبر.

و كيف كان فربما يستدلّ للمشهور بقوله عليه السّلام: «لا صلاة إلّا بطهور» «1»،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 348

بضميمة قاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

و ربما يناقش بأنّه لا إشعار في مثل هذه العبارة باعتباره في جميع أفعال الصلاة أيضا، فضلا عن استمراره من أوّلها إلى آخرها، بل لا يفهم منها إلّا اعتبار الطهور في ماهيّة الصلاة على سبيل الإجمال كما هو واضح، و يتّضح بقياسها إلى نظيرتها: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب.

و لكنّ المناقشة مدفوعة بالفرق بين أداء الجزء بهذه العبارة و بين أداء الشرط، فالأوّل

يفيد لابدّية اشتمال الكلّ على ذلك الجزء على وجه الإجمال، و أمّا الثاني فالظاهر إفادة الشرطيّة في جميع المركّب من أوّله إلى آخره.

نعم يمكن كونه كالطهارة الخبثيّة أو نيّة القربة شرطا معتبرا في أفعال المركّب، و يمكن كونه شرطا في المجموع منها و من الأكوان المتخلّلة بينها، و لا دلالة في العبارة على شي ء من الوجهين، فيكون المتيقّن هو الشرطيّة بالنسبة إلى حال التشاغل بالأفعال، و لازمة أنّه لو انتفض الشرط في الأثناء جاز له المبادرة إلى تحصيله للأجزاء الباقية، كما هو الحال في الطهارة الخبثيّة و نيّة القربة، حيث إنّه لو رعف و أمكنه التطهير بلا لزوم مناف وجب عليه ذلك و صحّت صلاته، فيكون الحال في الحدثيّة أيضا بهذا المنوال، و إذن فالدليل المذكور غير واف بمرام المشهور.

فالصواب الاستدلال لهم بالأخبار التي فيها الموثّق و غيره الواردة بالأمر بالإعادة و عدم الاعتداد بشي ء ممّا صلّى في من خرج عنه الحدث لا عن اختيار.

فمنها: موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سئل عن الرجل يكون في صلاته فيخرج منه حبّ القرع كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: إن كان خرج نظيفا من العذرة فليس عليه شي ء و لم ينقض وضوءه، و إن خرج متلطّخا بالعذرة فعليه أن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 349

يعيد الوضوء، و إن كان في صلاته قطع الصلاة و أعاد الوضوء و الصلاة» «1».

و مثلها أخبار أخر ليست بموثّقة، لكنّها معتضدة بالشهرة و عدم تحقّق خلاف يعتدّ به فيه، بل عن التذكرة و غيره دعوى الإجماع عليه.

مع أنّها لا معارض لها في مضمونها، فإنّ مستند القول بعدم البطلان مطلقا من غير فرق بين المتوضّي و المتيمّم صحيحة الفضيل بن

يسار «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: أكون في الصلاة فأخذ غمزا في بطني أو أزّا «2» أو ضربانا، فقال عليه السّلام: انصرف ثمّ توضّأ و ابن على ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمّدا، و إن تكلّمت ناسيا فلا شي ء عليك، فهو بمنزلة من تكلّم في الصلاة ناسيا، قلت: فإن قلّب وجهه عن القبلة، قال عليه السّلام: نعم و إن قلّب وجهه عن القبلة» «3».

و هي إنّما تكون معارضة لتلك إذا كان المراد من الأزّ و الغمز فيها الكناية عن خروج الحدث بلا اختيار بقرينة الأمر بالانصراف، و لكنّه يمكن القطع بعدم إرادته و أنّ المراد أنّه عند طروّ هذه الحالة لا يجب عليه الصبر و التحمّل على الشدّة، بل يجوز أن ينصرف و يتخلّى و يستريح ثمّ يتوضّأ و يعود و يبني على ما مضى من صلاته.

و يصرّح بذلك خبر أبي سعيد القمّاط «قال: سمعت رجلا يسأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل وجد غمزا في بطنه أو أذى أو عصرا من البول و هو في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 5.

(2) خ ل: أذى.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 350

صلاة المكتوبة في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ فقال عليه السّلام:

إذا أصاب شيئا من ذلك فلا بأس بأن يخرج لحاجته تلك فيتوضّأ ثمّ ينصرف إلى مصلّاه الذي كان يصلّي فيه فيبني على صلاته من الموضع الذي خرج منه لحاجته ما لم تنقض الصلاة بالكلام، قال: قلت: و إن التفت يمينا أو شمالا، أو ولّى عن القبلة؟ قال عليه السّلام:

نعم كلّ ذلك واسع، إنّما هو بمنزلة رجل سها فانصرف في ركعة أو ركعتين أو ثلاثة من المكتوبة، فإنّما عليه أن يبني على صلاته، ثمّ ذكر سهو النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

فإنّ قوله عليه السّلام: لا بأس بأن يخرج لحاجته تلك فيتوضّأ، أنّه إنّما يحدث عمدا بعد خروجه.

و على هذا فلا دلالة في هاتين الروايتين على خلاف مفاد الأخبار الأول، إذ هي واردة في الحدث الاضطراري القهري في الأثناء، و هاتان موردهما الحدث العمدي الاختياري، بل و الاستدبار العمدي و الفصل الطويل كذلك، فلو لم يكن بطلان الصلاة مع وجود أمثال ذلك إجماعيا أمكن الجمع بين كلا المفادين بأن يقال بالبطلان في صورة القهريّة و الصحّة في ما إذا تردّد الأمر بين الإتمام مع مدافعة الأخبثين و الصبر على تحمّل الغمز و العصر و بين قطع الصلاة و التخلية، ثمّ استيناف الوضوء و الصلاة، فيقال بأنّ الشارع راعى جانب أهمّية حرمة القطع، فمع حفظ المصلّي عن مدافعة الأخبثين، فرخّصه في قضاء حاجته في أثناء الصلاة و إن اشتمل على الاستدبار و الفصل الطويل.

و لكن هذا المعنى مجمع على خلافه، و ذلك المعنى أعني الصحّة في الحدث

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 11.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 351

القهري ليس بمفاد هذين الخبرين حتّى يقال: إنّه في مقام المعارضة يترجّح الأخذ بهذين، لأصحّية السند.

و إذن فلا محيص عن عدم العمل إلّا بتلك و ردّ علم هذين إلى أهله.

و استدلّ للقول بوجوب البناء في المتيمّم إذا سبقه الحدث و وجد الماء دون غيره بصحيح زرارة المرويّ عن التهذيب عن أحدهما عليهما السّلام، «قال: قلت له:

رجل دخل في الصلاة و

هو متيمّم فصلّى ركعة، ثمّ أحدث فأصاب الماء؟ قال عليه السّلام:

يخرج و يتوضّأ، ثمّ يبني على ما مضى من صلاته التي صلّى بالتيمّم» «1».

و الصحيح المرويّ عن التهذيب بإسناده عن زرارة عن محمّد بن مسلم «قال: قلت: في رجل إلخ» «2».

و عن الفقيه بإسناده عن زرارة و محمّد بن مسلم «قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السّلام:

في رجل لم يصب الماء و حضرت الصلاة، فتيمّم و صلّى ركعتين ثمّ أصاب الماء، أ ينقض الركعتين أو يقطعهما و يتوضّأ، ثمّ يصلّي؟ قال عليه السّلام: لا، و لكنّه يمضي في صلاته و لا ينقضها، لمكان أنّه دخلها على طهور بتيمّم، قال زرارة: فقلت له عليه السّلام:

دخلها و هو متيمّم فصلّى ركعة واحدة و أحدث فأصاب ماء؟ قال عليه السّلام: يخرج و يتوضّأ و يبني على ما مضى من صلاته التي صلّى بالتيمّم» «3».

و الظاهر كونهما رواية واحدة مرويّة بطريقين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 10.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب التيمّم، الحديث 4.

(3) الفقيه 1: 58- 214. و راجع الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب التيمّم، الحديث 4 و ذيله.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 352

و قد يناقش في الاستدلال بإمكان الحمل على الاستيناف و أنّ المراد بالبناء هو البناء على الصلوات التي صلّاها بالتيمّم، فالمقصود عدم لزوم إعادتها بعد إصابة الماء.

و لكنّ المناقشة مدفوعة بعدم احتمال هذا المعنى في الرواية و صراحتها في إرادة البناء على الأجزاء الماضية من تلك الصلاة التي وقع الحدث في أثنائها، فإنّه مضافا إلى ظهور لفظ البناء في ذلك لا حاجة في البناء على صحّة الصلوات الماضية بالتيمّم إلى التوضّؤ، فالذي يحتاج إليه و

يحسن الإتيان بكلمة «ثمّ» فيه إنّما هو البناء على تتميم الصلاة الواحدة.

فالرواية صريحة في المدّعى صحيحة بحسب السند، فلا بأس بالعمل بها، و ليست النسبة بينهما و بين الروايات السابقة إلّا أضعف من نسبة العموم و الخصوص، و ذلك لأنّه ليس في تلك إطلاق أو عموم، لأنّ موردها المتوضّي.

نعم يعلم منها الحكم بالنسبة إلى المتيمّم، فلو كان لها عموم وجب رفع اليد عنه بهذه الرواية، لخصوصها و صراحتها، فكيف إذا لم يكن.

و حينئذ يمكن أن يستفاد من هذه الرواية أنّ الأجزاء السابقة من الصلاة باقية على صحّتها التأهّليّة و لم يحدث فيها خلل من قبل هذا الحدث المتخلّل في البين، و إذا لم يحدث فيها خلل و إنّما يحتاج صحّة الصلاة إلى بقيّة الأجزاء و هي أيضا قابلة للإلحاق بتحصيل الوضوء فهم منه الحال بالنسبة إلى صورة الحدث و عدم إصابة الماء و أنّ الحكم هو التيمّم.

و بعبارة أخرى: سؤال السائل في الفقرة الأولى أعني: ما إذا أصاب الماء بلا تخلّل حدث ممحّض في أنّه هل المقدار الذي تلبّس به من الصلاة يبطل بواسطة هذه الإصابة المتأخّرة، و ينكشف عدم وجود الإباحة فيرفع اليد عن المقدار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 353

المتلبّس به و يستأنف الصلاة من رأس، أو أنّه ملزم بعدم رفع اليد عنه و الاعتداد به، فإذا أجابه الإمام عليه السّلام بالمضيّ في صلاته و عدم النقض فرض سؤاله في الفقرة الثانية في ما إذا تخلّل مع الإصابة المذكورة الحدث أيضا و أنّه هل حال تلك الأجزاء مع ذلك أيضا باق كما كان و لا يحدث فيها خلل يجوز بسببه رفع اليد عنها، فيكون ملزما بإتيان البقيّة، أو ليس كذلك، فأجاب عليه

السّلام بأنّه مع ذلك باق، فيخرج و يتوضّأ و يعود إلى المحلّ الذي أتى به، فيتمّ صلاته من ذلك المحلّ.

و معناه أنّ ما مضى من صلاته صحيحة، فيجب عليه المضيّ، و أمّا تعيين الوضوء فهو ما باب أنّه تكليف من كان واجد الماء، و ليس له مدخليّة في عدم إضرار الحدث بما مضى حتّى يكون مع عدمه مضرّا، فإنّ احتمال ذلك بعيد عن فهم العرف في نظائره، فيفهمون أنّ المكلّف لا بدّ أن يأتي بما هو وظيفته في تلك الحال، فإن كان فاقدا للماء يأتي بالتيمّم، و إلّا فبالوضوء، هذا.

و قد يتخيّل معارضة الأخبار المتقدّمة بما دلّ على أنّ الحدث الواقع بعد رفع الرأس عن السجدة الأخيرة قبل التشهّد ليس بمبطل، بل يتطهّر و يأتي بالتشهّد في ذلك المكان أو مكان آخر نظيف «1».

و لكنّ الحقّ أنّ هذه الأخبار غير منافية لما دلّ على مبطليّة الحدث في الأثناء، و ليست في مقام عدم مبطليّته إذا وقع في هذا الحال، بل هي في مقام تحديد الصلاة و جعل آخرها السجدة الأخيرة، كما يشهد بذلك تعليلها بأنّ التشهّد سنّة، أعني من الأجزاء التي فهم وجوبها من السنّة، لا من القرآن، فإنّه ظاهر في أنّ التشهّد قد أغمض و أسقط عن الصلاة، لمكان كونه سنّة و لا يوجب خلوّ الصلاة عنه بغير عمد

______________________________

(1) انظر الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب التشهّد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 354

خللا فيها، و ليس كالأركان يوجب خلله انتقاض الصلاة، و حينئذ فالحدث واقع خارج الصلاة، فلا ينافي ما دلّ على إضرار الحدث الداخل فيها.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ معارض أدلّة إضرار الحدث الواقع في أثناء الصلاة ثلاث طوائف من الأخبار.

الأولى: ما

توهّم فيه المعارضة و ليس كما توهّم، بل له مضمون آخر ممكن الاجتماع معه كما ذكرنا، و لكنّه خلاف الإجماع، و لو لم يكن إلّا نفسه فيجب طرحه من هذه الجهة.

و الثانية: ما ورد في المتيمّم إذا أحدث في الأثناء، و قد مرّ تقوية تخصيص تلك الأدلّة بسببه حتّى في صورة عدم إصابة الماء و إن كان مورد الخبر صورة الإصابة، لكن ذكرنا أنّ العرف يفهم إلغاء هذه الخصوصيّة بالمناسبة المقاميّة.

و الثالثة: ما ورد في من أحدث بعد السجدة الأخيرة قبل التشهّد، و قد عرفت عدم مساسها بمبطليّة الحدث في الأثناء، و إنّما يرفع جزئيّة التشهّد في هذا الحال، فإن وجد قائل به، و إلّا اطرح من تلك الجهة، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

[ثانيها:] التكفير في الصلاة

ثانيها: التكفير في الصلاة تأدّبا و خضوعا لغير تقيّة.

و الكلام تارة: في موضوعه و أنّه ما هو، و أخرى: في حكمه و أنّه مجرّد التحريم النفسي أو الكراهة أو الإبطال.

و العمدة هو التكلّم في المقام الثاني، و هو موقوف على التيمّن بذكر جملة من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 355

أخبار المقام، فنقول و باللّه الاعتصام و بأوليائه الكرام صلوات اللّٰه عليهم كرّ الليالي و الأيّام:

منها: ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام «قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة، اليمنى على اليسرى؟ قال عليه السّلام: ذلك التكفير، فلا تفعل» «1».

و عن حريز عن رجل عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال عليه السّلام: لا تكفّر، إنّما يفعل ذلك المجوس» «2».

و عن الصدوق في الخصال عن أبي بصير و محمّد بن مسلم عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام «قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا

يجمع المؤمن يديه في صلاته و هو قائم بين يدي اللّٰه عزّ و جلّ يتشبّه بأهل الكفر، يعني المجوس» «3».

و عن كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه «قال: إذا قمت قائما في الصلاة فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، و لا اليسرى على اليمنى، فإنّ ذلك تكفير أهل الكتاب، و لكن أرسلهما إرسالا، فإنّه أحرى أن لا تشغل نفسك عن الصلاة» «4».

و عن الحميري في قرب الإسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن عن جدّه عن عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: وضع الرجل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 7.

(4) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 356

إحدى يديه على الأخرى في الصلاة عمل، و ليس في الصلاة عمل» «1».

و عن عليّ بن جعفر عليه السّلام في كتابه عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يكون في صلاته يضع إحدى يديه على الأخرى بكفّه أو ذراعه؟ قال عليه السّلام:

لا يصلح ذلك، فإن فعل فلا يعودنّ له، قال عليّ: قال موسى عليه السّلام: سألت أبي جعفر عليه السّلام عن ذلك فقال عليه السّلام: أخبرني أبي محمّد بن عليّ عليهما السّلام، عن أبيه عليّ ابن الحسين عليهما السّلام، عن أبيه الحسين بن عليّ عليهما السّلام، عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال: ذلك عمل و ليس في الصلاة عمل» «2».

إذا سمعت ما تلونا

عليك فاعلم أنّ الأخبار بين ثلاث طوائف:

بين ما دلّ على النهي عنه إمّا مطلقا، أو معلّلا بأنّه فعل المجوس و تشبّه بأهل الكفر، و ظاهره الإرشاد إلى أنّه يعتبر في المركّب عدمه، فإنّ النواهي الواردة في أبواب المركّبات من العبادات و غيرها عن إيجادها بكيفيّة أو إيجاد شي ء فيها ظاهرة في الإرشاد إلى اعتبار عدم ذلك الشي ء في المركّب.

و بين ما دلّ على تشكيل صورة القياس من قولهم عليهم السّلام: التكفير عمل و ليس في الصلاة عمل، و هو أيضا بحسب الهيئة دالّ على الإبطال كما هو المتراءى من أمثاله من التراكيب، و يأتي إن شاء اللّٰه التكلّم فيه من جهة المادّة.

و بين ما دلّ بظاهره على عدم فساد الصلاة به، و هو رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام في كتابه المشتملة على قوله عليه السّلام: فإن فعل فلا يعودنّ له، فإنّه ظاهر في عدم لزوم إعادته للصلوات السابقة، و إلّا لأمره و لم يقتصر على نهيه عن العود.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.

(2) مسائل عليّ بن جعفر: 170- 288.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 357

و إذن فيحصل التعارض بين هذه الرواية مع تينك الطائفتين المتعاضدتين على الدلالة على الإفساد، فاللازم التكلّم في رفع هذا التعارض عمّا بينها و كذا بيان المراد من قضيّة: التكفير عمل و لا عمل إلخ.

و الذي اختاره في المقام شيخنا الأستاذ أطال اللّٰه أيّامه هو حمل النواهي على الحرمة النفسيّة، بدليل قوله عليه السّلام: لا يعودنّ له الذي قلنا: إنّه ظاهر في عدم ورود الخلل من ناحيته في الصلاة، و لمّا كان الحرمة النفسيّة الأجنبيّة عن الصلاة، كالنظر إلى الأجنبيّة و فيها منافية مع

قوله و لا عمل في الصلاة حيث يظهر منها أنّها مرتبطة بها، فيستفاد منه أنّ في التكفير جهتين، إحداهما نفسيّة، و الأخرى غيريّة، و لكنّ الثانية ليست على حدّ التحريم الملازم للبطلان معه، بل على حدّ الكراهة الغير المنافية مع الصحّة.

أمّا الحرمة النفسيّة فمن جهة الأخبار المشتملة على النهي، فإنّها بعد صرفها عن ظهورها في الإرشاد، لما تقدّم، يجب حملها على التكليف، و ظاهرها حينئذ هو الإلزام، و لا صارف عن هذا الظاهر، فيجب الأخذ به.

و أمّا الكراهة الغيريّة الراجعة إلى الصلاة فلأجل قوله عليه السّلام: هو عمل و لا عمل في الصلاة.

و أمّا معنى هذه القضيّة فتارة يقال: إنّ المراد بالعمل في الصغرى هو العمل الذي يكون متعارفا بين العامّة من قصد كونه مشروعا في الصلاة، ففي الكبرى أيضا يكون المراد هو سنخ هذا العمل المتّصف بكونه مأتيّا به بقصد المشروعيّة مع عدم كونه مشروعا.

و هذا المعنى مضافا إلى أنّ المناسب معه الإبطال، فلا يلائم ما استظهرناه من قوله عليه السّلام في رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام: فإن فعل فلا يعودنّ له، يوجب إرادته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 358

خروج الكلام عن الطريقة المأنوسة إلى حدّ البرودة، و لا يليق صدور مثله عن متعارف أهل الكلام فضلا عمّن هو أفصح من نطق بالصاد.

فالذي ينبغي أن يقال في تفسير العبارة الشريفة و اللّٰه العالم بالحقيقة: إنّ المراد كما يظهر من رواية دعائم الإسلام المتضمّنة لقوله عليه السّلام: «و لكن أرسلهما إرسالا، فإنّه أحرى أن لا تشغل نفسك عن الصلاة» أنّ المصلّي حال الصلاة ينبغي أن لا يشغل جوارحه و أعضاءه بغير الجهة التي أمره مولاه و كان كالميّت بين يدي الغسّال لا يحرّك

يدا و لا رجلا إلّا بتحريك أمره و إرادته من دون أن يدخل في خلاله إرادة نفسه، و على هذا فنتعدّى من التكفير إلى كلّ عمل مثله.

فلو اشتغل بفعل خارجي غير معدود ماحيا للصلاة كأن يرفع قلنسوته و يتعاهده للاطّلاع على خصوصيّاته كان هو أيضا فاعلا للمكروه في صلاته، لأنّه أشغل نفسه في صلاته بغير صلاته.

و على هذا نقول: في التكفير جهتان، إحداهما: كونه دأب المجوس، حيث يفعلونه في محضر ملوكهم تأدّبا و خضوعا، فمن هذه الجهة صار محرّما فعله في الصلاة نفسيّا لأجل حصول التشبّه في عبادة ربّ العالمين بتذلّل الكفّار لملوكهم.

و الجهة الأخرى: كونه عملا خارجيّا عن الصلاة شاغلا للنفس عن الصلاة، و هذه الجهة موجبة لصيرورته مكروها في الصلاة، و حيث إنّ وصفي الحرمة و الكراهة لا يجتمعان بحدّيهما، حيث إنّ الحدّ الضعيف إذا اجتمع مع القويّ يضمحلّ في جنب القوي و ينسلب عنه حدّه، فيكون حاصل اجتماع وصف الحرمة مع جهة الكراهة كاجتماع جهة الغايات المستحبّة في الوضوء عند دخول الوقت مع الوجوب، و لهذا يشرع الإتيان به بقصد إحدى تلك الغايات مع اشتغال الذمّة بالتكليف الوجوبي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 359

ثمّ هذا الذي ذكرنا وجه جمع بين جميع الروايات من دون طرح لشي ء منها.

لا يقال: لا يلائم هذا مع رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام المشتملة على النهي في صدرها و نقل القضيّة المشتملة على القياس في ذيلها، فإنّ الظاهر منها كون النهي معلّلا بذلك القياس المنقول في الذيل، لا أنّه مسبّب عن جهة أخرى.

لأنّا نقول: لا يستفاد منها إلّا وجود الأمرين فيه، و أمّا استناد النهي إلى كونه عملا في الصلاة، فليس في اللفظ ما يدلّ عليه، فإنّه

صلوات اللّٰه عليه نهى عنه مؤكّدا بقوله عليه السّلام: فإن فعل فلا يعودنّ، ثمّ نقل عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام أنّه تكلّم بتلك القضيّة، و مجرّد هذا لا دلالة فيه على استناد نهيه إلى جهة كونه عملا في الصلاة، بل يلائم مع كونه مجمعا لجهتين و معنونا بعنوانين، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

[ثالثها:] الالتفات عن القبلة

ثالثها: الالتفات عن القبلة، و لا إشكال في كونه مبطلا مع العمد، و أمّا لا معه فمقتضى عبارة الشرائع كونه غير مبطل، حيث أدرج الالتفات إلى ما وراءه في القسم الثاني من المبطلات، و هو عبارة عمّا يبطلها عمدا لا سهوا، كما حكي القول به عن غير واحد، بل عن البيان أنّه قال: ظاهر أكثر الأصحاب عدم بطلان الصلاة بالاستدبار سهوا.

و حكي عن ظاهر كثير من القدماء و المتأخّرين تعميم البطلان للحالين، و هو الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام بقاه.

و يدلّ عليه صحيحة زرارة «قال: قال أبو جعفر عليهما السّلام: لا تعاد الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 360

إلّا من خمسة، إلخ» «1» لكنّها وحدها لا يدلّ على أنّ محلّ اعتبار القبلة في الصلاة، هل هو الأفعال فقط، بحيث لو تذكّر قبل مضيّ محلّ التدارك أمكن إتيانه مستقبلا، أو الأعمّ منها و من الأكوان المتخلّلة حتّى لا يمكن التدارك في الفرض المذكور، فلا بدّ من إحراز ذلك من الخارج، ثمّ القول بالإبطال بالإخلال به مطلقا بمقتضى الاستثناء في الصحيحة.

و حينئذ نقول: تارة نستند في إحراز ذلك إلى مطلقات شرطيّة الاستقبال في الصلاة منضمّة إلى ما ورد في حقّ غير العامد من أنّ «ما بين المشرق و المغرب قبلة» مفرّعا عليه عدم وجوب الإعادة لو علم بعد الفراغ، و صحّة

ما تقدّم مع الاستقبال لما بقي لو علم في الأثناء، فإنّ المستفاد من مجموع الطائفتين كون القبلة شرطا للأكوان بالمعنى الأعمّ، و يؤيّده صدق المصلّي على الشخص حال عدم التشاغل بالفعل الصلاتي، و ليس إلّا لتوسعة المبدأ.

و حينئذ فيحكم بالبطلان لو خرج عمّا بين المشرق و المغرب و لو لا عن عمد، نعم لو صار ملتفتا مختارا بعد انقضاء الوقت فلا قضاء، لتصريح تلك الأخبار، هذا.

مضافا إلى أنّ الأصل في المقام أيضا يقتضي الاشتغال، بمعنى أنّا لو شككنا في أنّ اعتبار القبلة يكون بلحاظ الأفعال أو بلحاظ الأكوان فالاستدلال بحديث لا تعاد و إن كان غير جائز، لكونه تمسّكا في الشبهة المصداقيّة، إلّا أنّ المرجع في هذا الشكّ حينئذ هو الاشتغال، لأنّ اعتبار القبلة في الصلاة معلوم و هو معنى مبيّن، و الشكّ إنّما هو في أنّ ما به يتحقّق الخروج عن هذا المبيّن هل هو الأقلّ أو الأكثر، و المرجع في مثله الاشتغال.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 361

و حينئذ فإذا شككنا أنّ القبلة بأيّ المعنيين شرط و حصل الإخلال بها سهوا أو اضطرارا على وجه التجاوز عمّا بين اليمين و اليسار و لو كان على نفس النقطتين فمقتضى الأصل هو الحكم بالإعادة.

نعم لو كان غير متجاوز عمّا بينهما فيحكم بالصحّة و عدم لزوم الإعادة لا وقتا و لا خارجا بحكم ما دلّ على أنّ ما بين المشرق و المغرب قبله المنزّل إطلاقه على المضطرّ، هذا.

و لكنّ الإنصاف أنّ ما ذكر من كون المرجع عند الشكّ أصالة الاشتغال مخدوش، لرجوع الشكّ إلى الأقلّ و الأكثر في نفس مورد التكليف، لا في محقّقه بعد تبيّن

أصله، و ذلك لأنّا بعد القطع بالاعتبار في الأفعال إمّا لنفسها و إمّا لكونها مصداقا للكون الصلاتي نشكّ في أصل الاعتبار في الأكوان المتخلّلة، و من المعلوم أنّ المرجع حينئذ هو البراءة، بناء على القول بها في الأقلّ و الأكثر، كما أنّ استظهار الشرطيّة للكون من إطلاقات أدلّة اعتبار القبلة في الصلاة أيضا ربما يخدش فيه.

و الطريق الأسلم لإثبات هذا المدّعى أعني الشرطيّة في مطلق الأكوان هو استظهار ذلك من إطلاق القاطعيّة في أخبار الالتفات، فإنّه لو كان مجرّد شرط في الأفعال كنيّة القربة لم يوجب تعمّده انقطاع الصلاة، بل فساد ذلك الجزء، فمع بقاء محلّ العود أمكن التدارك، فالانقطاع بقول مطلق لا يستقيم إلّا مع الشرطيّة للكون الصلاتي، فيكون الفاقد للشرط خارجا عن الصلاة، و مع الخروج لا يمكن التحاق بقيّة الأجزاء بما سبق، و هذا معنى الانقطاع.

فإن قلت: نعم استظهار الشرطيّة الكونيّة في مقابل الأفعاليّة من التعبير المذكور حسن، لكن لا مساس له بشرطيّة الاستقبال، إذ من الممكن كون الاستقبال شرطا أفعاليّا و كون الالتفات قاطعا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 362

نعم حيث إنّ قاطعيّة شي ء للمركّب المأمور به لا معنى له إلّا مدخليّة عدمه في ذلك المركّب أو مدخليّة أمر وجودي ملازم معه، و إلّا فكيف يعقل تماميّة المأمور به جزءا و شرطا و مع ذلك كان حصول أمر مخلّا بصحّته بدون أن يرجع إلى قيديّة عدمه أو ملازم عدمه، بل و هكذا الحال في العلّة العقليّة للأشياء، فالمانع لا بدّ و أن يرجع إلى دخل عدمه في العلّة أو خصوصيّة وجوديّة ملازمة لعدمه في تأثيرها، فاللازم استكشاف كون الالتفات ممّا اعتبر عدمه، أو وجود أمر ملازم مع عدمه في أكوان الصلاة،

لكن أين هو من شرطيّة الاستقبال، إذ لا وجه لإرجاع أحدهما إلى الآخر.

و حينئذ فاللازم القول في صورة السهو و الاضطرار بعدم الإبطال، لكونه من أفراد المستثنى منه في «لا تعاد» بل و يصحّ التمسّك له بحديث رفع النسيان و الخطأ و ما اضطرّوا و ما استكرهوا عليه «1».

و لو قلنا بعدم جواز التمسّك بحديث الرفع لو كان الأثر لوجود الاستقبال بملاحظة أنّ ما ترك سهوا أو اضطرارا فالأثر الشرعي المترتّب على ذلك الترك- لو كان- مرفوع بالحديث، و المفروض حينئذ عدم وجود الأثر للترك إلّا عقلا، بملاحظة كونه ترك الشرط، و هو مورث لانتفاء المشروط عقلا، و إن كان فيه ما فيه، وجه عدم ورود الإشكال المذكور وضوح أنّ الأثر حينئذ للترك شرعا حسب الفرض.

و على هذا فإن أخلّ بالاستقبال في حال فعل من الأفعال و انقضى محلّ التدارك فالحكم فيه هو التفصيل المذكور، بمعنى أنّ الانحراف الغير البالغ حدّ المشرق

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الجهاد، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 363

و المغرب غير موجب للإبطال، و البالغ إليه موجب له في الوقت لا في خارجه، و أمّا إن التفت عن القبلة في أثناء الأفعال لا عن عمد فمطلقا و لو بلغ حدّ الاستدبار محكوم بصحّة صلاته، لدخوله في المستثنى منه في حديث لا تعاد، مضافا إلى حديث الرفع.

قلت: نعم ما ذكرت حسن لو فرض انفهام الاستقلاليّة و عدم الرجوع إلى شرطيّة القبلة من أخبار قاطعيّة الالتفات عرفا، و لكنّ الإنصاف أنّ المتفاهم عند العرف أنّ الحكم بالفساد من جهة الإخلال بالقبلة المعتبرة لا لرجوعه إلى شرط آخر وراء القبلة إمّا عدمي، و إمّا وجودي لا نعلمه،

فإنّ هذا خلاف المتفاهم عرفا.

و حينئذ فنقول: يستفاد من أخبار القاطعيّة أنّ شرطيّة القبلة يكون في الأكوان، ثمّ نضمّ ذلك إلى الأخبار الواردة في أنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة لغير المختار، فيستنتج أنّ انتفاء هذه القبلة المجعولة لغير المختار بأن يكون إمّا إلى نفس المشرق أو المغرب، أو متجاوزا عنهما و إن لم يصل إلى الاستدبار الحقيقي موجب للإبطال في الوقت دون خارجه، فيخصّص المستثنى في حديث لا تعاد بالنسبة إلى الشقّ الأوّل أعني ما لم يصل إلى النقطتين مطلقا، أو بالنسبة إلى الشقّ الثاني في خارج الوقت.

ثمّ لو سلّمنا عدم هذا التفاهم العرفي و كونهما شرطين مستقلّين أعني القبلة و عدم الالتفات، أو الأمر الوجودي الملازم مع عدمه، لكن نقول: أخبار قاطعيّة الالتفات منضمّة إلى أخبار جعل ما بين المشرق و المغرب قبلة لغير المختار الواردة في من انحرف عن القبلة الحقيقيّة لا يرجعان إلى أمرين متغايرين، فإنّ الموضوع في الأولى هو الالتفات، و في الثانية هو الانحراف، و العرف لا يشكّ في كونهما راجعين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 364

إلى أمر واحد، فيكون مقتضى ذلك أيضا هو التفصيل المتقدّم، لكون الأخبار الواردة في مسألة الانحراف أخصّ من حديث لا تعاد، غاية الأمر أنّ الأمر حينئذ على العكس من الفرض السابق، حيث إنّ التخصيص على هذا من جهة الحكم بالإعادة في الاستدبار، كما كان على الوجه الأوّل من جهة الحكم بعدمها في ما بين النقطتين، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

ثمّ المذكور في أخبار الالتفات ثلاثة مضامين: قاطعيّة الالتفات إذا كان فاحشا، و قاطعيّته إذا كان لكلّ البدن، و قاطعيّته إذا كان إلى الخلف، فربما يقال بالرجوع بعد التعارض إلى المطلقات الواردة

في قاطعيّة الالتفات بلا قيد، و لكن الإنصاف وجود الجمع العرفي في المقام، كما في أمثاله من سائر التراكيب المتعدّدة المعلّقة لجزاء واحد على شروط متعدّدة، حيث إنّ الاحتمالات فيها بين أمور:

رفع اليد عن المفهوم رأسا، و رفع اليد عن كلّ من المفهومين في خصوص مورد المنطوق الآخر، و رفع اليد عن الخصوصيّة في المنطوقين و إرجاع الأمر إلى أنّ الشرط هو الجامع بين الأمرين، أو عن الاستقلال و جعل الشرط مجموع الأمرين.

و قد تقرّر في محلّه أنّ الأولى من هذه الأربع هو الأوّل، ثمّ الثاني، لكونهما تصرّفا في المفهوم بقرينة المنطوق، بخلاف الأخيرين، حيث إنّهما تصرّف في المنطوق بقرينة المفهوم، و الأوّل أولى، لأظهريّة المنطوق من المفهوم.

و حينئذ فيقال بأنّ أحد الأمرين كاف و لو انفكّ عن الآخر، فالالتفات بكلّ البدن و لو كان يسيرا إذا خرج عن جهة القبلة المجعولة للمختار مبطل، كما أنّ الالتفات بالوجه فقط إذا كان فاحشا أيضا كذلك، و أمّا الالتفات إلى الخلف فهو تحديد للالتفات الفاحش بالوجه، حيث إنّ التفات الوجه إلى الخلف إنّما يتحقّق بجعل الوجه منحرفا إلى حدّ يمكن رؤية من خلفه، فحينئذ يقال: التفت بوجهه إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 365

خلفه، كما يقال: التفت فاحشا بوجهه.

و أمّا إذا كان الالتفات غير بالغ إلى الحدّ المذكور، بل غاية من يمكن رؤيته من على اليمين أو اليسار فلا يطلق عليه اسم الفاحش، كما لا يطلق كونه إلى الخلف.

و الحاصل ممّا ذكرنا أنّ الالتفات الخالي عن كلا العنوانين كما إذا كان بالوجه، لكن إلى اليمين و اليسار ليس بمبطل، نعم هو من المكروهات.

[رابعها:] تعمّد الكلام

رابعها: تعمّد الكلام.

اعلم أنّ المطلب بحسب الكبرى ممّا لا إشكال فيه، أعني مبطليّة

الكلام عمدا و عدمها نسيانا و سهوا.

إنّما الكلام في تشريح الصغرى و تحديد الكلام، فعن جماعة، بل ينسب إلى الجلّ لو لا الكلّ أنّ الكلام عند عرف اللغة عبارة عن كلّ ما تركّب من حرفين و لو كان مهملا و بلا معنى، أو كان على حرف واحد مفهم للمعنى، كالأمر من الأفعال المعتلّ الطرفين ك «ق» من وقى و «ع» من وعى، و لكن استفادة ذلك من العرف في إطلاقات التكلّم و الكلام في غاية من الإشكال.

توضيح المقام أنّ التدبّر يقضي بالفرق عرفا بين لفظي التلفّظ و التكلّم و اختصاص الثاني بما إذا كان للمتكلّم به معنى و كان ذلك المعنى ملحوظا عند التكلّم به و لو بنحو الإجمال في مقابل أن يكون اللفظ مقصودا بلا لحاظ معنى أصلا، سواء كان له معنى أم لا، بأن قصد من التلفّظ بكلمة ضرب تعلّم أداء الحروف المذكورة من مخارجها من دون لحاظ معناه أصلا، أو بالحاء المهملة تصفية الحلق من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 366

الفضلات، فإنّ أمثال هذا لا يسمّى باسم التكلّم و الكلام، و لا نعني بملحوظيّة المعنى التي قلنا باعتبارها أن يكون اللفظ معنى حقيقي فاستعمل فيه أو في ما يناسبه بحيث اندرج تحت اسم الحقيقة أو المجاز الاصطلاحيين، بل الأعمّ من ذلك و أن يكون من قبيل استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو شخص مثله ممّا يستحسنه الطباع و إن كان لا يسمّى بأحد الاسمين اصطلاحا.

و لهذا يجري في المهملات أيضا، مثل ديز مهمل، بل و أعمّ من أن يكون داخلا في الاستعمال الصحيح كأحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة، أو في الغلط كما يستعمل أحيانا لفظة مهملة مضحكة مرادا بها شخص، كما

يقال: فلان حشلحف بغرض أنّه لا فائدة فيه، كما أنّ هذه اللفظة مهملة و مضحكة.

ففي أمثال هذه الموارد يصدق التكلّم و لو كان حرفا واحدا، مثلا قد يتكلّم بحرف الواو في مقام العطف، كما لو قال أحد: جاء زيد فتقول أنت «و» و قد يتلفّظ به في مقام تعلّم مخرج الواو، و هكذا تارة يتلفّظ بكلمة «ق» مرادا بها معناها الذي هو الأمر، من «وقى» و أخرى لأجل تعلّم مخرج القاف، فالأوّل من هذين كلام و الثاني ليس بكلام و لا تكلّم عند العرف.

فإن قلت: نحن نرى صدق التكلّم و الكلام في حقّ النائم و الساهي و الصبيّ في أوائل جريان لسانه، و كذا في حقّ من يقرأ كلمات العربيّة ليعلم آدابها النحويّة أو من يقرأ القرآن أو الإشعار العربيّة، و هو غير عارف بلسان العرف و لا يفهم معاني الألفاظ مع أنّه ليس للاستعمال لشي ء من وجوهه الأربع المتقدّمة في هذه المواضع عين و لا أثر كما هو واضح.

قلت: أمّا النائم و الساهي فالاستعمال متحقّق في حقّهما لحصول القصد الارتكازي، و هو كاف في تحقّق الاستعمال، كما أنّهما يؤدّيان الحروف من مخارجها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 367

بواسطة الارتكاز أيضا، و أمّا الصبيّ فإن راجعت العرف ترى أنّهم لا يسمّون أوّل جريان لسانه و إظهاره أصواتا مهملة بلا تميّز له أصلا باسم التكلّم، فلا يقولون: إنّ طفلنا جرى لسانه بالنطق، بل يسمّونه باسم آخر، كما يقال في الفارسيّة: «باقون آمده»، نعم بعد ما حصل له تميّز في الجملة ففهم مثلا أنّ الخبز شي ء حسن فطلبه و تلفّظ بكلمة مشيرا إليه كان هذا تكلّما و استعمالا و يقال حينئذ جرى لسانه بالنطق.

و أمّا من تكلّم

لتعلّم آداب العربيّة فتارة يكون في مقام تعلّم أنّ العرب في مقام يقول الفرس: «زد زيد عمرو را» يقولون: «ضرب زيد عمرا» فحينئذ لا شبهة في كونه استعمالا و يصدق التكلّم أيضا، و أخرى في مقام تعلّم مخرج الضاد المعجمة، و حينئذ لا يصدق الكلام.

و أمّا قراءة الغير العارف باللسان فهو أيضا بلحاظ المعنى إجمالا، و لهذا لو علم أنّ الشعر الكذائي مضمونه من الكفريّات يتجنّب عن التفوّه به، و المقصود من الاستعمال أن يكون المعنى ملحوظا في أجزاء الحروف و الأصوات و لو بنحو الإجمال.

فإن قلت: يردّ ما ذكرت قوله عليه السّلام في ذيل مرسلة الصدوق «من أنّ في صلاته فقد تكلّم» «1»، و مثله خبر طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن عليّ عليه السّلام «2»، فإنّ المستفاد منه أنّ ما يتلفّظ به عند الأنين مع كونه مهملا مصداق للتكلّم، فيستفاد منه الضابط الذي ذكره العلماء و هو أنّ ما اشتمل على حرفين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 368

فصاعدا و لو كان مهملا كلام، و أمّا الحرف الواحد فلا، إلّا إذا كان مفهما للمعنى.

قلت: الظاهر أنّ الخبر ليس بصدد تحديد المصداق العرفي كما ربما يؤيّده بعد مثله في مقام ذكر المصداق الحقيقي، بل المقصود أنّه مع عدم كونه مصداقا حقيقيا ملحق بالكلام في الحكم، و الاعتبار أيضا شاهد به، لكمال شباهة الأنين بأسماء الأفعال و إن كان غير دالّ بالوضع، بل بالطبع، فحاله كحال اللفظ الذي وضع اسما للفعل الذي هو قولك: أتألّم بالمرض.

و الشاهد بذلك أنّ

ما يتنطّق به عند الأنين حرف واحد و هو الهمزة المكسورة، غاية الأمر أنّها في بعض الأحيان تمدّ، و لكنّ المدّ أيضا ليس حرفا آخر.

و بالجملة، فأخذ الخبر شاهدا على صدق التكلّم حقيقة على ما اشتمل على الحرفين في غاية الضعف، و إذن فاللازم الاقتصار على مورده، فلا يتعدّى إلى كلمة «أح أح» عند السعال و نحو ذلك.

نعم قد يكون إتيان الكلمات المهملة بحدّ يوجب محو صورة الصلاة، فحينئذ حالها حال الوثبة، فيكون البطلان من هذه الجهة، لا من أجل التكلّم، و لهذا قد يتّفق في الحرف الواحد أيضا كما لو تلفّظ عند آخر كلّ آية بقول «ب» مثلا خصوصا مع مدّ الصوت، فإنّ حاله حال الوثبة قطعا، هذا كلّه في كلام الآدميين.

و أمّا الذكر و الدعاء و القرآن و إن لم يقصد بها التقرّب بل إعلام الغير و إيقاظه و نحو ذلك كأن يقول: «سبحان اللّٰه» إعلاما بأنّه في الصلاة و لا يتمكّن من إطاعة والده عند نداء الوالد إيّاه و نحو ذلك فلا ريب في جواز ذلك، لوجود الأخبار في كلا المقامين.

ففي بعضها أنّ كلّ ما ذكرت اللّٰه عزّ و جلّ به و النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله فهو من الصلاة «1»،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 369

و في آخر التصريح بقول: سبحان اللّٰه، لأجل إفهام المطلب للغير «1»، مضافا إلى المقابلة بين عنوان كلام الآدميين و التكلّم الذي جعل قاطعا و بين الأذكار و الدعاء و القرآن، فإنّ الأوّل ليس من سنخ أفعال الصلاة و الثاني منها، فلا يشمل عنوان القاطع أمثال ما ذكر حتّى يحتاج إلى الدليل المخرج.

ثمّ إنّه

في صورة الإتيان بالذكر أو القرآن لأجل إفهام المطلب قد يكون ذلك مقصودا لأجل كونه من لوازم الفعل أو مدلولا التزاميّا للقول أو جزئيّا من الحكم الكلّي المستفاد منه أو مناسبا لمضمونه، و بالجملة، لا يستلزم استعمال لفظ القرآن في غير معناه الذي أريد منه، و هذا ممّا لا إشكال فيه.

و قد يكون مقصودا باستعمال اللفظ المشاكل للّفظ القرآني في ذلك المعنى المقصود، كما إذا أراد مخاطبة رجل مسمّى بيوسف بالإعراض عن مطلب فقال:

يوسف أعرض عن هذا، فاستعمل لفظة يوسف في نفس الرجل المخصوص، و قوله:

«أعرض» في خطابه و قوله: «عن هذا» في المطلب المقصود إعراض ذلك الرجل عنه، غاية الأمر أنّه اختار تلك الألفاظ لمجرّد كونها أفصح من غيرها من دون أن يكون عنوان الحكاية الألفاظ القرآنيّة مقصودة له، و هذا لا إشكال في عدم جوازه.

توضيحه أنّ مجرّد المشاكلة الصورية للألفاظ القرآنيّة لا يوجب صيرورتها مندرجة تحت اسم القرآن ما لم يقصد الحكاية عن تلك الألفاظ المنزلة نوع حكاية الألفاظ عن معانيها بأن كان المحكيّ باللفظ اللفظ، كما في قولك: «ديز مهمل» فإنّ المقصود إلقاء نوع هذه الكلمة إلى المخاطب و الحكم عليه بالإهمال، لا على نفس هذه اللفظة، فإنّها مستعملة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 370

و الحاصل لا بدّ في صدق القرآن أو الشعر الكذائي أو نحو ذلك من أقوال الغير على المقروّ من أفناء الألفاظ بحيث كان الملقى إلى المخاطب نفس ألفاظ الغير، فلا يرى اللاحظ إلّا إيّاها و كان الحكم عليها و بها، لا على لفظ نفسه، كما هو الحال في نقل الألفاظ للمعاني.

و ظهر ممّا ذكرنا أنّ هذه الحكاية

ليست من سنخ الحكاية التصديقيّة كأن يقول: قال زيد كذا، فإنّه مستتبع للصدق و الكذب، و هذا حكاية إفراديّة كحكاية لفظة زيد عن الجثّة الخارجيّة.

نعم في صدق قراءة شعر الغير و كلامه نحتاج مضافا إلى الحكاية المذكورة إلى شي ء آخر و هو كون نظم الألفاظ بحيث يضاف إليه عرفا قراءة كلام ذلك المتكلّم و يقال: هذا قارئ كلامه، و إلّا فلو قال كلمة «إنّا» بحكايتها عن القرآن و كلمة «أنزلنا» كذلك، ثمّ كلمة «فرعون» كذلك، ثمّ «بشيرا» كذلك، ثمّ «هم المفلحون» كذلك فقال: إنّا أنزلنا فرعون بشيرا هم المفلحون، لا يقال: هو قارئ القرآن و لو علم أنّ اللافظ قصد بها الحكاية عن القرآن بالنحو الذي ذكرنا بأن ألقي بهذه الملفوظات الكلمات المنزّلة بالوحي إلى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و نقلها بها إلى المخاطب و أحضرها في ذهنه، كما يلقي المتكلّم بزيد جثّته الخارجيّة و يحضرها في ذهن السامع.

و كيف كان ففي صورة فقد الحكاية المذكورة بأن أفنى الألفاظ في المعاني و أحضرها إلى ذهن السامع فأحضر الشخص الخارجي بكلمة يوسف و بخطاب:

أعرض، أحضر خطابه لا الألفاظ الصادرة بالوحي لا إشكال في أنّه لا يسمّى الملفوظ قرآنا و لو شاكل اللفظ القرآني في الصورة.

و يحدث من هنا إشكال و هو أنّه قد ذكر في الحواشي على الرسائل العمليّة في مقام الدستور و الحيلة في موارد الشكّ في وجوب ردّ السّلام على المصلّي إمّا لكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 371

صيغة السّلام ملحونة، و إمّا لكون المسلّم صبيّا بأنّه يختار المصلّي اللفظ القرآني و يأتي به بعنوان الجواب فيقول مثلا سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، و إضافة كلمة «طِبْتُمْ» يكون بملاحظة النكتة المشار إليها آنفا

من كون الهيئة من الهيئات التي يوجب صحّة نسبة قارئ القرآن.

و حاصل الإشكال أنّه إن قصد اللافظ في مقام جواب السّلام بكاف عليكم الخطاب إلى ذلك الرجل و هكذا بكلمة سلام تحيّة نفسه و بطبتم الخطاب و التحيّة المذكورين فقد حصل جواب تحيّته بالتحيّة، و لكن يلزم عدم صدق القرآن على مقروّه، لأنّه قد أفناه في المعاني المذكورة، و أين هو من الإفناء في الألفاظ القرآنيّة، فإنّ الإفناء فيها معناه إحضار تلك الألفاظ و هي ألفاظ الملائكة في خطاب أهل الجنّة و تحيّتهم.

و إن قصد إحضار الألفاظ القرآنيّة فلم يحصل ردّ التحيّة، فإنّه إنّما يحصل بالخطاب و توجيه التحيّة نحو المسلّم، لا بذكر تحيّة شخص آخر لشخص آخر، فإنّه لا يسمّى تحيّة عرفا، و الجمع بين الأمرين مستلزم لاجتماع اللحاظين المتنافيين.

نعم لو قصد بالألفاظ القرآنية معنى هي مشتملة عليه كما لو قصد بقوله: إيّاك نعبد و إيّاك نستعين، مع قصد الحكاية معناها فلا يضرّ بقصد الحكاية، و لا يرد أنّه كيف ينشأ هذه النسبة التامّة مع استلزامه للقصد التفصيلي نحوها، و هو مناف مع كون التوجّه التفصيلي إلى اللفظ، كما هو مقتضى الحكاية، فإنّ الجواب أنّ الممتنع اجتماعهما بوصف التفصيليّة و الأصاليّة، و أمّا اجتماعهما بوصف أصاليّة أحدهما و تبعيّة الآخر فلا مانع منه، و هذا الجواب لا يتمشّى في المقام، فإنّه إنّما يتمشّى لو قصد سلام الملائكة على أهل الجنّة، و المقصود إثبات صحّة قصد ردّ تحيّة الزيد المسلّم، هذا حاصل الإشكال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 372

و يمكن الجواب بأنّه إنّما يقصد بهذه الألفاظ نقل ألفاظ الملائكة، كما هو المقصود في القرآن، فكأنّه يلقي إلى السامع بهذا الألفاظ ألفاظهم عليهم السّلام، ثمّ تلك

الألفاظ الصادرة من الملائكة بحسب الذات قابلة لأن يقصد بها التحيّة الموجّهة إلى أيّ مخاطب، غاية الأمر أنّهم عليهم السّلام قصدوا بها التحيّة لأهل الجنّة، لكن هذا المصلّي يأتي بألفاظهم و يقصد التحيّة لهذا الرجل المسلّم، و لا يخرجها ذلك عن عنوان القرآنيّة، و إنّما يخرجها لو كان الإفناء في تحيّة الرجل مقصودا في أوّل الأمر.

و أمّا إذا كان المقصود الأوّلي نقل ألفاظ الملائكة بها ثمّ المقصود الثانوي قصد تحيّة الرجل بتلك الألفاظ المحكيّة فكأنّه جاء بألفاظ الملائكة و استعملها في تحيّة هذا الرجل، فهذا لا يضرّ بالحكاية و صدق القرآنيّة.

و نظير هذا قصد إظهار الخلوص للمكتوب إليه بتوسّط نقوش الكتابيّة، فإنّ نقش «ق» مثلا حاك عن القاف الملفوظة، و نقش «ر» عن الراء كذلك، و نقش «باء» عن الباء الملفوظة، و نقش «ن» و «ت» عنهما ملفوظتين، و هكذا نقش «ش» و «و» و «م». و تركيب هذه النقوش أعني نقشها هكذا: «قربانت شوم» حاك عن التركيب الملفوظ، فالكاتب إنّما يحكي أوّلا بهذه النقوش الألفاظ ثمّ يحكي بالألفاظ المحكيّة عرض الإخلاص للمخاطب بواسطة قابليّتها الذاتيّة لأن يقصد بها التحيّة لكلّ أحد و إنّما تعيّنها القصد.

فالألفاظ الصادرة من الملائكة حالها حال هذه الألفاظ المحكيّة بنقوش الكتابة، غاية الأمر اختلاف الحاكي مع الملائكة في القصد، فهم قصدوا بها تحيّة أهل الجنّة، و هذا قصد بعين تلك الألفاظ تحيّة هذا الرجل.

فإن قلت: إذا تلفّظ لافظ و قصد معنى، ثمّ تلفّظ به آخر بقصد معنى آخر، فلا يصحّ أن يقال: هذا الذي تلفّظه الثاني كلام الأوّل، كما إذا قال زيد مخاطبا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 373

لعمرو: سلام عليكم، فقال بكر مخاطبا لبشر هذه الصيغة بقصد حكاية

ألفاظ الزيد فلا يقال: إنّه تلفّظ بكلام زيد، لأنّه سلام موجّه إلى عمرو، و هذا موجّه إلى البشر، نعم لو أعاده بكر بقصد العمرو صحّت النسبة.

قلت: إن أردت بقولك: إنّه لم يصدق عليه حكاية كلام زيد أنّ ألفاظ زيد لكونها صدرت في مقام التحيّة لعمرو خرجت عن قابليّة إرادة غيره منها، فصارت كالأعلام الشخصيّة كما إذا دعا زيدا ابنه بقوله: يا يحيى، حيث إنّ حكاية كلامه غير صادقة إذا أريد بالمحكيّ شخص آخر مسمّى بهذا الاسم، فإنّ هذه اللفظة بذلك الوضع الذي صار لفظا لزيد غيرها بغير ذلك الوضع، فكذلك قول: سلام عليكم الصادر بعنوان تحيّة زيد غيره إذا صدر بعنوان تحيّة غيره.

فالجواب بالفرق بين الأعلام و غيرها مثل قول: سلام عليكم، إذ كلمة «كم» موضوعة للخطاب إلى أيّ مخاطب كان، و ليس خصوصيّات المخاطبين على عهدة هذه اللفظة، و لا أراد إفهامها بها المتكلّم أيضا، بل أراد معناها الكلّي، و طبّق الكلّي المراد على الجزئي المعيّن.

و هكذا كلمة سلام ليس مستعملا في خصوص سلام الشخص المخصوص، بل استعمل في الكلّي، و الجزئيّة نشأت من توجيه الكلام نحو الشخص المعيّن، فإذا أخذ أحد عين هذه الألفاظ التي معانيها عامّة من فم المتكلّم و وجّه بها نحو شخص آخر صدق أنّه تكلّم بكلام المتكلّم، غاية الأمر أنّه يتوجّه نفسه إيّاها إلى شخص آخر ألبسها عنوان تحيّة شخص آخر، و إلّا فالألفاظ ما غيّرت عمّا هي عليه من الوضع و المعنى.

و إن أردت عدم صدق الحكاية و النسبة إلى المتكلّم إلّا في صورة إرادة المعنى الذي أراده هو، فلو قيل: مخاطبا لبشر في المثال: قال لك زيد: سلام عليكم، كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 374

كذبا،

فالجواب أنّ المقصود بالحكاية هنا كما أشرنا إليه سابقا ليست هي الحكاية الإخباريّة المستلزمة للصدق و الكذب، بل نوع حكاية اللفظ عن المعنى، و من المعلوم أنّ تخلّف اللفظ عن المعنى لا يسمّى كذبا، فليس المقصود هنا نسبة السّلام الموجّه إلى رجل مثلا إلى الملائكة، بل يحكى بالألفاظ عين ألفاظ الملائكة حين وجّهوها إلى أهل الجنّة، و نحن نوجّهها إلى رجل سلّم علينا في الصلاة بغير الصيغة الصحيحة مثلا، و ليس فيه نسبة هذا السّلام إلى الملائكة حتّى يدفع بأنّ من المسلّم كونه كذبا و غير صادق عرفا، فتدبّر في المقام فإنّه دقيق و بالتدبّر فيه حقيق.

و هل التكلّم الإكراهي أيضا مبطل أو لا، كما إذا ورد قاهر و هو في الصلاة فأكرهه على السّلام عليه و وعده بالإيذاء على الترك و لم يلتفت إلى الحيلة التي ذكرنا فربما يتمسّك فيه بالصحّة نظرا إلى دخوله في ما استكرهوا عليه.

و يمكن الخدشة فيه أوّلا بعدم تسليم عموم الحديث لغير المؤاخذة من سائر الآثار، كما أنّ ذلك وقع مكرّرا في كلمات شيخنا الأجلّ المرتضى قدّس سرّه.

و أمّا حديث البزنطي الوارد في الحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك فيمكن القول بأنّ نظر السائل في قوله: أ يلزمني ذلك إلى أنّ الإثم لاحق بي لازم لي أو لا؟ فأجابه عليه السّلام بالعدم مستشهدا بالحديث «1»، حيث إنّ الحلف المذكور علاوة على عدم الأثر الوضعي الثابت في سائر الأيمان محرّم تكليفي أيضا عند الخاصّة، و على هذا فغاية الأمر ارتفاع الإثم بالإبطال المتحقّق بالكلام الإكراهي لا رفع أثر الإبطال.

و ثانيا: سلّمنا عموم الحديث للآثار الغير الراجعة إلى المؤاخذة أيضا كالقاطعيّة التي هي أثر للكلام، لكن مع ذلك يمكن

أن نمنع تقديم حديث الرفع و لو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 375

كان لا يلاحظ النسبة بينه و بين أدلّة التكاليف بملاحظة حكومته عليها بواسطة أنّ المذكور في أخبار الباب جعل التقابل بين عنواني العمد و النسيان و أنّ التكلّم إذا كان عمدا مبطل، و إذا كان نسيانا فلا، و هذا في نهاية الظهور في أنّ جميع أفراد العمد التي منها ما كان سببه الإكراه حكمه الإبطال، و إنّما الخارج عن تحته ما قابل العمد و هو النسيان.

و بالجملة، لا يدخل في أذهان العرف تقديم ذلك العموم الواسع الدائرة على هذا المضمون، بل متى عرض عليهم هذان الكلامان فالظاهر أنّهم يقدّمون هذا الكلام على ذلك العموم، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

[خامسها:] القهقهة

خامسها: القهقهة، و لا إشكال في حكمها و أنّها من المنافيات للصلاة، إلّا أنّ الكلام فيها في مواقع ثلاثة:

الأوّل: في تحديد موضوعها.

و الثاني: في بيان حكمها عند حدوثها على سبيل الاضطرار إليها، دون وقوعها بالاختيار.

و الثالث: في حكمها عند حدوثها مع الغفلة عن الصلاة و تخيّل كونه خارجا عنها.

أمّا الأوّل فاعلم أنّ المذكور في غالب أخبار الباب ذكر قاطعيّة القهقهة بعد ذكر سلبها عن التبسّم «1»، فلا يعلم أنّ المعيار هو التبسّم، فما كان خارجا عنه هو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب قواطع الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 376

القاطع، أو هو القهقهة، فما خرج عنها و عن التبسّم داخل في غير القاطع.

و التبسّم هو الضحك الخالي عن الصوت الذي يسمّى بالفارسيّة ب «لبخند» و القهقهة ما كان مشتملا على الصوت مع الترجيع، و غيرهما ما كان مشتملا على الصوت بلا ترجيع.

فاعلم أنّ

المعيار الكلّي في أمثال هذا المورد ممّا إذا ورد قضيّتان متنافيا الحكم و كان الموضوع في إحداهما ضدّ الأخرى، كما في قوله عليه السّلام: «إن غسلته بالمركن فمرّتين، و إن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة» «1»، و كان هناك ضدّ ثالث كما في المثال، حيث إنّ الماء الكرّ ثالث القسمين المذكورين، هو الأخذ بظهور الصدر و جعل الذيل من باب المثال لمفهوم الصدر.

فيقال في الرواية المذكورة: إنّ المقصود عدم التعدّد في الماء العاصم، و ذكر أحد أفراده من باب عدم ابتلاء السامع بغيره، بملاحظة قلّة الكرّ في تلك الأمكنة إلّا في نادر كأوقات نزول المطر الموجب لاجتماع الماء في الغدران الواقعة في الصحراء.

و يقال في ما نحن فيه: إنّ المقصود إثبات القاطعيّة في ما خرج عن حدّ التبسّم، و ذكر خصوص القهقهة من باب غلبة وجوده، حيث إنّ الغالب أنّ الضحك إذا اقترن بالصوت يصل إلى حدّ الترجيع، و أمّا المشتمل على الصوت بدون الترجيع ففرد نادر.

ثمّ إذا فرض هذا الظهور في غالب أخبار الباب فالنادر المذكور فيه لفظ القهقهة فقط أيضا يسقط عن الظهور في الموضوعيّة، بل يحمل على ما استفدناه من

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 377

تلك الطائفة كما لا يخفى.

و أمّا الثاني: أعني حكم حدوثها في الصلاة قهرا و بلا اختيار لمقابلة لاعب و نحوه، فالظاهر كونها مبطلة، فإنّ عموم ما اضطرّوا إليه و إن كان شاملا لها، إلّا أنّه يلزم من إخراجها عن أدلّة القاطعيّة تقييد تلك الأدلّة بالفرد النادر، إذ قلّ ما يتّفق وجود القهقهة في الصلاة عن عمد، فدلالتها بالنسبة إلى الفرد الاضطراري يكون كالصريح، فيكون مخصّصة

للحديث، خصوصا مع كونه بذلك العموم و الوسعة.

و أمّا الثالث: أعني حدوثها لأجل السهو عن الصلاة فالظاهر إمكان التمسّك بالحديث بناء على عموم الآثار، كما لا مانع من التمسّك بلا تعاد أيضا.

[سادسها:] قاطعيّة فعل الكثير

سادسها: أن يفعل فعلا كثيرا ليس من أفعال الصلاة، فتبطل الصلاة بذلك، بخلاف القليل، بلا خلاف فيها في الجملة، بل عن غير واحد دعوى الإجماع، فإن تمّ الإجماع على هذين العنوانين من حيث هما حتّى كأنّهما وقعا في متن رواية معتبرة كان المرجع في تشخيص مصاديقهما العرف العامّ و إن كان ليس لهما ضابط عرفي رافع للتحيّر، لا لكونهما إضافيين، بل لاختلاف صدقهما بحسب المقامات.

ألا ترى لو انتشر مقدار ربع منّ من الحنطة في مكان على الأرض يقال: هذه الحنطة كثيرة، و لو فرض كونه قوتا لأشخاص كثيرين يقال: هذه الحنطة قليلة لمعاشهم، و كذلك حبّ ماء بالنسبة إلى خمسة أشخاص أو بالنسبة إلى أهل بلد، و هكذا.

مضافا إلى أنّهم علّلوا البطلان في الفعل الكثير بكونه ماحيا لصدق الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 378

و موجبا لخروج المصلّي عن كونه مصلّيا، فحينئذ يتوجّه عليهم إن أرادوا أنّ هنا بعد استجماع جميع الشروط و الأجزاء المعتبرة شرعا في الصلاة من الوجوديّات و العدميّات أمرا آخر لا بدّ من رعايته، و لو لم يرجع إلى اعتبار شرعي و هو حفظ عنوان كونه مصداقا لاسم المصلّي و كون الفعل مصداقا لاسم الصلاة، بحيث لا ينسلب عنه هذا الاسم من أوّل الشروع إلى آخره ففيه أنّه ما لم يندرج ذلك تحت اعتبار الشرع فلا موجب لرعايته، بل الأصل يقتضي نفيه بعد رعاية جميع ما علم اعتباره من الشارع، و مجرّد رفع الاسم في الأثناء لا يضرّ.

ألا

ترى أنّ المتوضّي لو أتى في الأثناء بوثبة أو نحوها ممّا لا يصدق عليه اسم المتوضّي لا يضرّ بصحّة وضوئه ما دام مستحفظا على جميع الشرائط و الأجزاء المعتبرة شرعا.

فإن قلت: ليس هذا مقام الرجوع إلى الأصل، لأنّ هذا ممّا يتقوّم به حقيقة المأمور به و صدق اسمه، و مثله لو شكّ في اعتبار شي ء فيه يكون حكم العقل فيه الاشتغال.

قلت: إن كان الصلاة المأمور بها عبارة عن أمر بسيط منتزع عن الأجزاء الخارجيّة كان الأصل هو الاشتغال في عامّة مواضع الشكّ في جزء أو قيد، و هو خلاف التحقيق، و إن كانت عبارة عن نفس الأفعال التي أوّلها التكبيرة و آخرها التسليمة فكلّما شكّ فيه ممّا زاد على المعلومات فالأصل فيه البراءة.

فإن قلت: نعم و لكن لا بدّ من المحافظة على بقاء الاسم بالمعنى الأعمّ الجامع بين الصحيح و الفاسد.

قلت: هذا المعنى محرز، إذ هو في حال الرقصة أو الوثبة لا يطلق عليه الاسم، و أمّا بعد عوده إلى الصلاة يقال: صلّى و فعل في أثناء صلاته كذا و كذا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 379

نعم لو فرض الفصل حصول المخلّ بالموالاة المعتبرة بين الأفعال، حيث إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب كالذكر الكذائي أو السورة الكذائيّة أو نحو ذلك يتبادر منه الإتيان بتمام أجزائه بنحو التوالي و الاجتماع في مجلس واحد، فإذا فرض كثرة الفصل المخرج عن هذا التوالي كان مضرّا، سواء كان عمدا أم سهوا، إذ مع السهو أيضا خارج عن عنوان الصلاة، فلا يشمله قوله: لا تعاد الصلاة إلخ، و أمّا مع حفظ الموالاة المذكورة و الإتيان ببعض الأفعال من قبيل الوثبة و نحوها فالمعيار في شكّها هو البراءة.

فإن قلت: نعم و لكن

ملاحظة الأخبار الكثيرة الواردة في التعرّض سؤالا و جوابا أو ابتداء لحكم بعض الأفعال الجزئيّة من قبيل قتل العقرب و البقّ و البرغوث و نحو ذلك في أثناء الصلاة يورث الاطمئنان لمغروسيّة عدم الملاءمة بين الصلاة و بين الأفعال الخارجة عنها في أذهانهم حتّى احتاجوا إلى السؤال عن أمثال هذه الجزئيّات، و كذا احتاج الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم إلى بيان الحال في بعضها الآخر.

قلت: لا يستكشف ذلك من تلك الأخبار، إذ بعد كون التكلّم و كذا و كذا قاطعا للصلاة أورث ذلك احتمال إضرار أمثال ما ذكر، و أين هذا من مغروسيّة كلّ فعل و كلّ عمل حتّى يكون السؤال عن الاستثناء.

و أمّا التعبير بالقاطعيّة فلا يستكشف منه إلّا اعتبار الهيئة الاتّصاليّة التي يقطعها ما ذكر في الأخبار من التكلّم و القهقهة و نحوهما، لا كلّ فعل و عمل لا يلائم الصلاة.

فإن قلت: يمكن استظهار المطلب من تعبير أنّ: تحريم الصلاة التكبيرة و تحليلها التسليمة، ببيان أنّ المراد بذلك إثبات وصف الحرميّة للصلاة، و مقتضى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 380

الحرميّة ممنوعيّة كلّ فعل إلّا ما وصل من الشارع فيه الإذن، فإنّ وصول الإذن موجب للخروج الموضوعي، فكلّ ما يفعل بلا إذن كان هتكا لحرمة الحرم، كما هو المشاهد في حرم المشاهد المشرّفة و في محاضر السلاطين.

و من هنا يتّجه الاستدلال أيضا بقولهم عليهم السّلام: لا عمل في الصلاة، فإنّه أيضا ناظر إلى اقتضاء كونه حرما، و ليس فيه تخصيص الأكثر، لما عرفت من أنّ موارد وصول الإذن خارجة عنه خروجا موضوعيّا، و مقتضى ذلك التوقّف عند موارد الشكّ.

قلت: لا نسلّم كون مقتضى الحرميّة ممنوعيّة كلّ عمل و شغل غير الذي وصل فيه الإذن

و الدستور، بل غاية الأمر أنّه ليس حال الحرم كحال غيره في أنّه كان يجوز فيه كلّ عمل و شغل، و هو رفع الإيجاب الكلّي لا إثبات السلب الكلّي، فيبقى موارد الشكّ موردا للأصل.

ألا ترى أنّ أفعال الحجّ و العمرة أيضا يكون التلبية إحرامها و التقصير تحليلها، و مع ذلك ليس الإنسان ما دام مشتغلا بها ممنوعا إلّا عن أشغال مخصوصة، بحيث لو شكّ في المنع عن شي ء يرجع فيه إلى البراءة، و لا يحكم بالمنع حتّى يعلم الإذن.

و أوثق شي ء يمكن أن يقال في هذا المقام: إنّ أذهان المتشرّعة بما هم متشرّعة متأبّية عن وقوع بعض الأعمال في الصلاة و يرون عدم الملاءمة بينها و بين الصلاة، و هذا التأبّي و التحاشي مركوز في أذهانهم بحيث كونهم متشرّعة، من غير فرق بين علمائهم و عوامهم، و هو طريق موصل إلى بيان الشرع، نظير التبادر الحاكي عن وضع الواضع في باب الألفاظ.

فيكون هذا ضابطة كلّية، فكلّما جرى فيه هذا الارتكاز المتشرّعي ينظر فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 381

هل يعمّه في كلتا حالتي العمد و السهو، أو مختصّ بحالة العمد مع ارتكاز الخلاف بالنسبة إلى السهو، أو مع الشكّ فيه، فإن كان الأوّل حكم بمنافاته شرعا في كليهما، و إن كان الثاني حكم بالمنافاة مع العمد دون السهو، و إن كان الثالث حكم بالمنافاة عمدا، و مع السهو يكون مرجعه الأصل، و هو البراءة على ما هو التحقيق.

و لا ينافي هذا الارتكاز ما ورد في الأخبار من الترخيص في بعض الأفعال، مثل حمل المرأة طفلها في الصلاة و إرضاعها، و مثل رمي الحصاة لإعلام أحد، و رمي الكلب و غيره بالحجر، و إحراز ما

يتخوّف ضياعه من متاع البيت، أو غسل دم الرعاف، و ما ورد من مشي رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بعرجون من عراجين ابن طاب و هو تمر بالمدينة، و حكّ النخامة الواقعة في المسجد و رجوعه صلّى اللّٰه عليه و آله قهقرى و بنائه على صلاته، و قد قال الصادق عليه السّلام: «و هذا يفتح من الصلاة أبوابا كثيرة» «1»، فإنّ ما ذكرنا من الارتكاز ليس من جنبة كونهم عقلاء، بل من حيث كونهم آخذين من الشرع.

فإذن لا منافاة له مع تلك الترخيصات، حيث إنّ النسبة بينهما هي النسبة بين العامّ و الخاصّ، و لا يمكن التعدّي من تلك الموارد إلى غيرها، إلّا إلى أشباهها، فيتعدّى مثلا من حمل المرأة طفلها إلى حمل ولد الشاة مثلا، و يتعدّى من فعل الرسول الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إلى أخذ شي ء آخر غير العرجون، و إلى المشي ء خطوتين مثلا لأجل حكّ النخامة في المسجد، و أمّا لأجل إعلام رجل كان في ذلك الموضع فلا.

و بالجملة مقتضى هذا الجمود على موارد ثبوت الارتكاز على المنع و عدم ورود الخلاف في الأخبار و كلّ ما شكّ فيه يكون المرجع فيه الأصل، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1)؟؟؟؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 382

[سابعها:] تعمّد البكاء من القواطع
اشارة

سابعها: تعمّد البكاء لشي ء من أمور الدنيا من ذهاب مال أو فوت عزيز على المشهور، و عن بعض نفي الخلاف، و عن التذكرة نسبته إلى علمائنا.

و الأصل فيه ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن النعمان بن عبد السّلام عن أبي حنيفة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن البكاء في الصلاة أ يقطع الصلاة؟

فقال عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار

فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة، و إن ذكر ميّتا له فصلاته فاسدة» «1».

و عن الصدوق في الفقيه مرسلا قال: «و روي أنّ البكاء على الميّت يقطع الصلاة، و البكاء لذكر الجنّة و النار من أفضل الأعمال في الصلاة» «2» و لعلّ مراده الخبر الأوّل.

و كيف كان فينبغي التكلّم في مقامين:

الأوّل: في موضوع البكاء بالمدّ و القصر و أنّهما مختلفان معنى أو لا؟

و الثاني: في حكمه بحسب ما يستفاد من الخبر المذكور.

أمّا [المقام] الأوّل

فاعلم أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه قال في محكيّ الروض: و اعلم أنّ البكاء المبطل للصلاة هو المشتمل على الصوت، لا مجرّد خروج الدمع مع احتمال الاكتفاء به في البطلان، و وجه الاحتمالين اختلاف معنى البكاء مقصورا و ممدودا

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 383

و الشكّ في إرادة أيّهما من الأخبار، و قال الجوهري: البكاء يمدّ و يقصّر، فإذا مددت أردت الصوت الذي مع البكاء، و إذا قصرت أردت الدموع و خروجها، انتهى كلام الشهيد قدّس سرّه.

و قال في مجمع البحرين: و بكى يبكي بكى و بكاء بالقصر و المدّ، قيل القصر مع خروج الدموع و المدّ على إرادة الصوت، قال في المصباح و قد جمع الشاعر بين المعنيين فقال:

بكت عيني و حقّ لها بكاها و ما يغني البكاء و لا العويل

انتهى موضع الحاجة من كلامه قدّس سرّه.

قال شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه على رءوس المحصّلين ظلال إفاداته: أنّ اللفظين إن كان وضعهما وضع الجوامد أمكن القول باختلافهما في المعنى، و لكنّه خلاف ما صرّحوا به من كونهما مصدرين، كما

عرفت التصريح به في عبارة مجمع البحرين.

و حينئذ فنقول: المادّة الموجودة في المصدر تكون بالضرورة متّحدة المعنى معها في سائر المشتقّات على ما هو الحقّ من أنّ المصدر أيضا كأحد من المشتقّات، و ليس هو أصلا لباقيها، و الذي هو الأصل عبارة عن ذوات الحروف المنفكّة عن جميع الهيئات الغير القابلة للتلفّظ الاستقلالي، فالمادّة بهذا المعنى متّحدة في المصدر و سائر المشتقّات، و الكلّ مشتملة على معناها، و الزوائد مستفادة من الهيئات، و الذي وضع له هيئة المصدر هو إفادة استقلال معنى المادّة الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بدال و نون، أو بتا و نون.

فإذا فرضنا أنّ مصدر بكى يبكي اثنان: أحدهما بالقصر و الآخر بالمدّ فلا يفيد هذا الاختلاف الهيئي بين المصدرين زيادة في معنى أحدهما على الآخر، بل لا بدّ إمّا من كون المادّة في كليهما للجامع بين خروج الدمع مع الصوت و خروجه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 384

بلا صوت، و إمّا من كونها في كليهما لأحدهما خاصّة، و إمّا من كونها في كليهما مشتركة لفظيّة، و إمّا كونها في ضمن هيئة القصر للدمع بلا صوت و في ضمن هيئة المدّ له معه، فلازمه كون المادّة في ضمن سائر الهيئات أعني: بكى و يبكي و غيرهما أيضا مفيدة لمعنيين، و الحال أنّها فيها للجامع قطعا.

و الحاصل أنّ من المسلّم كونهما مصدرين لفعل واحد لا لفعلين مختلفين كغني و غناء، و إذن فينحصر الأمر في أن يكون هذا الاختلاف ناشئا من جهة الهيئة، و قد عرفت أنّ هيئة المصدر لم يوضع لإفادة زيادة معنى على معنى المادّة، بل لإفادة خصوص لحاظه استقلالا عن المحلّ و هو الذي يعبّر عنه بدال و نون أو

تاء و نون في الفارسيّة.

و من القريب أن يكون وجه توهّم القائل بالاختلاف غلبة مدّ الصوت عند استعمال الألفاظ لإفادة الكثرة في معانيها على ما هو المتعارف في الفارسيّة و غيرها، فحسب أنّ ذلك لأجل الدلالة الوضعيّة و غفل عن أنّه لأجل مدّ الصوت و كيفيّة اللهجة نظير اختلاف اللهجة، حيث إنّها بلهجة تفيد الإخبار، و بأخرى تفيد الاستفهام، و إذن فالاطمئنان حاصل بكون المعنى بحسب اللغة متّحدا.

و يؤيّده خبر منصور بن يونس أنّه سأل الصادق عليه السّلام عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتّى يبكي «قال عليه السّلام: قرّة عين و اللّٰه، و قال عليه السّلام: إذا كان ذلك فاذكرني عنده» «1».

و رواية سعيد بيّاع السابري «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أ يتباكى الرجل في الصلاة؟ فقال عليه السّلام: بخّ بخّ و لو مثل رأس الذباب» «2» فإنّ الغالب في المتباكي

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 385

عدم الصوت، و قد بيّن عليه السّلام فضل البكاء الحاصل منه و لو مثل رأس الذباب بقوله عليه السّلام: بخّ بخّ إلخ و بقوله عليه السّلام في الرواية الأولى: قرّة عين إلخ، و من الواضح اتّحاد هذا المضمون مع ما مرّ في رواية أبي حنيفة من قوله عليه السّلام: فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة، و إذا ثبت أنّ الموضوع في هذه القضيّة أعني قوله عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة هو الأعمّ ممّا يحصل عقيب التباكي و لو مثل رأس الذباب الذي عرفت غلبة

خلوّه عن الصوت، كان الموضوع في الثانية أعني قوله عليه السّلام: و إن ذكر ميّتا له أيضا ذلك، لوضوح اتّحاد الموضوع في القضيّتين، و اللّٰه العالم.

نعم يمكن دعوى الانصراف إلى صورة الاشتمال على الصوت، و لا أقلّ من الشكّ في إطلاقه من غير فرق بين الممدود و المقصور، فيكون الغير المشتمل على الصوت موردا للبراءة، لكن يبعّد الانصراف الروايتان المتقدّمتان، هذا هو التكلّم بحسب الموضوع.

[المقام الثاني] و أمّا الكلام في حكمه
اشارة

فاعلم أنّ الظاهر من القضيّة المذكورة في كلام الإمام المشتملة على التشقيق بين الشقّين بعد السؤال عن حقيقة البكاء في الصلاة أنّه عليه السّلام أراد بيان الحال في جميع شقوق و أنحاء تلك الحقيقة و لم يدع لها شقّا مسكوتا عنه، و ذلك لا يمكن إلّا بإرادة التمثيل ممّا ذكره عليه السّلام في كلّ من الشقّين.

فالأوّل يكون مثالا للبكاء من جهة أمر من أمور الآخرة، بل أو من جهة أمر من أمور الدنيا، لكن لا بعنوان تفجّعه من فوتها أو شوقه للوصول إليها، بل بعنوان التذلّل للّٰه تعالى ليقضي حاجة، و المقصود من الثاني ما كان لأجل الدنيا بدون طلبه ذلك من اللّٰه تعالى.

أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فبالنسبة إلى أمور الآخرة كذلك، و أمّا بالنسبة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 386

إلى أمور الدنيا فلأجل أنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار إلخ بعد البناء على كونه للتمثيل حسب البيان المتقدّم إرادة البكاء لأجل طلب الجنّة و التخلّص من النار، لا لأجل تصوّر ذاتهما من دون انقداح إرادة التحصيل أو التخلّص.

فمرجع الكلام إلى أنّه إن كان بكاؤه لأجل أنّه يطلب من اللّٰه تعالى الجنّة أو يطلب منه استخلاصه من النار فذلك هو أفضل

الأعمال في الصلاة، و حينئذ فمقتضى الاستظهار المتقدّم كونه مثالا لمطلق رفع الحوائج إلى اللّٰه تعالى، فلو بكى لأجل طلبه من اللّٰه تعالى الولد أو المال أو ألجأه أو مغفرة ميّت له أو دفع مكروه من مكاره الدنيا عن نفسه أو عن واحد من متعلّقيه كان أيضا من قبيل الشقّ الأوّل، و أمّا إذا بكى لأجل تذكّره فقدان المال أو ألجأه أو الولد أو غير ذلك من أمور الدنيا فذلك داخل في الشقّ الثاني.

و من هنا يعلم الحال في البكاء على الحسين عليه السّلام و على سائر المعصومين عليهم السّلام، فإنّه إن كان لمحض الرقّة البشريّة و التحسّر من جهة كونه عليه السّلام شخصا كبيرا قد ابتلى بالمكاره العظيمة من دون نشوية عن العقيدة بإمامته، كما هو الحال في بكاء الكفّار عليه، فهو من الشقّ الثاني المبطل.

و إن كان ناشئا من العقيدة الدينيّة فحاله حال البكاء على مظلوميّة الدين و هتك حرمة الشرع و انعطال أحكام اللّٰه تعالى و رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله، بل هو من أعظم أفراد ذلك.

فإن قلت: لا دليل على أنّ البكاء للدين غير مبطل، فإنّه غير راجع إلى التضرّع إلى اللّٰه لطلب حاجة أو دفع مكروه.

قلت: بعد ما عرفت من تعرّض الرواية لبيان الحال في حقيقة البكاء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 387

في الصلاة و جعله مثال المبطل ما إذا كان بكاؤه لذكر ميّت له، و مثال غير المبطل ما كان لذكر جنّة أو نار فالإنصاف أنّ البكاء المذكور ألصق و أمسّ بالثاني منه بالأوّل.

فهل ترى أنّ المصلّي إذا قنت بقوله: اللّٰهمّ إنّي أسألك بحقّ الحسين المظلوم أسير الكربات و قتيل العبرات، فبكى لأجل تذكّر هذه المصائب الواردة

عليه عليه السّلام فهو خارج عن قوله عليه السّلام: إن بكى لذكر جنّة أو نار، و داخل في قوله: و إن ذكر ميّتا له إلخ؟

و الحاصل أنّه و إن كان ليس بكاؤه لأجل طلب الحاجة أو سدّ الخلّة، بل لمحض تذكّر المصائب الواردة على الدين و أحكام الشرع و حامي الإسلام و إمام المسلمين و لو لم يكن بقصد غاية التقرّب، بل كان بلا قصد للتحسّر و غلبة الحزن عليه فهو في الرجحان عند اللّٰه تعالى ليس بأقصر من ذلك البكاء، و إذا فرضنا أنّ البكاء لذكر جنّة أو نار كان مثالا لكلّ ما هو شبهه، فهذا من أوضح الأفراد المشابهة له، و لا يصلح أن يكون داخلا في ممثّل المثال الثاني، و اللّٰه العالم.

بقي الكلام في أنّ البكاء المبطل هل هو ما كان صادرا عن الاختيار المصحّح للتكليف، أو يعمّه و ما كان فاقدا للاختيار المصحّح للتكليف، كما إذا كان بلا سبق مقدّمة اختياريّة، بل لتهاجم الحزن عليه بغتة، بحيث لا يمكنه صرف نفسه و منعها عن البكاء؟

قد يقال بانصراف الأفعال المضافة إلى الفاعل المختار إلى صدورها عن اختيار، و لكنّ الحقّ خلافه و أنّ الانصراف المذكور صحيح بالنسبة إلى قسم من الأفعال الاختياريّة دون جميعها، و المقام ليس من ذلك القسم الذي يصحّ فيه الانصراف.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 388

الأفعال المضافة إلى الفاعل على قسمين

و توضيح المقام أنّ الأفعال الاختياريّة بمعنى ما اقترن بالاختيار المصحّح للتكليف و المؤاخذة على قسمين:

الأوّل: ما كان نشؤه و صدوره عن قوّة الفاعل بلا واسطة، بحيث كان قوّة الفاعل هو المؤثّر في إيجاد الفعل، و ذلك كالضرب، حيث إنّ حركة اليد و رفعها و نزولها بشدّة على رأس أحد يكون المؤثّر

فيها قوّة الضارب، و هي العلّة الموجدة التي يصدر منها تلك الوجودات بلا واسطة.

و من هذا القبيل أيضا الأفعال التي يحتاج إلى آلة توصل قوّة الفاعل إلى المحلّ كالكسر بواسطة آلة النحت، فإنّ قوّة الفاعل هي الكاسر، و الكسر فعل له بلا واسطة، و المنحت إنّما شأنه حمل القوّة من الفاعل إلى الخشبة، و ليس له فاعليّة في الكسر أصلا.

و الثاني: ما كان نشوه بغير فاعليّة قوّة الفاعل المختار و إرادته، كفعل الغير، حيث إنّه صادر بإرادة ذلك الغير، و معنى اختياريّته للشخص الآخر أنّ له الولاية على هذا الوجود بإيجاد مانعة، أو بتسبيب بعض مقدّماته.

مثلا: فعل المجي ء الصادر من زيد إلى بيت عمرو الذي هو حركات رجله بالرفع و الوضع ناشئة من إرادته و غير مرتبطة بإرادة العمرو أصلا، لكن يصحّ تكليف العمرو بالنسبة إليه وجودا أو عدما، لكونه اختياريّا له بالمعنى الأعمّ، أعني أنّ له تسبيب مقدّمته بإضافته زيدا و دعوته إيّاه إلى منزله، كما أنّ له إيجاد المانع بإغلاق الباب عليه لئلّا يدخل في منزله.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 389

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا أضيف القسم الأوّل إلى الفاعل المختار كما إذا قيل:

رأيت زيدا يضرب عمرا، كان المتبادر منه صدور الضرب بفاعليّة إرادته و تأثير قوّته في حركات جوارحه.

و أمّا إذا أضيف إلى القسم الثاني، كما إذا قيل: رأيت زيدا يضحك أو يبكي فلا ينصرف إلى أنّه أعمل مقدّمة اختياريّة لحصول حالة الفرح أو الحزن ثمّ حصول الضحك أو البكاء مسبّبا عن تينك الحالتين، أو أنّه كان في ضحكه أو بكائه قادرا على صرف نفسه عنهما بإشغال نفسه ببعض الخيالات المضادّة المانعة.

و من الشواهد على الفرق الذي ادّعينا بين القسمين ملاحظة

الحال في النتائج المرتّبة على الأفعال الاختياريّة، بحيث ليس هنا اختيار مستقلّ في حصول تلك النتائج، بل اختيارها باختيار مقدّماتها الغير المنفكّة عنها، مثل الكون على السطح المرتّب على رفع الرجل من الدرجة الأخيرة و وضعها على السطح، فإنّ الكون متحقّق حينئذ لا بإعمال قدرة اخرى و انقداح إرادة جديدة فيه، بل المؤثّر فيه هو الإرادة المؤثّرة في ذلك الرفع و الوضع الحاصلين من الدرجة الأخيرة.

و حينئذ فهل تشكّ في أنّه لو قال أحد: رأيت زيدا يصعد الدرج كان منصرف هذا الكلام أنّه بقوّة نفسه و إعمال إرادته كان يفعل هذا الفعل؟ و أمّا إذا قال: رأيته كان على السطح فهل يتبادر إلى الذهن أنّ هذا الكون حصل بمقدّمات صعود نفسه بإرادته و اختياره، أو بمقدّمة قهريّة خارجة عن قدرته؟ لا أظنّك ترتاب في عدم هذا التبادر في الثاني، مع وجوده في الأوّل.

و إذن فدعوى تبادر دليل: إن بكى لذكر ميّت له فصلاته فاسدة، أو دليل أنّ الضحك البالغ حدّ القهقهة مبطل للصلاة، إلى الاختياري منهما أعني: ما كان للمصلّي فيه إعمال قدرة إمّا لتسبيب مقدّمته أو لقدرته على إيجاد المانع واضحة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 390

الضعف، فإنّهما غير ناشئين من قوّة الفاعل و غير مندرجين في القسم الأوّل، بل نشوؤهما من غلبة الفرح أو الحزن على النفس، و سببهما ربما يكون اختياريّا، مثل دعوته ذاكر المصيبة أو ذاكر المضحكات و فاعل الملاعب بمحضره، كما أنّه ربما يكون بعد حصول أسبابهما في نفسه يقدر على صرف خياله حتّى لا ينتهي الأمر إلى حصول الأمرين.

و من هنا ينقدح أنّ حكومة حديث الرفع من قوله: رفع ما اضطرّوا إليه، بالنسبة إلى القسم الاضطراري من القهقهة

و البكاء أعني: ما لم يكن لقوّة المصلّي مدخل في مقدّمته، و لا في إيجاد المانع عنه لا يلزم منها محذور التقييد بالفرد النادر، كما تخيّلناه سابقا، فإنّ وجود مثل هذا القسم من الضحك و البكاء لا نسلّم كونه الشائع الذي يكون خلافه نادرا، فتدبّر، و اللّٰه العالم.

و ثامنها: الأكل و الشرب،

و حيث ليس فيهما كلام زائد على ما مرّ في الفعل الكثير، لكونهما من صغرياته، فكلّما اندرجا فيه حكم بالإبطال، و إلّا فلا نحتاج إلى إطالة الكلام.

و ها هنا مسائل:
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 391

الاولى في حكم المصلّي إذا سلّم عليه أحد
اشارة

و أنّه يجب عليه ردّ السّلام أو لا، و في كيفيّته على تقدير الوجوب و ما يتعلّق بذلك، و بسط الكلام في المقام يحتاج إلى رسم مقامات:

[المقام] الأوّل: في أصل وجوب ردّ السّلام و لو في غير الصلاة.

اعلم أنّ ردّ السّلام في حدّ ذاته واجب شرعا بلا خلاف فيه على الظاهر، قيل: الأصل فيه قبل الأخبار قوله تعالى وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا «1» بناء على أنّ المراد بالتحيّة بحسب الوضع الثانوي الطارئ عليه بغلبة الاستعمال خصوص ما يحيّى به عند الملاقاة الذي هو مختلف عند كلّ قوم، فعند بعض برفع القلنسوة، و عند آخر بوضع اليد على الجبين بالكيفيّة الخاصّة، و عند أهل الجاهليّة بقول: أنعم صباحا، و قد أبطل الإسلام كلّ ذلك و جعله بقول: سلام عليكم و أخواته من الصيغ الثلاث الأخر.

______________________________

(1) النساء: 86.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 392

و حينئذ فالمنصرف من إطلاقه في لسان الشارع هو التحيّة التي هو جاعل لها، فتكون الآية بملاحظة هذا الانصراف في كلامه بمنزلة قولنا: إذا سلّم عليكم بصيغة من صيغة الأربع: سلام عليك، أو عليكم، و السّلام عليك، أو عليكم، فسلّموا على المسلم بأحسن من سلامه بأن يزيدوا عليه رحمة اللّٰه إن قال: سلام عليك، و يزيدوا بركاته لو قال: سلام عليك و رحمة اللّٰه.

و لو قال: سلام عليك و رحمة اللّٰه و بركاته، فليس له أحسن، لأنّ هذا منتهى السّلام، فليس زيادة و مغفرته و رضوانه فردا أحسن، لأنّ الشارع حدّه بهذا الحدّ، كما يستفاد من النبوي المشتمل على جوابه لمن سلّم عليه ب «السّلام عليك» بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك السّلام و رحمة اللّٰه، و لمن سلّم عليه ب «السّلام عليك و رحمة اللّٰه» بقوله

صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك السّلام و رحمة اللّٰه و بركاته، و لمن سلّم عليه ب «السّلام عليك و رحمة اللّٰه و بركاته» بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: و عليك، فقيل: يا رسول اللّٰه زدت في الأوّل و الثاني في التحيّة، و لم تزد للثالث، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّه لم يبق لي من التحيّة شيئا فرددت عليه مثله «1».

و بالجملة، فبناء على الانصراف المذكور يكون الآية أصلا في الباب و يكون دليلا يرجع إليه عند موارد الشكّ و يلتمس للخروج عنه الدليل.

و أمّا بناء على منع هذا الانصراف و القول بتعميمها لكلّ ما يسمّى باسم التحيّة عرفا و لو كان فعلا، كما يشهد بذلك ما عن الصدوق في الخصال بسنده في حديث طويل عن أبي جعفر عليهما السّلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه و عليهم السّلام «قال: إذا عطس أحدكم قولوا: يرحمكم اللّٰه، و يقول هو: يغفر اللّٰه لكم و يرحمكم،

______________________________

(1) تفسير الصافي: ذيل الآية 86 من سورة النساء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 393

قال اللّٰه تعالى وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا «1».

و عن كتاب المناقب لابن شهر آشوب «جاءت جارية للحسن عليه السّلام بطاق ريحان، فقال عليه السّلام لها: أنت حرّة لوجه اللّٰه، فقيل له عليه السّلام في ذلك، فقال عليه السّلام: أدّبنا اللّٰه تعالى، فقال وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا، و كان أحسن منها عتقها» «2».

حيث إنّ الظاهر من الخبرين أنّ الاستشهاد المذكور من باب التطبيق للآية على مصداق موضوعها، لا لأجل مجرّد المناسبة.

و إذن فيظهر أنّها واردة في مقام التأدّب الأخلاقي، لا في مقام التعبّد و الإيجاب

الشرعي.

و على هذا فيشكل التمسّك بالآية في المقام، لكن في الأخبار في إثبات أصل وجوب ردّ السّلام سواء في حال الصلاة أم غيرها غنى و كفاية، لكنّ الفرق في الرجوع عند موارد الشكّ بناء على التمسّك بالآية إلى الأصل الثانوي المستفاد منها، و بناء على التمسّك بالأخبار دون الآية إلى الأصل الأوّلي و هو البراءة، لكون الشكّ في أصل التكليف، إذ ليس لنا إطلاق نتمسّك به لوجوب الردّ في كلّ مقام صدق عليه اسم التحيّة السلاميّة، و على هذا فيجب الاقتصار في الخروج عن مقتضى الأصل على القدر المتيقّن من الدليل.

فلو كان السّلام خارجا عن صيغة الأربع و لو كان يقول: سلام، أو سلاما، أو سلامي، أو كان بإحداها لكن ملحونة في المادّة أو الأعراب فلا دليل على

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 58 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(2) تفسير الصافي: ذيل الآية 86 من سورة النساء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 394

وجوب الردّ، إذ المتيقّن هو الصيغ الأربع الصحيحة، فالخارج منها خارج عن المتيقّن، فلا دليل على وجوب جوابه، لا في الصلاة و لا في غيرها.

[المقام] الثاني: حكى بعض المحدّثين القول أو الميل إلى وجوب ردّ الكتابة،

و اختاره بعض متأخّري المتأخّرين، لصحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السّلام، و البادي بالسلام أولى باللّه و رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه الشريف: كيف يمكن القول بذلك و الحال أنّ السيرة الخارجيّة الجارية بين الناس على خلافه مع عموم البلوى و كثرة الابتلاء به بالنسبة إلى غالب الناس، و العادة قاضية بأنّ مثل هذا الأمر لو كان محكوما بالوجوب لذاع و فشا، فهذا دليل قطعي أو

قريب من القطعي على العدم بحيث لا يمكن رفع اليد عنه بواسطة هذا الخبر الواحد.

ألا ترى أنّه لو كتب أحد إلى أحد يسأله في تعيين القيمة السوقيّة للجنس الكذائي في البلد فهل المرتكز في أذهان المتشرّعة الحكم بلزوم كتابته الجواب إمّا بتعيين السعر أو بلا أدري؟ كلّا و حاشا من ذلك.

و إذن فلا يبعد ورود الرواية في مقام بيان أنّ ردّ السّلام الكتبي أيضا كالقولي واجب، فلو كتب أحد صيغة السّلام إلى آخر وجب عليه الجواب إن كان حاضرا إمّا بالنطق أو بالكتابة، و إن كان غائبا فبالكتابة إليه، و كما أنّه يجب الفور في الردّ القولي، كذلك الفور في ردّ الكتبي بمعنى عدم التأخير عن أوّل أزمنة إمكان الإرسال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 33 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 395

عرفا، و هذا المعنى أيضا و إن كان ليس الارتكاز مساعدا له، لكن يمكن أن يكون لأجل عدم فهم العلماء هذا المعنى من الخبر، و ليس أمرا غالب الحصول حتّى يستوحش مجهوليّة حكمه من جهة ذلك، بل أمر اتّفاقي، و لعلّه نادر الاتّفاق، فليس في خفاء حكمه استيحاش.

[المقام] الثالث: لا خلاف على ما صرّح في الحدائق في جواز التسليم على المصلّي،

إنّما الكلام في الجمع بين اختلاف الأخبار، حيث يظهر من بعضها الأمر الظاهر في الاستحباب، و من آخر النهي الظاهر في الكراهة.

مثل خبر مسعدة بن صدقة المرويّ عن كتاب الخصال عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السّلام «قال عليه السّلام: لا تسلّموا على اليهود و النصارى، إلى أن قال عليه السّلام: و لا على المصلّي، لأنّ المصلّي لا يستطيع أن يردّ السّلام، لأنّ التسليم من المسلم تطوّع و الردّ فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل

جالس على غائط، و لا على الذي في الحمّام» «1».

و يمكن أن يقال: إنّ الرواية علاوة على عدم دلالتها على الكراهة دالّة على الاستحباب الابتدائي حتّى بالنسبة إلى المصلّي، كما أنّها دالّة على وجوب الردّ حتّى في حال الصلاة.

و أمّا النهي فهو إرشادي صرف، و المقصود منه أنّه ينبغي رفع اليد عن هذا المستحبّ لأجل رعاية الأهمّ منه و هو عدم التسبيب إلى اغتشاش خاطر المصلّي، فإنّ قلبه مشغول بصلاته، و إذا سلّمت عليه يلتفت إلى أداء هذا التكليف الوجوبي،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 28 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 396

و يوجب ذلك اغتشاش خاطره و خروجه عمّا هو عليه من الإقبال و التوجّه إلى العبادة، فهو مع وصف بقائه على شغل صلاته كما هي عليه من الإقبال غير مستطيع على أن يردّ الجواب، فينبغي عدم الإتيان بهذا المستحبّ الموجب، لذلك، لا أنّه ليس بمستحبّ، فضلا عن كونه مكروها، و أمّا جعله رديفا لما هو مكروه فليس له ظهور يقاوم ظهور التعليل في التطوّعيّة، بل المراد بمقتضى الجمع هو الاشتراك في أصل النهي الأعمّ من الإرشادي و التعبّدي، هذا.

[المقام] الرابع: لا خلاف بيننا على الظاهر في وجوب جواب السّلام في حال الصلاة

كما في سائر الأحوال، إنّما الكلام في رفع الاختلاف الواقع بين الأخبار في كيفيّة الردّ، فإنّها على ثلاث طوائف:

منها: ما يدلّ على أنّه يجب قول: سلام عليكم في الجواب، و لا يقول:

و عليكم السّلام «1»، مع سكوته في مقام البيان عن كون صيغة السّلام بأيّ نحو من أنحائها، و مقتضاه التعميم إلى الجميع.

و منها: ما يشتمل على حكاية سلام عمّار بن ياسر على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في الصلاة إمّا بدون التعرّض لا لصورة السّلام، و لا لصورة

الجواب، كمرسلة الصدوق عن أبي جعفر عليهما السّلام «2»، و إمّا مع التعرّض لصورة الجواب دون السّلام و أنّ الجواب كان بصيغة سلام عليكم، كموثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 6.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 397

و إمّا بالعكس و أنّ صيغة السّلام كانت: السّلام عليك يا رسول اللّٰه و رحمة اللّٰه و بركاته، كالمرويّ في الذكرى عن البزنطي عن الباقر عليه السّلام «1».

و بناء على اتّحاد القضيّة كما هو الظاهر، إذ لو وقع السّلام من عمّار متعدّدا لأشارت النصوص إلى ذلك، مع خلوّها عنه بكون هذه الطائفة نصّا في عدم وجوب المماثلة بين السّلام و الردّ في جميع الجهات، حتّى في الإفراد و الجمع و التعريف و التنكير، لوجود المخالفة في كلتا هاتين الجهتين في ما وقع من جواب النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في سلام عمّار.

و إنّما اللازم هو اعتبار المماثلة، بمعنى كون الجواب من إحدى الصيغ الأربع المعمولة في مقام ابتداء السّلام في مقابل أن لا يقول: و عليكم السّلام بتقديم الظرف، كما هو المعمول المرسوم في مقام الجواب، و قد عرفت أنّ هذا أيضا مقتضى إطلاق الطائفة الأولى، بقيت الطائفة الثالثة، و هي ما اشتمل على وجوب المماثلة بين الجواب و السّلام، و ظاهرها في نفسها و إن كان المماثلة التامّة حتّى في الإفراد و الجمعيّة و التعريف و التنكير، إلّا أنّك عرفت أنّ هذا خلاف ما يظهر من السكوت في مقام البيان الواقع في

عدّة أخبار تعرّض فيها للجواب بصيغة السّلام بدون التعرّض لكون الصيغة في الابتداء بأيّ نحو من أنحائها، و كذلك مخالف لظاهر وحدة قضيّة عمّار المصرّح في أخبارها باختلاف ما بين السّلام و الجواب في هذه الخصوصيّات.

و إذن فمقتضى الجمع حمل المماثلة في هذه الطائفة على المماثلة بمعنى أنّ الجواب في الصلاة ليس على حذوه في غير حال الصلاة من تقديم الظرف، بل هو على حذو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 398

السّلام من تقديم السّلام على الظرف، فالمماثلة في هذه الجهة خاصّة، لا في جميع الجهات.

و من المؤيّدات لما ذكرنا أنّه لو كان المقصود وجوب المماثلة التامّة حتّى في التعريف و التنكير و الإفراد و الجمع لكان المناسب أن يقال: يجب إمّا اختيار المماثل المذكور، و إمّا اختيار الصيغة القرآنيّة بقصد القرآن ثمّ قصد الردّ تبعا، بناء على ما ذكرنا و نذكر إن شاء اللّٰه تعالى من صحّة هذه الحيلة، فحيث خلت الأخبار عن الإشارة إلى ذلك كان مؤيّدا لعدم إرادة المماثلة إلّا بالمعنى الذي قلنا.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه بناء على ما تقدّم من عدم تماميّة الاستدلال بالآية الشريفة للمقام و انحصار المدرك في الأخبار، يجب الاقتصار في الحكم بالوجوب على المتيقّن و الرجوع في ما زاد عنه إلى الأصل، و على هذا فلو كان السّلام بغير الصيغ الأربع المعروفة فلا دليل على وجوب ردّه، و كذا إذا كان المسلّم هو غير البالغ، إذ ليس في الأخبار إطلاق شامل له، فإن أراد الاحتياط في موارد الشكّ في غير الصلاة فلا كلام، و أمّا في الصلاة فيأتي بالصيغة القرآنيّة بعنوان القرآن و ردّ

التحيّة طولا، على توضيح تقدّم و يأتي إن شاء اللّٰه تعالى.

[المقام] الخامس: يجب الفور في الردّ،

و وجهه أنّه لا ردّ مع التراخي، ألا ترى أنّه لو حيّي أحد لصاحبه ثمّ أخّر جواب تحيّته إلى يوم آخر مثلا، بل أو إلى ساعة أخرى، لا يسمّى ذلك عرفا جوابا لتلك التحيّة، و حيث إنّ الموضوع متقيّد بالفور فلا يجي ء هنا البحث عن أنّه لو عصى فهل يسقط أو يجب فورا ففورا.

و لذا لو كان في الصلاة و أخّر الجواب إلى أن مضى محلّ الجواب و لم يشتغل بشي ء من الأفعال و الأقوال الصلاتيّة في هذه المدّة و فرض عدم اختلال الموالاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 399

فصلاته صحيحة حتّى على القول باقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه، بخلاف ما إذا اشتغل قبل مضيّها، فإنّه يبتني الصحّة و البطلان حينئذ على المسألة المذكورة.

[المقام] السادس: الظاهر اعتبار إعلام المسلّم بالجواب،

فلا يكفي الجواب بحيث لم يطّلع هو عليه، و لا خصوصيّة في أحداث الاطّلاع له بكيفيّة خاصّة من إسماع الصوت تحقيقا أو تقديرا، بل لو فرض تكلّمه بالجواب و إفهامه إيّاه ذلك بنحو آخر من حركة يد و إشارة رأس بوجه يفيد أنّه متكلّم بالجواب كان كافيا، و لا دليل على أزيد من ذلك، و الدليل على اعتبار ذلك عدم صدق ردّ السّلام بدونه عرفا.

[المقام السابع:] حكم تسليم واحد على جماعة

السابع: لو سلّم واحد على جماعة فهنا بحسب التصوير ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يقصد السّلام على كلّ واحد واحد من الأفراد، كما هو الشأن في العموم الاستغراقي، حتّى كأنّه في قوله: سلام عليكم، سلّم على كلّ واحد مستقلّا، فسلامه منحلّ إلى تسليمات عديدة بعددهم.

و الثاني: أن يقصد التسليم على الكلّ، بحيث كان المسلّم عليه كأنّه شخص واحد، و كلّ واحد واحد بمنزلة أبعاض ذلك الشخص الواحد، فلم يسلّم على هذا على كلّ من الآحاد، بل على مجموع هو بعضه، فكلّ واحد بعض المسلّم عليه، لا كلّه.

و الثالث: أن يقصد السّلام على الهيئة الغير المتبدّلة بتبدّل الأشخاص

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 400

الخاصّة، كهيئة الوزراء، بحيث لو تبدّلت الأشخاص الخاصّة لم يتبدّل المسلّم عليه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مقتضى القاعدة في النحو الأوّل وجوب الرّد على كلّ واحد واحد، لصيرورته مسلّما عليه استقلالا، فيشمله ما دلّ على وجوب ردّ السّلام، و المفروض كونه بإحدى الصيغ الأربع أيضا، كما أنّه لو كان على أحد النحوين الأخيرين فلا دليل على توجّه التكليف بالردّ إلى أحد من الآحاد، إذ المفروض أنّه في النحو الأوّل منهما بعض المسلّم عليه، لا كلّه، و في النحو الأخير لا مدخليّة للشخص في المسلّم عليه حتّى بنحو الجزئيّة، هذا

مقتضى القاعدة.

و لكن ورد في بعض الأخبار أنّه «إذا سلّم على القوم و هم جماعة أجزأهم أن يردّ واحد منهم» «1».

و في آخر: «و إذا ردّ واحد أجزأ عنهم» «2»، و الظاهر أنّه ناظر إلى النحو الأوّل، إذا الأخير لم يعهد صدوره من أحد، و النحو الوسط أيضا خلاف المتبادر من حال المسلّم على الجماعة، فإنّه قاصد للتحيّة إلى الأشخاص بحيث يحيّي كلّا منهم بتحيّة خاصّة به، لا أنّه يحيّي تحيّة واحدة منقسمة عليهم بحيث يكون الواصل إلى كلّ واحد بعض التحيّة، فإنّ هذا خلاف المشاهد من المسلّمين على الجماعة بحكم الوجدان، فيبعد كون المنظور في الخبر هذا القسم النادر الاتّفاق، بل الظاهر كون المنظور خصوص النحو الأوّل، و حينئذ فيكون مقتضى الخبر كفاية أداء واحد منهم للردّ عن الباقين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 401

و الشاهد على الاختصاص قوله عليه السّلام: أجزأ عنهم، فإنّه ظاهر في توجّه الخطاب بالردّ إلى كلّ واحد، و هو لا يكون إلّا بصيرورة كلّ واحد محيّى بتلك التحيّة، و هو منحصر في الوجه الأوّل، هذا في طرف المسلّم عليه.

و قد ورد في جانب المسلّم أيضا أنّه «إذا سلّم عن القوم واحد أجزأ عنهم» «1».

و في آخر: «إذا مرّت الجماعة بقوم أجزأ عنهم أن يسلّم واحد منهم» «2».

و في ثالث: «إذا سلّم الرجل من الجماعة أجزأ عنهم» «3».

و هل الإجزاء في الطرفين يكون على نحو الرخصة بحيث يبقى أصل المشروعيّة بالنسبة إلى الباقين، أو على وجه العزيمة، بمعنى أنّ حال السّلام من الباقين حال صبّحك اللّٰه و نحوه

من الألفاظ الأخر المرسومة عند الملاقاة، و ليس داخلا في السّلام المسنون الشرعي حتّى يستحقّ الجواب لو كان ابتداء، و لا ردّا مسنونا لو كان جوابا؟

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 401

الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه هو الثاني، و ذلك لأنّ عموم المشروعيّة للابتداء أو الجواب بالنسبة إلى كلّ واحد واحد من الجماعة المصطاد من الأخبار صار محكوما بهذه الأخبار الدالّة على الأجزاء، و ظاهره الإجزاء عن السنّة السلاميّة، فحاصل مفادها أنّ إقامة السنّة المذكورة قد تحقّقت بواسطة ذلك، و بعده فلا يبقى دليل على بقاء تلك السنّة بالنسبة إلى الباقين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 46 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 402

[المقام] الثامن: ردّ السّلام بالصيغة القرآنيّة
اشارة

الثامن: قد عرفت أنّ الاحتياط في الموارد التي يتحقّق الشكّ في وجوب الردّ فيها مثل كون المسلّم غير بالغ، أو كون السّلام بغير الصيغ المعهودة الإتيان بالصيغة القرآنيّة بقصد القرآن، ثمّ قصد ردّ التحيّة في طول ذلك، و قد مرّ توضيح ذلك في البحث عن قاطعيّة الكلام.

و نزيده هنا و نقول: لا إشكال في أنّ التحيّة و الردّ إنّما يتحقّقان بقصد ذلك موجّها إلى شخص خاصّ في قالب الألفاظ كما هو الشأن في إلقاء سائر المعاني بالألفاظ، فما دام لم يقصد بقوله: سلام عليك، توجيه السّلام نحو المخاطب باستعمال كاف الخطاب فيه و إهداء السّلام إليه لم يصدق كونه محيّيا أو رادّا للتحيّة، و لا يخفى عدم اجتماع ذلك مع قصد القرآنيّة بالألفاظ، إذ معنى

ذلك أنّه يقصد بألفاظ حكاية الألفاظ المنزّلة، و الألفاظ المنزّلة غير مستعملة إلّا في المعاني التي قصد بها حين نزولها.

فإن قلت: إنّه و إن كان بقصد القرآن، إلّا أنّه إذا أتى به في مقام الردّ يحصل به الردّ على سبيل الكناية من باب: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، إذ الظاهر كفاية مثله في صدق اسم ردّ التحيّة عرفا و عدم توقّفه على إرادته من اللفظ بالدلالة المطابقيّة.

السّلام أمر إنشائي

قلت: الكناية عبارة عن ذكر اللازم و إرادة الملزوم أو عكسه، و أيّ ملازمة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 403

بين قراءة سلام عليكم القرآني و إنشاء ردّ التحيّة، كيف و هو أمر إنشائي لا يحصل ما لم يحصل التوجّه المستقلّ إليه و استعمال اللفظ فيه كسائر الإنشاءات.

نعم ما ذكر إنّما يتوجّه بالنسبة إلى إفهام المقاصد الإخباريّة، كما لو أراد المصلّي إفهام أنّه طالب للوضوء من المخاطب، فقرأ آية إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أو إراءة كون المخاطب فاسقا أو ردعه عن الفسق، فقرأ آية إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ و المناسب لذلك في المقام أيضا أنّه يجب أن يردّ سلام المسلّم، و لكنّه لا يتمكّن من الردّ، لكونه في الصلاة، و هذا غير إنشاء الردّ.

و الحاصل أنّ بين قصد الحكاية و قصد الإنشاء منافاة واضحة إلّا على وجه الطوليّة كما فصّلناه سابقا، و المقصود هنا دفع توهّم إمكان حصول الردّ بصرف الاستعمال على وجه الحكاية القرآنيّة بدون حاجة إلى قصد الإنشاء المحتاج إليه في سائر ألفاظ الإنشاءات بدعوى كون المقام من باب الكنايات، و قد عرفت عدم تمشّي باب الكناية هنا، بل المقدار اللازم فهم كونه محبّا و طالبا للردّ، لا أنّه رادّ

للسلام، و المطلوب هو الثاني، و هو لا يتحقّق إلّا بالقصد من اللفظ، كما في سائر المقامات، و قد فرض أنّه لم يقصد من اللفظ إلّا الحكاية عن الألفاظ المنزّلة، فالمحيص منحصر في الجمع بين القصدين الحكائي و الإنشائي على نحو الطوليّة، فراجع ما ذكرنا.

إفهام المقاصد بالألفاظ القرآنيّة على أنحاء
اشاره

و حاصله أنّ إفهام المقاصد بالألفاظ القرآنيّة كأشعار الغير يكون على أنحاء:

الأوّل: أن يكون بصرف رفع الصوت

يسمعه الغير فيتيقّظ من النوم مثلا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 404

و الثاني: أن يكون مقصوده فردا و مصداقا

لمفاد الآية، و هو كلّي لذلك المقصد، أو يكون بينهما مناسبة بحيث يصحّ الكشف عن أحدهما بالآخر، كما إذا أراد الإعلام و الإرشاد للفاسق عن فسقه فقرأ قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ أو أراد أنّه يريد استعلام الفجر من خادمه فقرأ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ بحيث فهم بمناسبة المقام أنّه مريد استعلام الفجر.

و الثالث: أن يقتبس من القرآن و ينشأ الألفاظ من نفسه

و يستعملها في مقصده، لكنّه يأخذها من القرآن لكونه أبلغ الكلام مثلا.

و حينئذ فالمتكلّم بصيغة سلام عليكم في مقام الردّ بعد معلوميّة خروجه عن النحو الأوّل يدور أمره بين أحد الأخيرين، أمّا الأوّل منهما فغاية الكشف الحاصل من التلفّظ باللفظ القرآني في مقام ردّ سلام الغير مثل التلفّظ بألفاظ مدح الغير ممدوحه في مقام مدح الغير بعد فرض كون تكلّمه بعنوان كونها ألفاظ صادرة من ذلك الغير أحد أمور.

الأوّل: أنّك مستحقّ لمثل هذه الألفاظ كما قاله الملائكة لأهل الجنّة أو قائل الشعر مثلا لممدوحه.

الثاني: إنّي محبّ لذلك و طالب له.

الثالث: إنّ حالة التلبّس بالصلاة مانعة من أن أشتغل بردّك مثلا.

و شي ء من هذه الأمور و لو فرض التصريح بها لا يكون جوابا للسلام كما هو واضح، بل الجواب عبارة عن إنشاء السّلام بعنوان الردّ بالألفاظ الخاصّة موجّها لها إلى المخاطب، كما هو الحال في المدح.

مثلا، إنّما يكون قول: اى ز باريكى ميانت همچه موئى در كمر، مدحا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 405

لمخاطبك إذا أتيت بها قاصدا بها المخاطب مخاطبا في حال قولك «ميانت» إيّاه، و هو يمنع عن قصدك شعر النصاب الذي قاله قائله بقصد قصده نفسه.

و بالجملة، هذا القصد أعني حكاية ألفاظ الغير لا يجتمع مع الإفناء

في المعنى كأنّك تحدثها من نفسك، و الذي يحتاج إليه الردّ و المدح هو الثاني، و أمّا الأوّل فليس إلّا نقل ألفاظ مدح بها أحد شخصا آخر أو سلّم بها أحد شخصا آخر، و هذا لو فرض التصريح به أيضا مع المناسبة المقاميّة فليس المستفاد منه إلّا أحد الأمور المتقدّمة التي ليس شي ء منها ردّا و لا مدحا.

و أمّا النحو الأخير أعني الاقتباس من ألفاظ الغير، فالردّ و المدح حاصلان به قطعا، لأنّ المفروض أنّه يأتي بالألفاظ بعنوان إفنائها في معانيها الذي قصده نفسه، غاية الأمر أخذ الألفاظ من عبارة الغير، و لكن لا يصدق عليه قارئ القرآن أو قارئ شعر فلان، و إنّما يقال: إنّه مقتبس منهما، و المقتبس غير القارئ، إذا القراءة إنّما تتحقّق إذا كان سمت ألفاظ نفسه مع ألفاظ الغير سمت سائر الألفاظ مع معانيها، بمعنى أنّه جعل تلك الألفاظ في قالب ألفاظ نفسه و ألقاها عوض المعنى إلى المخاطب، كما هو المحقّق في استعمال اللفظ في اللفظ كقولك: ضرب فعل ماض، و هل ترى إمكان الجمع بين قول ضرب بحكاية نوعه و قوله بعنوان معناه الذي هو الفعل الخاصّ منسوبا إلى الفاعل في الزمان الماضي؟ كلّا، بل هو عين الجمع بين اللحاظين المتنافيين.

فإذا تحقّق بطلان جميع الأنحاء الثلاثة تعيّن النحو الرابع الذي اخترناه و هو جعل ألفاظه حكاية لألفاظ الغير، كما هو الحال في الحكاية، و بعد حكاية تلك الألفاظ و صيرورتها كأنّها بوصف صدورها من الغير مشاهدة للمخاطب و المفروض كونها من سنخ الألفاظ التي شأنها حكاية المعاني بها، يقصد بتلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 406

الألفاظ المحكيّة المعنى الذي قصده و إن كان مغايرا لمقصود قائلها الأوّل،

فإنّ حكاية ألفاظ الغير غير متوقّفة على التوجّه إلى معانيها المقصودة لذلك الغير، و لهذا يتمشّى من غير العالم بالوضع الغير الشاعر للمعنى أصلا، فضلا عن أن يتوقّف على إرادتها.

و حينئذ فالحكاية تحقّقت بالقصد المذكور، و أمّا المعنى فهو باختيار القائل، فالقائل الأوّل قصد معنى و هذا يقصد معنى آخر بعين ذلك اللفظ الذي حكاه بألفاظ نفسه.

فلفظ سلام عليكم ليس جوابا للسلام، بل هو حكاية عن سلام عليكم القرآني، و ذلك المحكيّ قصد به الجواب، فالجواب لم يتلفّظ بنفسه، بل بحاكيه، نظير سلام عليكم الكتبي، حيث إنّ هذا النقش ليس جوابا أو سلاما، بل هو حاك عن الألفاظ و قد قصد بالألفاظ المحكيّة السّلام أو الجواب، فإنّ المحكيّ هو صيغة سلام عليكم القابلة لأن يكون خطابا لكلّ مخاطب، و إنّما يتعيّن بالقصد، فهذا الكاتب قصد تعيّنه في مقصوده، كما أنّ لفظ الملائكة المحكيّ في القرآن صالح لكلّ مخاطب، و إنّما تعيّن في أهل الجنّة بقصد الملائكة، فالمتكلّم يقصد شخصا آخر.

بل نقول: يمكن تمشّي ذلك في ألفاظ الأعلام الشخصيّة أيضا، مثل يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ فإنّ اللفظ القرآني المحكيّ و إن قصد به قائله شخصا معيّنا، لكنّه خارج عن المشخّصات اللفظيّة للفظه، فيمكن قصد شخص آخر بذلك اللفظ بعد حكايته بألفاظ نفسه، و لا يخرج مع ذلك عن كونه لفظا قرآنيّا.

فإن قلت: القرآن المستثنى هو ما يؤتى به بعنوان القربة و العباديّة، و أين هو من هذا الذي حقيقته المكالمة و المخاطبة مع الناس في إفهام المطالب الدنيويّة؟

قلت: بعد صدق القرآن و كلام الربّ على المقروّ يكفي ذلك في الخروج عن الكلام المبطل و إن لم يكن بداع قربيّ، فإنّه بذاته حسن مع قطع النظر

عن الداعي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 407

كالخضوع للّٰه تعالى و البكاء من خوفه، و لا دليل على مبطليّة مطلق المخاطبة و لو بمثل ما ذكرنا، أعني جعل آلة الخطاب ألفاظ القرآن، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور و هو المأمول في الميسور و المعسور.

[المقام] التاسع: هل يجب ردّ سلام المرأة أو لا؟

فاعلم أنّا إن قلنا بإمكان الاستدلال بالآية الشريفة للمقام كانت المرأة أيضا داخلة في عموم قوله تعالى وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ فإنّه حيث أتى بصيغة المجهول كان عامّا لما إذا كان الفاعل رجلا أو امرأة، و لكن سبق الخدشة في التمسّك بها و عدّها من أدلّة المقام و انحصار المرجع في الأخبار، و لا يستفاد منها إطلاق أو عموم أو خصوص دالّ على وجوب الردّ فيهنّ و مقتضى الأصل البراءة.

نعم ورد في بعض الأخبار أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان يسلّم على النساء و يرددن عليه السّلام «1»، و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يسلّم على النساء، و كان يكره أن يسلّم على الشابّة منهنّ و يقول: أتخوّف أن يعجبني صوتها فيدخل عليّ أكثر ممّا أطلب من الأجر «2»، و لكن دلالة هذا على الوجوب قاصرة، إذ ليس إلّا حكاية فعل.

نعم لو كان المحكيّ جوابهم عليهم السّلام لسلام المرأة في صلاتهم عليهم السّلام لم يخلو من الدلالة، و إلّا فلا يعلم أنّه من باب الآداب المستحسنة كتفقّد الحال من المسلمات، كما

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 48 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 48 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 408

هو دأبهم عليهم السّلام، أو من باب إقامة السنّة الخاصّة السلاميّة.

و دليل الاشتراك إنّما يتمّ في ما إذا أحرز

وحدة الموضوع و عدم مدخليّة خصوصيّة الرجال، كما في بابي الصوم و الصلاة و نحوهما، فلو ورد في خطاب إلى رجل بيان كيفيّة أحد هذه الأمور فلا يحتمل أنّ لخصوصيّة الرجال مدخليّة، بل الظاهر كونه كيفيّة لحقيقة الصلاة التي هي تكليف الكلّ.

و أمّا في المقام فمن المحتمل أن يكون عقد موضوع تشريع الأدب السلامي الذي وجب في الشريعة ردّه مخصوصا بالرجال دون النساء، فإنّه كما يظهر من بعض الأخبار يكون حكمة تشريعه أمن كلّ من المتسالمين من شرّ الآخر، و لا يخفى أنّ الحاجة إلى ذلك إنّما هي بالنسبة إلى الرجال، إذ هم المحتاجون إلى الاجتماعات القوميّة، و النساء ليس لهنّ حظّ من ذلك، فمن المحتمل خروجهن عن هذا الحكم، هذا.

و لكن يمكن أن يستدلّ على وجوب الردّ فيهنّ إذا سلّمن على الرجال بما رواه الصدوق بإسناده عن عمّار الساباطي أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن النساء كيف يسلّمن إذا دخلن على القوم؟ «قال عليه السّلام: المرأة تقول: عليكم السّلام، و الرجل يقول: السّلام عليكم» «1».

و هذه الرواية كما تدلّ على مشروعيّة السّلام المعهود في حقّ النساء، و من المعلوم أنّه مستحقّ للردّ و الجواب بطريق الوجوب، كذلك يدلّ على مشروعيّة الصيغة المذكورة التي هي خارجة عن الأربع المعهودة في مقام السّلام أيضا، لكن في خصوص النساء، و لا يعلم مشروعيّتها مطلقا، فيكون القدر المتيقّن بالنسبة إلى

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 39 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 409

الرجال هو الأربع فقط.

و في قوله عليه السّلام: و الرجل يقول السّلام عليكم احتمالان:

الأوّل: أن يقول ذلك في مقام السّلام.

و الثاني: أنّه يقول ذلك في جواب المرأة.

و الثاني هو

الأظهر، إذ الأوّل خارج عن المسئول عنه، و أجنبيّ بالنسبة إليه.

لا يقال: فيلزم استعمال «كم» في خطاب المرأة و هو غير جائز، لاختصاصه بخطاب الرجال.

لأنّا نقول: لا يبعد أن يكون اختيار ذلك في مقام خطاب المرأة إذا أريد التعظيم كما هو المتعارف الآن، حيث لم يعهد استعمال «كنّ» بالنسبة إلى المرأة الواحدة عند إرادة الجمع التعظيمي من باب أنّ المعظّم بالكسر ينزّلها لغاية العظمة بالغة مرتبة الرجال، بل مرتبة المتعدّد منهم حتّى يستحقّ الخطاب بهذه الصيغة.

[المقام] العاشر: هل يجب ردّ سلام الكفّار من أهل الكتاب و غيرهم أو لا؟

قد يقال بابتناء المسألة على مرجعيّة الآية الشريفة و عدمها، و لكنّ الحقّ خروج الكفّار عن العموم على القول بمرجعيّته.

وجهه أنّ الظاهر من الأخبار أنّ كيفيّة جواب سلام الكافر مغايرة لكيفيّته في سلام المسلم بكلا قسميه، ففي المسلم إمّا يكون بالأحسن أو بالمثل كما هو مضمون الآية الشريفة، و في الكافر بكيفيّة ثالثة، هي إمّا الاقتصار على قول: عليك بدون واو العطف إلّا في خبر غياث «1» المشتمل على الواو، و لكنّه ساقط عن الحجّية،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 49 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 410

و إمّا الاقتصار على قول سلام بدون عليك.

و الظاهر أنّ مرادهم عليهم السّلام الجمع بين عدم بقاء سلامهم بلا ردّ في الصورة مع عدم توجيه التحيّة السلاميّة إليهم، بل إمّا يقال: عليك، و المقدّر حينئذ شي ء آخر غير السّلام، مثل ما يستحقّه و نحوه، و إمّا يقال: سلام و المقدّر حينئذ: من اتّبع الهدى و نحوه، و من المعلوم أنّ هذا دستور خارج عن الردّ بالأحسن أو المثل، فالآية الشريفة على تقدير القول بدلالتها مخصّصة بالنسبة إلى الكفّار.

و أمّا الأخبار فالظاهر منها الوجوب بالكيفيّة المذكورة، مثل موثّقة محمّد

بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا سلّم عليك اليهودي و النصراني و المشرك فقل عليك» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الحجّ، الباب 49 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 411

المسألة الثانية لا يجوز قطع الصلاة الواجبة اختيارا
اشارة

و بلا ضرورة شرعيّة أو عرفيّة مقتضية له بلا خلاف ظاهر، بل عن جملة التصريح بالإجماع في جملة من المنافيات المتقدّمة، كالشهيد في الذكرى في الكلام و الحدث و القهقهة، بل لعلّ المتدبّر في كلماتهم يراه من الأمور المسلّمة لديهم، بل و عند الرواة في الصدر الأوّل، كما يستشعر ذلك من الأسئلة و الأجوبة الواقعة في كثير من الأخبار التي وقع فيها التعرّض لبيان حكم بعض الأفعال التي مسّت الحاجة إليها في أثناء الصلاة، فإنّها مشعرة بكون حرمة القطع لديهم مفروغا عنها.

و يمكن الاستدلال عليه بثلاث طوائف من الأخبار.
الأولى: ما ورد في من لم يتمّ ركوعه و سجوده

بإخلال الطمأنينة المعتبرة فيها من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: لئن مات هذا و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني «1».

و في قول عليّ عليه السّلام لمن ينقر صلاته: «منذ كم صلّيت بهذه الصلاة؟ قال له

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 412

الرجل: منذ كذا و كذا، فقال عليه السّلام: مثلك عند اللّٰه كمثل الغراب إذا ما نقر، لو متّ متّ على غير ملّة أبي القاسم محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله، ثمّ قال عليه السّلام: أسرق الناس من سرق من صلاته» «1».

تقريب الدلالة في هذه الطائفة أنّ الظاهر منها تعلّق التوبيخ و الخروج عن الملّة و السرقة، بل كونه أسرق الناس على ترك شي ء من الأمور المعتبرة، أو فعل شي ء من المنافيات في الصلاة الشخصيّة، و ذلك لأنّه المتبادر من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: و هكذا صلاته، أو قوله صلوات اللّٰه عليه: منذ كم صلّيت بهذه الصلاة، فإنّ المتبادر أنّ الموجب لخروجه عن الملّة و الدين صدور هذه الصلاة الشخصيّة بالوصف المذكور منه الذي هو أمر وجودي، لا

أنّ الموجب لكونه تاركا للصلاة المفهوميّة الذي هو أمر عدمي، فإنّه لازم العنوان المذكور في القضيّة، و ظاهر العنوان هو الموضوعيّة.

هذا مضافا إلى أنّ السرقة إنّما تتحقّق بالنسبة إلى الصلاة الشخصية المتلبّسة بالوجود الخارجي، لا بالنسبة إلى الصلاة الكلّية المفهوميّة، فلا يقال لمن لم يأت بالصلاة بأجزائها و شرائطها المعتبرة: أنّه سرق من مفهوم الصلاة، بل يقال: تركها، و إنّما يقال ذلك بالنسبة إلى المصداق، فيقال هذه الصلاة قد سرق منها شي ء كذا.

نعم قد يطلق السرقة بالنسبة إلى الصلاة الكلّية إذا ما نقص أحد بعنوان التشريع منها جزءا أو شرطا، كما فعله المتنبّي في صداق المتنبّية، و أمّا العصاة التاركون للصلاة رأسا أو بالوجه المعتبر فلا يطلق عليهم السرقة بالنسبة إلى مفهوم الصلاة، بل إلى مصداقها، و حيث إنّ الإمام عليه السّلام احتسبه سارقا، بل جعله أسرق الناس كان دليلا على حرمته.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 413

لا يقال: فيلزم أنّه لو أبطل صلاته بأحد من المنافيات ثمّ أتى بصلاة أخرى صحيحة في وقتها أن يكون سارقا و خارجا عن الدين و الملّة.

لأنّا نقول: نعم هو بواسطة عمله الأوّل ترتّب عليه الحكمان المذكوران، فهو سارق و خارج، لكن العمل الثاني موجب لعوده ثانيا إلى الدين، و أمّا عنوان السارقيّة فغير مسلوبة عنه، غاية الأمر أنّه لو تاب لم يعاقب عليه.

و بالجملة، مساق هذه الروايات مساق ما روي في إيقاع الصلاة في آخر الوقت من أنّه تضييع للصلاة و أنّ الصلاة في آخر الوقت تدعو على المصلّي و تقول:

ضيّعتني ضيّعك اللّٰه، و لهذا يقال بكراهته كراهة شديدة، بل ظنّ غير واحد حرمته، حيث إنّ التضييع

و الدعوة على المصلّي إنّما هما بالنسبة إلى الأمر الموجود، لا بالنسبة إلى الأمر المفهومي الذي لا نصيب له و لا حظّ من الوجود، و هكذا السرقة، كما في سرقة المال، حيث إنّها من الموجود و لا المال المفهومي الغير المتلبّس بالوجود، و إذن فيصير الصلاة بعد تلبّسها بالوجود و صيرورتها في عالم الخارج ذات حقّ على المصلّي بأن لا يضيّعها و لا يخلّ بشي ء من الأمور المعتبرة فيها وجودا أو عدما.

الثانية: ما دلّ على تعليق جواز القطع بالمعنى الأعمّ

المقابل للحرمة على تحقّق بعض الأمور في أثناء الصلاة كالخوف من الحيّة، أو ترتّب ضرر دنيوي معتدّ به.

مثل ما رواه الصدوق في الصحيح عن حريز بن عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت في صلاة الفريضة فرأيت غلاما لك قد أبق أو غريما لك عليه مال، أو حيّة تتخوّفها على نفسك، فاقطع الصلاة و ابتغ غلامك أو غريمك،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 414

و اقتل الحيّة» «1».

و موثّقة سماعة «قال: سألته عن الرجل يكون قائما في الصلاة الفريضة فينسى كيسه أو متاعا يتخوّف ضياعه أو هلاكه، قال عليه السّلام: يقطع صلاته و يحرز متاعه، ثمّ يستقبل الصلاة، قلت: فيكون في الصلاة الفريضة فتفلت عليه دابّة، أو تفلت دابّته، فيخاف أن تذهب أو يصيب منها عنتا، فقال عليه السّلام: لا بأس بأن يقطع صلاته و يتحرّز و يعود إلى صلاته» «2».

تقريب الدلالة في الرواية الأولى يحتاج إلى تقديم مقدّمتين:

الأولى: أنّ المذكور في الصدر الخوف على الأعمّ ممّا يجب حفظه كالخوف على النفس من أذى الحيّة و ممّا لا يجب في غير حال الصلاة، كالخوف من تلف المال بإباق العبد أو ذهاب الغريم.

لا يقال: كيف لا يكون هذا واجبا في غير

حال الصلاة و تركه من أفراد الإسراف و التبذير و تضييع المال الذي هو محرّم قطعا.

لأنّا نقول: لا نسلّم أن يكون رفع اليد من العبد الآبق أو الغريم الذاهب و عدم الذهاب في طلبهما معدودا من أفراد تلك العناوين، بل هو من باب الإعراض أو الإباحة بالنسبة إليهما، بل قد يعدّ طلبهما من بعض الأشخاص المحترمين قبيحا عرفا، فالإمساك على الطلب في أمثال هذه المقامات ليس تضييعا كإراقة الدهن مثلا على الأرض أو كسر الكأس مثلا و نحو ذلك، بل كوضع الكأس مثلا على موضع من الجادّة و عدم الاهتمام في أخذه نظرا إلى أنّ بعض المارّة يأخذه و ينتفع هو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 415

به، و ليس هذا من أفراد التضييع، و بالجملة فلا أمر في هذه الموارد بالإحراز لا وجوبيّا و لا استحبابيّا، نعم النهي عنه حرجيّ، فلا بدّ أن يكون مجوّزا و مباحا.

و من هنا يعلم أنّ المراد بقوله عليه السّلام في الصحيحة: اقطع الصلاة، هو الجواز بالمعنى الأعمّ حتّى يصلح بالنسبة إلى مورد وجوبه كالخوف على النفس، و مورد إباحته كالخوف على المال بذهابه، لا ضياعه.

الثانية: إنّ القضيّة الشرطيّة هنا أعني قوله عليه السّلام: إذا كنت في صلاة الفريضة إلخ ليست مسوقة لبيان المفهوم، لأنّ الشرط فيها من قبيل: إذا رأيت زيدا فاقرأه منّي السلام، يكون محقّق الموضوع، إذ لو لم يكن في الصلاة فلا موضوع للقطع، و كذا لو لم يكن الإباق فلا موضوع للابتغاء، فلو قلنا بظهور القضيّة الشرطيّة في المفهوم و الانتفاء عند الانتفاء

لا نقول به هنا من الجهة المذكورة.

و لكن هنا استفادة أخرى غير راجعة إلى المفهوم، و هي استفادة أنّ جواز القطع بالمعنى الأعمّ الملائم مع الوجوب و غيره ليس من الأمور المحمولة على ذات الصلاة حتّى لا يحتاج إلى حدوث أمر خارج عنها، و إلّا كان التعليق على الأمر الخارج غلطا، فحيث علّق ذلك في الصحيحة على حدوث تلك الأمور علم أنّ الجواز المذكور ليس بمحمول على الصلاة في حدّ ذاتها، و إنّما يحتاج إلى علّة خارجيّة، و لازمة أنّه في حدّ ذاته من المحرّمات المسلوبة عنه الجواز بالمعنى الأعمّ.

إذا تحقّقت المقدّمتان تحقّقت دلالة الصحيحة على المدّعى و هو أصل حرمة القطع في الجملة، نعم في تعميمها بالنسبة إلى موارد الشكّ نحتاج إلى التشبّث بذيل دليل آخر أو أصل، و إلّا فهذا المقدار الذي استفدنا لا يستفاد منه إلّا الإجمال و هو كون الجواز المذكور محتاجا إلى السبب و أنّ هذه الأمور أسباب، فلا ينافيه قيام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 416

أشياء أخر في مقامها، إذ المفروض إنكار الدلالة على المفهوم، و استفادة نفي السبب الآخر متفرّع عليه.

و حينئذ فنقول: كلّ ما استفدناه سببا للجواز من الصحيحة المذكورة فلا كلام، و الظاهر أنّ المستفاد منها مطلق ما يخاف منه على النفس و لو لم يكن حيّة، و ذكر الحيّة من باب المثال، و كذلك مطلق ما يخاف منه على ذهاب المال و لو لم يكن من أفراد إباق العبد و الغريم.

حكم الشكّ في جواز القطع و حرمته

و يبقى الشكّ بالنسبة إلى موارد لا يندرج تحت أحد العنوانين، أعني خوف النفس أو المال، كما لو أراد الاستراحة ثمّ الصلاة على وجه أكمل، أو الوصول إلى غرض مهمّ غير راجع إلى

المال يخاف فوته إن أخّر إلى آخر الصلاة، فلنا في هذه الموارد طريقان:

الأوّل: الرجوع إلى الأصل الموضوعي و هو أصالة عدم جعل هذا المشكوك السببيّة سببا.

لا يقال: إنّه مثبت، إذ الأثر الشرعي إنّما رتّب على مصداق هذا العنوان، فلو شككنا في تحقّق أحد المصاديق المحقّق المصداقيّة فأصالة عدم تحقّق ذلك المصداق جار، و أمّا إذا كان الشكّ في سببيّة الموجود فأصالة عدم تحقّق عنوان السبب ليس بجارية، لأنّ عنوان السبب لم يرتّب عليه في الأدلّة الشرعيّة أثر، بل الحاكم بترتّب المسبّب على عنوان السبب هو العقل، و المسبّب و إن كان شرعيّا، لكنّ الترتيب عقلي، و يكفي في المثبتيّة هذا المقدار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 417

لأنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أنّ كلّ مورد لم يخرج عن وظيفة الشارع و تناله يد الجعل فهو مشمول لعموم لا تنقض و إن فرض أنّ الحكم المتيقّن كان بترتيب من العقل، فإنّه إنّما يكون وظيفة له مع القطع بتحقّق عنوان السبب، و أمّا مع الشكّ فليس ترتيبه إلّا وظيفة للشرع و لا حكم حينئذ للعقل كما هو واضح.

و الثاني: الرجوع إلى العموم المستفاد ارتكازيّته في أذهان الرواة السائلين عن موارد الحاجة إلى بعض الأمور المنافية للصلاة، حيث ربما يستظهر منها أنّ السؤال إنّما هو عن المخرج عن ذلك العموم.

اللّٰهمّ إلّا أن يستشكل في الثاني بأنّه لعلّ المرتكز هو احتياج القطع إلى السبب و السؤال عن تحقّقه في تلك الموارد، و اللّٰه العالم.

و في الأوّل بأنّ عنوان السبب و المانع و أمثالهما من حيث هذا العنوان لا أثر له حتّى عقلا، و إنّما الأثر مرتّب على مصاديق ذلك، و المفروض عدم الشكّ في الخارج.

و من هنا قد يتخيّل

أنّ الشبهة تحريميّة، و قد خلت عن النصّ، و قد اتّضح في محلّه جريان البراءة فيها عقلا و نقلا كما هو الحال في الشبهة الموضوعيّة عند عدم الحالة السابقة.

و لكنّ الحقّ خلاف ما يتخيّل، لأنّا لا نجد من وجداننا في موارد ورود الدليل على حصر أسباب حلّية شي ء في أمور جواز الدخول في ذلك الشي ء بمحض الشكّ و عدم الدليل إيكالا على مجرّد الشكّ و قبح العقاب بلا بيان و حديث الرفع و نحوه من الأدلّة النقليّة.

ألا ترى أنّه لو شكّ أحد في رضى صاحب الدار بدخوله في الدار و كراهته، و لم يكن هناك حالة سابقة لأحد الأمرين فهل يعدّ هذا الشخص معذورا عند العقلاء لو دخل تلك الدار بدون إحراز الرضى بمحض أنّ الشكّ في التحريم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 418

و لا حالة سابقة، و العقاب بلا بيان قبيح، بل لا نشكّ في أنّ العقلاء يذمّونه على هذه الحركة و يقبّحون فعله.

و ليس الوجه فيه كون الاحتمال لأجل كون الكبرى اهتماميّة منجّزة كما اشتهر في الدماء و الفروج، بل نقول بجريان هذا الوجدان حتّى في موارد الشكّ في الاهتمام، و لكن مع العلم بحصر أسباب الحلّية في أمر أو أمور، و ليس ذلك إلّا لأجل أنّ قول المولى: لا يحلّ الفعل الفلاني إلّا عقيب السبب الفلاني أو الأسباب الفلانيّة حجّة عندهم لموارد الشكّ أيضا، بمعنى أنّه يستفاد منه علاوة على الحكم الواقعي قاعدة ظاهريّة أعني حصر أسباب حلّية ذلك الفعل واقعا و ظاهرا في ذلك الأمر أو تلك الأمور و أنّه لو كان الشكّ أيضا سببا كان خلاف ظاهر ذلك الحصر.

و بالجملة، الظاهر أنّ الحكم عدم الجواز في ما نحن فيه

حتّى يعلم الجواز، مضافا إلى الاستصحاب الحكمي الموجود في أكثر الموارد، تقريره أنّه قبل عروض الأمر الذي نشكّ في جواز القطع بسببه كنّا نقطع بحرمة القطع، و الآن نشكّ في ارتفاعه، فالأصل بقاؤه على ما كان، هذا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 419

المسألة الثالثة حكم قول آمين بعد الحمد

لا يجوز قول آمين في آخر الحمد على المشهور بين الإماميّة، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه و على كونه مبطلا للصلاة أيضا، و قيل: هو مكروه.

و يدلّ على المشهور جملة من الأخبار، منها: حسنة جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد و فرغ من قراءتها فقل أنت:

الحمد للّٰه ربّ العالمين، و لا تقل: آمين» «1».

و نحوها في النهي عن ذلك عدّة روايات أخر، و ليس في البين ما يعارضها إلّا صحيحة جميل «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن قول الناس في الصلاة جماعة حين يقرأ فاتحة الكتاب: آمين؟ قال عليه السّلام: ما أحسنها و أخفض الصوت بها» «2».

بناء على كون ما أحسنها بصيغة التعجّب، لكنّها على هذا الاحتمال ليست معمولا بها، إذ المخالف إنّما قال بالكراهة، و أمّا الاستحباب فلم يحك عن أحد، مضافا إلى معارضة هذا الاحتمال باحتمال كونه بصيغة المتكلّم و كون كلمة «ما»

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 420

نافية، و إذن فالأقوى ما ذهب إليه المشهور من الحرمة.

و أمّا الإبطال فقد يقال بأنّ المنساق من مثل هذه النواهي ليس مجرّد الحكم التكليفي، بل الوضعي أيضا و أنّ المقصود خلوّ الصلاة عن المنهيّ عنه، لكونه

منافيا لصحّتها.

إلّا أن يقال: إنّ الظاهر كون النواهي في مقام الردع عمّا هو المتعارف بين العامّة، و حينئذ فإن كان المعمول لديهم هو هذا القول بعنوان كونه مستحبّا نفسيّا محلّه بعد الفراغ من حمد الصلاة، فلا يستفاد من هذه النواهي إلّا الحرمة التشريعيّة، و إن كان المعمول عندهم الإتيان به بعنوان الجزئيّة الاستحبابيّة فاللازم حصول عنوان الزيادة العمديّة، فنحكم بالبطلان من هذه الجهة.

و يمكن أن يقال بالبطلان و لو لم نقل بكونها زيادة، بتقريب تقدّم في بعض الأبحاث السابقة، و هو أنّ القول المحرّم إذا أتى به بعنوان الجزئيّة للصلاة كان ماحيا للهيئة الاتّصاليّة الصلاتيّة عند المتشرّعة و يكون حاله حال الوثبة و السكوت الطويل.

و من هنا يمكن القول بالبطلان في الدعاء لطلب شي ء محرّم، إذ لا شكّ في أنّ طلب مبغوض المولى من المولى قبيح عند العقلاء، فالإتيان به في الصلاة و إدراجه في الأقوال الصلاتيّة داخل في عنوان الماحي، و اللّٰه الهادي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 421

المقصد الثالث في الخلل الواقع في الصلاة

اشارة

و هو إمّا بالإخلال بشي ء ممّا يعتبر فيها وجودا أو عدما، سواء كان عن عمد أو عن جهل أو سهو أو اضطرار أو إكراه، أو بالشكّ، و على كلّ حال إمّا أن يكون بالزيادة أو بالنقيصة.

و إشباع الكلام في هذا المقصد يقتضي التكلّم في فصول

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 423

[الفصل] الأوّل حكم السهو في الصلاة

و ينبغي أوّلا التكلّم في مقتضى القاعدة الأوّليّة في النقيصة أو الزيادة

في المركّب المأمور به، ثمّ التكلّم بحسب مقتضى الأدلّة الثانوية.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و به الاعتصام في جميع الأمور و منه الاستعانة في المعسور و الميسور: لا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في طرف النقيصة هو البطلان، لأنّه لم يمتثل المأمور به و لم يأت به بجميع ما له من الأجزاء و الشرائط، فيجب عليه الإعادة حتّى يحصل الامتثال.

و أمّا في جانب الزيادة فمقتضاها الصحّة، إذ المفروض أنّه لا يتحقّق عنوان الزيادة إلّا بعد تحقّق المأمور به بما له من الجزء و الشرط، غاية الأمر أنّه أتى بشي ء زائد أيضا، فهو قد أتى بالامتثال مع شي ء أجنبي.

نعم يمكن البطلان بأحد وجهين: إمّا بكونه قاصدا للمركّب من هذا الشي ء الأجنبي و المفروض كون المأمور به هو الخالي عنه، فما أمر به لم يقصده، و ما قصده لم يؤمر به، و إمّا بكون عدم ذلك الشي ء الزائد دخيلا في المركّب و معدودا من أجزائه أو شرائطه.

أمّا الوجه الأوّل فيمكن أن يقال بعدم تمشّيه في ما إذا رجع قصده إلى مقام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 424

التطبيق بعد مدعويّته بالأمر بمعنى أنّه بعد ما دعاه أمر المولى سمت العمل تخيّل و لو تشريعا أنّه يدعوه إلى هذا الذي يشتمل على تلك الزيادة، فقصد الأمر الحقيقي هو الباعث له، و التخيّل إنّما هو في

المتعلّق، و المضرّ هو أن يكون الباعث له هو الأمر التخيّلي، لا الحقيقي.

و أمّا الوجه الثاني فيحتاج إلى مراجعة أدلّة الصلاة و أنّه هل في شي ء منها اعتبر من أجزائها أو شرائطها عدم الزيادة أو لا؟

و الذي ذكروه دليلا في الباب أخبار:

منها: خبر أبي بصير «قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: من زاد في صلاته فعليه الإعادة» «1».

و منها: ما رواه الشيخ في الحسن عن زرارة و بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها و استقبل صلاته استقبالا» «2». هكذا روايته عن الشيخ.

و روى عن الكليني رحمه اللّٰه بإسناده عن زرارة و بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه «قال: إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتدّ بها و استقبل صلاته استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا» «3».

و منها: مرسلة سفيان بن السمط عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.

(2) التهذيب 2: 194.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 425

هذه هي الروايات التي ربما يتمسّك بها لاستفادة القاعدة الكلّية أعني اعتبار عدم جنس الزيادة في الصلاة، سواء كانت من الركعة أم من أجزائها، و سواء كان المزيد ركنا أم غيره.

و لكن للخدشة في الاستدلال بها على هذا المدّعى مجال واسع.

أمّا الرواية الثانية فواضح، لأنّها مضطربة بعد اختلاف روايتي

الشيخ و الكليني رحمهما اللّٰه، فلا يمكن الاستدلال بها لزيادة ما سوى الركعة من الأجزاء، و لا سيّما الغير الركنيّة منها التي هي العمدة في هذا الباب، فإنّ إبطال الزيادة في الركنيّة منها فضلا عن الركعة يمكن الاستغناء في إثباته بالإجماع، و المحتاج إلى الاستدلال إنّما هو إثبات البطلان في زيادة ما عدا الأركان من الأجزاء، و هو مع اختلاف النسخة في الرواية المذكورة في محلّ المنع.

و أمّا الرواية الأولى فهي أيضا غير قابلة للاستدلال على هذا المدّعى المذكور، لأنّها مجملة، لأنّ أمرها دائر بين احتمالات أربعة:

الأوّل: أن يكون المراد بالزيادة في صلاته نظير: زاد اللّٰه في عمرك، و زاده بسطة في العلم و الجسم كون المزيد من سنخ المزيد عليه بحيث يصحّ إطلاق اسمه عليه، و هو في ما نحن فيه مختصّ بالركعة، لوضوح عدم صدق اسم الصلاة على سورة واحدة، أو حمد كذلك، بل أو ركوع كذلك، أو سجدة كذلك، بل أو سجدتين.

و الثاني: أن يكون المراد الأعمّ من ذلك و من غيره، و لكن بشرط أن يكون المزيد مماثلا لأجزاء المركّب المزيد عليه و مأتيّا به بقصد الجزئيّة له.

و الثالث: أن يكون أعمّ من ذلك و من أن يكون أجنبيّا عن أجزائه غير مشابه معها في الصورة، و لكن مع كونه مأتيّا بقصد الجزئيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 426

و الرابع: الأعمّ من ذلك و من أن يكون مأتيّا بغير قصد الجزئيّة للمركّب.

و بعد تطرّق هذه الاحتمالات في الرواية تسقط عن درجة الاستدلال للمرام أعني الحكم بالبطلان في زيادة غير الأركان من الأجزاء الصلاتيّة أو زيادة شي ء آخر من غير سنخها.

مضافا إلى استلزام حملها على المعنى الأعمّ من الركعة و من غيرها

للتقييد بالفرد النادر بعد وضوح عدم لزوم الإعادة في الزيادة السهويّة لغير الأركان، فنحتاج إلى تقييدها بالنسبة إليها بغير حال السهو، و هو تقييد بالفرد النادر، و كما أنّ التخصيص بالكثير مستبشع، كذلك في الاستبشاع التقييد بالفرد النادر.

فكما لو قال: كل من أيّ شجرة من أشجار هذا البستان شئت، ثمّ قال منفصلا: لا تأكل من هذا و لا من هذا و لا من ذلك إلى أن تبقى شجرة واحدة كان بشيعا، كذلك لو قال: كل من أيّ صنف من الأصناف و كان في البستان أصناف كثيرة، ثمّ قال منفصلا: كل من الصنف الفلاني و ذكر واحدا من تلك الأصناف الكثيرة، فإنّه أيضا من البشاعة بمكانه الأوّل.

و أمّا احتمال انصراف قوله: من زاد إلخ إلى الزيادة العمديّة، لإشعار نسبة الفعل إلى الفاعل المختار بإرادة الاختيار.

ففيه أنّ الانصراف إلى العمد و الاختيار المساوق مع التشريع ممنوع.

و أمّا ما ذكر سندا له من الإشعار المذكور، ففيه أنّ المسلّم منه إنّما هو بالنسبة إلى الاختيار في مقابل الاضطرار و الحركة الصادرة عن المرتعش، فإنّه لا ينصرف من الأفعال المضافة إلى الفاعل المختار مثل هذا الصدور.

و أمّا الاختيار في مقابل السهو الذي هو محلّ كلامنا فالانصراف إليه ممنوع غاية المنع، لوضوح أنّ الفاعل لا يخرج عن كونه مختارا، بمعنى أنّ حركته ليست

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 427

كحركة المرتعش، نعم إنّما هو مبنيّ على مقدّمة سهويّة و هو أنّه زعم عدم الإتيان بذلك الجزء، لكنّه يأتي به بعد هذا الزعم مختارا و هو واضح.

و أمّا المرسلة فهي أيضا يمكن الخدشة فيها، لعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي واردة مورد حكم آخر، فلا يمكن التمسّك بعمومها

لما نحن فيه، فإنّ تقريب الاستدلال بها أنّ المستفاد منها أمران: إبطال الزيادة عمدا، و عدم إبطالها سهوا.

أمّا الأوّل: فلأنّه لو لم يكن عمدها مورثا لشي ء لما كان سهوها موجبا للسجدة التي جعلت لأجل تدارك الخلل الناشئ من قبل الزيادة.

و أمّا الثاني فلأنّه لو كان السهو موجبا للبطلان لما كان في سجدة السهو فائدة بعد بطلان أصل الصلاة، إذ هي موضوعة لتدارك النقص في الصلاة الصحيحة، فيستفاد منها بواسطة كلمة «كل» قاعدة كلّية في كلّ زيادة و هي أنّها يورث البطلان إذا وقعت عمدا، و لا يورثه إذا وقعت سهوا.

و لكن فيه ما أشرنا إليه من أنّ مجرّد وجود كلمة «كلّ» لا ينفع في استفادة الكلّية بعد ما كان سوق الكلام لإفادة مطلب آخر، نظير المقام ما إذا قال المولى لعبده: لا بدّ لك من شرب السكنجبين عقيب كلّ غذاء تأكله، فإنّه ليس للعبد أن يأخذ بعموم كلامه لتجويز أكل كلّ غذاء و لو كان سمّيا، بل المقصود أنّه يجب ذلك عقيب ما تعارف لك أكله من الأغذية، و كذلك الحال في ما نحن فيه.

نعم نعلم أنّ لنا بعضا من الزيادات حالها كذلك، أعني أنّ عمدها مضرّ بالصلاة و سهوها غير مضرّ، و أمّا أنّها ما ذا فليس الكلام بصدده.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّا نعلم من الخارج أنّ مصداق هذا منحصر في الأجزاء الغير الركنيّة، إذا الأركان منها يعلم بإضرار زيادتها عمدا و سهوا، فلو لم يكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 428

غير الأركان ممّا يضرّ زيادته عمدا لا سهوا لزم أن لا يبقى للعموم المذكور مصداق و لو واحدا.

نعم تردّد الأمر بين أن يكون كلّها أو بعضها، و هو أيضا متردّد بين كلّ

منها، لكن يمكن تعيين العموم بضميمة الإجماع على عدم الفصل بينها، فإن كانت الزيادة العمديّة في بعضها مضرّة كما هو مقتضى ما ذكر فلا بدّ من أن يكون في كلّها كذلك، و إلّا لزم القول بالتفصيل بينها و هو خلاف الإجماع المركّب.

لكن يمكن الخدشة في هذا أيضا بأنّه مبنيّ على أمرين: أحدهما اختصاص الزيادة بما إذا كان المزيد من سنخ أجزاء المركّب المزيد فيه و مماثلا لها، و أنّه لو كان آتيا بشي ء من غير سنخها في أثنائها لا يصدق عليه أنّه زيادة في المركّب، بل يقال:

إنّه شي ء لغو وقع في المركّب، و الزيادة إنّما يصدق بتكرار أحد الأجزاء.

و ثانيهما: اختصاص الزيادة بما إذا أتى بالزائد بقصد جزئيّته للمزيد عليه.

و لكنّ المقدّمة الأولى يمكن إنكارها بالنسبة إلى المركّبات، سواء كانت من المعاجين و المركّبات الخارجيّة، أم من قبيل الصلاة و المركّبات الاعتباريّة، و المسلّم منها إنّما هي بالنسبة إلى المفردات، فزيادة الماء مثلا عبارة عن انضمام شي ء آخر من سنخ الماء على الماء الموجود، و كذلك زيادة الجسم و زيادة الخطّ و أمثال ذلك من المفردات.

و أمّا إذا كان هناك معجون قد قرّره المولى أو الطبيب و جعله من ثلاثة أجزاء مثلا، ثمّ زاد و أدخل فيه العبد شيئا رابعا من غير تلك الأجزاء فجعله مركّبا من أربعة أجزاء صدق عرفا عليه اسم الزيادة و لو فرض أنّه لا ضرر فيه و لا نفع.

و لا يلزم في صدق اسم الزيادة أن يكون المزيد من سنخ تلك الثلاثة بأن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 429

زاد على المقدار الذي عيّن لكلّ منها فجعل مكان المثقال مثلا مثقالين، و الحكم في الباب هو العرف، فإن كنت في

شكّ من ذلك فارجع إليهم تجدهم شاهدين على المدّعى.

و كذلك يمكن منع المقدّمة الأخرى أعني اعتبار قصد الجزئيّة في صدق الزيادة و أنّه يكفي في صدق الاسم مجرّد كون الأجزاء لذلك المركّب ظرفا و محلّا لوقوع ذلك الشي ء الزائد و لو لم يقصد الفاعل عنوان الجزئيّة، بل و لم يتخيّله، سواء في ذلك المركّبات الخارجيّة كالمعاجين أم الاعتباريّة كالمركّبات المأمور بها.

إذا عرفت هذا فنقول: يكفي لبقاء المورد للمرسلة تنزيلها على القواطع المذكورة في محلّها التي يقطع الصلاة إذا وقعت عمدا لا سهوا، مثل البكاء و القهقهة و نحوهما، فلا يبقى بالنسبة إلى الأجزاء الغير الركنيّة دليل يدلّ على إبطال الزيادة فيها و لو بعنوان الجزئيّة و قصدها، بل يمكن استفادة عدم الإبطال ممّا ورد من الحثّ على الدعاء و القراءة في الصلاة و أنّ كلّ ما ناجيت به ربّك فهو من الصلاة، فإنّه بعد كونه من الصلاة على ما هو مفاد تلك الروايات فلا مانع من قصد المصلّي بها الجزئيّة للصلاة، فضلا عن أن يكون دليل على إبطاله.

فإن قلت: في المعاجين ما ذكرته حقّ، و أمّا في المركّب الاعتباري فلا نسلّم أنّ مجرّد إيجاد شي ء أجنبيّ في إتيانها و لو لا بقصد الجزئيّة يصدق عليه اسم الزيادة.

قلت: الحكم بيننا و بينك العرف، و لا يخفى على من راجعهم مع الإنصاف أنّه لو دخل في مجلس متركّب من العقلاء و ذوي الآراء معدّ للفكر في المطالب المهمّة شخص أحمق عليل الرأي مضيّع لأوقاتهم يقال عند العرف: إنّ هذا زيادة في هذا المجلس.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 430

و حينئذ نقول: بعد عدم إمكان حمل قوله عليه السّلام في المرسلة: تسجد إلخ على زيادة الأركان، و كذا

عدم إمكان حمله على زيادة الأقوال و الأذكار الغير الركنيّة، لما تقدّم من تصريح الروايات بأنّها من الصلاة و مقتضى ذلك جواز إتيان حمدين بقصد كونهما من الصلاة، أحدهما بعنوان الوجوب و الآخر بعنوان الندب و هكذا، فلا يبقى للمرسلة محلّ يحمل عليه إلّا نادر لا يعبأ به.

فلا بدّ من أن يصار إلى معنى آخر لا يلزم منه هذا المحذور و هو أن يقال:

إنّ المراد بالزيادة كلّ ما اعتبر في الصلاة عدمه فاتي به، كما أنّ المراد بالنقيصة كلّ ما اعتبر فيها وجوده فلم يؤت به، و يناسبه المقابلة بينهما و يساعده العرف في المثال المتقدّم، حيث إنّ وجود شي ء لا يخلّ وجوده بالمجلس المنعقد لاجتماع أهل الشور و الآراء في المطالب المهمّة كوجود حجر أو حيوان لا يسمّى زيادة، و أمّا وجود شخص سخيف الرأي يسمّى بها، و ليس إلّا أنّ بناء المجلس على الخلوّ من مثل ذلك الشخص، و ليس مبنيّا على الخلوّ من الحجر و الحيوان، و هذا المعنى سالم عن المحذور كما لا يخفى، و لكن لم يقل به أحد في ما نعلم.

فإن قلت: لو فرضنا أنّه أتى بالحمد الثاني في الركعة الأولى بقصد الجزئيّة و الوجوب، فقد صدق حينئذ عليه اسم الزيادة.

قلت: كلّا، و هل هو إلّا مثل إتيان بعض مستحبّات الصلاة بقصد الوجوب، فإنّه ليس إلّا تشريعا من دون أن يكون مندرجا تحت عنوان الزيادة، و هذا واضح.

ثمّ إنّ ما في المرسلة من الحكم بالسجود و إن كان ظاهرا في الوجوب، و لكن لا بدّ من رفع اليد عنه و حمله على الندب، لوجود المطلقات الواردة في جانب نقيصة الحمد سهوا، و في طرف زيادة التكلّم سهوا بأنّه لا

شي ء عليه، و هي واردة في مقام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 431

البيان، و التصرّف فيها بتقييد المادّة بعيد، و في هيئة المرسلة بحملها على الندب ليس بتلك المكانة من البعد، فهو المتعيّن في مقام الجمع.

و بعد هذا يصير محصّل معنى المرسلة- و اللّٰه العالم- أنّ ترك كلّ شي ء يعتبر وجوده في الصلاة سهوا و إتيان كلّ شي ء يعتبر فيها عدمه كذلك يستحبّ فيهما سجدتا سهو.

ثمّ بناء على المعروف في تعريف الزيادة من اعتبار المجانسة لأجزاء الصلاة و قصد الجزئيّة قد يقال في مقام الجمع بين روايات إبطال الزيادة المتقدّمة و بين صحيحة زرارة: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» بناء على عمومها للزيادة بأنّ النسبة بين الصحيحة و بين مثل قوله عليه السّلام: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» و إن كانت عموما من وجه، إلّا أنّه لا بدّ من تقديم لا تعاد، لأجل الحكومة.

و أمّا بينها و بين مثل قوله عليه السّلام: «من استيقن أنّه زاد في المكتوبة استقبل» «1» هي العموم و الخصوص المطلقان، لاختصاص هذه بالزيادة السهويّة، و عموم الصحيحة لها و للنقيصة السهويّة.

و فيه أمّا في الشقّ الثاني أنّ النسبة عموم من وجه، و مادّة الافتراق من جانب رواية: من استيقن زيادة الأركان، حيث لا معارضة لها مع الصحيحة فيها، لاستثنائها عن حكم لا تعاد.

و أمّا في الشقّ الأوّل أنّه لا حكومة للصحيحة على مضمون الرواية أعني إثبات الإعادة، لوضوح تعارض نفيها الذي هو مضمون الصحيحة، مع إثباتها الذي هو مضمون الرواية.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 432

نعم لو كان مضمونها النهي عن إيجاد الزيادة في

الصلاة تمّت الحكومة، وجه الفرق أنّ الصحيحة متعرّضة لنفي الإعادة عند السهو بعد الفراغ عن أصل الاعتبار، فلا محالة يكون لها الحكومة على الدليل المتكفّل لأصل الاعتبار إمّا وجودا و إمّا عدما.

و هذا بخلاف ما إذا كان الحكم بوجوب الإعادة عند وجود الزيادة، فإنّه حينئذ مشارك مع الصحيحة في كونه لسانا متأخّرا عن أصل الاعتبار، فكأنّه في قوّة أن يقال: إنّ اعتباره بمكان لا يعفى عنه، بل يجب الإعادة بإخلاله، كما أنّ مفاد الصحيحة على العكس من ذلك، فلا وجه للحكومة، و المفروض كون النسبة عموما من وجه، هذا كلّه بناء على تفسير الزيادة بالمعنى الذي اختاره القوم.

و أمّا بناء على المختار من معناه فلا يخفى عدم المعارضة بين المرسلة و بين الصحيحة.

و أمّا بين روايتي: من زاد إلخ، و من استيقن إلخ، و بين الصحيحة فقد قلنا بأنّ المتيقّن منهما زيادة الركعة، و لا يمكن استفادة أزيد من ذلك منهما كما تقدّم تفصيله.

ثمّ إنّه بناء على ما اخترناه من التفسير للزيادة الواقعة في المرسلة يمكن حلّ شبهة لازمة بناء على تفسير القوم واردة في حديث النهي عن قراءة العزيمة في المكتوبة معلّلا بأنّ السجود زيادة في المكتوبة.

و أصل الشبهة أنّه كيف أطلق عليه السّلام عليه اسم الزيادة، و الحال أنّه لم يؤت به بعنوان الجزئيّة للصلاة، و صار ذلك سببا للإلجاء إلى حمله على التنزيل و كونه بمثابة قوله عليه السّلام: الطواف بالبيت صلاة، و لهذا لا يتعدّى عن مورده و لا يحكم بإبطال سجود الشكر، هذا بناء على المعروف.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 433

و أمّا بناء على ما اخترناه فعنوان الزيادة من العناوين التي لا بدّ من تعيينها و تشخيص موضوعها من

الشارع، و ليس من شأن العرف، كما كان كذلك على طريقة القوم، فإنّه بناء على المختار عنوان الزيادة منتزع عن النهي الوضعي و اعتبار عدم الشي ء في المركّب.

و حينئذ فنقول: كلّما أطلق الشارع على شي ء اسم الزيادة علمنا إنّا أنّه منهيّ بالنهي الوضعي و يعتبر عدمه في المأمور به.

نعم لو علّل النهي عن ذلك الشي ء بكونه زيادة فلا يمكن حمله على المعنى الذي ذكرنا، لأنّه ظاهر في أنّ النهي منتزع عن الزيادة، لا أنّ الزيادة معلول للنهي، و لكنّ الأمر في سجود التلاوة ليس من هذا القبيل، فإنّ النهي عن قراءة العزيمة قد علّل بكون السجود زيادة، و لهذا يجي ء فيه القول المختار و ينحلّ به الإشكال، و الحمد للّٰه المفضال.

ثمّ هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الأوّلي في جانب الزيادة بالمعنى المعروف.

و أمّا في طرف النقيصة فلا إشكال في إضرارها عمدا، و أمّا سهوا فالمسألة بحسب الأصل الأوّلي مختلف بحسب المبنيين في امتناع تخصيص الساهي بالخطاب و عدمه، و على الثاني بحسب وجود الإطلاق في دليل الجزئيّة و عدمه، فعلى المبنى الأوّل و الشقّ الأوّل من شقّي المبنى الثاني مقتضى الأصل الأوّلي هو الاشتغال، لأنّ المفروض أنّه مخاطب بالتامّ و قد أتى بالناقص.

نعم يحتمل إسقاط التامّ عنه بواسطة الناقص، و المرجع في هذا الشكّ هو الاحتياط بالإعادة أو القضاء.

كما أنّه على الشقّ الأخير من المبنى الثاني مقتضى الأصل هو البراءة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 434

على ما هو التحقيق، إذ المفروض أنّا نحتمل بحسب مقام الثبوت اختصاص الساهي بالمركّب الناقص، و لا إطلاق لدليل الجزء أيضا بحسب الإثبات، فهو من جزئيّات الشكّ في الأقلّ و الأكثر، فمن قال هناك بالبراءة يقول هنا بها،

و من قال بالاشتغال قال به هنا.

امتناع تخصيص الناسي بالخطاب

و حيث ابتنى المسألة على تحقيق الحال في مسألة امتناع تخصيص الساهي و عدمه ناسب بسط الكلام فيها و إن تكلّمنا فيه في الأصول، لكنّ البحث عنها هنا لا يخلو عن فائدة.

فنقول و على اللّٰه الاتّكال في كلّ حال: إنّه ذهب شيخنا الأجلّ المرتضى قدّس سرّه الشريف في رسائله إلى الامتناع، و المنقول من سيّد تلاميذه الميرزا الشيرازي قدّس سرّه اللطيف هو اختيار الجواز.

و محصّل ما استند إليه الشيخ قدّس سرّه في اختيار المنع هو أنّ الغرض في الخطاب الإنشائي لا إشكال أنّه صلاحيّة البعث و التحريك، بمعنى أنّه عند الانضمام إلى الشرائط العقليّة المقرّرة للبعث من العلم و الالتفات و القدرة كان الخطاب باعثا للمكلّف إلى العمل، فلو خلّي عن هذا الغرض كان وجوده لغوا، بمعنى أنّه لا يمكن له صلاحيّة الباعثيّة في شي ء من التقادير، و مع أيّ فرض فرض، و الخطاب الخاصّ بعنوان الساهي بأن يقال في مرحلة الإنشاء: أيّها الساهي عن إتيان السورة في محلّلها ائت بالركوع و صلاتك خالية عنها و مركّبة ممّا عداها حالة من القسم الثاني، بمعنى أنّه لا يصلح لبعث المكلّف في حال من الأحوال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 435

أمّا حال غفلته عن انطباق الموضوع على نفسه فواضح، فإنّ شأن كلّ خطاب كلّي هو الباعثيّة عند الالتفات إلى صغراه و حصول موضوعه في الخارج.

و أمّا حال الالتفات إلى انطباق عنوانه أعني ساهي السورة مثلا على نفسه، فلا يبقى مندرجا تحت الموضوع، لأنّه في المحلّ، و المفروض تذكّره للسورة، فيدخل في عنوان الذاكر للسورة في محلّلها، فعلم أنّ الخطاب الموجود بالنسبة إلى الساهي ليس إلّا الخطاب بالمركّب التامّ، لأنّه قابل

و صالح للمحرّكيّة بعد ضمّ سائر الشروط العقليّة، هذا محصّل كلامه قدّس سرّه.

و أورد عليه تلميذه المشار إليه قدّس سرّه بوجهين على ما نقل عنه شيخنا الأستاذ نقلا عن سيّده الأستاذ الأصفهاني طاب رمسه.

أحدهما: أنّا سلّمنا عدم إمكان الخطاب المخصوص بالساهي، لكن لا يلزم ممّا ذكر اختيار الاشتغال في المسألة المفروضة أعني الشكّ في النقيصة السهويّة، فإنّ الاشتغال مبنيّ على إحراز كونه بعد عدم المخاطبيّة بالناقص للمحذور العقلي مخاطبا بالتامّ، و المفروض أنّه لم يأت به، لكن أنّى لنا بإحراز ذلك، فلعلّ الخطاب بالنسبة إليه معدوم لا بالناقص و لا بالتامّ، فإنّ الخطاب الفعلي غير متحقّق في حقّه قطعا لا بالتامّ، لغفلته، و لا بالناقص، لأنّه المفروض.

و أمّا المحبوبيّة و الإرادة الذاتيّة التابعة للمصلحة الذاتيّة التي ليست من مقولة الإنشاء و الخطاب فهي بالنسبة إلى كليهما ممكن و محتمل، و لا طريق إلى إحراز خصوص أحدهما، و مجرّد ثبوت المحذور في الخطاب الإنشائي في الناقص لا يصير دليلا على ثبوت المقتضي و المصلحة في حقّه بالنسبة إلى التامّ.

نعم إنّما يصير ذلك دليلا إذا قام إجماع على ثبوت الخطاب في حقّ كلّ أحد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 436

من آحاد المكلّفين بحيث لا يشذّ عنه واحد، إذ حينئذ بعد ثبوت المحذور في الناقص يتعيّن الأمر في التامّ، لكن هذا الإجماع لم يثبت، و إنّما المسلّم مساواة الآحاد في الحكم بالنسبة إلى السهو و الالتفات في الأحكام الكلّية، لا بالنسبة إلى الموضوعات، و ما نحن فيه من الثاني كما هو واضح.

و إذن فمن المحتمل أنّ ناسي السورة مثلا كان غير مخاطب بخطاب أصلا، بمعنى أنّه لم يوضع في حقّه خطاب في قالب الإنشاء، و إنّما الموجود

في حقّه كان صرف المحبوبيّة و الإرادة الذاتيّة المفروض استواء نسبتها إلى الناقص و التامّ، فإذا التفت بعد العمل إلى حاله و احتمل أنّه أتى بما هو المحبوب الذاتي للمولى في حقّه كان محكوما عقلا بالبراءة، إذ لا فرق في تردّد المأمور به بين الأقلّ و الأكثر، أو مورد تعلّق الحبّ و الإرادة الذاتيّة، و لا بين حصول الترديد قبل العمل أو بعده في أنّ الحكم عند العقل في الجميع هو البراءة و قبح العقاب على المنسيّ.

و الثاني تصوير أصل الخطاب في حقّ خصوص الناسي، قولكم: يلزم اللغويّة لعدم المحرّكية مدفوع بأنّه يكفي في التحريك الذي هو ثمرة الخطاب، و بدونه يلزم اللغوية التحريك الإجمالي، و لا يتوقّف على كونه تفصيليّا، فإنّه قد يصير ملتفتا تفصيلا إلى صورة المركّب و أمره، فيدعوه هذه الصورة التفصيليّة إلى العمل، و قد لا يصير ملتفتا إلى الصورة تفصيلا، بل يشير إلى الأمر المردّد بين الأمرين، لأنّه في أوّل الشروع في المركّب التدريجي الأجزاء لا يعلم حال نفسه في الأثناء، و نفرض عدم جريان أصل عدم السهو في حقّه، لكونه كثير السهو، و المفروض أنّه عالم بحسب الكبرى أنّ كلّ ذاكر حكمه التمام، و كلّ ساه في المحلّ حكمه ما عدا المسهي من سائر الأجزاء، فهو حين الورود في العمل يقصد تحرّكه بالأمر الواقعي المعلوم في علم اللّٰه المجهول عنده تعلّقه بأيّ الأمرين و يدخل في العمل بداعيه و ندائه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 437

و هو الداعي له في الأثناء أيضا إلى أن يفرغ.

أمّا في أوّل الشروع فواضح أنّه إنّما تحرّك بنداء: أقيموا الصلاة و ورد في العمل بدعوته، و أمّا في الأثناء فكذلك هو الداعي له، إلّا

أنّ المحرّك هو النيّة الارتكازيّة المسمّاة في لسانهم بالاستدامة الحكميّة.

ثمّ بعد العمل ينكشف حاله، فإن لم يسه عن جزء تبيّن أنّ داعيه كان الخطاب بالتامّ، و إن سها انكشف أنّ الداعي الّذي حرّكه هو الأمر بالناقص، و هذا لو تردّد في أوّل الشروع و لم يحرز بالعلم أو بأصالة عدم السهو أنّه ذاكر، و أمّا لو أحرز كونه ذاكرا و دعاه خطاب الذاكر ثمّ سها عن جزء في محلّه.

فحينئذ إن كان خطاب الذاكر داعيا له بوجه التقييد كانت صلاته فاسدة، لأنّ ما وقع لم يقصد و ما قصد لم يكن واقعا، و أمّا إذا لم يكن داعيا إلّا من باب أنّه الوظيفة الشرعيّة و الدستور الشرعي فصلاته صحيحة، لأنّه إنّما حرّكه بما هو أمره الموجود في حقّه، فينحلّ إلى قصد أمر الشارع، و إلى أنّه هذا الذي تخيّله، فالذي لا واقع له هو التطبيق الذي تخيّله، و أمّا أصل الأمر الشرعي فكان موجودا محقّقا، و لعلّ الموجود في حقّ نوع المصلّين عند أوّل الورود في العبادة هذا القسم الثاني، و بالجملة فإذا فرضنا صحّة الخطاب في حقّ الناسي و الغافل، فالأصل الأوّلي هو الصحّة كما عرفت، هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الأوّلي في مسألتي الزيادة و النقيصة.

بيان قاعدة لا تعاد
اشارة

و أمّا القاعدة الثانوية المستفادة من قولهم عليهم السّلام: لا تعاد الصلاة إلّا من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 438

خمسة، فتفصيل الكلام فيها يحتاج إلى التكلّم في مدلول الحديث الشريف لكونه المدرك في الحكم بعدم الإعادة في مباحث الصلاة غالبا.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ التكلّم فيه يقتضي بسط الكلام في أمور:

[الأمر] الأوّل:
اشارة

اعلم أنّ مفاد الصحيحة أنّ الصلاة لا تعاد من أيّ خلل ورد فيها من قبل فقد الشرط أو الجزء أو وجود المانع إلّا من قبل هذه الخمسة المعتبرة أعني: فقد أحدها.

ثمّ الخلل تارة يكون عن علم و عمد بأن كان عالما بالموضوع و الحكم ملتفتا إليهما، و مع ذلك أخلّ و لم يمتثل عمدا، و أخرى يكون عن جهل إمّا بسيط أو مركّب، و إمّا بالموضوع أو بالحكم، و ثالثة يكون عن سهو أو نسيان لواحد من الأمرين.

و لكنّ الظاهر من العلماء قدّس أسرارهم تخصيص التمسّك بالخبر بخصوص الأخيرين في خصوص الموضوع، و إن قوّى بعض السادة المعاصرين من الأعاظم قدّس سرّه التمسّك به في ما عدا الصورة الاولى و أفتى على طبق ذلك في رسالة العروة الوثقى.

و الحقّ ما هو الظاهر من العلماء قدّس سرّهم، لكن مع تعميم الخبر للجهل المركّب في الموضوع مضافا إلى السهو و النسيان المتعلّقين به، فلا يصحّ التمسّك في الجهل البسيط بالموضوع و لا في شي ء من الجهل بقسميه و السهو و النسيان بالنسبة إلى الحكم و لا في العلم و العمد.

و الدليل على هذه الدعوى على ما أفاده شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 439

مبنيّ على مقدّمتين.

الاولى: إنّ الظاهر المتبادر عند أهل العرف من العبارة أعني قوله: لا تعاد

الصلاة إلخ أنّه قاعدة مضروبة للعمل بعد الإتيان به على الوجه المقرّر لجواز الدخول فيه من العقل و النقل، ثمّ تبيّن الاختلال في شرط أو جزء بعد الإتمام أو بعد انقضاء محلّ التدارك، كما لو تذكّر بعد الركوع أنّه نسي الحمد من دون أن يستفاد منها حكم ابتداء الدخول في العمل، فلا يرى أحد من وجدانه تكفّل العبارة صحّة الدخول في الصلاة مع قصد أن لا يأتي بشي ء من أجزائه أو شروطه المفروغ عن شرطيّتها أو جزئيّتها أو مع قصد أن لا يأتي بشي ء يشكّ في شرطيّته أو جزئيّته بدون قيام دليل مرخّص للترك من عقل أو نقل، بل بمحض الاستناد إلى عموم قوله عليه السّلام: لا تعاد الصلاة، و ليس ذلك إلّا لأجل ظهور العبارة في بيان الحكم في حقّ من أتى بصلاته بما يقتضيه القواعد العقليّة أو النقليّة المتكفّلة لحال الشروع و ما قبل مضيّ محلّ التدارك ثمّ تبيّن له بعد المضيّ أنّه أخلّ بشي ء ممّا يعتبر فيه في محلّه.

فحال الصحيحة من هذه الجهة حال رواية إسماعيل بن رياح الواردة في إجزاء صلاة من صلّى و هو يرى أنّه في وقت و لم يدخل الوقت، فدخل الوقت و هو في الصلاة، حيث إنّه لا يجوز الاستناد إليها، لجواز الدخول في الصلاة مع الشكّ في الوقت و القطع بدخوله قبل الفراغ كما هو واضح.

و يترتّب على هذه المقدّمة خروج العلم و الجهل البسيط، سواء المتعلّق منه بالحكم أو بالموضوع عن مدلول الخبر خروجا تخصّصيا، لا بالتخصيص و ملاحظة الجمع مع الأدلّة الخارجيّة.

المقدّمة الثانية: إنّ الظاهر المتبادر من نفس الخبر مؤيّدا بقولهم عليهم السّلام في بعض الموارد الجزئيّة كنسيان الحمد حتّى ركع تمّت صلاته، أنّ

هذا الصادر من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 440

الساهي أو الناسي أو الجاهل المركّب للموضوع أو الحكم هو الوظيفة الأوّلية المشروعة في حقّهم في ضمن قوله تعالى «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» في عرض المكلّف العالم المجعول في حقّه الصلاة الواجدة للمنسيّ من دون منقصة في صلاة الأوّلين عن صلاته أصلا، بل حالهما حال الحاضر و المسافر.

و حينئذ فنقول: بعد إمكان تخصيص الخطاب بالناسي و الساهي كما تقدّم أنّ ذلك بالنسبة إلى ساهي الحكم و ناسيه و جاهله بالجهل المركّب مستلزم للمحذور العقلي أو ما هو بمنزلته في مقطوعيّة البطلان أعني الدور أو التصويب، فإنّ ناسي الجزئيّة أو الشرطيّة أو ساهيهما أو جاهلهما مركّبا إذا أسقط الجزئيّة أو الشرطيّة عنهما في مرحلة الواقع كان معناه تخصيصهما بالعالم بهما الملتفت إليهما، و هذا إمّا دور أو تصويب مجمع على بطلانه.

فيبقى بعد خروج هذه الأقسام بواسطة المحذور العقلي خروجا تخصّصيّا بقيّة الأقسام تحت العموم بواسطة شمول الدليل و عدم المحذور و هي السهو في الموضوع و النسيان له و الجهل المركّب به، فإنّ كلّا من هذه الثلاثة إنّما يدخل صاحبه في الصلاة لا باستناد إلى قاعدة لا تعاد حتّى يقال: إنّها ليست قاعدة مشرّعة للدخول على حسب ما مرّ في المقدّمة الاولى، بل بواسطة امتثال قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ.

ثمّ بعد مضيّ محلّ التدارك يتبيّن أنّه إمّا أتى بمانع أو أخلّ بجزء أو شرط، و ليس تخصيص الخطاب بالمركّب الناقص في حقّه أيضا مستلزما لمحذور عقلي، كما كان مستلزما في حقّ الناسي و الساهي و الجاهل و المركّب في الحكم، فلا وجه لعدم الاندراج تحت العموم.

و على هذا فلو جهل جهلا مركّبا بكون اللباس ممّا لا يؤكل فصلّى فيه،

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 2، ص: 441

ثمّ تبيّن بعد أنّه كذلك فلا مانع من الحكم بصحّة صلاته بمقتضى عموم الخبر و إن كان لم يظهر منهم رضوان اللّٰه عليهم إلّا التمسّك في خصوص السهو و النسيان المتعلّقين بالموضوع فقط.

فإن قلت: يمكن التمسّك بالخبر حتّى في نسيان الحكم و سهوه و جهله المركّب، و يدفع إشكال الدور و التصويب بالتزام العفو و الإغماض في مرحلة الامتثال، لا إسقاط الجزئيّة و الشرطيّة عن أصل متعلّق التكليف، و الإشكال إنّما يرد على الثاني دون الأوّل، لأنّه مبنيّ على تعميم الجزئيّة و الشرطيّة بالنسبة إلى كلّ المكلّفين.

و بالجملة، بعد ما اعترفتم بعموم الخبر بحسب المدلول للأقسام المذكورة من غير فرق بين تعلّقها بالموضوع أو الحكم و دوران أمر لا تعاد بين احتمالين، أحدهما يلائمه، و هو العفو عن الإعادة، و ثانيهما لا يلائمه، و هو الإسقاط عن مرحلة الجزئيّة للمركّب المأمور به أو الشرطيّة له، كان المتعيّن هو الأوّل بقرينة عموم المدلول، و لو فرض ظهور في الاحتمال الثاني فإنّما هو في ما إذا لم يكن معارضا بمثل العموم المذكور، و إلّا فهو المقدّم.

قلت: الحكم بيننا و بينك العرف، فهل يدخل في ذهن أهل العرف من قولنا:

أعد، أو: لا تعد، إلّا البطلان في الأوّل و الصحّة في الثاني من دون أن ينصرف الذهن إلى احتمال العفو عن مقام الامتثال بدون توسعة أو تضييق دائرة المأمور به، كلّا و حاشا، و لا أظنّ أن يرتاب فيه أحد، و إنّما ذهب إلى اختيار هذا المعنى شيخنا المرتضى قدّس سرّه بواسطة عدم تعقّله تخصيص الساهي و الناسي حتّى في الموضوع بالخطاب، فألجأه ذلك إلى إبداء هذا الاحتمال، و إلّا فليس هو ممّا يدخل في

أذهان العرف ابتداء، كما نشاهد في نظائره.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 442

مضافا إلى ما تقدّم من تأييده بقولهم عليهم السّلام: تمّت صلاته الوارد في بعض الموارد الجزئيّة الذي هو كالنصّ في ما ذكرنا.

نعم يمكن فرض الصحّة الواقعيّة في حقّ ناسي الشرطيّة و الجزئيّة و الساهي عنهما و جاهل المركّب بهما مع عدم لزوم الدور بأن يكون المجعول في حقّهم في الرتبة الأولى التامّ، و في الثانية الناقص، فكان الناقص وافيا بمرتبة نازلة من مصلحة التامّ، و لا يمكن مع استيفائها استيفاء المقدار الفائت.

و لكن هذا- مضافا إلى استلزامه التصويب المجمع على بطلانه- مدفوع بمخالفته مع ظاهر الكلام، حيث إنّ الظاهر كون الناسي و أخويه كالذاكر من دون منقصة لهم عنه، بل حالهما حال المسافر و الحاضر، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور.

فرع- نسيان الموضوع و الحكم معا

لو سها عن الموضوع و الحكم معا، أو نسيهما فترك الجزء أو الشرط لذلك، فهل هو خارج عن العموم الخبر بناء على ما ذكرنا من اختصاصه بسهو الموضوع و نسيانه، أو مشمول له؟ وجهان:

من انصراف الخبر إلى كون الترك مستندا إلى سهو الموضوع أو نسيانه فقط، و هذا مستند إلى المجموع منه و من نسيان الحكم.

و من أنّه إذا كان الجزءان من علّة الوجود مترتّبين في الوجود كما في المقام، حيث إنّ العلّة للفعل ذكر الموضوع و ذكر حكمه معا مع سبق الأوّل رتبة، ففي جانب العدم يستند عدم المعلول إلى عدم الأسبق منهما عرفا، فيكون استناد الترك في المقام إلى عدم تذكّر الموضوع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 443

مضافا إلى منع أصل الانصراف المذكور، فإنّا بعد ما فرضنا عموم الخبر لجميع الأقسام المذكورة أعني سهو الموضوع و الحكم و نسيانهما، و إنّما

ألجأنا إلى التخصيص بسهو الموضوع و نسيانه القرينة العقليّة، فليس الحال كما إذا كان قيد الإضافة إلى الموضوع مذكورا في الكلام أو منصرفا إليه بالخصوص و الانصراف إلى صورة الاستناد التامّ إنّما هو مع أحد الأخيرين دون الأوّل كما هو واضح، فالأقوى هو القول بالشمول، و من المعلوم أنّه غير مستلزم للمحذور العقلي و اللّٰه العالم.

فإن قلت: مقتضى ما ذكرت من عدم مشموليّة الجهل البسيط و لو في الموضوع للصحيحة، نظرا إلى عدم كون الصحيحة في مقام تشريع الدخول من الأوّل للعالم و الشاكّ أنّه لو فرض كونه شاكّا في الموضوع، لكن جاز له الدخول بواسطة أصل من الأصول الظاهريّة، كما لو شكّ في لباس أنّه من المأكول أو غيره و كان مذهبه البراءة عقلا و نقلا في مثله، فدخل في الصلاة، فتبيّن بعد الفراغ أنّه كان من غير المأكول جاز التمسّك بعد الصلاة بالصحيحة، لأنّ المفروض أنّ اعتماده في الدخول على الأصل الظاهري، لا على الصحيحة، و الشبهة أيضا موضوعيّة لا يستلزم إجراء لا تعاد فيها الدور أو التصويب.

و لكنّ الظاهر عدم التزامهم به، لأنّه قول بالإجزاء في الأصول الظاهريّة في خصوص باب الصلاة في الشبهات الموضوعيّة الغير المتعلّقة بالأشياء الخمسة.

قلت: يمكن الجواب بأنّا قد ذكرنا أنّ كلّ موضوع دخل في حكم لا تعاد فمقتضاه جعل الناقص في حقّه من الأوّل، غاية الأمر لا يمكن أن يكون هذا الجعل الموجود من الأوّل داعيا و محرّكا تفصيليّا، و قد مرّ بيانه.

و على هذا فلا يمكن مشموليّة موارد الأصول للصحيحة، إذ المفروض كون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 444

الشرطيّة أو الجزئيّة الواقعيّتين في مواردها مطلقتين حتّى في حال الشكّ، و إلّا فلم يتحقّق الشكّ الذي

هو الموضوع للأصل، للقطع باختصاص الجزئيّة و الشرطيّة بغيره، و هذا خلف، فإنّ المفروض جريان الأصل في حقّه و أنّه المجوّز للدخول له.

و بعبارة اخرى: إنّ الشاكّ الملتفت لا محالة إلى المشكوك و حكمه لو جرى في حقّه لا تعاد، فهو من أوّل الأمر ملتفت إلى إسقاط الجزئيّة أو الشرطيّة عنه بحسب الواقع، فكيف يعقل مع ذلك إجراء الأصل المبتني على الشكّ المبتني على إطلاق الجزئيّة و الشرطيّة، فإنّ المفروض أنّا لم نقل بأنّ حديث الرفع مفيد لرفع الجزئيّة الواقعيّة في المشتبهات بالشبهة الموضوعيّة، و إلّا فلم يحتج إلى إجراء لا تعاد كما هو واضح، بل قلنا: إنّ مفاده الأصل الظاهري مع حفظ الجزئيّة بحسب الواقع، فإذا جرى لا تعاد لزم خلاف هذا الفرض و عدم كونه مجرى للأصل الظاهري.

فيرجع الأمر بالأخرة إلى أنّه إنّما يدخل في العمل بواسطة دليل لا تعاد، و قد فرضنا في المقدّمة الاولى عدم صلاحيّته لذلك، فإذا انحصر المدرك للدخول في الأصل فلا يعقل إجراء لا تعاد فيه بناء على ما استظهرنا من معناه من كونه الإسقاط الواقعي عن موضوعه في عرض من جعل في حقّه الصلاة التامّة كالحاضر و المسافر، دون العفو و الإغماض في مقام الامتثال و تقبّل ما ليس بمصداق له مكان ما هو المصداق.

فإن قلت: فما تقول في قاعدة الشكّ بعد المحلّ إذا أجريت في غير الخمسة من أجزاء الصلاة، ثمّ تبيّن بعد الدخول في الركن أو بعد الفراغ من الصلاة أنّه ما أتى بذلك الجزء الذي مضى عن محلّ تداركه بحكم القاعدة، فهل يحكم بصحّة صلاته أو لا؟ و على الأوّل كما هو المسلّم فهل المدرك إلّا قاعدة لا تعاد؟ و لهذا نفصّل بين ما

إذا اتّفق ذلك في الأركان و غيرها فنحكم بلزوم الإعادة في الأوّل دون الثاني، مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 445

أنّ عين الإشكال الذي أوردته على مسألة من شكّ في اللباس أنّه من غير المأكول و نحوه جار فيه حرفا بحرف.

قلت: فرق بين ما إذا ترك جزء أو شرط في المحلّ الموظّف له اعتمادا على أصل ظاهري، و بين ما إذا فرض أنّ الجزء ترك في محلّه الموظّف له نسيانا و حصل الالتفات الشكّي بعد ذلك المحلّ قبل انقضاء محلّ تداركه، فإنّه يصحّ للشارع أن يرفع عنه التدارك، و يجوز له المضيّ مع هذا الحال إلى أن ينقضي محلّ التدارك.

و بعبارة أخرى: يرخّص في جرّ ذلك النسيان المشكوك إلى انقضاء محلّ التدارك، فيكون كالنسيان المستوعب إلى ما بعد انقضائه في كونه محكوما بسقوط الجزئيّة عنه، فكأنّه قال له: جرّ نسيانك إلى ذلك المحلّ حتّى يتحقّق الفوت المستند إلى النسيان مع الدخول في الركن المتأخّر. أمّا الأوّل فلحصول سببه الخارجي، و أمّا الثاني فلتجويز الشرع، فالذي يستند إلى حكم الشارع تفويت محلّ التدارك، و أمّا أصل الترك فقد وقع مستندا إلى السهو أو النسيان في المحلّ.

فيكون محصّل حكم الشارع: أيّها الجاهل بأنّه هل هو آت بالجزء في محلّه أو غير آت به سهوا أو نسيانا أدخل في الركن و لا تعتن بهذا الشكّ، فإنّك لا تخلو عن أمرين، إمّا أن أتيت بالجزء و هو المطلوب، و إمّا أن لم تأت به نسيانا و المفروض أنّك دخلت في الركن بحكمي، فيجري في حقّك قاعدة لا تعاد.

و مثل هذا الحكم الظاهري لا بأس به، و يسلم عن الإشكال الوارد في الأصل الظاهري المجعول، للشكّ في الشرطيّة بالشبهة

الموضوعيّة، فإنّ جريان لا تعاد في مورد، مناف معه كما بيّناه، و هذا الأصل الظاهري الذي مفاده الرخصة في دخول الركن غير مناف معه، بل يمكن جريانه مع النظر إلى لا تعاد كما لو صرّح في العبارة بمثل العبارة التي قلنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 446

و بعبارة ثالثة: الأصل في ما نحن فيه مفاده نفي الدخالة في موضوع الشكّ في الدخالة، فلا يجتمع مع لسان الحديث الدالّ على نفي الدخالة، إذ لازمة اجتماع القطع و الشكّ معا، و أمّا في المثال فمفاد الأصل الترخيص في المضيّ في العمل عند الشكّ في الجزء القبل و أنّه هل سها عنه أو لا، و هذا يجتمع مع مفاد الحديث الدالّ على أنّه لا دخالة للجزء المنسيّ في صورة المضيّ إلى ما بعد الركن.

[الأمر] الثاني- في شمول القاعدة لكلّ من الزيادة و النقيصة:

هل العموم شامل لكلّ من الزيادة و النقيصة بناء على ما ذهب إليه الأصحاب من وجود الدليل على إبطال مطلق الزيادة؟

فنقول: ليس في الكلام لفظ الشي ء أو نحوه حتّى يدّعى انصرافه إلى الوجودي فيكون الزيادة لكونها عدميّة خارجة عن عمومه، بل المتعلّق محذوف، و مقتضاه العموم بالنسبة إلى كلّ مورد يتوهّم الإعادة، و هو أعمّ من الزيادة و النقيصة، فكأنّه قيل: لا تعاد الصلاة من خلل، سواء كان بإيجاد ما اعتبر عدمه أم بترك ما اعتبر إيجاده، هذا مقتضى الظاهر في المستثنى منه.

و أمّا المستثنى فيحتمل أن يكون المراد هو الركوع و السجود المعهودان، فيكون المراد أنّه تعاد الصلاة من خلل هذين، و هو نقصهما، و يحتمل أن يراد جنسهما أعني: تعاد من الخلل الناشئ من هذين المفهومين، سواء كان الخلل بإيجادهما أم بنقصهما، و الظاهر الأوّل، فلا يشمل المستثنى زيادتهما، فتكون داخلة في

المستثنى منه.

ثمّ بناء على مذهب الأصحاب يختلف النسبة بين هذا الحديث و أخبار مبطليّة الزيادة بناء على هذين الاحتمالين، فعلى الأوّل أعني دخول زيادة الركوع و السجود

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 447

في المستثنى منه يكون النسبة هي العموم من وجه بين هذا الحديث و قوله عليه السّلام:

من زاد فعليه الإعادة، و العموم المطلق بينه و بين قوله عليه السّلام: من استيقن أنّه زاد فعليه الإعادة، لاختصاص الأخير بالزيادة السهويّة و عموم الحديث لها و للنقصان.

و على الثاني أعني دخولها في المستثنى يكون النسبة بينه و بين الأوّل ما ذكر كما هو واضح، و بينه و بين الثاني هي العموم من وجه، لعدم التعارض في مادّتين، أعني النقيصة السهويّة مطلقا و الزيادة السهويّة في خصوص الركوع و السجود، و وجود التعارض في مادّة واحدة و هي الزيادة السهويّة في غيرهما، و فائدة العلم بالنسبة أنّه بناء على كونها العموم من وجه نحكم بتقدّم الحديث، لأجل الحكومة، و بناء على كونها العموم المطلق لا مساغ للحكومة كما هو واضح، هذا ما يؤخذ من كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه.

و قد استشكل فيه شيخنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه من وجهين:

الأوّل: حكمه بكون النسبة هي العموم المطلق على تقدير أخذ زيادة الركوع و السجود في المستثنى منه كما تقدّم استظهاره.

و الثاني: حكمه بالحكومة على تقدير كون النسبة هي العموم من وجه.

أمّا الإشكال من الجهة الأولى فمحصّله أنّه بعد ما قام الإجماع على خروج هاتين الزيادتين عن عموم المستثنى منه لا يبقى حجّية له، فإنّ موضوع الحجّية صورة عدم القطع، فيكون الحجّية مخصوصة بالزيادة في غيرهما، و ملاك المعارضة ليس هو المدلول الساذج، بل بمقدار الحجّية، و معلوم أنّه

بهذه الملاحظة تكون النسبة عموما من وجه، و لا يرد النقض بالعامّ و الخاصّين اللفظيّين كأكرم العلماء و لا تكرم العلماء البغداديّين و لا تكرم النحاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 448

وجه عدم الورود أنّ دليل الحجّية شامل للكلّ على نهج واحد، فلا وجه لتقديم أحد الخاصّين و تخصيص العامّ به ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ المخصّص و الخاصّ الآخر.

و هذا بخلاف الحال في ما إذا كان الدليل مثل الإجماع ممّا يفيد القطع، إذ لا حجّية للعامّ إلّا في ما عدا مورد القطع كما هو واضح.

و أمّا من الجهة الثانية فحاصله أنّا لا نعقل الحكومة بين لا تعاد و مضمون الخبرين الذي هو إيجاب الإعادة، نعم لو قام الدليل على نهي المصلّي عن إتيان الزيادة في الصلاة كان للحكومة وجه، و أمّا إذا أفيد المانعيّة بلسان نفي الإعادة فكلاهما في عرض واحد لا حكومة لأحدهما على الآخر.

ثمّ هذا كلّه بناء على مذهب الأصحاب في تفسير الزيادة و حمل قوله عليه السّلام:

من زاد، و قوله عليه السّلام: من استيقن أنّه زاد على إبطال زيادة الأجزاء مطلقا.

و أمّا بناء على ما تقدّم اختياره منّا من كون المراد بهما زيادة الركعة أو كونها المتيقّن منهما، فيسقط هذا البحث من أصله.

نعم لا بدّ من التمسّك بالإجماع في مبطليّة زيادة الركوع و السجود، إلّا أن يكون الركعة الواردة في بعض نسخ رواية من استيقن إلخ شاملة للركوع أيضا، فيكون خصوص زيادته مستفادة من الحديث المذكور، و معلوم أنّه خاصّ بالنسبة إلى دليل لا تعاد.

[الأمر] الثالث- عدم شمول الحديث للحالات المتأخّرة عن الحكم:

من جملة الأمور التي يسقط البحث عنها- بناء على ما تقدّم اختياره منّا في معنى لا تعاد من عدم شموله للحالات المتأخّرة عن الحكم إمّا للمانع

العقلي و إمّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 449

للزوم التصويب الباطل بالإجماع، بخلاف ما لو قلنا بالعموم و دعوى الانصراف إلى الحالات المتعلّقة بالموضوع، أو قلنا بأنّ الحالات المتأخّرة عن الحكم خارجة بالإجماع- هو البحث عن أنّ الذهول و العزوب عن الذهن يتصوّر على أنحاء:

لأنّه تارة يتعلّق بالموضوع كالحمد فقط، و أخرى بالمحمول أعني الوجوب إمّا بمصداقه أو بمفهومه، و ثالثة بإضافة المحمول إلى ذلك الموضوع، و رابعة: بالتجزّم بهذه الإضافة و النسبة الناقصة، و خامسة بما عدا الموضوع بتمامه.

فالقسم الأوّل أعني ما كان متعلّقا بصرف الموضوع لا إشكال في شمول الحديث له.

و أمّا باقي الصور فيمكن البحث بناء على القولين المذكورين، أعني خروج الحالات الحكميّة بالانصراف أو بالإجماع في أنّ الانصراف أو الإجماع إنّما هما بالنسبة إلى خصوص الأخير، أعني: من ذهل عن ذهنه الحكم بشراشره، لا خصوص مفهوم الوجوب بحيث لو التفت إليه لحصلت النسبة الجزميّة في ذهنه أو شخصه كذلك، أو النسبة الناقصة بينه و بين الموضوع كذلك.

و أمّا بناء على ما اخترناه من خروج جميع حالات الحكم بالمخرج العقلي أو لزوم التصويب فيسقط هذا البحث عن أصله، لوضوح اشتراك الكلّ في لزوم المحذور العقلي أو لزوم التصويب الباطل، كما هو واضح.

[الأمر] الرابع: لو علم بعد الفراغ من الصلاة أنّه ترك الحمد مثلا فيها،

و لكن يشكّ أنّه هل تركها عمدا أو سهوا فلا إشكال في عدم صحّة التمسّك بحديث لا تعاد، لكونه شبهة مصداقيّة بناء على ما ذكرنا من انصرافه عن العمد، و هل يجوز التمسّك بقاعدة الشكّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 450

بعد الفراغ، أو بأصالة الصحّة بتقريب أنّه لو كان الترك سهوا كان العمل صحيحا، لعدم دخالة الحمد فيه واقعا كما مرّ، بخلاف ما لو كان عن عمد، فمقتضى

الأصلين هو الحمل على الوقوع السهوي؟ الظاهر العدم.

أمّا الأوّل: فلأجل أنّ مقتضى التعليل بكونه حين العمل أذكر، معناه أنّه ذاكر حين العمل، و بعد الذكر آت بكلّ شي ء منه في محلّه، فلا يشمل ما نحن فيه، إذ اللازم منه الحمل على البطلان على تقدير الذكر، للقطع بأصل الترك، و إنّما الشكّ في الاستناد إلى أيّ الأمرين.

و أمّا الثاني: فمقتضى الأصل العقلائي و إن كان عدم الوقوع العمدي، و لكن ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على السهو مع أنّه خلاف أصالة عدم السهو التي هي أيضا من الأصول العقلائيّة محلّ إشكال أو منع.

[الأمر] الخامس- حكم الجهر موضع الإخفات و الإتمام موضع القصر:
اشارة

قد مرّ أنّ سقوط الإعادة و القضاء في حقّ ناسي الحكم و جاهله لا يستفاد من الحديث و أنّ الأصل الأوّلي الذي هو البطلان بالنسبة إليهما باق بحاله، و لكن خرج عن هذا الأصل الناسي و الجاهل بالحكم في مسألتين:

إحداهما: من أجهر في موضع لا ينبغي الإجهار فيه، أو أخفت في موضع لا ينبغي الإخفات فيه.

ثانيهما: من أتمّ الصلاة في موضع القصر، فإنّ الناسي و الجاهل فيهما معذوران من حيث الإعادة و القضاء على ما هو المعروف بينهم رضوان اللّٰه عليهم من غير فرق بين الجاهل و القاصر و المقصّر إلّا في العقاب، فيحكم بثبوته في الثاني دون الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 451

[الموضع] الأوّل: في التكلّم في مسألة من أجهر في ما لا ينبغي الإجهار، أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء، و فيه مقامان من الكلام:
[المقام] الأوّل: في رفع الإشكال العقلي الوارد في المقام

من حيث اجتماع العقاب مع الإجزاء عن الإعادة في حقّ الجاهل المقصّر، مع أنّ مقتضى القاعدة أنّه لو علم المسألة و الوقت باق يحكم عليه بالإعادة و يسقط العقاب، لتحقّق الإطاعة، فالحكم بالإجزاء و إسقاط الإعادة عنه مع إيراد العقاب ممّا لا يجتمعان.

و [المقام] الثاني: في التكلّم في دليل المسألتين
اشارة

من الأخبار و النظر في مقدار دلالتها.

و لنقدّم الكلام في الثاني فنقول و على اللّٰه التوكّل: الدليل في المسألة الأولى صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه و أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه «فقال عليه السّلام: أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته و عليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا، أو لا يدري فلا شي ء عليه و قد تمّت صلاته» «1».

و بسط الكلام في مدلول الصحيحة يقتضي تمهيد أبحاث:

[البحث] الأوّل:

لا يخفى أنّ كلمة «ذلك» في الموضعين إشارة إلى ما ذكر في السؤال من الجهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، و الإخفاء في ما لا ينبغي الإخفاء فيه، فكأنّه قال عليه السّلام: إن أجهر في ما لا ينبغي إلخ، أو أخفى في ما لا ينبغي إلخ متعمّدا فعليه الإعادة، و إن فعل ذلك ناسيا إلخ، و حينئذ فيحتمل أن يراد بالموصول الصلاة و أن يراد الأعمّ منها و من الأجزاء.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب الخلل القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 452

و يظهر الثمر في التسبيحات الأربع، فعلى الثاني يدخل الإخلال فيها في العموم دون الأوّل، فإنّ الصلاة الجهريّة و الإخفاتيّة إنّما يلاحظ اتّصافها بهاتين بملاحظة الركعتين الأوليين، فالإجهار في الصلاة الإخفاتيّة عبارة عن الإجهار بالقراءة في ركعتيها الأوليين، و هكذا العكس، و الظاهر من هذين هو الثاني، فإنّ الشائع المتعارف في لسان الأخبار جعل الإخفات و الإجهار صفتين للصلاة لا لأجزائها.

ثمّ بعد هذا أيضا هنا احتمالان، الأوّل: أن يراد بالموصول الكناية و الإشارة إلى الصلاة الخارجيّة المعنونة، فكأنّه قيل: إن أجهر في صلاة الظهر

أو أخفى في صلاة العشاء، و الثاني: أن يراد به نفس العنوان المذكور.

و يظهر الثمر في المأموم المسبوق، حيث إنّ صلاة العشاء بالنسبة إليه إخفاتيّة، فعلى الثاني يدخل الإخلال بذلك في العموم، و على الأوّل لا يدخل، كما هو واضح، و الظاهر من هذين هو الأوّل، لشيوع إطلاق الجهريّة و الإخفاتيّة في الأشخاص الخاصّة، و صار ذلك إمّا بمثابة يوجب الانصراف إليها عند الإطلاق، أو يوجب الإجمال و عدم الإطلاق بالنسبة إلى غيرها، و على كلّ حال لا يجوز التمسّك في المأموم المسبوق.

ثمّ على تقدير الاحتمال الثاني أعني إرادة العنوان المذكور من حيث نفسه حتّى يشمل المأموم المسبوق فالظاهر كون عدم الانبغاء مأخوذا من كيفيّات الصلاة و راجعا إليها، فلا يشمل ما إذا كان ذلك لأجل جهة خارجة عن الصلاة مثل وجوب إخفاء الصوت على المرأة في مسمع الأجنبي إمّا لأجل كون صوتها عورة، أو لوجود الريبة، أو وجوب إخفائه للخوف من العدوّ على نفسه عند الإجهار، فلو أجهر في الموضعين فالظاهر عدم دخوله في العبارة، بل هو من مصاديق اجتماع الحرام و الواجب، و لا بدّ من أن نتكلّم فيه على قاعدة ذلك الباب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 453

البحث الثاني:

لا يخفى أنّ التعمّد بالعنوان المذكور أعني: الإجهار في ما لا ينبغي و الإخفات كذلك يحتاج إلى العلم بالموضوع و حكمه، فلو غفل أو جهل في واحد منهما أو كليهما لا يصدق عليه عنوان المتعمّد، كمن غفل عن كون هذه الصلاة ظهرا و تخيّلها عشاء، أو التفت إلى كونها ظهرا، لكن سها أنّ حكمها الإخفات، ففي الصورتين لا يصدق أنّه عامد في إتيان العنوان المذكور، كما هو واضح.

و الظاهر أنّ قوله عليه السّلام في

ذيل الصحيحة: فإن فعل ذلك ناسيا إلخ بيان لمصاديق مفهوم المتعمّد، فالمعيار كلّ من لا يدخل تحت عنوان المتعمّد، و هو أفراد، الناسي للموضوع، و الساهي فيه، و الجاهل به بسيطا أو مركّبا، و كذلك الناسي و الساهي و الجاهل بقسميه في الحكم.

فمقتضى الأخذ بمدلول الكلام لغة هو الحكم بالمعذوريّة في جميع هذه الأقسام، لكن مقتضى التأمّل خروج الجهل البسيط و هو الشكّ و الترديد، سواء تعلّق بالموضوع أم بالحكم عن العموم، و إن كان يمكن فرض قصد القربة فيه على تقدير العموم، بأن يلتفت إلى هذا الحكم المجعول في حقّه و يقصد الأمر المتوجّه إليه، لكن لا يمكن للإنسان الجزم باستفادة تصحيح الصلاة بالنسبة إلى المردّد الشاكّ من الرواية و إن كان اللفظ شاملا له لغة، لصدق عنوان لا يدري عليه، و عدم صدق عنوان المتعمّد عليه، لتوقّفه على العلم و الالتفات بثبوت العنوان في الفعل من غير فرق بين ما قبل الفحص و ما بعده، بل شمول عنوان لا يدري للأوّل بحسب اللغة أيضا محلّ إشكال.

نعم بعد استقرار الشكّ و الفحص عن مظانّه يصدق عليه بحسب اللغة، و لكن في مشموليّته لحكم الصحّة و التماميّة المذكورة في الرواية محلّ تأمّل، فيبقى الجهل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 454

المركّب سواء المتعلّق منه بالموضوع أم بالحكم سواء نشأ عن التقصير في المقدّمات أم عن القصور، ففي الأولى نحكم بتماميّة صلاته مع استحقاق العقوبة من جهة تقصيره.

فإن قلت: كما أنّك جعلت قوله: تمّت صلاته في بعض الأخبار قرينة على عدم الشمول للأحوال اللاحقة للحكم في حديث لا تعاد، فلم لا تجعله هنا قرينة على الاختصاص بالموضوعيّة؟

قلت: دعوى الاختصاص هنا بالموضوعيّة يكاد يكون مصادمة مع النصّ،

أو كالنصّ، فإنّ عموم قوله عليه السّلام: «لا يدري» للجاهل بحكم عدم الانبغاء أظهر و كالقدر المتيقّن، بحيث لا يمكن إخراج هذا الفرد عن تحته، نعم يبقى جمعه مع كلمة «تمّت صلاته» و رفع إشكاله العقلي، فإذا صحّحناه و رفعنا إشكاله كان الأخذ به متعيّنا.

البحث الثالث:

الجهل المركّب تارة يتصوّر بالنسبة إلى الموضوع، و أخرى بالنسبة إلى الحكم، و مثالهما واضح، و ثالثة بالنسبة إلى عنواني الجهر و الإخفات و تحديد مفهومهما، فاشتبه في ذلك فتخيّل أنّ بعض مصاديق الجهر مثلا إخفات، مع علمه بأنّ الصلاة ظهر و أنّ الظهر إخفاتيّة، و لا يخفى أنّه غير داخل في عنوان المتعمّد للعنوان المذكور، أعني: الجهر في ما لا ينبغي و إن كان عامدا في ذات العمل، لكن بعنوان كونه جهرا في ما لا ينبغي ليس من مصاديق العمد، فيكون داخلا في عنوان «لا يدري».

البحث الرابع- لو تذكّر الإخلال بالجهر أو الإخفات في أثناء القراءة:

لا إشكال في الصحّة لو تذكّر أو تنبّه بعد مضيّ محلّ التدارك أو بعد الفراغ من الصلاة، و لو تذكّر أو تنبّه في أثناء القراءة أو بعدها قبل الركوع فهل يجب عليه التدارك، أو يحكم بالصحّة؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 455

فتارة نتكلّم على حسب القاعدة بعد ورود الدليل على عدم الإعادة في الإخلال السهوي و أخويه، و أخرى على حسب ما يقتضيه ظاهر الصحيحة التي هي من النصّ الخاصّ في المقام.

أمّا الأوّل: فنقول و على اللّٰه التوكّل: مقتضى القاعدة هو الفرق بين ما لو اعتبر الجهر و الإخفات في موضعهما في عرض القراءة في الصلاة، و بين ما لو اعتبرا قيدين في نفس القراءة المعتبرة.

فعلى الأوّل نحكم بالصحّة، لعدم إمكان التدارك، و المفروض وجود الدليل على أنّ الترك السهوي و نحوه غير مضرّ، وجه عدم الإمكان أنّ المفروض أنّ محلّ اعتبار الجهر مثلا في الصلاة هو القراءة التي اعتبرت في الصلاة، و المفروض أنّها اعتبرت طبيعة الحمد بصرف وجودها، و قد حصلت و لا يمكن تكرارها.

و على الثاني نحكم بلزوم التدارك، لأنّ المحلّ باق، إذ المفروض أنّ

الحمد الخاصّ جزء للصلاة، و لم يحصل بعد، و لا حصل الدخول في الركن المتأخّر، هذا على حسب ما يقتضيه القاعدة.

و أمّا ما يستظهر من الصحيحة فهو الصحّة و عدم لزوم التدارك لوجهين:

الأوّل: استظهار أنّ اعتبار الجهر و الإخفات يكون على النحو الأوّل من النحوين السابقين، و ذلك بملاحظة حكمة عليه السّلام في صورة العمد بأنّ الإجهار في ما لا ينبغي و الإخفاء في ما لا ينبغي نقص في الصلاة، و معلوم أنّه لو كان الاعتبار على النحو الآخر فكان الحمد المقيّد معتبرا في الصلاة لا يلزم من إتيان الحمد المقيّد بالضدّ نقصان في الصلاة، بل لا يخلو إمّا أن يكون وجود هذا المقيّد بالضدّ مضرّا و مانعا، أو لا، فعلى الأوّل بطلت الصلاة، لكن لا لأجل النقيصة، بل للزيادة، و على الثاني لم تبطل الصلاة، بل وجب عليه ما لم يركع الإتيان بالحمد الخاصّ المعتبر،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 456

فحيث حكم بمجرّد إتيان الجهر في ما لا ينبغي بحصول النقصان دلّ على أنّ نحو الاعتبار في الصلاة يكون على الأوّل من الوجهين السابقين، و عرفت أنّ لازمة الصحّة في طرف السهو و أخويه، لوجود الدليل على إيجابهما عدم مضرّية الإخلال بالجهر و الإخفاء، هذا على تقدير قراءة قوله «نقص» بالصاد المهملة.

و أمّا على تقدير كونه بالمعجمة فيمكن استظهار ذلك أيضا، بملاحظة أنّ الظاهر أنّ جهة النقض هو هذا العمل، أعني: الجهر مكان الإخفاء أو العكس، و هذا مناسب مع الاعتبار الأوّل، و مناسب الثاني أن يقال: فقد أتى بشي ء زائد، أعني:

الحمد الإخفاتي في العشاء مثلا و أورث ذلك نقض الصلاة.

و الوجه الثاني: أنّ العامد حكم عليه بالإبطال حين صدور العنوان المذكور بلا انتظار

للدخول في الركن، و قرينة المقابلة تقتضي أن يكون حكمه بتمام الصلاة في جانب الناسي و أخويه أيضا هكذا، أعني: أنّه لا ينتظر فيه شي ء.

و القول بأنّ التقييد بذلك غير محتاج إليه، لأنّ مفروض الكلام حصول العمل من المصلّي الذي يرتكب ذلك في صلاته بدون التدارك في محلّه، مدفوع بأنّه ليس في الكلام ما يدلّ على هذا المعنى، و هل فرق بين قوله عليه السّلام: من تكلّم في صلاته عمدا فقد نقض صلاته، و بين قوله عليه السّلام: من جهر في صلاته في ما لا ينبغي الجهر متعمّدا فقد نقض صلاته، فإنّه في قوّة قولنا: من قرأ الحمد للّٰه ربّ العالمين جهرا في ما لا ينبغي الجهر فقد نقص صلاته، و لا إشكال في ظهوره في البطلان من حين الحصول، لا متأخّرا من الدخول في الركن، هذا تمام الكلام في بيان كمّية مدلول الصحيحة.

بقي الكلام في رفع الإشكال العقلي المتوجّه من جهتين:

إحداهما: أنّ لازم الحكم بالصحّة في حقّ جاهل الحكم و ناسية التقييد في الحكم الواقعي بالعالم الملتفت إليه، و هو دور صريح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 457

و الأخرى: بعد رفع الدور و فرض إمكان التقييد كيف يتعقّل استحقاق العقوبة في حقّ الجاهل المقصّر على المخالفة لأمر «صلّ» كما قام عليه الإجماع، مع أنّ المفروض صحّة صلاته كما هو نصّ الصحيحة و قام عليه الإجماع أيضا، و معناها موافقة الأمر المذكور، فكيف يصحّ اجتماع المخالفة و الموافقة حتّى يصحّ اجتماع الاستحقاق و الصحّة.

و من هنا يعلم أنّ الإجزاء بمعنى تفويت الموضوع غير متمشّ هنا، بأن يقال:

إنّ وجه استحقاقه أنّه فوّت المصلحة الواقعيّة بتفويت المحلّ عن قابليّة استيفائها، فلا يجب عليه الإعادة، لعدم الفائدة مع

كونه مستحقّا للعقوبة، إذ المفروض في المقام حصول الموافقة و الامتثال، فسقوط الأمر عنه بتحقّق متعلّقه لا بتفويت موضوعه.

نعم يمكن تصوير مصلحتين ملزمتين، إحداهما قائمة بالطبيعة المرسلة، و الأخرى بالمقيّدة، لكن كان محلّ القيد صرف وجود تلك الطبيعة الحاصل في ضمن أوّل وجودها دون الثاني و ما بعده، فيجب على الآمر أن يخصّ مورد أمره بالمقيّدة، لأنّه لو علّقه على المطلقة أوجب إتيانها في ضمن الفاقدة للقيد، و ذلك موجب لتفويت المحلّ بالنسبة إلى المصلحة الملزمة الأخرى، و لكن لو أتى المأمور بالطبيعة في ضمن الفرد الفاقد بداعي الجهة الموجودة فيه كفى في عباديّته، لما تقرّر في مبحث الضدّ من كفاية الجهة في العبادة.

و على هذا فإطلاق الصحّة يكون بهذه الملاحظة، و الاستحقاق بملاحظة تفويت المحلّ للمصلحة الملزمة الأخرى، لكن هذا الوجه يستلزم عدم الفرق بين العامد و غيره في الحكم بالصحّة، و هو خلاف ما نصّ عليه الصحيحة و قام عليه الإجماع من التفرقة بينها بالفساد فيه، و الصحّة في غيره.

فلا بدّ من الالتزام بأنّ قيام المصلحة الملزمة بالطبيعة المرسلة ليس على وجه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 458

الإطلاق حتّى في حقّ العامد، بل مشروط بطروّ الجهل و النسيان، و معه يصحّ التفرقة و يرتفع الإشكال العقلي بحذافيره.

و لا يلزم من ذلك اختلاف حكم اللّٰه في حقّ العالمين و الجاهلين الذي هو التصويب الممنوع إجماعا، إذ المفروض اختصاص التكليف و الحكم بالطبيعة المقيّدة، و هو مستوي النسبة إلى العالم و غيره، و الموجود في الطبيعة المطلقة مجرّد الملاك و الجهة، و لا ينافيه الحكم بتماميّة الصلاة، إذ لا دلالة في هذا التعبير على وجود الأمر الفعلي، و على فرض تصوير الأمر و لو

بنحو الترتّب نقول: إنّ ما ذكرنا من قبيل النكات بعد الوقوع، فإنّ المطلب من المسلّمات بين الأصحاب، و التكلّم إنّما هو في وجه تصويره العقلي.

فإن قلت: فلم لا نقول بمثل هاتين المصلحتين في تصوير عموم حديث لا تعاد للشبهات الحكميّة مع أنّك سلّمت خلوّه عن المحذور العقلي و عن التصويب، لفرض عدم التكليف و كفاية الجهة في الصحّة.

قلت: وجهه كون هذا أيضا خلاف الظاهر الأوّلي في: تمّت صلاته، الذي هو العرضيّة مع العامد العالم، و إنّما اخترنا هنا ما قلنا، لصراحة قوله عليه السّلام: «لا يدري» في الصحيحة في شمول الشبهة الحكميّة، مضافا إلى قيام الإجماع، و من المعلوم أنّه لا يمكن رفع اليد عن القطع بواسطة الظهور.

الموضع الثاني- من أتمّ في موضع القصر جهلا بالحكم:
اشارة

في التكلّم في مسألة من أتمّ في موضع القصر جهلا بالحكم، و الأشهر الصحّة، و يدلّ عليه ما روى الصدوق عطّر اللّٰه مرقده في الصحيح عن زرارة و محمّد بن مسلم أنّهما «قالا: قلنا لأبي جعفر عليهما السّلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي و كم هي؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 459

فقال عليه السّلام: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ فصار القصر في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر، قالا:

قلنا: إنّما قال اللّٰه عزّ و جلّ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ، و لم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه السّلام: أ و ليس قد قال اللّٰه عزّ و جلّ إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض، لأنّ اللّٰه عزّ و

جلّ ذكره في كتابه و صنعه نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله، و كذلك التقصير شي ء صنعه النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و ذكره اللّٰه في كتابه، قالا: قلنا:

فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال عليه السّلام: إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه» «1».

لا يخفى أنّ قوله عليه السّلام في الفقرة الأولى من الجواب عن السؤال الثالث: إن قرئت عليه آية التقصير إلخ شامل لناسي الموضوع و لناسي الحكم، و أمّا العالم الملتفت إلى الموضوع و الحكم معا فربما يقال بأنّه منصرف عنه، لندرته في الغاية، إلّا إذا كان من المعاندين.

و على هذا فالكلام في قوّة قولنا: إذا صلّى أربعا ناسيا أو ساهيا للحكم أو الموضوع أعاد.

و ربما يمنع الانصراف و يقال: لا يبعد أن يكون العامد داخلا في محطّ النظر بملاحظة شيوع ذلك من المخالفين القائلين بجواز الإتمام في السفر، مع كونهم قد سمعوا

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2، و أورد ذيله في الحديث 4 من الباب 17 من هذه الأبواب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 460

تفسير الآية من أئمّتنا عليهم السّلام، و بالجملة فوقوع ذلك منهم يوجب استيناس الذهن بهذا الفرد، بل ربما يقال: إنّ الكلام مشتمل على التعريض بهم، فالقرينة المقاميّة شاهدة على عموم الكلام للعامد.

و يظهر الثمر بين الوجهين في أنّه على التقدير الثاني و هو العموم بالنسبة إلى العامد يكون قوله عليه السّلام: أعاد، كالنصّ في البطلان، إذ يبعد غاية البعد إرادة القضاء في خارج الوقت دون الإعادة فيه مع فرض

كونه عالما شاعرا بالحكم و الموضوع معا.

و على التقدير الأوّل و هو الانصراف إلى الناسي و الساهي للحكم أو الموضوع يكون ظاهرا في البطلان بواسطة الإطلاق، حيث لم يقيّد الإعادة بخارج الوقت، فيشمل الإعادة في الوقت.

و حينئذ فنقول: بحكم المقابلة بين الصدر و الذيل يكون المراد بالإعادة المنفيّة في الذيل عين ما أريد بالإعادة المثبتة في الصدر، فعلى تقدير العموم للعامد تكون الرواية صريحة في نفي الإعادة في الوقت بالنسبة إلى الجاهل بالحكم، و على احتمال الاختصاص بغيره تكون ظاهرة بالإطلاق في نفي الإعادة في الوقت عنه.

و حينئذ فالنسبة بين هذه الرواية و الرواية المفصّلة بين الوقت و خارجه بإثبات الإعادة فيه و نفيها في خارجه في من صلّى أربعا في السفر كالرواية العامّة الواردة بإثبات الإعادة فيه من غير تفصيل بين الوقت و خارجه هي العموم و الخصوص المطلقان بناء على العموم للعامد، لأنّ هذه الرواية بذيلها في قوّة رواية مستقلّة واردة بمضمون أنّ من صلّى أربعا جهلا بالحكم فلا إعادة عليه في الوقت، و تلك الرواية المثبتة للإعادة في الوقت عامّة للجاهل المذكور و غيره.

و أمّا بناء على الاختصاص بغيره فالنسبة بين هذا الذيل و بين الرواية المفصّلة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 461

المذكورة هي العموم من وجه، و ذلك لاختصاص كلّ منهما من جهة، و عمومه من أخرى.

أمّا ذيل هذه الرواية فجهة اختصاصه أنّه قد ذكر فيه الجاهل دون غيره، و تلك عامّ له و لغيره، و جهة عمومه أنّه قد ذكر فيه نفي الإعادة بلا تقييد بالوقت و خارجه، و تلك خاصّة بإثبات الإعادة في الوقت.

فهنا موردان لا تعارض بينهما فيهما، و مورد واحد يتعارضان فيه، فلا تعارض بينهما في

الناسي مطلقا، و في الجاهل في خارج الوقت، و مورد التعارض هو الجاهل في داخل الوقت، هذا.

و الحقّ أن يقال باختصاص مورد صحيحة زرارة بالعامد، إذ فرق بين أن يسأل ابتداء عن حكم من صلّى في السفر أربعا فيصحّ دعوى انصرافه إلى غير العمد، و بين مسبوقيّته بمثل سؤال زرارة و محمّد بن مسلم عن حكم الصلاة في السفر كيف هي و كم هي، و جواب الإمام عليه السّلام بآية وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ الآية ثمّ سؤالهما عن أنّه قال تعالى: لا جناح، و لم يقل: افعلوا، فكيف يستفاد منه حكم الوجوب، و جوابه عليه السّلام بآية مثل آية فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا حيث إنّ الطواف واجب، لفعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و ذكره في الكتاب، فكذا هنا أيضا، لذكر الكتاب و فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله.

فالسؤال الثالث متفرّع على هذا الجواب، فإنّه حيث أجاب بأنّ جهة وجوبه فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله لم يفهم الراويان أنّ جهة الوجوب هل هو من جهة صرف اتّباع النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله تكليفا، فهو واجب في واجب، فلو تركه أحد كان عاصيا من جهة تركه متابعة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، لا من جهة مخالفة تكليف صلّ، أو أنّ فعله صلّى اللّٰه عليه و آله صار سببا للإيجاب الوضعي أيضا، بحيث لو تركه أحد كان تاركا للصلاة أيضا، لفساد صلاته،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 462

فأجاب عليه السّلام بالتفصيل بين العالم و الجاهل و أنّ هذا الشخص الذي فرضتم أنّه أتى بالصلاة أربعا في السفر إن كان جاهلا بالحكم فصلاته مجزية، و إن

كان عالما فغير مجزية.

و الذي يدلّ على التفريع المذكور مضافا إلى شهادة ترتيب أجزاء الكلام و السؤال و الجواب هو الإتيان بكلمة الفاء الدالّة على التفريع في قول السائلين: فمن صلّى في السفر أربعا، حيث إنّ الكلام معه في قوّة قولنا بناء على ما ذكرتم من إيجابيّة القصر و كونه عزيمة لا رخصة، فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا، و لا يخفى ظهوره في ما ذكرنا.

و على هذا فمعنى قوله عليه السّلام في حقّ من قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له:

عليه الإعادة، فساد الصلاة و عدم إجزائها، و لازمة الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه، فكأنّه قال: قد بقي تحت عهدة التكليف الصلاتي، و ليس الحكم بالقضاء إلّا من باب دليل القضاء، لا لأنّه داخل في إطلاق مفهوم لفظة الإعادة حتّى يقال بأنّ المراد بنفيها في الذيل أيضا نفي هذا المفهوم الجامع بين الفردين.

فإذا ورد دليل مثبت بعمومه في الجاهل بالحكم الإعادة في الوقت كان النسبة عموما من وجه، بل المستفاد عرفا من إثبات الإعادة و نفيها هو البطلان و عدمه، بحيث يكون إرادة مفهومها اللغوي الجامع باردا، و إذن فالنسبة بين هذه الصحيحة و بين الدليل المذكور هي العموم المطلق.

و تفصيل الكلام أنّ الذي ربما يتوهّم معارضته للصحيحة المزبورة روايتان:

إحداهما: صحيحة الحلبي «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: صلّيت الظهر أربع ركعات و أنا في سفر؟ قال عليه السّلام: أعد» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 463

و الأخرى: صحيحة العيص عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن رجل صلّى و هو مسافر فأتمّ الصلاة، قال

عليه السّلام: إن كان في وقت فليعد، و إن كان الوقت قد مضى فلا» «1».

أمّا الأولى: فمعارضتها للصحيحة المزبورة مبنيّة على عموم الجواب لصورة الجهل الحكمي، و لا يخفى بعده عن جلالة قدر السائل الذي فرض وقوع ذلك في حقّ نفسه و هو الحلبي الذي هو من أجلّة الرواة، و جهله بمثل هذا الحكم في غاية الغرابة و البعد، فالرواية مخصوصة بحال السهو و النسيان، فلا يرتبط بما نحن فيه، و على فرض العموم حالها حال الصحيحة الثانية.

و أمّا الثانية: فلا يخفى أنّ قوله عليه السّلام: إن كان في وقت إلخ إمّا يحمل على ملاحظة التفصيل المذكور بالإضافة إلى حال فراغه من الصلاة حتّى يكون المراد من الشقّ الثاني صورة إتيانه بالصلاة في الجزء الأخير من الوقت بحيث يمضي الوقت بفراغه.

و إمّا يحمل على ملاحظته بالإضافة إلى تذكّره و تنبّهه، يعني أنّه حينما يتذكّر إمّا أن يكون في وقت، و إمّا أنّ الوقت قد مضى.

و لا يخفى ظهور الثاني لو لم نقل بنصوصيّته، و حينئذ فاللازم حمل الكلام على وقوع ذلك منه على جهة الغفلة و النسيان و نحوهما، فإمّا يدّعى لأجل ذلك الانصراف إلى خصوص الناسي، فلا معارضة كالأولى، و إمّا يقال بالعموم للجاهل بالحكم، فاللازم تقديم الصحيحة، لأجل كونها أخصّ مطلقا من هذه.

مضافا إلى أنّ اللازم سقوط التفصيل بين العلم و الجهل على تقدير تقديم هذه،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 464

إذ الجهل بناء على هذا لا خصوصيّة فيه، بل ما سوى العمد حكمه كلّية هو الإعادة في الوقت دون خارجه، مع أنّ الصحيحة نصّ في التفصيل بين العالم بالحكم و جاهله،

فهذه جهة أخرى لتقديم الصحيحة المزبورة غير جهة العموم المطلق، و إذن فتعيّن كون الحكم في الجاهل بالحكم في مسألة من أتمّ في مقام القصر هو الإجزاء و عدم الإعادة، لا في الوقت و لا في خارجه.

بقي هنا أمور ينبغي التنبيه عليها:
الأوّل: الظاهر أنّ الجواب عن الإشكال العقلي هنا ليس على نسقه في الجاهل الحكمي

في المسألة الاولى، و ذلك لأنّ الموجود هناك هو القول بتماميّة الصلاة، و ليس في هذا المقام أزيد من عدم الإعادة، و ليس مفاده بأزيد من الإجزاء و عدم البطلان، و هو غير الصحّة و التماميّة، فلا داعي هنا إلى تصوير المصلحتين الطوليتين كما كان هناك، بل يمكن تصوير الإجزاء مع وحدة المصلحة الواقعيّة، و لكن كان الفعل الصادر من الجاهل مفوّتا لموضوعها، بحيث لا يمكن استيفاء المصلحة بالإعادة أو القضاء، فلا يلزم دور كما هو واضح، و يصحّ الحكم بعقوبة الجاهل المقصّر و سقوط الإعادة عنه في الوقت و خارجه.

الثاني- معنى الجهل بالحكم:

الجاهل تارة يكون جهله بأصل حكم القصر في السفر، و أخرى يكون بمفهوم السفر بعد العلم بأصل الحكم، بأن تخيّل أنّ مفهوم السفر غير متحقّق إلّا بعشرة فراسخ، أو تخيّل عدم تحقّقه في أربع فراسخ مع قصد الرجوع ليومه و نحو ذلك، و ثالثة يكون بموضوع السفر، كأن تخيّل أنّ المسافة إلى المكان الفلاني أقلّ من ثمانية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 465

و كان واقعا ثمانية أو أزيد، فهل الحكم بعدم الإعادة عامّ للجميع أو خاصّ بالبعض؟

لا إشكال في دخول الأوّل، كما لا إشكال في خروج الأخير، فلا بدّ من المشي فيه على القواعد.

و أمّا الوسط فربما يقال بأنّ قوله عليه السّلام: و لم يعلمها، شامل له، فإنّ تفسير قوله تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ «1» الآية. كما يحتاج إلى فهم المراد من الجزاء أعني: فليس عليكم جناح، كذلك يحتاج إلى فهم الشرط و هو الضرب في الأرض، فأيّ الأمرين لم يعلم يصدق عليه قوله عليه السّلام: و لم يعلمها، و لكنّ الظاهر بملاحظة صدر الصحيحة كون المراد هو

العلم و الجهل بخصوص المراد من، ليس عليكم جناح، و أنّه الوجوب، لا ما يوهمه ظاهر لفظه من الترخيص، فيكون الجاهل بغير ذلك من سائر الكيفيّات خارجا عن مصبّ الكلام، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام و أمنائه العظام عليهم السّلام.

الثالث- عدم معذوريّة القصر في موضع الإتمام:

قد عرفت حكم من أتمّ في موضع القصر جهلا، و أمّا من قصّر في موضع الإتمام فالمشهور على ما نسب إليهم عدم المعذوريّة، سواء كان نسيانا للموضوع أو الحكم، أو جهلا بالحكم، كما لو لم يعلم أنّ العازم على إقامة العشرة يجب عليه الإتمام، أو نسيه، أو نسي عزمه فقصّر.

خلافا للشيخ نجيب الدين بن سعيد في الجامع، حيث نفى عنه الإعادة، و استدلّ عليه في خصوص صورة الجهل بصحيحة منصور بن حازم عن

______________________________

(1) النساء: 101.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 466

أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام بها عشرة فأتمّ الصلاة، فإن تركه رجل جاهلا فليس عليه الإعادة» «1».

و بما رواه الشيخ بسند صحيح و الصدوق بأسانيد صحاح كلّها عن محمّد بن إسحاق الثقة عن أبي الحسن عليه السّلام «قال: سألته عن امرأة كانت معنا في السفر و كانت تصلّي المغرب ركعتين ذاهبة و جائية؟ قال عليه السّلام: ليس عليها قضاء» «2»، أو ليس عليها إعادة، على اختلاف الروايات.

و حقّ الكلام في المقام أن يقال: إنّ هاتين الروايتين ليستا بمثابة الرواية السابقة في عكس المسألة، حيث قلنا: إنّ نفي الإعادة فيها كالنصّ في إرادة نفي الإعادة في الوقت، بمعنى كون الصلاة مجزية في مقابل إثبات الإعادة الراجع إلى بقائه تحت أمر «صلّ».

وجه الفرق أمّا في الرواية الثانية فواضح، حيث إنّ مفروض الكلام انقضاء الوقت، فالمقصود من نفي الإعادة نفي القضاء.

و

أمّا في الأولى: فللفرق بين قولنا: من صلّى قصرا في موضع التمام جهلا فلا إعادة عليه، و بين قولنا: الذي يزمع الإقامة يجب عليه الإتمام، فمن تركه جهلا فلا إعادة عليه.

فالظاهر من الأوّل لو لم يكن صريحه هو نفي الإعادة في الوقت و الإجزاء عن أمر «صلّ» الموجود في الوقت.

و أمّا الثاني فتعبير الترك نظير تعبير الفوت، غاية الأمر اعتبار وجود

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 467

المقتضي في الثاني دون الأوّل، فكما أنّ الفوت لا يتحقّق إلّا بعد خروج الوقت فلا يقال لمن لم يمض عليه الوقت و لو قصّر الصلاة: إنّه قد فات منك الإتمام الذي هو تكليفك، فكذا لا يقال له: إنّك تركت وظيفتك و هو الإتمام، بل يقال: فعلك خلاف الوظيفة، و إنّما يطلق ترك الوظيفة إذا مضى عليه الوقت مقتصرا على الفعل المذكور.

فإن قلت: لعلّ الإطلاق المزبور من قبيل إطلاق الترك بالنسبة إلى الركوع أو الجهر إذا تركهما المصلّي في موضعهما و لو لم يمض عليه الوقت، فهاهنا أيضا يصحّ بملاحظة ترك الركعتين الأخيرتين، لأنّه لم يأت بهما في محلّهما من الصلاة الشخصيّة.

قلت: ليس المنظور في الرواية صلاة شخصيّة حتّى يقال: تركت إتمامها، بل المنظور إتمام الصلاة الكلّية الذي هو محطّ التكليف، و لا شكّ أنّ الترك إذا نسب إلى هذا المفهوم الكلّي فمعناه تركه في مجموع الوقت المضروب له.

نعم ليس للعبارة عموم بالنسبة إلى الترك الرأسي الغير المجامع مع فعل الصلاة المقصورة، بل المتبادر منها ترك الصلاة التامّة و الإتيان بالمقصورة، فكأنّه قيل:

الذي يقصّر صلاته و لا

يأتي بما هو وظيفته من التمام فليس عليه إعادة، و لا يخفى أنّه غير شامل لمن لم يأت بشي ء أصلا.

إذا عرفت هذا فنقول: الجاهل المذكور لو تنبّه المسألة في الوقت يجب عليه الإعادة على حسب القاعدة، و ليس هنا ما يدلّ على خلاف ما اقتضته القاعدة.

نعم لو استمرّ جهله إلى انقضاء الوقت فالروايتان دالّتان على سقوط القضاء مع صحّة سنديهما.

و أمّا الخدشة بإعراض مشهور الأصحاب عن العمل بهما و رميهما إلى الشذوذ فإن كان المقصود أنّ المشهور لم يفتوا بسقوط الإعادة في الوقت فليس هذا مستفادا من الروايتين أيضا، لأنّ مفادهما نفي القضاء خارج الوقت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 468

و إن كان المقصود أنّهم لم يفتوا حتّى بنفي القضاء خاصّة عمّن استمرّ جهله إلى انقضاء الوقت فلا بدّ من التتبّع و الفحص، إذ يحتمل كون نظر المشهور في قولهم:

الجاهل كالعامد في عدم المعذوريّة إلّا في مسألتين إلى خصوص مسألة الإجزاء عن الأمر الصلاتي على ما هو مقتضى القاعدة العقليّة من عدم الإجزاء مع الإخلال بالمأمور به جزءا أو شرطا، لا إلى الأعمّ منه و من الإجزاء عن أمر القضاء الذي دلّ عليه عموم: من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته.

فإن علم أنّ نظرهم إلى خصوص الأوّل، أو لم يثبت من كلماتهم أزيد منه فلم يثبت حينئذ إعراضهم عن مضمون الروايتين، و يبقى حينئذ مزاحمتها مع عموم دليل القضاء، و هو سهل، إمّا لارتكاب التخصيص في عمومه، و إمّا لعدم تسليم العموم له و كونه حكما جهتيا ناظرا إلى بيان الكيفيّة في مورد الثبوت.

و يظهر الثمر في أنّه على التخصيص لا بدّ من الاقتصار على مورد الروايتين، فلا يجوز التعدّي إلى سائر أفراد الجاهل في مسألة

القصر و الإتمام فضلا عن الناسي، و على تقدير عدم العموم يكون حكما ساريا في الجميع حتّى الناسي كما هو واضح.

و إن علم أنّ نظرهم شامل للأمر القضائي أيضا فيكون هذا إعراضا منهم عن العمل بالروايتين، و يشكل حينئذ التمسّك بهما، لما تقرّر في محلّه من أنّ الإعراض يوجب الوهن، بل كلّما ازدادت الرواية صحّة يزداد بالإعراض و هنا، لسقوطها عن الأصل العقلائي الجاري في إحراز جهة الصدور الذي هو من شرائط الأخذ بالرواية، مضافا إلى إحراز أصل الصدور.

الأمر السادس- الجاهل و الناسي للنجاسة في الثوب أو البدن:
اشارة

و من موارد حكمهم بصحّة صلاة الجاهل و الناسي و عدم لزوم الإعادة عليهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 469

الجاهل بموضع النجاسة في الثوب أو البدن و الناسي لهما.

و تفصيل الكلام في المسألة يقتضي الكلام في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في الجاهل إلى أن يفرغ من الصلاة.

و الثاني: في من زال جهله في أثناء الصلاة.

و الثالث: في الناسي.

أمّا المقام الأوّل [في الجاهل إلى أن يفرغ من الصلاة]
اشارة

فاعلم أنّ من صلّى جاهلا بالموضوع بأن لم يعلم أنّ ثوبه أو بدنه لاقى البول مثلا و لم يلتفت أصلا، أو التفت بعد الفراغ من الصلاة صحّت صلاته و لا يجب عليه القضاء، بل و لا الإعادة في الوقت على المشهور.

و قيل: يعيد في الوقت خاصّة.

و قيل: يعيد وقتا و خارجا.

و قيل بالتفصيل بين من اجتهد قبل الصلاة في البحث عن طهارة ثوبه و غيره، فلا يعيد الأوّل، و يعيد الثاني.

و قبل الشروع في الاستدلال ينبغي بيان مطلب و هو أنّه اشتهر التمسّك للقول المشهور بصحيحة زرارة الطويلة المذكورة في مبحث الاستصحاب من الأصول، و الحقّ خلافه و أنّه لا يجوز التمسّك بها لهذه المسألة، و ينبغي أوّلا التيمّن بذكرها و تقريب الاستدلال، ثمّ بيان النظر فيه.

أمّا الصحيحة فهي مضمرة زرارة «قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شي ء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة فنسيت أنّ بثوبي شيئا و صلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال عليه السّلام: تعيد الصلاة و تغسله، قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه و علمت أنّه أصابه فطلبته و لم أقدر عليه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 470

فلمّا صلّيت وجدته؟ قال عليه السّلام: تغسله و تعيد، قلت: فإن ظننت أنّه أصابه و لم أتيقّن

ذلك فنظرت و لم أر شيئا فصلّيت فيه، فرأيت فيه؟ قال عليه السّلام: تغسله و لا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟ قال عليه السّلام: لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» «1».

و لا يخفى أنّ الرواية تامّ الدلالة على مقالة المشهور لو لا التذييل بالسؤال و الجواب الأخيرين كما لا يخفى.

و أمّا بملاحظته فالتمسّك بها محلّ إشكال، إذ من الظاهر أنّ نفي وجوب [الإعادة] حسب استدلال الإمام عليه السّلام من صغريات الكبرى المذكورة، بمعنى أنّ الإعادة وجه عدم وجوبها كونها من مصاديق نقض اليقين بالشكّ، و من المعلوم أنّه بناء على تنزيل الرواية على مورد كلام المشهور من صورة العلم بعد الصلاة لوقوعها في النجاسة ليست الإعادة إلّا من مصاديق نقض اليقين باليقين.

فنحتاج لدفع هذا الإشكال إلى تمحّل أنّ الاستدلال بلحاظ كبرى اخرى كانت مرتكزة للسائل، أو أريد تنبيهه إيّاها بهذا الكلام، و هي إمّا كبرى إجزاء امتثال الأمر الظاهري مطلقا، أو في خصوص المقام، و إمّا كبرى أنّ الإحراز هو الشرط الواقعي، فإذا كانت الطهارة محرزة بالاستصحاب عند الدخول في الصلاة فقد وجد الشرط واقعا.

و كلا التوجيهين بعيد غاية البعد و إخراج للكلام عن متفاهم أهل العرف، مضافا إلى مخالفة الرواية على هذا التقدير لسائر النصوص الناصّة في أنّ جهة الحكم

______________________________

(1) التهذيب 1: 421- 1335، و أورد صدره في الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 7 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 471

بالصحّة و عدم الإعادة هو عدم العلم بالنجاسة حين الصلاة، و هذا يدلّ على أنّ الجهة هو إحراز الطهارة، إمّا لقاعدة الإجزاء، و إمّا لشرطيّة الإحراز.

و طريق السلامة عن الإشكال

حمل الرواية على صورة رؤية النجاسة بعد الصلاة بدون العلم بسبقها على الصلاة، بل كونها مردّدة بين السابقة و المتجدّدة بعد الصلاة، و من المعلوم أنّ الإعادة حينئذ من صغريات نقض اليقين بالشكّ بلا تمحّل أصلا.

نعم يبقى على هذا أيضا إشكال أنّ اللازم كون الطهارة شرطا واقعيّا، و مقتضى الأخبار كون المعتبر عدم العلم بالنجاسة.

فيقال في دفعه بأنّ من الممكن كون الشرط أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ، إمّا الطهارة الواقعيّة، و إمّا عدم العلم بالنجاسة، و هذا المقدار كاف لصحّة جريان الاستصحاب.

و هذا الجواب و إن كان متمشّيا على الحمل الأوّل أيضا لدفع إشكال المنافاة مع الأخبار، إلّا أنّه إذا دار الأمر مع ذلك بين ارتكاب ذلك التمحّل البعيد عن أذهان العرف و بين حمل قول السائل: فرأيت فيه، على هذا المعنى مع كونه ظاهرا في رؤية النجاسة السابقة، فإن لم أقل بتعيّن الثاني فلا أقلّ من مساواته مع الأوّل، و كفى ذلك في سقوط الرواية عن الاستدلال.

فالإنصاف أنّ المسألة غنيّة عن الاستدلال بهذه الرواية المجملة، لتظافر الأخبار الواردة بنفي الإعادة عند عدم العلم بالنجاسة إلّا بعد الفراغ.

منها: رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثمّ علم به؟ «قال عليه السّلام: عليه أن يبتدئ الصلاة، قال: و سألته عن رجل يصلّي و في ثوبه جنابة أو دم حتّى فرغ من صلاته ثمّ علم؟ قال عليه السّلام: مضت صلاته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 472

و لا شي ء عليه» «1».

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام:

عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور

أو كلب، أ يعيد صلاته؟

قال عليه السّلام: إن كان لم يعلم فلا يعيد» «2».

و منها: حسنة عبد اللّٰه بن سنان أو صحيحته «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال عليه السّلام: إن كان قد علم أنّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قال عليه السّلام: إن كان قد علم أنّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه و لم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى، و إن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة» «3». الحديث.

و منها: صحيح إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليهما السّلام قال في الدم يكون في الثوب: «إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، و إن كان أكثر من قدر الدرهم و كان رآه فلم يغسله حتّى صلّى فليعد صلاته، و إن لم يكن رآه حتّى صلّى فلا يعيد الصلاة» «4».

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام برواية الشيخ، و عن أبي جعفر عليهما السّلام برواية الصدوق «قال: ذكر المني فشدّده فجعله أشدّ من البول ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 473

نظرت في ثوبك فلم تصبه و صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد ذلك فلا إعادة عليك، و كذلك البول» «1».

و منها: رواية أبي بصير عن

أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلّى فيه و هو لا يعلم فلا إعادة عليه، و إن هو علم قبل أن يصلّي فنسي و صلّى فيه فعليه الإعادة» «2».

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر المرويّة عن قرب الإسناد عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتّى إذا كان من الغد، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلّي و لا ينقص منه شي ء، و إن كان رآه و قد صلّى فليعتدّ بتلك الصلاة ثمّ ليغسله» «3».

و دلالة الكلّ كالسند في غالبها غير قابلة للخدشة.

لكن قد يقال بأنّها معارضة بأخبار أخر مفصّلة بين صورة النظر و الفحص و عدم العثور و صورة تركه بعدم الإعادة في الاولى و ثبوتها في الثانية.

مثل رواية ميسّر «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني، فلا تبالغ في غسله، فأصلّي فيه فإذا هو يابس؟ قال عليه السّلام: أعد صلاتك، أما إنّك لو كنت غسلته أنت لم يكن عليك شي ء» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 16 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 10.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 18 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 474

و مثل رواية ميمون الصيقل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلمّا أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة، فقال: الحمد للّٰه الذي لم يدع شيئا إلّا و له

حدّ- إلّا و قد جعل له حدّا، حدائق-، إن كان حين قام نظر فلم ير شيئا فلا إعادة عليه، و إن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة» «1».

و مرسل الصدوق قدّس سرّه «قال: قد روي في المني أنّه إن كان الرجل حيث «2» قام نظر و طلب فلم يجد شيئا فلا شي ء عليه، فإن كان لم ينظر و لم يطلب فعليه أن يغسله و يعيد صلاته» «3».

و مفهوم صحيحة ابن مسلم المتقدّمة: «و إن أنت نظرت في ثوبك» إلخ، و على هذا فيقيّد بهذه الروايات إطلاق تلك.

و قد يخدش في هذا الجمع بعدم ظهور هذه في التقييد، أمّا رواية ميسر فلأجل أنّه فرض الجارية غير مبالية، فالمقصود من الجواب الإرشاد إلى أنّه لا ينبغي إيكال أمر تطهير الثوب إلى من لا يبالي، بل لا بدّ من مباشرة الإنسان نفسه أو من يثق به حتّى لا يبتلي بالإعادة بحكم استصحاب النجاسة الجارية في حقّه.

فإن قلت: كيف يجري الاستصحاب و الحال أنّ أصالة الصحّة في فعل المسلم يقتضي الحكم بالطهارة، فليس الوجه في التفصيل إلّا الفرق بين الفحص و النظر و عدمه.

قلت: لا نسلّم إجراء الأصل في مثل هذه الموارد ممّا يكون الفاعل ممّن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) في الحدائق: حين قام، منه قدّس سرّه.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 475

لا يبالي، فالرواية ساكتة عن حكم ما إذا دخل في الصلاة دخولا مشروعا و هو محلّ الكلام، بل لعلّ ذيله يدلّ على المطلوب من حيث إنّه يدلّ على أنّه لو غسله نفسه فحصل له العلم أو الاطمئنان بالطهارة لم

يكن عليه شي ء، و إطلاقه شامل لما إذا ظهر حينئذ بعد الصلاة نجاسة المني في ثوبه.

و أمّا بقيّة الروايات فلا يخفى أنّ موردها الذي يحتلم في ثوبه، و من المعلوم أنّه يحصل العلم أو الاطمئنان بتلوّث الثوب بشي ء من المني حينئذ، فلو ترك الفحص و صلّى فقد دخل مع اطمئنان النجاسة، فيخرج أيضا من محلّ الكلام و هو الدخول المشروع، ففرض النظر و الفحص في هذه الروايات لأجل تحقّق المشروعيّة لأصل الدخول حتّى تكون الصلاة بعد ذلك لو ظهر وقوعها في النجاسة محكومة بالصحّة و عدم الإعادة.

و حقّ الكلام أن يقال بأنّه لا إطلاق في أخبار الباب، أعني: ما لم يذكر فيه قيد النظر، ليشمل ما قبل الفحص حتّى يحتاج إلى التقييد بهذه الأخبار المدّعى دلالتها على التقييد بل الظاهر المنصرف منها إنّما هو صورة الفحص و ذلك لأنّ الحكم فيها قد علّق على عدم العلم بالنجاسة، و لا يطلق أنّ فلانا لا يعلم كذا إلّا بعد ما تفحّص عن المظانّ الممكنة له بسهولة بلا حرج بحسب المتعارف، و أمّا إذا لم يتفحّص بهذا المقدار فهو و إن كان لغة غير عالم بأحد الطرفين و مردّدا بينهما، إلّا أنّ الإطلاق منصرف عن مثله.

و لهذا يقال بأنّ الأحكام المجعولة لعنوان الشكّ سواء في الشكوك الصلاتيّة أم في غيرها من الشبهات الموضوعيّة أم الحكميّة كلّها منصرفة إلى الشاكّ المتفحّص في مظانّه، و غير شاملة لغيره، فلا يحتاج في إيجاب الفحص إلى التشبّث بدليل خارجي، بل هو على طبق القاعدة، فيكون خلافه أعني: عدم وجوب الفحص في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 476

إجزاء الحكم الظاهري الذي نقول به في مطلق الشبهات الموضوعيّة التحريميّة، و في خصوص الموضوعيّة

من باب الطهارة و النجاسة محتاجا إلى التماس دليل من خارج من إجماع و أخبار، كما دلّ بعض الأخبار في خصوص باب الطهارة و النجاسة على عدم وجوب الفحص، مثل صحيحة زرارة المتقدّم بعض فقرأتها، و مثل قوله عليه السّلام:

حتّى ترى في منقاره دما.

و على هذا نقول: هنا حكمان علّق كلّ منهما في دليله على عدم العلم بالنجاسة، أحدهما: الحكم الظاهري بجواز الدخول في الصلاة ثمّ عدم الإعادة لما صلّاه ما لم ينكشف الخلاف، و هذا الحكم قد علمنا من الإجماع و النصّ عدم تقييده بالفحص.

و الآخر: الحكم الواقعي بأجزاء الصلاة الواقعة في النجاسة إذا انكشف ذلك بعد الصلاة و كان غير عالم بها قبلها و في أثنائها، و هذا الحكم باق على ما قلنا من انصرافه إلى صورة الفحص و النظر.

و لا منافاة بين كون الموضوع في الحكم الظاهري هو الأعمّ، و في الحكم الثانوي المرتّب على انكشاف خلاف ذلك الحكم الظاهري هو الأخصّ، كما في باب الصوم، حيث يجوز لمن لم يتفحّص عن العجز مع الشكّ فيه الأكل و الشرب و مع ذلك يفصّل في المعذوريّة عن القضاء بين من تفحّص عنه و غيره.

و بالجملة، لا دلالة في أخبار الباب إلّا على أنّ من كان في ثوبه جنابة أو دم و هو لا يعلم بذلك أو لم يره على حسب اختلافها في التعبير، فلا إعادة عليه لو انكشف له ذلك بعد الصلاة، و المدّعى عدم شمول هذا العنوان للشاكّ الذي لم يتفحّص مع تمكّنه منه بسهولة بلا حرج عرفي، بل أفراده منحصر في الغافل و الجاهل المركّب و الجاهل البسيط الذي تفحّص بالمقدار الميسور.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 477

نعم موضوع الحكم الظاهري

هو خصوص الجاهل البسيط، سواء القادر على الفحص و العاجز، و سواء تفحّص القادر أم لم يتفحّص.

و على هذا فالمانع عبارة عن النجاسة الواقعيّة المعلومة أو المشكوكة الغير المتفحّص عنها، و غيرها غير مانع واقعا، فالصلاة متقيّدة واقعا بعدم كونها مع النجاسة المعلومة أو المشكوكة الغير المتفحّص عنها، سواء وقعت مع الطهارة الواقعيّة أم مع النجاسة الواقعيّة المنفكّة عن العلم و الشكّ المذكور، هذا.

نعم لو اعتمدنا في المسألة على صحيحة زرارة المشتملة على التعليل المتقدّم كانت ظاهرة في اتّحاد الموضوع في الحكمين المذكورين، و حيث فرضنا أنّ الموضوع في القاعدة الظاهريّة هو الشكّ الأعمّ كان في الثاني أيضا ذلك، و لكن قد مرّ الإشكال في الاعتماد عليها.

هذا مضافا إلى أنّ قوله في صحيحة ابن مسلم المتقدّمة: و إن أنت نظرت إلخ تامّ الدلالة على تقييد الحكم بالنظر، و إلّا لكان ذكره في الكلام لغوا، لإمكان الاكتفاء بقوله: و إن لم تره و صلّيت إلخ، مع كونها صحيحة.

فلا نعلم وجه لما أفاده شيخنا المرتضى قدّس سرّه في المقام، حيث إنّه بعد ما ذكر الروايات التي استند إليها المفصّل بين الفحص و عدمه قال: إلّا أنّ ما هو صريح من هذه الروايات غير نقيّة السند، و ما هو نقيّ السند غير صريحة، بل و لا ظاهرة.

إلى أن قال ما حاصله: إنّ هذه الروايات لا تنهض لتقييد إطلاقات الأخبار، و قد عرفت الخدشة في كلا الكلامين، و اللّٰه العالم بحقيقة أحكامه.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 477

تنبيه:

لا يخفى أنّه بناء على ما اشتملت عليه الأخبار المتقدّمة يلزم أن يكون الشرط الواقعي للصلاة هو أحد الأمرين، إمّا الطهارة الواقعيّة،

و إمّا عدم العلم بالنجاسة بالمعنى الذي عرفت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 478

فقد يستشكل حينئذ أنّه لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب و قاعدة الطهارة، و كذا لا يبقى مجال لحجّية البيّنة، فإنّ الأصل و الأمارة الظاهريّة إنّما يجريان إذا كان الأثر مرتّبا على نفس الواقع، و في المقام يكون عدم العلم المتحقّق بالنسبة إلى الملتفت الشاكّ بعد الفحص في عرض الواقع موضوعا واقعيّا للشرطيّة، فلا معنى معه للتمسّك بالأصل و الأمارة لإحراز موضوع الشرط الواقعي، و الحال أنّ من المسلّم إجرائهما من غير فرق بين ما قبل الفحص و ما بعده، بل صحيحة زرارة ناصّة في إجراء قاعدة لا تنقض بعد الفحص، لكونه مفروض السؤال فيها.

إلّا أن يقال هنا بنظير ما قلنا في مسألة الجهل الحكمي بالقصر في السفر و الإتمام في موضع القصر، فيقال بأنّ هنا مصلحتين طوليّتين، إحداهما قائمة بالصلاة الواجدة للطهارة الواقعيّة في الثوب و البدن، و هذه متقيّدة بالوجود الأوّل للطبيعة، بحيث لو فرض وجودها في ضمن الوجود الأوّل خالية عن هذا الشرط ينعدم موضوع هذه المصلحة، و الأخرى قائمة بالصلاة الفاقدة، لكن في حقّ خصوص من كان إمّا غافلا ابتدائيّا، أو جاهلا مركّبا، أو مرخّصا شرعيّا بعد الفحص و النظر.

فصلاة أحد هؤلاء و لو وقعت مع النجاسة كانت صحيحة مجزية واجدة للمصلحة الملزمة، بخلاف العامد و الناسي، و غير المرخّص أو المرخّص الغير المتفحّص من الشاكّين.

المقام الثاني- في من صلّى في النجس جاهلا و علم بذلك في الأثناء:

و هذا له صورتان:

الاولى: أن يعلم بسبق النجاسة بحيث يقطع وقوع صلاته إلى الموضوع الذي وصل إليه في النجاسة إمّا كلّا و إمّا بعضا.

و الثانية: أن لا يعلم بذلك، بحيث يحتمل وقوع تمام ما مضى من الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 479

في الطهارة.

و لا شبهة في الصورة الأخيرة بعد وضوح أنّ شرطيّة الطهارة الخبثيّة إنّما هي في الأفعال لا في الأكوان كالحدثيّة.

ثمّ إن أمكن التبديل أو التطهير بدون فعل المنافي يأتي ببقيّة الصلاة، و إلّا فمع سعة الوقت يستأنف، و مع الضيق يتمّ الصلاة، و الظاهر عدم الخلاف في شي ء من ذلك، مضافا إلى كونه مطابقا للقاعدة.

و إنّما الإشكال في الصورة الأولى، وجه الإشكال أنّ الذي يظهر منهم التسالم عليه عدم القول بالتفصيل بين هذه المسألة و مسألة الجاهل إلى ما بعد الصلاة في الحكم بالصحّة و البطلان، و أنّ كلّ من قال هناك بالصحّة يقول بها هنا، و كلّ من يقول بالبطلان هناك يقول به هنا.

و أمّا الصحّة هناك و البطلان هنا فلم يعهد من أحد، بل في الجواهر أنّه خرق للإجماع، و لكنّ الذي يساعده الأخبار هو التفصيل بينهما بالصحّة هناك كما عرفت، غاية الأمر مع الفحص و النظر و البطلان ها هنا مطلقا، و ذلك لقوله عليه السّلام في صحيحة زرارة الطويلة بعد ما قال له زرارة: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة «قال عليه السّلام:

تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، و إن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة و غسلته ثمّ بنيت على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» «1».

تقريب الاستدلال أنّ التعليل في ذيل الكلام حكمه بالصحّة بأنّه لعلّه شي ء إلخ يفيد أنّ وجه الحكم بالصحّة في الصورة الأخيرة في كلامه، أعني ما أشار عليه السّلام إليه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 480

بقوله: و

إن لم تشكّ، هو احتمال عدم وقوع جزء ممّا مضى من الصلاة في النجاسة، و هذا فيه دلالة ظاهرة على أنّ المعيار في طرف البطلان هو العلم بوقوع شي ء من الأجزاء السابقة في النجاسة من غير مدخليّة للفحص و النظر و عدمه.

و من هنا يظهر وجه التقييد في الشقّ الأوّل بقوله عليه السّلام: إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، فإن النكتة في هذا أنّه إذا حصل للشخص شكّ في موضع من ثوبه إمّا قبل الصلاة أو في الصلاة بأن أحسّ مثلا برودة في محلّ منه فشكّ في أنّه هل هو برودة البول مثلا أو شي ء آخر، ثمّ رآه بعد دخوله في الصلاة و إتيانه ببعض أجزائها يحصل له القطع بأنّه هو ذلك الشي ء الذي أحسّه من قبل و احتمل كونه بولا، فيورث ذلك القطع بوقوع مقدار من صلاته في النجاسة، فالتقييد أيضا مسوق لأجل إفادة هذا القطع، فالمعيار هو هذا القطع و لو انفكّ عن الشكّ المذكور.

كما أنّ النكتة في التقييد بقوله: رطبا في الشقّ الآخر أيضا هي الإشارة إلى احتمال الوقوع جديدا في تلك الحالة، فالمعيار هذا و لو انفكّ عن الرطوبة.

و بالجملة، فالرواية صدرا و ذيلا ظاهرة الدلالة في الحكم بالإعادة و البطلان مع العلم بوقوع شي ء من الصلاة في النجاسة، بحيث لا فرق بين الفحص و عدمه، و إلّا لأشير إليه في التعليل أو في التقييد، هذا مع أنّ موثّقة أبي بصير عن الصادق عليه السّلام عن رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثمّ علم به «قال عليه السّلام: عليه أن يبتدئ الصلاة» «1» دالّة أيضا على لزوم الإعادة.

نعم روى الشيخ عن داود بن سرحان عن الصادق عليه السّلام «في

الرجل يصلّي فأبصر في ثوبه دما؟ قال عليه السّلام: يتمّ» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 44 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 481

و روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب الحسن بن علي بن محبوب عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام «قال: إن رأيت في ثوبك دما و أنت تصلّي و لم تكن رأيته قبل ذلك فأتمّ صلاتك، فإذا انصرفت فاغسله، و إن كنت رأيته قبل أن تصلّي فلم تغسله ثمّ رأيته بعد و أنت في صلاتك فانصرف و اغسله و أعد صلاتك» «1».

و هذان لم يعمل بظاهرهما و هو الإتمام في النجس و لو مع إمكان التبديل أو التطهير بلا فعل مناف أو سعة الوقت للإعادة أحد من الأصحاب.

فينحصر مدرك ما ذهبوا إليه من الإتمام مع الذي ذكرنا في صحيحة ابن مسلم عن الباقر عليه السّلام أنّه «قال له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة؟ فقال عليه السّلام:

إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صلّ في غيره، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك فلا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، فإن كان أقلّ من درهم فليس بشي ء رأيته أو لم تره» «2».

هكذا رواه الصدوق و الكافي، و أمّا الشيخ رحمه اللّٰه فإنّه رواه هكذا: «و ما لم يزد على مقدار الدرهم فليس بشي ء رأيته أو لم تره» «3».

و الإنصاف عدم إمكان التمسّك بهذه الرواية للمشهور على شي ء من الروايتين، أمّا على الرواية الاولى و هي جعل قوله عليه السّلام: ما لم يزد إلخ من تتمّة السابق فلأنّه

لا يخلو إمّا أن يكون قيدا لكلتا الفقرتين المتقدّمتين أعني: قوله عليه السّلام:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 44 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6.

(3) التهذيب 1: 254- 736.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 482

إن رأيته و عليك ثوب غيره إلخ، و قوله عليه السّلام: و إن لم يكن عليك ثوب غيره إلخ، أو لخصوص الأخيرة، و لا ثالث لهذين كما هو واضح.

فإن كان الأوّل حتّى يكون المعنى إناطة وجوب الطرح في حال عدم انحصار الثوب، و المضيّ في حال انحصاره بعدم الزيادة على مقدار الدرهم، فلا يخفى عدم صحّة الإناطة في كليهما، لعدم إناطة وجوب الطرح بعدم الزيادة، كما لا اختصاص لوجوب المضيّ مع عدم الزيادة بحال الانحصار.

و أمّا على الثانية، فلأنّه يلزم بحكم المفهوم بتنزيل الشقّين المذكورين على صورة الزيادة على مقدار الدرهم.

و حينئذ و إن كان يستقيم الحكم في الشقّ الأوّل، لكنّ الحكم بوجوب المضيّ مع الانحصار لا يستقيم إلّا بقيود ثلاثة: أحدها: عدم إمكان الاستبدال، و الثاني:

عدم إمكان الغسل بلا مبطل، و الثالث: ضيق الوقت عن الإعادة لو قطع الصلاة، إذ مع فقد أحد من هذه الشروط يكون الحكم بالمضيّ مخالفا للإجماع.

فهذه الرواية مع هذا الاضطراب كيف يمكن جعلها معارضة لصحيحة زرارة الصريحة في البطلان مع التصريح في صدرها بخصوص الدم، بل كان المتيقّن هو العمل بتلك الصحيحة لو لا مخالفة مضمونها أيضا لإجماع الأصحاب على ما هو الظاهر من الكلمات، حيث يظهر منها أنّ الجهل بالنجاسة المستمرّ إلى الآخر، و المنقطع في الأثناء حكمها واحد في العذر و العدم. هذا ما استفدته من مجلس بحث الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه.

ولي فيه نظر،

حاصله أنّ الظاهر أنّه عليه السّلام بمقام تعداد أنحاء تمكّن إتمام الصلاة معها و التنبيه على طرق صحّتها، فنبّه عليه السّلام أوّلا بأنّه إن كان عليه ثوب آخر يستر به عورته يطرح هذا الثوب و يتمّ صلاته في ذلك الآخر، و هذا صريح في أنّ النجاسة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 483

السابقة غير مضرّة بصحّة الصلاة، ثمّ فرض عليه السّلام انحصار ثوبه بذلك النجس، و لمّا كان الغالب تعذّر الاستبدال أو الغسل بلا لزوم مناف سكت عنه، ثمّ بيّن وجها آخر لصحّة الصلاة، و هو أنّه مع فرض عدم إمكان رفع النجاسة أيضا يصحّ الصلاة في صورة أقلّية الدم عن مقدار الدرهم، و مفهوم هذا هو أنّه مع كونه أزيد من ذلك لا يبقى وجه لصحّة الصلاة.

و أمّا قوله عليه السّلام في الذيل: إن رأيت المني قبل أو بعد إلخ فلا ينافي ما حكم به في الصدر من الحكم بالصحّة، لأنّ المفروض فيه بقرينة الشقّ الآخر الذي جعله بديل هذا أعني قوله: و إذا أنت نظرت إرادة صورة عدم الفحص و النظر، و قد قلنا:

إنّه يجب الإعادة مع ذلك في الجهل المستمرّ إلى آخر الصلاة أيضا، فيكون هذا مقيّدا لإطلاق الصدر و يكون محصّل المراد الحكم بصحّة الصلاة مع الجهل بالنجاسة إلى أثناء الصلاة إذا كان مسبوقا بالفحص و النظر مع الالتفات إليه قبل الصلاة، ثمّ إن أمكن إلقاء ذلك الثوب فهو، و إن لم يمكن فإن كان النجاسة من الدم المعفوّ عنه فهو أيضا، و إن لم يكن الإلقاء و لا كان النجاسة الدم المذكور و بحسب الغالب يتعذّر الاستبدال و الغسل بدون المنافي أيضا تعيّن حينئذ بطلان الصلاة، و هذا هو المفتي

به عند الأصحاب.

نعم يبقى معارضة الرواية مع صحيحة زرارة الناصّة بأنّ النجاسة السابقة بواقعيّتها مضرّة بالصلاة، و قد عرفت نصوصيّة هذه الرواية بعدم الإضرار إذا كانت مجهولة، و اللّٰه العالم بحقائق الأمور و إليه المرجع في المعسور و الميسور.

المقام الثالث- في حكم من صلّى في النجاسة نسيانا:
اشارة

و قد اختلفت في ذلك الأخبار، و بذلك اختلفت كلمة العلماء و الأخيار، فمنهم من قال بالإعادة وقتا و خارجا و هم المشهور، و منهم من قال بعدمها مطلقا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 484

و فصّل ثالث بين الوقت و خارجه بالإعادة في الأوّل و عدمها في الثاني، و ذهب رابع إلى الحكم باستحباب الإعادة.

و الأولى التيمّن أوّلا بذكر أخبار المسألة فنقول و على اللّٰه التوكّل:

منها: صحيحة زرارة «قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة و نسيت أنّ بثوبي شيئا و صلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك، قال عليه السّلام: تعيد الصلاة و تغسله» «1».

و منها: حسنة محمّد بن مسلم الواردة في الدم حيث «قال عليه السّلام: و إن كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار درهم فضيّعت غسله و صلّيت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صلّيت فيه» «2».

و منها: رواية أبي بصير في الدم أيضا «قال عليه السّلام: و إن علم قبل أن يصلّي و نسي فعليه الإعادة» «3».

و منها: رواية سماعة عن «الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتّى يصلّي؟ قال عليه السّلام: يعيد صلاته كي يهتمّ بالشي ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه» «4».

و منها: صحيحة الجعفي في الدم أيضا «قال عليه السّلام: و إن كان أكثر من قدر درهم و كان رآه و لم يغسله

حتّى يصلّى فليعد صلاته» «5».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(5) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 485

و منها: رواية جميل بن درّاج في الدم أيضا «قال عليه السّلام: و إن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر درهم» «1».

و منها: صحيحة ابن أبي يعفور في نقط الدم يعلم به، ثمّ ينسى أن يغسله فيصلّي فيه، ثمّ تذكّر بعد ما صلّى، أ يعيد صلاته؟ «قال عليه السّلام: يغسله و لا يعيد صلاته، إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله و يعيد صلاته» «2».

و منها: رواية ابن مسكان «قال: بعثت بمسألة إلى الصادق عليه السّلام مع إبراهيم ابن ميمون قلت: اسأله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلّي فيه، ثمّ تذكّر أنّه لم يغسله؟ قال عليه السّلام: يغسله و يعيد صلاته» «3».

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن رجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتّى إذا كان من الغد، كيف يصنع؟

قال عليه السّلام: إن كان رآه و لم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلّي، و لا ينقص منه شي ء، و إن كان رآه و قد صلّى فليعتدّ بتلك الصلاة» «4».

هذه هي الأخبار الظاهرة في وجوب الإعادة وقتا و خارجا.

و أمّا ما ظاهره نفيها وقتا و خارجا فرواية واحدة هي

صحيحة العلاء عن الصادق عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجّسه فينسى أن يغسله فيصلّي فيه، ثمّ تذكّر أنّه لم يكن غسله، أ يعيد الصلاة؟ قال عليه السّلام: لا يعيد،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 486

قد مضت الصلاة و كتبت له» «1».

و ظاهرها بقرينة قوله عليه السّلام: قد مضت الصلاة و كتبت له، عدم القضاء خارج الوقت أيضا، لعدم تحقّق الفوت في حقّه على ما يستظهر من العبارة المذكورة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ورد في خصوص نسيان الاستنجاء من البول أو الغائط بعض الأخبار الدالّ على عدم إعادة الصلاة إذا ذكر بعد الركوع و إن ورد بعض آخر بوجوب الإعادة، لكن لا يحسن عدّ تلك الأخبار من أدلّة هذه المسألة التي نحن بصددها، إذ من المحتمل اختصاص باب الاستنجاء ببعض الأحكام كما خصّ بطهارة غسالته، فيحتمل حمل الإعادة فيه على الاستحباب، و لا يوجب التعدّي إلى غير ذلك الباب، فاللازم التكلّم في خصوص الأخبار التي ذكرنا الواردة في مطلق الصلاة مع النجاسة أو خصوص الدم نسيانا.

فنقول: قد يجمع بين هذه الأخبار بحمل ما دلّ على الإعادة على الاستحباب، و لا يخفى منافاته مع التعليل في بعضها بأنّ ذلك عقوبة لنسيانه كي يهتمّ بالشي ء إذا كان في ثوبه، و قد يجمع بحمل الاولى على الوقت، و الثانية على خارجه، و هو أيضا لا يستقيم، لصراحة بعض الطائفة الأولى بإثبات القضاء كما يعلم بمراجعتها.

و

الذي احتمله شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه أن يحمل الاولى على صورة حصول التضييع للغسل، و الثانية على غيرها.

و توضيحه أنّ الناسي تارة يكون ناسيا للموضوع أعني: ملاقاة ثوبه للنجس، أو غسل الثوب الملاقي، و اخرى يكون ناسيا للحكم، أعني: وجوب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 487

غسل الثوب الملاقي، فالتضييع بالنسبة إلى الغسل إنّما يتحقّق في الصورة الأولى، لأنّه يتساهل في إتيانه و لا يهتمّ به حتّى ينتهي ذلك إلى نسيانه، فيصدق في حقّه أنّه قد ضيّع الغسل.

و أمّا الصورة الثانية فقد ذهل عن خاطره حكم الغسل، فلم يصدر منه بالنسبة إلى الغسل تفريط و تضييع، لأنّه فرع الالتفات إلى حكمه، نعم إنّما يصدق التضييع في الحكم، لعدم تحفّظه له، و لكن الرواية علّقت الإعادة على تضييع الغسل، و يؤيّده التعليل بالاهتمام بالشي ء إذا كان في ثوبه، هذا.

و لكن فيه أنّ صحيحة العلاء المتضمّنة لنفي الإعادة يكون مفروض السائل فيها نسيان الغسل لا نسيان حكمه، فهذا الجمع أيضا لا مساغ له، و اللّٰه العالم.

فرع: لو علم بالنجاسة المعلوم سبقها في أثناء الصلاة و ضاق الوقت عن الإزالة و الاستئناف
اشارة

و لم يمكن التبديل أو التطهير مع عدم إبطال الصلاة فهل يجب عليه الاستمرار في هذه الصلاة أو قطعها و الإزالة ثمّ القضاء؟ قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: الحقّ بناء المسألة على القولين المتقدّمين في الجهل بالنجاسة الزائل في الأثناء.

فإن قلنا بصحّة الصلاة إلى هذا الحال كما هو مفاد حسنة ابن مسلم المتقدّمة فالمسألة من جزئيّات دوران الأمر بين أصل الستر و طهارة الساتر، فمن قال هناك بأنّه يصلّي في النجس و لو لم يكن مضطرّا لبرد و نحوه إلى اللبس قال بالإتمام ها هنا أيضا مع النجس، و

من قال هناك بتعيّن إلقاء الثوب و الصلاة عاريا إلّا أن يكون ضرورة من برد و نحوه فيصلّي في النجس يقول به ها هنا و إن قلنا بالفساد كما هو مفاد صحيحة زرارة المتقدّمة فقد يقال بأنّ إطلاق صحيحة زرارة الدالّ على بطلان ما مضى حاكم بذلك في هذا الفرض أيضا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 488

و يورد عليه بأنّ الإطلاق حيثي غير ناظر إلى أصل تشريع الشرطيّة في حال الجهل الزائل في الأثناء، لا بالنسبة إلى حال مزاحمته مع شرطيّة الوقت، فإنّ الأمر حينئذ دائر بين حفظ شرطيّة الوقت و إلقاء شرطيّة الطهارة و العكس، و من المعلوم ضرورة تعيّن الأوّل.

و الحقّ أن يقال: إنّ إطلاق صحيحة زرارة و إن كان حيثيّا غير ناظر إلى حال التزاحم، لكن إنّما يصحّ الدوران إذا فرض أنّ هذا المصلّي من أوّل دخوله في الصلاة كان في علم اللّٰه أمره مردّدا بين تحصيل الطهارة أو إحراز الوقت.

و أمّا إذا فرض كونه من أوّل الأمر قادرا على الجمع و دخل في الصلاة بزعم الطهارة و حكمت الصحيحة عليه بإطلاقها بالفساد فالتزاحم المتحقّق بالنسبة إلى تتمّة هذه الصلاة المحكومة بالفساد من أوّلها في علم اللّٰه لا ينفع شيئا، لأنّ الصلاة الفاسدة من أصلها لا يصير صحيحة بعد الفساد.

و أمّا فسادها من أصلها فلإطلاق الصحيحة من غير مزاحم، و أمّا عدم صيرورة التزاحم الطارئ في أثناء الصلاة الفاسدة موجبا لصحّتها، فمن الواضحات التي لا يعتريها ريب، فلا محيص بناء على القول المذكور من الحكم بالإزالة ثمّ القضاء كما كان المتعيّن على القول الأوّل الاستمرار على الصلاة إمّا عاريا و إمّا مع النجس على الخلاف المقرّر في محلّه.

انحصار الساتر في النجس
اشارة

و حيث جرى البحث

عن مسألة انحصار الساتر في النجس فلا بأس بالإشارة إليها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 489

فنقول و على اللّٰه التوكّل: قد اختلفت كلمة الأصحاب رضوان اللّٰه تعالى عليهم فيها، فالمشهور على ما نسب إليهم إلى عدم العفو و وجوب الصلاة عاريا، إلّا أن يضطرّ إلى لبسه، فيجوز للضرورة، و آخرون إلى العفو مطلقا و أنّ المصلّي مخيّر بين الصلاة فيه و الصلاة عاريا.

و المنشأ لهذا الاختلاف اختلاف الأخبار، و نحن نتيمّن أوّلا بذكر الأخبار، ثمّ نتبعه بما يقتضيه القواعد، ثمّ بما يقتضيه تلك الأخبار على حسب ما يساعدنا التوفيق إن شاء اللّٰه تعالى، و باللّه الاستعانة و منه الهداية إلى سواء السبيل فنقول:

أمّا أخبار عدم العفو و تعيين الصلاة عاريا فالذي وصل إلينا روايتان:

إحداهما: رواية سماعة «قال: سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه إلّا ثوب واحد أجنب فيه و ليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام:

يتيمّم و يصلّي عريانا قاعدا و يومئ» «1». هكذا في الكافي و التهذيب.

و في الاستبصار: «و يصلّي عريانا قائما و يومئ إيماء» «2».

و الأخرى: رواية محمّد بن عليّ الحلبي عن الصادق عليه السّلام في رجل أصابته جنابة و هو بالفلاة و ليس عليه إلّا ثوب واحد، فأصاب ثوبه مني؟ «قال عليه السّلام:

يتيمّم و يطرح ثوبه و يجلس مجتمعا و يصلّي و يومئ إيماء» «3».

و أمّا أخبار العفو مطلقا فعدّة أخبار كلّها صحاح.

منها: صحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(2) المصدر، الحديث 3، و الاستبصار 1: 168- 582.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

كتاب

الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 490

رجل عريان و حضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كلّه، يصلّي فيه أو يصلّي عريانا؟ فقال عليه السّلام: إن وجد ماء غسله، و إن لم يجد ماء صلّى فيه و لم يصلّ عريانا» «1».

و منها: صحيحة محمّد بن عليّ الحلبي برواية الصدوق «سئل الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال عليه السّلام: يصلّي فيه» «2».

و منها: صحيحة محمّد الحلبي عنه عليه السّلام سأله عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره «قال عليه السّلام: يصلّي فيه، فإذا وجد الماء غسله» «3».

و منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن الصادق عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يجنب في ثوب و ليس معه غيره، و لا يقدر على غسله؟ قال عليه السّلام: يصلّي فيه» «4».

و منها: موثّقة عمّار الساباطي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن رجل ليس معه إلّا ثوب و لا يحلّ الصلاة فيه و ليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام:

يتيمّم و يصلّي، فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة» «5».

و منها: صحيحة الحلبي «قال: سألت الصادق عليه السّلام عن الرجل يجنب في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(5) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 491

ثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره؟ قال عليه السّلام: يصلّي فيه

إذا اضطرّ إليه» «1».

بناء على كون المراد من الاضطرار ما حصل له بملاحظة تكليف الستر الصلاتي و انحصار الساتر به على أبعد الوجهين، و أمّا على الوجه الآخر و هو كونه تقييدا في مفروض سؤال السائل لا تكرارا لما فرضه فالخبر يكون من أدلّة عدم العفو، إذ العفو مع الضرورة من برد و نحوه ممّا لا خلاف فيه، فهذه هي الأخبار التي وصلت إلينا من الطرفين.

مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين الصلاة بلا ستر أو بلا طهارة

أمّا مقتضى القواعد مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة فيختلف على حسب اختلاف المباني في تحديد الستر الصلاتي و في جعل الطهارة قيدا للستر على ما احتمله بعض، أو الصلاة في عرض الستر.

توضيح المقام أنّه قد تكرّر في الأبحاث السابقة أنّ الخطابات اللفظيّة إذا لم يقيّد بالقدرة على متعلّقاتها فإطلاق المادّة يقتضي المطلوبيّة المطلقة حتّى في صورة العجز، كما لو عجز عن إنقاذ الغريقين جمعا، فإنّه يستفاد من إطلاق المادّة في قوله: أنقذ الغريق أنّ هنا مطلوبين للمولى مطلقين، و لا فرق في ذلك بين الخطاب النفسي كالمثال و الغيري كما نحن فيه.

فمطلوبيّة الستر للصلاة أو طهارة اللباس كذلك ثابتتان حتّى عند العجز عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 492

الجمع بينهما، بمعنى أنّه إذا فرض عدم سقوط المركّب الصلاتي عنّا بمجرّد العجز عن بعض ما اعتبر فيه كما هو قضيّة أنّ الصلاة لا تترك بحال، فمتى دار الأمر بين الصلاة بلا ستر أو بلا طهارة فالحال كما إذا دار بين إنقاذ الغريقين من كون مقتضى إطلاق دليل شرطيّة الستر مطلوبيّته حتّى في هذا الحال.

و كذا إطلاق دليل شرطيّة الطهارة أو مانعيّة النجاسة، فإن علمنا بمساواتهما في الملاك المقتضي

لاعتبارهما نقطع بأنّ الحكم هو التخيير، كما أنّه لو قطعنا بأنّ أحدهما المعيّن هو الأهمّ كان اللازم هو تعيين ذلك الأهمّ، و لو قطعنا بأهميّة أحدهما لا بعينه يجب الجمع بينهما بمقتضى العلم الإجمالي بتعيين ما كان هو الأهمّ واقعا الذي فرض تردّده بين الأمرين، فيصلّي تارة بلا ستر، و اخرى مع الثوب النجس، و لو لم يعلم أصل الأهميّة بأن احتمل المساواة و التفاضل فلا محيص عن التخيير.

لا يقال: بل المتعيّن هو اختيار الصلاة مع النجس، و ذلك لمحفوظيّة الركوع و السجود اللذين علم من الشرع ركنيّتهما للصلاة مع الصلاة فيه، بخلاف ما لو صلّى عريانا، فإنّه يومئ لهما أمّا قائما، و إمّا قاعدا إيماء، فالأمر دائر بين حفظ الستر و الركوع و السجود و إلغاء الطهارة، و بين حفظ الأخير و إلغاء جميع تلك الثلاثة، و من المعلوم أهمّية الأخير.

لأنّا نقول: قد ورد في الأدلّة اللفظيّة أنّ العاجز عن الركوع و السجود ينتقل إلى الإيماء بدلا عنهما، و ذلك يوجب تقييد جعل نفس الركوع و السجود بالقادر، و كلّما فرض لنا خطابان أحدهما مقيّد بالقدرة و الآخر مطلق فمقتضى القاعدة عند الدوران الأخذ بمقتضى ما هو المطلق، لأنّ مطلوبيّته غير مقيّدة بالفرض، و ذلك يوجب إيجابه على المكلّف، لعدم المزاحم له في رتبته، إذا المطلوب الآخر مقيّد بعدم العجز، فإذا تحقّق الإيجاب حصل العجز بالنسبة إلى المطلوب الآخر، فيكون هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 493

المطلق واردا على ذلك المقيّد، فيبقى المزاحمة في مسألتنا بين دليلي الستر و الطهارة.

نعم هذا كلّه مبنيّ على كون الستر المعتبر للصلاة أمرا غير حاصل بمثل وضع اليد، كما هو المقصود في باب الستر عن النظر، و

كذا مبنيّ على كون الطهارة شرطا للصلاة في عرض الطهارة، لا للستر، لوضوح أنّه مع كون الستر هنا مثله في باب الستر عن النظر يكون الجمع ممكنا، فيصلّي عريانا مع ستر قضيبه باليد، و المفروض مستوريّة الدبر بالأليتين.

فيبقى مانعيّة النجاسة للصلاة بحالها بلا مزاحم أصلا، إلّا الركوع و السجود اللذين عرفت حالهما، كما أنّه مع كون الطهارة شرطا للساتر تعيّن أيضا الصلاة عريانا، لعدم التمكّن من الستر المعتبر مطلقا حتّى مع الصلاة في الثوب المذكور، فيبقى مقتضى مانعيّة النجاسة أيضا بحالها كالصورة المتقدّمة.

فعلم أنّ مقتضى القاعدة بناء على ما هو الحقّ من اختلاف معنى الستر في البابين و عدم كون الطهارة إلّا قيدا للصلاة هو التخيير بين الصلاة مع النجس و الصلاة عاريا، حيث لم يعلم الأهميّة أصلا، و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة حينئذ هو التخيير، كما أنّه على الاحتمالين الآخرين تعيّن الصلاة عريانا إمّا مع تحفّظ العورتين باليد و الأليتين، و إمّا بدونه، هذا مقتضى القاعدة.

و أمّا مقتضى النصوص الخاصّة المتقدّمة فاعلم أنّه قد يقال في مقام الجمع بحمل الأخبار الدالّة على الصلاة في النجس على حال الاضطرار، بشهادة الصحيحة المقيّدة، كما هو الحال في كلّ مقام ورد مطلقان و ورد مقيّد، فإنّ المقيّد شاهد جميع بين ذينك المطلقين.

لكنّ الحقّ خلاف ذلك و عدم جريان الجمع المذكور في المقام، و ذلك لأنّ الدليل الناظر إلى إسقاط الشرط أو اعتباره في المأمور به غير ناظر إلّا إلى حيث

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 494

اقتضاء ذلك المركّب بحسب ذاته، من غير نظر إلى الجهات الطارئة عليه من الخارج التي منها الاضطرار بالبرد و نحوه، فالأدلّة الدالّة على الصلاة عريانا ناظرة إلى حيث اقتضاء الصلاة

من حيث هي هي و أنّها ساقطة الستر في حال انحصار الساتر بالنجس.

كما أنّ أدلّة الصلاة في النجس ناظرة إلى حفظ شرطيّته في هذا الحال، و فرض حصول الاضطرار إلى اللبس لحفظ النفس أمر خارج عن مدلول كليهما، لأنّه من العناوين الثانويّة الغير الراجعة إلى جهة الصلاتيّة، و معلوم أنّ دليل الاشتراط أو عدمه في كلّ مقام ليس له إطلاق بالنسبة إلى حصول الاضطرار، بل يعمل فيه على طبق القاعدة الدالّة على حكم هذا العنوان الثانوي.

و على هذا فصحيحة الحلبي المشتملة على الصلاة في النجس مقيّدا بحال الاضطرار مضافا إلى عدم صلاحيّتها لصيرورتها شاهد جمع تكون من أدلّة الصلاة عريانا، فإنّ مقتضى هذا التقييد أنّه لو لا عروض هذا العنوان الثانوي كان شرطيّة الستر ملغاة و مانعيّة النجاسة محفوظة بحسب طبع الصلاة، فيوجد في أدلّة هذا القول أيضا رواية صحيحة و يدفع ما قيل من انحصار أدلّته بغير الصحاح.

فتلخّص أنّ هنا طائفتين متعارضتين، مقتضى إحداهما إلغاء شرطيّة الستر و مقتضى الأخرى حفظها.

بقي هنا جمع آخر و هو القول بالتخيير جمعا بين مفاد كليهما، و ليس هذا تخييرا بين الوجود و العدم، و لا بين الأقلّ و الأكثر، أمّا الأوّل فلأنّ ترك الصلاة رأسا شقّ ثالث، و أمّا الثاني فلأنّ أحد الطرفين هو الصلاة عريانا بالتقييد بالعريانيّة، و الآخر هو الصلاة في النجس بالتقييد به.

و بعبارة أخرى: طرفا التخيير هما الطرفان اللذان فرضنا دوران الأمر بينهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 495

حسب القاعدة الأوّليّة، غاية الأمر نحن لم نعلم بمساواة الملاكين، و لا بعدم مساواتهما، فدلّنا الشرع بواسطة هذه الأخبار على المساواة، فأحد الطرفين هو الصلاة المرعي فيها وجود الستر، و الأخرى الصلاة المرعيّ فيها

عدم النجاسة.

و لا يرد على هذا الجمع أنّه طرح لظاهر كلا الخبرين و خصوصا مع اشتمال بعض أخبار الصلاة في النجس على النهي عن الصلاة عريانا، و ذلك لأنّه و إن كان طرحا لظاهر كليهما، إلّا أنّه بواسطة نصّ الآخر، و من أحد الطرق العرفيّة للجمع هو طرح ظاهر دليل بنصّ الآخر، و هذا أيضا من هذا القبيل، إذ كلّ من الطرفين نصّ في الرخصة و ظاهر في الوجوب التعييني، فيؤخذ بنصّ كلّ منهما و يطرح الظاهر في كلّ منهما.

و أمّا النهي عن الصلاة عريانا فغايته الظهور في الحرمة، لكن مقتضى جمعه مع النصّ في الرخصة حمله على الكراهة، فيصير المحصّل أنّ المكلّف مخيّر بين الأمرين، لكنّ الأفضل له الصلاة في النجس، لا عريانا، كما اختاره بعض العلماء رضوان اللّٰه عليهم.

و إن أبيت عن كون هذا جمعا مقبولا عرفيّا فلا محيص عن التعارض، و لا مرجّح بعد ما عرفت من وجود الصحيح في كليهما، و هو و إن تعدّد في أحد الطرفين و اتّحد في الآخر، لكن الآخر معتضد بالشهرة الفتوائيّة، فالإنصاف تكافؤهما سندا، فيكون المرجع هو التخيير الظاهري.

بقي الكلام في ما تقدّم في ذيل موثّقة عمّار من الحكم بالإعادة بعد حكمه بالصلاة في النجس.

و أوجه وجه لهذا الكلام حمله على كون ذلك من أجل انكشاف فساد التيمّم، لانكشاف عدم موضوعه و هو الفقدان المستوعب لمجموع الوقت، فإنّ مفروض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 496

السؤال أمران: انحصار الثوب في النجس، و عدم وجدان الماء، فأجاب عليه السّلام بالتيمّم و الصلاة مع ذلك الثوب النجس، ثمّ قال عليه السّلام: فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة، فهذا الكلام راجع إلى تيمّمه، يعني لو فرض انكشاف

خطأ خياله حيث كان مأيوسا من وجدان الماء في كلّ الوقت فوجده في أثنائه يجب عليه غسل ثوبه ثمّ إعادة صلاته، لأنّه تبيّن عدم كونه فاقدا في تمام الوقت، فلم يكن موضوعا للتيمّم، فوقعت صلاته بلا طهور، فوجب إعادتها.

فإن قلت: ليس في الكلام دلالة على وجدانه في أثناء الوقت، فلأيّ وجه يحمل الكلام عليه؟

قلت: لدلالة لفظ الإعادة على بقاء الوقت.

فإن قلت: المناسب أن يقول: توضّأ أو اغتسل و صلّى، لا كما قال عليه السّلام:

غسله و صلّى.

قلت: لعلّه للإيكال على وضوحه و أنّ مصيب الماء يشترط صلاته بالطهارة المائيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 497

مسألة الصلاة في مكان المغصوب جهلا

لو صلّى في المكان المغصوب جاهلا، فتارة يكون جهلا معذورا فيه، و اخرى غيره.

فإن كان الأوّل فهل يمكن تصحيح العبادة بناء على القول بعدم كفاية تعدّد الجهة في رفع غائلة الاجتماع أو لا؟

و ليعلم أوّلا أنّ هذا البحث إنّما يبتني على أنّ القرب المائز بين العبادة و غيرها ليس مجرّد قصده، و بعبارة أخرى: ما يعبّر عنه تارة بالحسن الفاعلي، و اخرى بالقرب الانقيادي، بل هو عبارة عن القرب الواقعي، لا بمعنى كون العبد مندرجا في زمرة الملائكة المقرّبين حتّى يستشكل في صحّة صلواتنا، بل بمعنى كون الفاعل غير مساو مع التارك في نظر المولى.

وجه الابتناء أنّه من الواضح إمكان وقوع الصلاة المذكورة عبادة حتّى على الامتناع بمحض تحقّق القصد المذكور و لو من الغافل و الناسي، فالإشكال إنّما هو في أنّه كيف يمكن حصول القرب بما هو في كمال المبغوضيّة على ما هو الفرض من غلبة ملاك النهي على ملاك الأمر، و الغفلة و النسيان و أمثالهما إنّما يفيد في رفع العصيان و المعذوريّة من العقاب، و أمّا القرب و

استحقاق الثواب فحاشا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 498

و محصّل الجواب أمّا في موارد العذر العقلي منفكّا عن الرخصة الشرعيّة كالغفلة و النسيان الحكميين الغير الناشئين عن المسامحة في التحفّظ فهو أنّا قد اخترنا كفاية الملاك في تحقّق القرب، و لا يلزم وجود الأمر.

و حينئذ نقول: الأمر و إن فرض انتفائه، لكنّ الملاك على حاله، كما في سائر الأفراد بلا منقصة، و إنّما جامعه ملاك المبغوضيّة، و إذا فرضنا سقوطه عن التأثير في تحطيط رتبة العبد عند المولى كما هو المفروض من كونه معذورا غير معاقب و لا مبعّد عن ساحته، فلا جرم يؤثّر مؤثّر القرب أثره.

بل نقول: إذا تحقّق القرب فلا مانع من وجود الأمر في هذه الرتبة المتأخّرة عن النهي الواقعي، و غائلة التضادّ مدفوعة بما دفعنا به غائلة التضادّ في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

و أمّا في موارد الانضمام إلى الرخصة الشرعيّة كما في مورد اليد أو البيّنة أو الاستصحاب فالأمر سهل، فإنّه كما تصوّرنا اجتماع الرخصة مع النهي فلا بدّ أن نتصوّر إمكان اجتماع الأمر معه أيضا.

و من هنا يظهر أنّه و لو قلنا باحتياج العبادة إلى الأمر و عدم كفاية الجهة يمكن القول بصحّة العبادة و تماميّة القرب المعتبر فيه واقعا.

و يظهر أيضا عدم الحاجة إلى التمسّك بذيل لا تعاد، لأنّه فرع الإخلال بقيد القرب، و المفروض تحقّقه حقيقة.

نعم إنّما يجي ء التكلّم في إمكان التمسّك به في الجهل الغير المعذور فيه كالجهل بالحكم تقصيرا، و كذا نسيانه كذلك.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إن أمكن القول بحصول القرب مع العلم و العمد فلا حاجة في الصورتين المذكورتين أيضا إلى التمسّك بالحديث المذكور، و وجه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 499

الإمكان على ما قرّر في محلّه أحد الأمرين على سبيل المانعيّة الحقيقيّة.

إمّا القول بأنّ أجزاء الصلاة هي نتائج الأفعال لا نفسها، فالأفعال مقدّمات و مطلوبات مقدّميّة، و لا مانع من التوصّل إلى العبادة بالمقدّمة المحرّمة، و لا يضرّ ذلك بحصول القرب المعتبر.

و إمّا القول بأنّ الأفعال و إن كانت هي بأنفسها أجزاء، و لكن يمكن تصدير اجتماع الأمر و النهي طوليين، كما في اجتماع الأمرين في مبحث الضدّ و لو قلنا بامتناع ذلك عرضيّا، و ليس استحالة الاجتماع ها هنا بأزيد محذورا منها في مبحث طلب الضدّين، فكما صحّحنا هناك اجتماع الطلبين بنحو الترتّب و الطوليّة يمكن هنا أيضا كذلك، بأن يقال: إنّ النهي تعلّق بمطلق الأكوان و الحركات في الدار الغصبيّة على وجه الإطلاق، و الأمر تعلّق بالكون المقيّد بالأفعال الصلاتيّة على نحو الاشتراط بعصيان ذلك النهي.

فإن قلت: هذا ترتّب في الموضوع الواحد و هو محال و إن تصوّرناه في الموضوعين، فإنّ الأمر لم يتعلّق بالخصوصيّة فقط، بل بالمقيّد الذي هو مركّب من الذات و التخصّص، فيلزم اجتماع الحبّ و البغض و الإرادة و الكراهة في الذات، و هو محال و لو على نحو الترتّب.

ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: لا تشرب الخمر، و على تقدير العصيان اشرب، فكذا الحال في المطلق و المقيّد، فلا يقال: لا تجي ء بالإنسان و على تقدير العصيان جي ء بالإنسان الأبيض، نعم يصحّ الترتّب بالنسبة إلى الأمر بالتخصّص، و هو خلاف ما نحن فيه و هو الأمر بالمتخصّص.

قلت: أمر القرب و البعد موكول إلى العرف لا العقل، و نحن إذا عرضنا هذين العبدين على العرف أعني: من غصب و صرف كونه في اللهويّات، و من غصب

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 2، ص: 500

و صرف كونه في الصلاة نراهم لا يسوّون بينهما عند المولى، بل يقولون باستحقاق الأوّل و بعده عن ساحة المولى كالثاني من جهة أصل الكون، و مزيّة الثاني على الأوّل من جهة هذه الحركات الصلاتيّة، و ليس القرب إلّا ذلك، و من المعلوم أنّه ناش من فعل الصلاة، فإذا تحقّق القرب أمكن وجود الأمر أيضا.

و يشهد لما ذكرنا ملاحظة الحال في التوصّليّات كحرمة مطلق الكون في مكان و محبوبيّة خياطة الجبّة للمولى، فإنّه و إن كان الأمر توصّليّا، لكن من الممكن قصد القرب به، فإذا فرضنا اختلاف العبدين في نظر العرف فهذا معنى القرب، و اللّٰه العالم.

و على تقدير الغضّ عن ذلك فهل يمكن في صورة الجهل و النسيان الحكميين التقصيريين التمسّك لصحّة الصلاة بحديث لا تعاد، بأن يقال باختصاص القرب بحال العلم و الالتفات بحرمة الغصب أو في غيرهما يحكم بسقوطه عن الشرطيّة في العبادة.

و الحقّ في المقام أن يقال: إنّه إن قلنا بأنّ إباحة المكان شرط شرعي للصلاة، كما ربما يدّعى بملاحظة الإجماع و بعض الأخبار، فلا بأس بالتمسّك بالحديث، كما هو الحال في سائر الأجزاء و الشرائط الشرعيّة غير الخمسة المستثناة.

و إن قلنا بعدم ثبوت الإجماع على الاشتراط الشرعي و عدم دلالة بعض الأخبار أو ضعف سنده فالتمسّك بالحديث في غاية الإشكال، لأنّه إن قلنا بانصراف الحديث إلى الخلل في الأجزاء و الشرائط المعتبرة في المأمور به، و هذا ليس منها، لأنّه أمر متأخّر عن الأمر، فلا يعقل دخله في موضوعه، فواضح عدم صحّة التمسّك.

و أمّا إن قلنا بعدم الانصراف فالمانع من التمسّك مع فرض العموم في المستثنى منه، و من المعلوم أنّ القرب من الشرائط الشرعيّة الخارجة

عن الخمسة المستثناة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 501

فمقتضى القاعدة الحكم باختصاص اعتباره في غير الحالة المفروضة ملاحظة التعليل الوارد في ذيل الصحيحة من قوله: إنّ السنّة لا تنقض الفريضة، فإذا كان وجه عدم الإخلال في غير الخمسة كونها سنّة، و وجه الإخلال في الخمسة كونها فريضة يعلم الحال في القرب من جهة هذا التعليل، لوجود هذه العلّة فيه بنحو أتمّ، لأنّه تمام المقصود من الجعل و تمام النظر في أمر العبادة يكون إليه، فإذا كان وجه الإخلال في الخمسة كونها مهتمّا بها ففي الأهمّ يتحقّق الإخلال بطريق أولى، فيدخل في عموم التعليل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 502

مسألة لو أخلّ ببعض الأمور المعتبرة في الركوع أو السجود

كوضع المساجد السبعة، أو كون المسجد من الأرض أو نباتها، أو الانحناء في السجود إلى ما لا يزيد عن لبنة، و في الركوع إلى أن تصل اليد إلى الركبة، فهل هو داخل في المستثنى أو المستثنى منه.

و بعبارة أخرى: هل المراد بالركوع و السجود الواقعين في المستثنى جنسهما الشامل لفاقد القيد المعتبر، أو أنّ المراد خصوص المقيّد المعتبر منهما في الصلاة، أو يفصّل بين القيود، فما كان في نظر الشارع تحديدا لمفهومهما نظير تحديد مفهوم السفر شرعا بالمسافة، و تحديد الكثير و القليل في الماء بالكرّ و ما دونه كان داخلا في المستثنى، و ما كان خارجا عن حدّ المفهوم شرعا و عرفا و قيد للمطلوبيّة فهو داخل في المستثنى منه، وجوه أوجهها الوسط، و يشهد له أنّ نسيان السجدة الواحدة غير مضرّ، مع أنّه لو أريد الجنس كان مضرّا.

و ليعلم أنّ محلّ الكلام هو القيود التي أحرز كونها قيودا للركوع و السجود، و أمّا ما كان معتبرا في الصلاة في عرض الركوع و السجود، غاية

الأمر صارا ظرفين لوقوعه فلا إشكال في كونه داخلا في المستثنى منه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 503

و لو شكّ في قيد أنّه من أيّ القسمين أعني أنّه معتبر في الصلاة حتّى يكون داخلا في المستثنى منه أو للركوع و السجود حتّى يكون داخلا في المستثنى فهل الأصل فيه البراءة أو الاحتياط، إذ لا إشكال في سقوط عموم لا تعاد، لكونه شبهة مصداقيّة كما هو واضح.

مقتضى القاعدة أن ينظر إلى دليل إثبات ذلك القيد الذي فرض إجماله من جهة إرجاعه إلى أيّ الأمرين هل له إطلاق ناظر إلى الأحوال بمعنى أنّه يثبت القيديّة حتّى بالنسبة إلى حالتي السهو و النسيان و يسمّى بإطلاق المادّة، أو أنّ القدر المتيقّن منه حال الذكر و الالتفات، فإن كان الثاني فالمسألة من صغريات مسألة الأقلّ و الأكثر الارتباطيين، و المختار فيها البراءة، و إن كان الأوّل فالمرجع إطلاق الدليل المذكور.

فإن قلت: لا فرق في عدم جواز التمسّك بين هذا الإطلاق و عموم لا تعاد، فكما أنّ المورد من الشبهة المصداقيّة للثاني فكذا للأوّل كما هو الحال في: أكرم العلماء و دليل: لا تكرم الفسّاق من العلماء بالنسبة إلى الزيد المشكوك الفسق، فإنّه شبهة موضوعيّة للثاني، و مصداقيّة للأوّل، و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّا نقطع بأنّ دليل القيديّة محكوم لدليل لا تعاد على تقدير الرجوع إلى الصلاة، و غير محكوم على تقدير الرجوع إلى الركوع و السجود، فإذا شككنا بين التقديرين كان شبهة مصداقيّة للمحكوم و موضوعيّة للحاكم كما هو واضح.

قلت: التخصيص تارة يكون بصرف القطع، و اخرى يكون بتقطيع العنوان في لسان المتكلّم، و الذي يمنع عن الرجوع إلى العامّ هو الشبهة المصداقيّة من الثاني دون

الأوّل.

مثلا لو ورد عامّ بنفوذ الشروط و لكنّا نقطع بأنّ الشرط المخالف لحكم اللّٰه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 504

الواقعي غير مراد من هذا العموم فلا مانع من التمسّك عند الشكّ في شرط أنّه من هذا القبيل أو لا، و هذا بخلاف ما لو صار ذلك معنونا في كلام المتكلّم بعموم أوفوا بالشروط، كأن قال: إلّا أن يكون مخالفا للكتاب و السنّة.

وجه الفرق أنّه في الثاني قد أحال تشخيص المصداق على عهدة السامع، و في الأوّل صار نفسه متعهّدا لذلك، و بإطلاق كلامه يستكشف أنّه غير مصداق لذلك المخصّص.

و حينئذ نقول: إنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه قد ورد في دليل أنّ الطمأنينة مثلا شرط في حال الركوع، و نحن نقطع بواسطة دليل لا تعاد أنّه إن كان قيدا للصلاة كان مرفوعا عند السهو و النسيان، و إن كان قيدا للركوع كان ثابتا في جميع الأحوال، فلنا أن نتمسّك بذلك الإطلاق و نستكشف كونه من قبيل الثاني، و لا يضرّ كون منشأ القطع هو الدليل اللفظي بعد عدم وروده بلسان التقييد لذلك المطلق.

ألا ترى أنّه لو ورد دليل مطلق دالّ على وجوب إكرام الزيد، و ورد: أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم، ثمّ شككنا في أنّ الزيد عالم أو جاهل، و على التقديرين عادل أو فاسق فلا يجوز أن يقال: إنّ إطلاق دليل: أكرم زيدا ساقط، لأنّا نقطع بأنّه على تقدير العلم و الفسق غير مطلوب الإكرام، و إلّا فاللازم سقوط الإطلاق و العموم في كلّ مقام عن قابليّة التمسّك، إذ القطع على تقدير حاصل في كلّ مقام بعدم إرادة الخاصّ من ذلك المطلق أو العامّ.

فكما صحّ التمسّك بأكرم زيدا و استكشاف أنّه

إمّا جاهل و إمّا عالم عادل، و لا يضرّ العلم على تقدير بصحّة التمسّك، فكذا يصحّ في ما نحن فيه أيضا التمسّك بقوله عليه السّلام: الطمأنينة معتبرة حال الركوع، و لا يضرّ القطع بأنّه على تقدير كونها قيدا للصلاة حال الركوع ساقطة عند السهو و النسيان، و اللّٰه هو العالم و الموفّق.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 505

مسألة لو علم بترك سجدتين و لم يدر أنّهما من ركعة أو ركعتين،

فللمسألة صور أربع:

الاولى: أن يكون ذلك بعد تسليمه.

و الثانية: أن يكون في الأثناء، لكن مع مضيّ محلّ التدارك على جميع التقادير كما لو دخل في ركوع الركعة الثالثة.

و الثالثة: هذه الصورة، لكن مع بقاء محلّ التدارك على بعضها و عدم بقاء المحلّ المعتبر في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الكلّ، كما إذا قام إلى الركعة الثالثة و لمّا يركع.

و الرابعة: هذه الصورة، لكن مع بقاء المحلّ المذكور بالنسبة إلى بعض المحتملات، كما لو حدث له الشكّ المفروض قبل قيامه إلى الثالثة و قبل التشهّد.

أمّا الصورة الأولى: فهو قاطع بأحد التكليفين إجمالا، إمّا إعادة الصلاة على تقدير تحقّق تركهما من ركعة واحدة، و إمّا قضاء السجدتين مع سجدتي السهو لكلّ منهما على تقدير تركهما متفرّقين، و مقتضى هذا و إن كان هو الاحتياط، لكنّ الأصل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 506

الشرعي المثبت جار في أحد الطرفين، و النافي في الآخر، فإنّ أصالة بقاء الاشتغال بتكليف صلّ و عدم سقوطه بالامتثال مثبتة للإعادة، و أصالة البراءة عن التكليف بالقضاء و سجدتي السهو نافية لهما، و من المقرّر في محلّه أنّ الأصول الظاهريّة في أطراف العلم الإجمالي لو لم يستلزم العمل بها مخالفة عمليّة قطعيّة جارية و أنّه لو جرى في أحد الأطراف أصل مثبت أوجب الانحلال و صيرورة سائر

الأطراف في حكم الشبهة البدويّة، و على هذا فيجب عليه في الصورة المذكورة إعادة الصلاة فقط.

لا يقال: هذا مع قطع النظر عن الأصل الموضوعي، و إلّا فالأصل يقتضي عدم طروّ المبطل و هو ترك السجدتين من ركعة واحدة، فإنّ هذا أمر حادث، إذ ليس نفس عدم السجدتين الحاصل و لو بعدم أصل الصلاة موجبا للإبطال، بل خصوص ما كان مجتمعا في ركعة واحدة من الصلاة المفروضة الوجود، و لا شكّ أنّه أمر حادث مسبوق بالعدم، فالأصل عدمه، و بواسطته يثبت صحّة الصلاة، و لا يعارضه أصالة بقاء الاشتغال، لأنّه أصل حكمي و هذا موضوعي كما هو واضح.

لأنّا نقول: نعم و لكن يعارضه أصالة عدم طروّ موجب القضاء و هو ترك السجدة الواحدة من ركعة فإنّه بملاحظة دخل قيد الوحدة و وقوعه في الصلاة المفروضة التحقّق يكون أيضا أمرا حادثا مسبوقا بالعدم، و قد شكّ في انقلابه إلى الوجود، فالأصل بقاؤه على العدم، و يترتّب عليه عدم وجوب القضاء و سجدتي السهو، كما يرتّب على الأصل المتقدّم عدم وجوب الإعادة، و هذا خلاف العلم الإجمالي بثبوت التكليفين، فيتعارض الأصلان و يتساقطان، فيبقى الأصلان الحكميّان المذكوران جاريين بلا مزاحم و حاكم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 507

و بمثل هذا يجاب عن تقديم أصالة الصحّة و قاعدة الفراغ المقتضية لصحّة العمل و عدم طروّ المبطل، و لعدم تحقّق ترك الجزء الموجب للقضاء، فإنّهما متعارضتان بالنسبة إلى الأثرين المذكورين، و لا اختصاص لقاعدة الفراغ بخصوص موارد الشكّ في الصحّة و البطلان، بل يعمّ ذلك و ما إذا أحرزت الصحّة و شكّ في أنّه هل ترك سجدة واحدة أو جزءا آخر حتّى يجب عليه سجدتا السهو أو لا، فكما أنّ

مقتضاه الصحّة في الأوّل مقتضاه نفي القضاء و السجدة في الثاني.

و على هذا فيتعارض الفردان من القاعدة في المقام، فيبقى الأصلان الحكميّان سليمين عن مزاحمتهما و لو كانا مقدّمين لو لا التعارض على الاستصحابات الموجودة في مواردهما لأجل عدم لزوم اللغويّة كما قرّر في محلّه.

فإن قلت: لا يجري الجواب المذكور ها هنا، و وجه ذلك أنّ أصالة الصحّة و الفراغ بالنسبة إلى ترك أحد المحتملات و هو ترك السجدتين من ركعة واحدة مقدّمة رتبة بالنسبة إلى نفسها في المحتمل الآخر و هو تركهما متفرّقتين، و ذلك لأنّ صحّة الصلاة مأخوذة في جانب الموضوع لحكم وجوب القضاء و سجدتي السهو، فليس مجرّد ترك سجدة واحدة و لو في صلاة باطلة موضوعا لوجوب القضاء و السجدة، بل في خصوص ما إذا تحقّق في ضمن الصلاة الصحيحة.

و إذن فقاعدة الفراغ الجارية في نفي موجب البطلان مقدّمة رتبة على القاعدة الجارية لنفي موجب القضاء، فلا تعارض بها، بل هي جارية في رتبتهما سليمة عن المعارض، و بعد جريانها لا يبقى محلّ لجريان الثاني، كما لا يبقى مجال لأصل البراءة عن القضاء و السجدة، لاستلزام جريان كلّ من هذين المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي، فيتعيّن عليه بمقتضى الاحتياط اللازم الإتيان بالقضاء و سجدة السهو من دون أن يجب عليه إعادة أصل الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 508

قلت: فرق بين أن يؤخذ الصحّة في موضوع حكم القضاء و السجدة، و بين أن يكون حكم القضاء و السجدة بترك السجدة الواحدة حكما حيثيّا متكفّلا لتدارك الخلل السهوي من حيث هو هو مع قطع النظر عن الجهات الأخر.

نعم هذا الحكم الحيثي إنّما ينفع إذا فرض كون العمل صحيحا من الجهات الأخر، فلو فرض

عدم صحّته من جهة أخرى فلا قصور من جهة هذا الحكم الحيثي، بل هو بحيثيّته متحقّق موضوعا و حكما، غاية الأمر لا ينتفع به في مقام الأثر الفعلي.

و إذن فالقاعدة بالنسبة إلى كلا الموردين جارية في عرض واحد بلا ترتّب و طوليّة، فيتحقّق التعارض الموجب للتساقط، فيبقى الأصلان المتقدّم إليهما الإشارة جاريين بلا مزاحم، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 509

الفصل الثاني في الشكّ في الركعات

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 511

الشكّ في الركعات و ليعلم أنّ الأصل الأوّلي المتّخذ من الروايات في هذا الباب هو الحكم بالبطلان و لزوم الإعادة إلى أن يعلم من الخارج بالصحّة كما هو في الصور المنصوصة، و الحاصل سقوط الاستصحاب و البناء على العدم في الركعة المشكوكة في هذا الباب عن درجة الاعتبار، بل المعتبر إمّا البناء على الأكثر، و إن لم يمكن فالإعادة.

و الدليل على هذا المدّعى طائفتان من الأخبار بانضمام إحداهما إلى الأخرى.

الطائفة الأولى: ما دلّ على أنّ الركعات العشر من الفرائض الخمس فرض اللّٰه، و السبع منها فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و ليس في الاولى وهم، و فسّر الوهم بالسهو، ثمّ فرّع على نفي السهو فيهنّ وجوب الإعادة حتّى يكون على يقين، أو حتّى يثبتهنّ «1».

و الطائفة الثانية: ما دلّ على جمع السهو كلّه في كلمتين، و هما البناء على الأكثر و الإتيان بالركعة المحتمل النقصان خارج الصلاة «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب الخلل في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 512

فإنّ المتحصّل من انضمام الطائفتين أنّ الاكتفاء بالوجود المحتمل للركعة إنّما هو في الركعات السبع التي هي فرض النبيّ صلّى اللّٰه

عليه و آله، و أمّا في العشر الأخر فلا محيص فيها عن تحصيل اليقين و الإثبات.

و لو كان الاستصحاب و البناء على العدم طريقا للإحراز لما صحّ تفريع وجوب الإعادة على مجرّد عدم جريان السهو، و هو الاكتفاء بالوجود المشكوك، و حيث فرّع ذلك على مجرّده دلّ على سقوط الاستصحاب عند الشارع.

و دعوى أنّه لا يدلّ إلّا على السقوط في خصوص الركعتين الأوليين فلا دلالة فيه على البطلان إلّا بالنسبة إلى الصور التي يكون أحد أطراف الشكّ الركعة الثانية، و أمّا الصور الأخر كالثلاث و الخمس بعد الركوع فلا.

مدفوعة بأنّ حيث كون الركعتين الأوليين فرض اللّٰه أوجب مراعاتهما على وجه الإثبات و اليقين، و عدم جريان البناء على الأكثر ثمّ عدم جريان ذلك يوجب لزوم الإعادة.

و منه يستفاد أنّه لو فرض عدم جريان البناء المذكور لأجل عدم إمكانه كما في الشكّ بين الثلاث و الخمس بعد الركوع كان الحكم أيضا هو الإعادة، فكأنّه قيل: عدم جريان دستور البناء على الأكثر علّة للزوم الإعادة في أيّ موضع حصل، و هذا ملازم لعدم كون البناء على الأقلّ ممضى عند الشارع، فيكون ملغى في جميع الصور، فإن أمكن الإصلاح بالبناء على الأكثر فهو، و إلّا فالبناء على الأقلّ ليس محتملا، بل المتعيّن هو الحكم بالبطلان كما في الركعتين الأوّلتين.

و كيف كان فيقع الكلام في هذا المبحث في مسائل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 513

[المسألة] الأولى حجّية المظنّة في الركعات
اشارة

اعلم أنّ المستفاد من أخبار الباب حجيّة المظنّة في هذا الباب، بل نسب إلى المشهور حجّيتها في الأفعال أيضا، و نحن نتكلّم إن شاء اللّٰه تعالى في حجّيتها في الركعات ثمّ نتعقّبه بالكلام في الأفعال.

فنقول و على اللّٰه الاتّكال في كلّ حال: أمّا

حجّيتها في الركعات حتّى في الأوليين فيدلّ عليها الصحيح الآتي، مضافا إلى النبويّين، أحدهما: «إذا شكّ أحدكم في صلاته فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب و ليبن عليه» «1».

و الثاني: «إذا شكّ أحدكم فليتحرّ» «2».

و إلى ما يستفاد من تعليل الأذكريّة في بعض أخبار عدم الاعتناء بالشكّ بعد المحلّ من أنّ نظر الشارع إلى غلبة عدم الغفلة عن العمل و الإتيان به على خلاف ما تصوّره الفاعل أوّلا في ذهنه من الترتيب المقرّر لأجزائه.

توضيح ذلك أنّ حيثيّة التجاوز عن المحلّ يراها العرف غير دخيلة في هذا الملاك، بمعنى أنّه لو لم يتجاوز المحلّ الشرعي، و لكنّه رأى نفسه فارغا عن الجزء

______________________________

(1) سنن النسائي 3: 28، باب التحرّي، بتفاوت يسير.

(2) سنن النسائي 3: 28، باب التحرّي، بتفاوت يسير.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 514

الفلاني و مستعدّا للورود في الجزء المتأخّر، فالملاك المذكور موجود فيه بعينه، و هو غلبة عدم الغفلة عن النقشة الذهنيّة، إذ لو فرض كون الأمر على خلاف ما زعم أعني: كونه غير آت بذلك الجزء فلا محالة نشأ منه غفلة، و هو الذي يكون على خلاف الغالب.

و لهذا ترى أنّه قلّما يتّفق حصول العلم للإنسان بمخالفة ظنّه المذكور للواقع، و هذا المعنى أعني: غلبة عدم الغفلة للإنسان لو فرض أنّه بنفسه وقع تحت الاعتبار الشرعي فلا محالة يكون طريقا تعبّديا شرعيّا.

نعم لو صار سببا و حكمة لتشريع الحكم في موضوع الشكّ، كما وقع غلبة عدم الانفكاك بين الوجود اللاحق و السابق حكمة لجعل الحكم الأصلي في باب الاستصحاب كان أصلا تعبّديّا.

و على هذا فلو فرض أنّه بعد تجاوز المحلّ ظنّ بعدم الإتيان فمقتضى الحكم الأصلي البناء على الوجود، و مقتضى الحكم الطريقي البناء

على العدم و إن لزم منه الحكم بكون الجزء المتأخّر قد أتى به غفلة، و لا مزاحمة بينهما، لحكومة الثاني على الأوّل.

و لا يخفى أنّ هذا الملاك متساوي النسبة إلى الركعة و غيرها، فإذا رأى من نفسه أنّه واقع في الركعة الكذائيّة فلو كان على خلافه، إمّا بأن كان في ما دونها، أو في ما بعدها كان لا محالة لأجل غفلة منه عن النقشة الذهنيّة التي دخل في العمل بملاحظتها، و هو على خلاف الغالب، و هذا و إن لم يصل إلى حدّ الدلالة، لكنّه لا يخلو عن تأييد.

و بالجملة، يدلّ على المطلب مضافا إلى ذلك صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السّلام «قال عليه السّلام إن كنت لا تدري كم صلّيت و لم يقع وهمك على شي ء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 515

فأعد الصلاة» «1»، و هذا دليل عامّ لحجّية المظنّة في الركعات جميعا حتّى في الأوليين على احتمال، و نصّ فيها بالنسبة إلى خصوص الأوليين على آخر، سواء في الثنائيّة أم في الثلاثيّة أم في الرباعيّة، لكن لا بدّ من بيان فقه الحديث.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ المحتملات فيه بين أربعة:

الأوّل: أن يكون المراد الشكّ في ركعات الصلاة بجميع أقسامه من الصحيح و الباطل، فيلزم الحكم بالبطلان حتّى في الصور الصحيحة، فيلزم التخصيص في عمومه بالنسبة إليها، لكنّه تخصيص بعيد، لكثرة الأفراد الصحيحة.

الثاني: أن يراد أنّ الحكم بالإعادة في الأقسام الباطلة مقصور على صورة عدم وقوع الوهم على شي ء، و هذا خلاف الظاهر.

الثالث: أن يراد كثرة أطراف الشكّ و تردّدها بين الواحدة و الخمس عشرة مثلا، و يبعّد هذا أنّ الإنسان لا يفهم خروج الشكّ في صلاة الصبح بين الواحدة و

الاثنتين عن تحت هذه العبارة، و هذا يكشف عن عدم كون المعنى المزبور معناها.

الرابع: أن يراد أنّ كلّ واحد واحد من مراتب العدد من الواحد إلى ما فوقه لم يكن معلوما للمصلّي، بحيث لا يمكن للمصلّي الحكم بأنّ هذه المرتبة بحدّها كمّ صلاتي، بمعنى أنّها موجودة و غيرها من المراتب المتأخّرة معدومة، بل بين أنّه إمّا يمكنه الحكم بأنّها موجودة دون أنّ غيرها ليست بموجودة، كما في الواحدة، و بين أنّه يمكنه الحكم بأنّ ما فوقها غير موجودة و لا يمكنه الحكم بأنّها موجودة، كما في الخمس عشرة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب الخلل، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 516

و أمّا لو أمكنه الحكم بأنّ الواحدة ليست بحدّ لصلاته و تردّد بين ما فوقها فهو خارج عن العبارة، لأنّ عدم العلم بالحدّ بقول مطلق معناه احتمال انطباق الكمّ الصلاتي على جميع المراتب، و هذا يعلم بنفي انطباقه على مرتبة الواحدة.

فعلى هذا الاحتمال تكون الرواية نصّا في الشكّ المتعلّق بالأوليين، فيكون النسبة بينها و بين الروايات الحاكمة بالإعادة في الشكّ في الأوليين حتّى يستيقن أو حتّى يثبت هو العموم و الخصوص المطلقين.

كما أنّه بناء على الاحتمال الثالث يكون النسبة عموما و خصوصا من وجه، لأنّ الرواية على ذلك الاحتمال يشمل الشكّ بين الاثنتين و الخمس عشرة و ما بينهما، و لا تشمله تلك الروايات، كما أنّها شاملة للشكّ المعتدل الطرفين، و لا تشمله هذه، لكن على هذا أيضا يتعيّن تقديم هذه، لأجل أنّ لسانه لسان الطريقيّة للمظنّة إلى الواقع، فيكون حاكما على تلك الروايات الدالّة على لزوم إحراز الأوليين و إثباتهما، هذا.

و يدلّ على اعتبار المظنّة في خصوص الأخيرتين أخبار خاصّة مذكورة

في محالّها، من أراد فليطلبها من مظانّها.

فإن قلت: يمكن الخدشة في دلالة الرواية على اعتبار الظنّ، لأنّ ما يتوهّم دلالته عليه قوله فيها: و لم يقع وهمك على شي ء، فلم لا يكون هذا مؤكّدا للفقرة الاولى، و المقصود به استقرار الشكّ؟ فكأنّه قال: إذا شككت و استقررت على التزلزل.

قلت: مفاد العبارة غير ما ذكرته، فإنّ معنى وقوع الوهم أنّه خرج عن حالة التردّد بين الوجود و العدم، و الاستواء بينهما، و صار مائلا و واقعا على أحد الطرفين، ثمّ الوقوع يحصل بمجرّد رجحان أحدهما كما في الظنّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 517

فإن قلت: لعلّ المراد أنّه إذا لم تدر و لم يقع شكّك على مرتبة معيّنة كالثلاث و الأربع، أو الاثنتين و الثلاث، بل كنت متحيّرا مطلقا.

قلت: هذا التعبير واقع في روايات أخر فرض فيها الشكّ بين أطراف معيّنة، و من المعلوم أنّ المقصود به هناك ما ذكرنا من الوقوع و الميل و الخروج عن حدّ الاستواء و الاعتدال، هذا حاصل الكلام في حجّية المظنّة في الركعات.

حجّية المظنّة في الأقوال و الأفعال

و أمّا في الأقوال و الأفعال فالذي قوّاه شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه فيض أنفاسه القدسيّة علينا و على جميع المحصّلين حجّيتها فيها أيضا، و محصّل ما قال في مجلس بحثه الشريف في تقريب هذا المرام أنّه إذا عرض على العرف أنّ الشارع المقدّس جعل الظنّ في مجموع الركعة من حيث المجموع حجّة و المفروض أنّه المجموع ليس شيئا مغايرا لذوات الأجزاء فكيف يفهم التفكيك في حجّيتها بين تمامها و بعضها، إذ معنى التفكيك أنّه إذا كان وجود التمام بطريق الظنّ محرزا بحيث احتمل احتمالا موهوما عدم الكلّ كان الظنّ حجّة، و أمّا إذا ظنّ البعض من أجزاء

الركعة و علم وجود البقيّة و كان وهم العدم أيضا فيها معدوما فليس هذا الظنّ بحجّة، مع أنّه بعينه شخص ذلك الظنّ الذي لو كان متعلّقا بهذا البعض منضمّا إلى البقيّة لكان حجّة.

و الحاصل معنى الحجّية التعبّدية هو الاقتصار على شخص هذا الظنّ و عدم التعدّي إلى مثله ممّا نراه مماثلا له في غلبة المطابقة للواقع، إذ المعيار غلبة المطابقة بنظر الشارع، و هذا معنى تعبّديّته.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 518

ثمّ بعد عدم التعدّي إلى مثله ربما يكون المورد لأجل المهتمّية مانعا عن جعل الظنّ فيه حجّة و إن جعل شخص هذا الظنّ في مورد آخر أقلّ اهتماما منه حجّة، و هذا أيضا مفقود في المقام، إذ نعلم أنّ الاهتمام بشأن بعض الركعة ليس بأزيد من الاهتمام بكلّها الذي هو عبارة عن هذا البعض مع غيره.

و لا ندّعي أنّ اللفظ قاصر عن إفادة الحجّية إلّا بالنسبة إلى الكلّ و نحن نسريها إلى الأبعاض بالأولويّة حتّى يقال: إنّه مع عدم كونها قطعيّة قياس لا نقول به، بل المدّعى أنّه بعد ما أخذنا الظنّ طريقا إلى الواقع و موجبا لإحراز الواقع عند الشارع يكون محمولا في كيفيّة الطريقيّة على الطرق العقلائيّة.

فكما أنّ العقلاء في الطرق المعمولة بينهم إذا فرض كون شي ء طريقا عندهم لإحراز مجموع مركّب من خمسة أجزاء مثلا، فهو طريق إلى كلّ واحد واحد من تلك الخمسة منفردا، كما يكون طريقا إليها منضمّة بلا فرق، و لا يدخل في أذهانهم التفكيك في الطريقيّة بين هذين، فكذلك إذا أعطاهم الشارع طريقا من عنده لإحراز كلّ مركّب من أجزاء، فهم يفهمون منه الطريقيّة إلى أجزاء ذلك الكلّ منفردا منفردا أيضا.

ألا ترى أنّا نثبت اللوازم في باب

ظهور الألفاظ و حجّية الخبر و البيّنة، و لو فرض كون المخبر غير مطّلع على الملازمة، بل قاطعا بعدمها، فكيف يشمله قوله عليه السّلام: صدّق العادل، مع أنّ العادل لم يتفوه بالنسبة إلى اللازم المذكور شي ء، بل لو سئل عنه ربما يخبر بالعدم، و مع ذلك نقول: يفهم حجّية قوله بالنسبة إلى هذا اللازم أيضا من قوله: صدّق العادل، و ليس وجهه إلّا ما ذكرنا من أنّ العرف بعد أخذ الحجّية الطريقيّة من الشرع يحمله على ما هو المقرّر عندهم في الطرق المعمولة بينهم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 519

و هذا بخلاف ما إذا علّق الحكم على وصف الشكّ و لو بلسان أنّه عين الواقع كما في الاستصحاب، و كذا على الظنّ بما هو صفة، لا بما هو طريق و له غلبة المطابقة للواقع، فإنّه يجب الاقتصار على المؤدّى بدون التعدّي إلى ما عداه.

ففي ما نحن فيه إن كان النظر إلى ظنّ الركعة بحيث كونه صفة من الصفات لا بجهة طريقيّته و كشفه عن الواقع لما كان لنا حقّ التعدّي إلى أجزاء الركعة، كما أنّ الحكم المتعلّق بشكوك الركعة لا نعدّيه إلى أجزائها، و أمّا بعد ما كان النظر إليه بحيث طريقيّته و كشفه و فرض حصول شخصه من دون تفاوت في أجزاء الركعة و المعلوم قطعا أنّ حالها في المهتمّية أدون من تمام الركعة فكيف يفهم العرف تفكيك حجّيته بين هذين بالثبوت في الكلّ دون البعض.

نعم لو ورد إثبات الحجّية في البعض لم يفهمها العرف بالنسبة إلى الكلّ، لمكان الاهتمام بشأنه أزيد من البعض، و أمّا مع العكس فلا يفهم التفكيك.

و بالجملة، فالمدّعى الاستفادة من لفظ جعل الحجّية بعنوان الطريقيّة في الكلّ تعميمها بالنسبة

إلى الجزء كاستفادة تعميمها بالنسبة إلى لوازم المخبر به، حيث ندّعي استفادته أيضا من اللفظ، لا أنّه شي ء فهمناه من خارج اللفظ بتنقيح المناط.

فإن قلت: فيلزم اعتبار حفظ كلّ من الإمام و المأموم في حقّ الآخر بالنسبة إلى أجزاء الركعة، لاعتباره كذلك بالنسبة إلى نفسها، و لا تقولون به.

قلت: المقدار الحاصل من غلبة المطابقة في حفظ كلّ منهما بالنسبة إلى نفس الركعات غير حاصل في حفظه بالنسبة إلى أجزائها، إذ من المستبعد جدّا، بل من المقطوع خلافه تأخّر المأموم بمقدار ركعة عن الإمام أو تقدّمه عليه، و ليس الحال كذلك في تأخّره عنه بمقدار سجدة مثلا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 520

نعم لو فرض القطع بعدم التأخّر و التقدّم حتّى بهذا القدر أيضا أمكن القول بالحجّية بعين البيان المتقدّم.

و حاصل البيان المذكور أنّه كما أنّ وجود الكلّ خارجا متأخّر رتبة عن وجود جميع أجزائه و مترتّب عليه، و وجود أجزائه مقدّمة لوجوده، كذلك الحال في الكشف و الطريقيّة الذي هو الوجود العلمي الحاكي عن الوجود في الخارج، لا بمعنى أنّه في هذا الوجود أيضا متأخّر رتبة عن الوجود العلمي الطريقي للأجزاء، كيف و الحال أنّه قد يكون العلم بالمعلول علّة للعلم بالعلّة، كما في برهان الإنّ، بل بمعنى أنّ الكشف عن الكلّ حيث إنّ مرجعه إلى الكشف عن وجوده لا ينفكّ عن الكشف عن وجود الأجزاء، و الكاشف عنه لا يصير كاشفا عنه إلّا بعد كشفه عن الأجزاء، و لا يعقل التفكيك في اعتباره بين الكشفين، بل الاعتبار أوّلا يجب أن يشمله بملاحظة الأجزاء، ثمّ بملاحظة الكلّ، كما هو الحال في مرحلة واقع الوجود.

و هنا بعض الأمور ربما تذكر في مقام تأييد هذا المرام.

أحدها: أنّه

إذا فرض حجّية الظنّ و الاكتفاء به في الركعتين الأوليين اللتين هما فرض اللّٰه تعالى، فلو لم يكتف به في مثل الحمد الذي هو من السنّة لزم أسوئيّة حال فرض اللّٰه من السنّة، حيث لا يكتفى في الثاني بالظنّ، بل لا بدّ من تحصيل العلم، بخلاف الأوّل.

و فيه أنّه مضافا إلى كونه من القياس يكون مخدوشا، بأنّ ذلك لا يكشف عن الأسوئيّة المذكورة، لأنّ مرجع عدم حجّية الظنّ فيه إذا كان لزوم تحصيل العلم كان ما ذكرت حقّا، و لكن إذا كان مرجعه إلى أنّ الشارع لم يبال بحفظ حدّ الأجزاء من عدم زيادتها و عدم نقيصتها كمبالاته بذلك في الركعات، فلهذا حكم بالإتيان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 521

بالإجزاء مع عدم العلم بها في المحلّ و عدم الإتيان مع انقضائه، و لم يبال باحتمال الزيادة في الأوّل و لا بالنقيصة في الثاني، بخلاف الركعة، فلهذا جعل الظنّ فيها حجّة مع وجوده، و مع استواء الشكّ جعل قانونا آخر لحفظ حدّ الركعات عن الزيادة و النقيصة، و هذا ليس ناشئا عن عدم الاعتناء بالركعة كاعتنائه بالأجزاء، بل الأمر بالعكس.

و ثانيها: أنّه لو لم يكن الظنّ في الأفعال حجّة كما في الركعة لزم منه المحذور في بعض الفروع، كما لو تردّد بين الثلاث و الأربع و ظنّ بالأربع و كان قاطعا بأنّه لو صلّى أربعا كان آتيا بالسجدة الثانية، فلا محالة أنّه ظانّ بوجود السجدة الثانية، و مقتضى التفكيك بين الظنّين في الحجّية أنّه يجب عليه البناء على الأربع و الإتيان بالسجدة الثانية بمقتضى قاعدة الشكّ في المحلّ، فيلزم القطع بفساد الصلاة، للعلم إجمالا إمّا بزيادة السجدة المذكورة، و إمّا بنقصان صلاته بركعة.

و فيه أوّلا:

أنّ الأخذ بالظنّ المذكور لازم لا من باب حجّية الظنّ في الأفعال، بل من باب الأخذ بلوازم الطرق و كون الظنّ في الركعة حجّة من باب الطريقيّة.

و ثانيا: لا يلزم من حدوث المحذور في بعض الأحيان بواسطة اجتماع مصداقي القاعدتين بطلان إحداهما بحسب الكبرى.

ألا ترى أنّه لو شكّ في الركوع بعد ما سجد و شكّ أيضا في السجدة الثانية، لكن يقطع بأنّه على تقدير الإتيان بالركوع قد أتى بالسجدة الثانية أيضا فمقتضى قاعدة الشكّ بعد التجاوز بالنسبة إلى الركوع عدم إتيانه، و مقتضى قاعدة الشكّ في المحلّ بالنسبة إلى السجدة الثانية لزوم إتيانها، مع أنّه يقطع بفساد الصلاة حينئذ إمّا لفقد الركوع، أو لزيادة السجدة عمدا، و هذا لا يوجب خللا في إحدى الكبريين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 522

المذكورتين، أعني: قاعدة التجاوز و قاعدة الاستصحاب كما هو واضح، بل لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة أخرى متكفّلة لحكم تزاحم القاعدتين، و هذا واضح.

و بالجملة، أمر حجّية الظنّ في الأفعال غير محتاج إلى التشبّث بهذه الأمور الواهية، و العمدة فيه هو الاتّكال على الظهور العرفي و الملازمة العرفيّة بين الطريقتين، بحيث لا يفهم العرف من دليل الطريقيّة في الكلّ اقتصارها عليه و لو كان اللفظ غير مشتمل على عموم، بل يلغون هذا القيد و يفهمون من الظهور اللفظي عموم الطريقيّة بالنسبة إلى الأجزاء في شخص ذلك الظنّ، لا ما يخالفه في غلبة المطابقة و الكشف عن الواقع، كما مرّ بيانه مفصّلا، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 523

المسألة الثانية بيان ما يحصل به الفراغ من الأوليين

قد عرفت استفاضة الأخبار بأنّ القانون الظاهري المجعول في باب الشكّ في الركعات من الاكتفاء بالركعة الوهميّة و البناء على وجودها في مقام الامتثال

ثمّ إتيان النقصان المحتمل من الخارج مختصّ بغير الركعتين الأوليين اللتين هما فرض اللّٰه فلا يكتفى فيهما إلّا بالامتثال القطعي و الوجود المثبت الخالي عن الشكّ.

فلا بدّ من التكلّم في بيان ما به يحصل الفراغ من الأوليين، و هل هو الركوع من الركعة الثانية، أو السجدة الثانية و لو قبل الذكر أو الفراغ من ذكرها قبل الرفع، أو الرفع منها.

فنقول: أجزاء المركّب بحسب عالم التصوّر ينقسم إلى أقسام:

فمنها: ما له دخل في صدق الاسم، بحيث لا يصدق اسم ذلك المركّب بدونه، لا فاسدا و لا صحيحا.

و منها: ما له دخل في صحّته و ترتّب الأثر المقصود عليه و إن كان الاسم بالمعنى الأعمّ غير متوقّف عليه.

و منها: ما له دخل في كماله لا في صحّته، و هذا أيضا تارة يكون لازم التحصيل، و اخرى غير لازمة، فالأقسام أربعة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 524

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في عدم صدق اسم الركعة مع فقد الركوع، بل أو إحدى السجدتين، و أمّا بعد تحقّق السجدتين فصدق الركعة حاصل، لكنّها غير صحيحة، لأنّ الذكر له دخل في صحّتها، و أمّا بعد حصول الذكر فصحّة الركعة بمعنى صحّتها الجزئيّة حاصلة، و الرفع الذي هو واجب لأجل التشهّد كنفس التشهّد و إن كانا لازمين، إلّا أنّهما موجبان لكمال الركعة.

و إن شئت المثال من الخارج فانظر إلى حال الدار، فإنّ الجدران الأربعة مع بناء بيت كاف في صدق الاسم و لو لم تكن قابلة للسكنى، لكن مع عدم القابليّة فاسدة، و بعد حصول شرائط القابليّة يتحقّق الصحّة أيضا، ثمّ بعد تحقّق الصحّة فالاشتمال على السرداب و الحوض من أجزاء الكمال، و لكنّه من اللازم، بخلاف الاشتمال على بعض

المحسّنات الأخر الغير اللازمة فحال التشهّد و الرفع المذكورين حال السرداب و الحوض بالنسبة إلى الدار.

فكما إذا قيل: من بنى دارا فله كذا، لا يتحقّق صدقه إلّا بعد تحقّق الأجزاء المقوّمة للصدق و المقوّمة للصحّة و لا يتوقّف على تحقّق الأجزاء المقوّمة للكمال.

فكذا في مقامنا إذا قيل: إجزاء القانون الظاهري المجعول لمقام امتثال الركعة في مرحلة الشكّ إنّما هو بعد ما أحرز المصلّي الركعتين الأوليين، كان المتبادر منه حصول الأجزاء المقوّمة للصدق و المقوّمة للصحّة، دون المقوّمة للكمال، و هو يتمّ بالفراغ من الذكر في السجدة الأخيرة، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 525

المسألة الثالثة في بيان كيفيّة استفادة القانون الظاهري المجعول للشكّ في الركعات
اشارة

بعد إحراز الأوّلتين من الأخبار.

فاعلم أنّ صور الشكّ في غير الركعتين الأوّلتين- التي وقعت محلا لتعرّض الأخبار و كلمات العلماء الأخيار، و غيرها غير مذكورة في الأخبار، و إنّما قيل بجريان القانون المذكور فيها بواسطة إرجاعها إلى الأولى- منحصرة في خمس:

الشكّ بين الاثنتين و الثلاث، و الشكّ بين الثلاث و الأربع بعد إكمال السجدتين، و الشكّ بين الاثنتين و الأربع، و الشكّ بين الاثنتين و الثلاث و الأربع، و الشكّ بين الأربع و الخمس بعد الإكمال.

و أمّا الصور التي قيل بإرجاعها إلى إحدى هذه الخمس فخمس أيضا، الشكّ بين الثلاث و الأربع قبل الإكمال، و الشكّ بين الأربع و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الثلاث و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، فالمجموع عشر صور.

و أمّا كيفيّة استفادة القانون الظاهري في مجموع هذه الصور فتارة يبحث في استفادته من العمومات المتكفّلة لبيان ذلك القانون، و اخرى يبحث في استفادته

من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 526

النصوص الخاصّة الواردة في واحدة من الصور الخمس الاولى، فهاهنا مقامان.

المقام الأوّل [في استفادة القانون من العمومات المتكفّلة لبيان ذلك القانون]

الحقّ أنّ العمومات الدالّة على أنّه متى شككت في الركعات فابن على الأكثر ثمّ تمّم النقص المحتمل خارج الصلاة بعد ضمّها إلى المستفيضة الواردة في أنّ الركعتين الأوليين لا يجري فيهما الوهم، أعني لا يكتفى بوجودهما الموهوم المحتمل في مقام الامتثال، كما هو مضمون: ابن على الأكثر، و إنّما ذلك مخصوص بالأخيرتين اللتين هما فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله يستفاد منها الحكم بالعلاج المذكور في جميع الصور العشر المذكورة، إلّا في الأربع و الخمس بعد الإكمال و الخمس و الستّ.

بيان ذلك أمّا بالنسبة إلى الصور الأربع الأولى فواضح، حيث إنّ المصلّي فيها بعد ما أحرز الثنتين يشكّ إمّا في وجود الثالثة، و إمّا في وجود الرابعة، و إمّا فيهما بنحو التلازم في الوجود مع عدم احتمال التفكيك، و أمّا فيهما مع احتمال التفكيك و قد فرض دلالة الأخبار المذكورة على أنّ الوهم أعني: البناء على الأكثر و الاكتفاء بالوجود المحتمل للركعتين الأخيرتين هو العلاج المجعول في مقام الشكّ، ثمّ إتيان النقصان المحتمل من الخارج، و هذا واضح الانطباق على جميع تلك الصور الأربع.

و أمّا بالنسبة إلى الأربع الأخرى فحاصل التقريب أنّه يستفاد من تلك العمومات أنّه كلّما حصل للمكلّف الشكّ في عدد الركعات التامّة من صلاته بين الاثنتين و الزيادة عنهما، فهو يكتفي بالوجود المحتمل و يعامل معه معاملة المقطوع، ثمّ يأتي لجبر النقص المحتمل بما يحتمل نقصه بعد السّلام.

و لا يخفى أنّ الذي يرى نفسه في حال القيام أو في الركوع أو بينه و بين السجود، أو في السجدة الأولى أو الثانية قبل إتمام

الذكر الواجب و يشكّ في أنّ ما بيده ثالثة أو رابعة، فشكّه بالنسبة إلى هذا الذي بيده لا يحسب شكّا في الركعة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 527

التامّة، بل في نصفها أو ثلثيها و نحو ذلك، و مورد العمومات إنّما هو الشكّ في الركعة التي هي اسم للمجموع من حيث المجموع، فهذا المصلّي لا محالة يكون شكّه بملاحظة الركعة راجعا إلى الشكّ بين الاثنتين و الثلاث كما هو واضح، و قد عرفت أنّ مقتضى العمومات أنّه يبني على أنّ الثالثة الموهومة كالمقطوعة، فيبادر إلى إتمام ما بيده بعنوان الرابعة، ثمّ يأتي بركعة محتملة للنقص بعد السّلام.

هذا هو الحال في الشكّ بين الثلاث و الأربع قبل الإكمال.

و منه يظهر الحال في الثلاث الأخر أعني: الأربع و الخمس في حال القيام، و الثلاث و الخمس كذلك، و الثلاث و الأربع و الخمس كذلك، غاية الأمر أنّه يلزم عليه في هذه الثلاث- بعد ما بنى على تحقّق الرابعة المحتملة و عامل معها معاملة المقطوعة- هدم القيام الذي هو فيه، لأنّ هذا عمل من يقطع بكون القيام السابق ركعة رابعة، فإنّه يهدم و يجلس و يتشهّد و يسلّم، ثمّ بعد ذلك يأتي بجبر النقصان المحتمل كسائر الصور المتقدّمة.

فهذه الأربع الخالية عن النصّ الخاصّ أيضا يمكن استفادتها، لكن من العمومات بالتقريب الذي عرفت، لا كما قد يتوهّم من أنّ الثلاثة الأخيرة بعد الهدم يرجع الشكّ فيها إلى تلك الصور المنصوصة، فيندرج تحت النصوص الخاصّة بهذه الحيلة، كما لعلّه إليه يشير ما في بعض النصوص من أنّ الفقيه يحتال لأجل صلاته حتّى لا يعيدها.

و لا كما يظهر ارتضاؤه من كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه من استفادة حكمها من العمومات بتقريب

آخر، و هو شمول الأكثر الذي أمرت العمومات بالبناء عليه للركعة المحتمل كونها خامسة قبل الركوع، فإنّه يمكن تصحيحها أيضا بالبناء المذكور، فإنّ أثره هدمها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 528

وجه عدم المصير إلى الوجهين، أمّا إلى الوجه الأوّل فواضح، لأنّ كلّ عنوان تحقّق للشكّ في أوّل حدوثه هو المعيار، و لا عبرة بما يحدث له باعتبار الوجود البقائي، كما أنّ الشكّ في الجزء قبل الدخول في الجزء المرتّب عليه لا يمكن إدراجه تحت أخبار الشكّ بعد تجاوز المحلّ بالورود في الجزء المتأخّر شاكّا.

لا يقال: في ذلك المقام الشكّ محفوظ بشخصه، و إنّما تغيّر المحلّ، و أمّا هنا فالشكّ متغيّر بنفسه، لأنّه قبل الهدم شكّ في عدد، و بعده يصير شكّا آخر في عدد آخر.

لأنّا نقول: كلّا، بل الوحدة هنا أيضا محفوظة، فإنّ الشكّ في أيّ مرتبة من العدد تحقّق بالنسبة إلى ركعة، فهو بعينه شكّ في المرتبة النازلة عنها بالنسبة إلى ما سبقها، فالشكّ في العدد النازل بعد هدم القيام ليس شكّا آخر، بل عين ذلك الشكّ الأوّل، و إنّما تغيّر محلّه، و بعد ما كان العبرة بأوّل حدوثه لا بما يحدث له من العنوان في مرحلة بقائه فلا عبرة بالرجوع إلى أحد الشكوك المنصوصة بالحيلة المذكورة.

و أمّا إلى الوجه الثاني «1» فلأنّ الأكثر المأمور بالبناء عليه ليس عامّا لكلّ أكثر و لو كان مضرّا بالصحّة كالسادسة أو الخامسة بعد الركوع، كما هو واضح، أو غير مضرّ و لا نافع، و إنّما ينفع بالصحّة هدمها كالخامسة قبل الركوع.

وجهه أنّ النصوص المذكورة تنادي بأنّ الأكثر المذكور شي ء يكون البناء عليه ملازما لاحتمال النقيصة في عدد الركعات، حتّى أنّه احتيج إلى إتيان ركعة الاحتياط لتدارك تلك

النقيصة المحتملة، و تكون ركعة الاحتياط دائرة بين الجابريّة للنقصان و كونها نافلة غير مرتبطة بالصلاة، و من المعلوم أنّ هذا المعنى لا يتحقّق

______________________________

(1) أي عدم المصير إلى الوجه الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 529

بالنسبة إلى الخامسة قبل الركوع كما هو واضح.

فالمحيص منحصر بما ذكرنا من أنّ هذا القانون غير شامل للقيامات، و لا للقيامات مع الركوعات، و إنّما هو متعرّض لحال الشكّ في الركعات، و إذن فشكّه بالنسبة إلى القيام، أو هو مع الركوع المتلبّس بهما ملغى و غير محكوم بحكم أصلا، و الذي وقع تحت الحكم هو شكّه بالنسبة إلى الركعات التامّة من صلاته هذه، و هي منحصرة في القيامات السابقة، و شكّه بالنسبة إليها فعلا، و قبل الهدم يكون معنونا إمّا بالاثنتين و الأربع، و إمّا بالثلاث و الأربع و إمّا بغيرهما من الأربع المنصوصة، و المستفاد حكمها من العمومات أيضا.

و من هنا يظهر الحال بالنسبة إلى الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، فإنّه أيضا مشمول للنصّ الخاصّ الحاكم في من لا يدري أنّه صلّى أربعا أو خمسا بالتشهّد و التسليم ثمّ سجدتي السهو، لأنّه بالنسبة إلى قياماته السابقة التي هي المسمّاة باسم الركعة التامّة شاكّ بين الأربع و الخمس، فيجب عليه بمقتضى ذلك النصّ الخاصّ البناء على كون قيامه المتّصل بهذا القيام رابعا، فيجب عليه هدم ما بيده ثمّ التشهّد و التسليم و سجدتي السهو، و اللّٰه العالم.

المقام الثاني: في ذكر النصوص الخاصّة الواردة في الصور الخمس الأول،
اشارة

فنقول و على اللّٰه التوكّل:

[الصورة الأولى] الشكّ بين الاثنين و الثلاث

أمّا الصورة الاولى: أعني الشكّ بين الاثنتين و الثلاث فالمحكيّ عن الذكرى أنّه قال: و أمّا الشكّ بين الاثنتين و الثلاث فأجراه معظم الأصحاب مجرى الشكّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 530

بين الثلاث و الأربع، و لم نقف فيه على رواية صريحة، و نقل فيه ابن أبي عقيل تواتر الأخبار، انتهى.

أقول: أمّا الأخبار العامّة فيمكن الخدشة في عمومها للمقام، لإمكان دعوى ظهور مثل قوله عليه السّلام: من شكّ في الأوّلتين أعاد حتّى يحفظ، كما في بعض الأخبار، أو حتّى يثبتهما، كما في آخر، في وجوب حفظ الأوليين على نحو التفصيل، فلا يشمل ما لو وقع إحداهما طرفا للعلم الإجمالي، فلا يمكنه في مقام عدّ الركعات أن يقول:

هذه الركعة بخصوصيّتها ثانية، بل نقول إمّا ثانية و إمّا ثالثة.

لكنّ الذي يسهّل الخطب وجود النصّ المعتبر في الشكّ بين الثنتين و الأربع بصحّة الصلاة، و منه يستكشف كفاية هذا المقدار من الحفظ و تماميّة عموم الأخبار العامّة للمقام.

و أمّا الأخبار الخاصّة فهي بين ما هو ظاهر في البناء على الأقلّ، كرواية سهل ابن اليسع «1»، و رواية زرارة «2»، و ما هو ظاهر في البناء على الأكثر بقرينة تعيين فاتحة القرآن، كرواية قرب الإسناد «3»، و ما هو ظاهر في وجوب الإعادة، كرواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن رجل لم يدر أ ركعتين صلّى أم ثلاثا؟ قال عليه السّلام: يعيد، قلت: أ ليس يقال: لا تعاد الصلاة فقيه؟ فقال: إنّما ذلك للثلاث و الأربع» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الخلل

في الصلاة، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 531

أمّا ما دلّ على البناء على الأقلّ فسيأتي أنّه عدم جواز الاعتماد عليه، لإعراض الأصحاب عنه، و منافاته لما يستفاد من سائر الأخبار، فيتعيّن حمله على التقيّة إن لم يمكن إرجاعه إلى البناء على الأكثر.

و أمّا ما دلّ على وجوب الإعادة فالظاهر أنّ المراد منه ليس ما يتراءى في بادي الرأي من الحكم في البطلان، كيف و مقتضى ذلك انحصار العلاج بالشكّ بين الثلاث و الأربع، بل المراد منه الرخصة، أو الرجحان في الإعادة في غير الشكّ بين الثلاث و الأربع حتّى يحصل الامتثال القطعي للأمر بأربع ركعات، و مرجوحيّة ذلك في الشكّ المزبور بالنسبة إلى علاج ما بيده بالبناء على الأكثر.

فمحصّل ما يستفاد من الخبر الشريف أنّه كما يجوز إحراز الأربع بالطريق الظاهري المنصوص عليه في الأخبار العامّة، كذلك يجوز إحرازها بنحو اليقين.

و الذي يشهد بصحّة هذا الجمع أنّ الأخبار العامّة، سياقها تعليم الطريق لإتمام الصلاة مع الشكّ، و ليس مفادها تعيين العمل به، نعم يعيّنه دليل حرمة الإبطال لو كان له عموم يشمل المقام، فالخبر الشريف إنّما ينافي حرمة الإبطال، لا مدلول تلك الأخبار.

لا يقال: الأمر بالإعادة ظاهر في البطلان، بحيث يكون صرفه إلى تجويز القطع و رفع حرمة الإبطال خارجا عن متفاهم أهل العرف، كما أشير إليه في بعض المباحث السابقة.

لأنّا نقول: ليس الأمر بالإعادة في مثل المقام ظاهرا في البطلان، إذ لا يتوهّم أحد أن يكون الشكّ بنفسه من المبطلات، فمعناه لا محالة تجويز القطع، لإحراز المصداق القطعي

للامتثال، غاية الأمر أنّ له أيضا إحراز المصداق التعبّدي الذي أشار إليه الأخبار العامّة، لكنّ الإعادة في خصوص الشكّ بين الثلاث و الأربع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 532

مرجوحة بالنسبة إلى عمل الشكّ، و راجحة عليه في الشكوك الصحيحة للآخر، و اللّٰه العالم.

[الصورة الثانية:] الشكّ بين الثلاث و الأربع

و أمّا الصورة الثانية: أعني الشكّ بين الثلاث و الأربع، فتارة يكون عروضه بعد الفراغ من الركعة، و اخرى في أثناء التلبّس بها، و لا يخفى انحصار مورد الأخبار الخاصّة الواردة في هذا الشكّ بالقسم الأوّل، لأنّه مفاد قوله في بعضها:

إذا لم تدر ثلاثا صلّيت أم أربعا «1»، و في آخر: لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا «2»، و في ثالث: إذا لم يدر في ثلاث هو أم في أربع و قد أحرز الثلاث «3»، فإنّه لا يقال:

صلّى ثلاثا أو أنّه أحرز ثلاثا إلّا بعد ما فرغ من الثالثة، و لا يقال ذلك في أثناء التلبّس بها.

و على هذا فلا بدّ في القسم الثاني من الرجوع إلى إطلاق الأخبار العامّة و الخاصّة الواردة في الصورة السابقة أعني: الشكّ بين الثنتين و الثلاث، فإنّ الشكّ في الركعة المتلبّس بها بين كونها ثالثة أو رابعة ملازم للشكّ في سابقتها بين كونها ثانية تامّة، أو ثالثة كذلك، و قد دلّت الأخبار العامّة و الخاصّة المزبورة على أنّه متى دار أمر الركعات التامّة بين الثنتين و الثلاث يبني على الثلاث و يجي ء بركعة منفصلة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص:

533

و يجوز له قطع الصلاة و إعادتها من رأس على ما مرّ.

و أمّا القسم الأوّل فالأخبار الخاصّة متعارضة فيه بحسب الظاهر.

فمنها: ما يدلّ على البناء على الأربع، و هو مفاد أكثر الأخبار «1».

و منها: ما يستظهر منه البناء على الأقلّ، كصحيحة زرارة عن أحدهما عليه السّلام «قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أو في اثنتين و قد أحرز الثنتين؟ قال عليه السّلام:

يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب و يتشهّد و لا شي ء عليه، و إن لم يدر في ثلاث هو أو في أربع و قد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى و لا شي ء عليه، و لا ينقض اليقين بالشكّ، و لا يدخل الشكّ في اليقين، و لا يخلط أحدهما بالآخر، و لكن ينقض الشكّ باليقين و يتمّ على اليقين فيبني عليه، و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» «2».

فإنّ ظاهر قوله عليه السّلام: قام فأضاف إليها أخرى، هو اتّصال الركعة الملازم للبناء على الأقلّ، كما هو مقتضى قوله عليه السّلام في مقام التعليل: و لا ينقض اليقين بالشكّ هذا.

و لكنّ التحقيق عدم دلالة الخبر على ذلك، بل و دلالته على البناء على الأكثر، توضيحه أنّه إذا كان المأمور به أربع ركعات مأخوذة بشرط لا من الزيادة، فكما لا بدّ في مقام التفريع من القطع بوجود ذات الأربع بلا نقص كذلك لا بدّ من إحراز وصفها بعدم الزيادة إمّا بالقطع أو بالأصل و حينئذ فالشاكّ بين الثلاث و الأربع إن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3، و الباب 11

من هذه الأبواب، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 534

اكتفى في مقام التفريع بهذه الركعات المردّدة بين الثلاث و الأربع فقد نقض يقين اشتغاله بالشكّ، لأنّه يحتمل كون هذا المأتيّ ناقصا من الأربع، و قد كان مقتضى اشتغاله اليقيني بتحصيل هذا العنوان الاقتصار على الفرد المعلوم منه و عدم الاكتفاء بالفرد المشكوك، هذا إن اكتفى بما أتى به من الركعات.

و إن لم يكتف، بل ضمّ إليها ركعة أخرى موصولة فقد خرج عن عهدة الاشتغال بذات الأربع خروجا قطعيّا، و لكنّه من حيث الاتّصاف بعدم الزيادة عن هذا الحدّ لم يخرج عن الاشتغال القطعي إلّا بالشكّ، فالفراغ بالنسبة إلى ذات المحدود قد حصل بالقطع، و بالنسبة إلى حدّه قد حصل بالشكّ، و قد كان مقتضى الاشتغال القطعي بالمحدود، الفراغ القطعي الغير المخلوط بالشكّ.

إن قلت: و إن كان في هذه الصورة غير محرز لعدم الزيادة بالقطع، و لكنّه محرز له بالأصل.

قلت: الأصل بالنسبة إلى إعطاء الحدّ لهذا الموجود و أنّه محدود بالأربع من دون زيادة مثبت، هذا إن تمّ الركعة الأخرى موصولة، و أمّا إن عمل بالقانون المشار إليه في الأخبار من إتيان الركعة المحتملة النقصان مفصولة فقد أحرز المأمور به بذاته وحده على سبيل القطع، لأنّه إن كان المأتيّ به أوّلا ثلاثا فقد تمّمه بهذه الركعة المفصولة بواسطة قبول الشارع إيّاها مقام الموصولة، و إن كان أربعا فقد سلّم من زيادة الخامسة، لاحتساب الشارع هذه الركعة المفصولة على تقدير تماميّة الصلاة نافلة.

إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر من الفقرات الستّ أو السبع أعني قوله:

و لا ينقض إلخ هو إرادة البناء على الأربع و الإتيان بالركعة المحتملة النقصان مفصولة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 535

و يشهد على

ذلك أمران: أحدهما: نفس تكرار هذه الفقرات، إذ لو كان المراد هو البناء على الأقلّ و إتيان الركعة المحتملة النقصان موصولة لكفى في تأدية هذا المراد الفقرة الأولى، كما في سائر الموارد التي ورد فيها هذه الفقرة، فيكون ذكر سائر الفقرات لغوا مستدركا، بخلاف ما إذا حمل على المعنى الذي ذكرنا، فإنّه يراد حينئذ بكلّ فقرة معنى غير ما يراد بالأخرى كما عرفت من تقريرنا.

و الثاني: ظهور رجوع هذه الفقرات إلى كلتا الصورتين المذكورتين في صدر الصحيحة، و لا يخفى ظهور قوله في الصورة الاولى و هو الشكّ بين الثنتين و الأربع يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب في كون الركعتين مفصولتين لما في تعيين فاتحة الكتاب و التصريح باسم القيام من الدلالة الواضحة على ذلك، و حينئذ فلا محيص عن حمل الفقرات المذكورة على المعنى الذي ذكرنا، و اللّٰه العالم.

بقي شي ء ينبغي التنبيه عليه و هو أنّ مادّة النقض لا بدّ و أن يكون متعلّقا بشي ء له الاستحكام كاليقين، فما وجه قوله عليه السّلام: و لكن ينقض الشكّ باليقين، و يمكن أن يكون جاريا مجرى قول الشاعر:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة قلت اطبخوا لي جبّة و قميصا

[الصورة الثالثة:] الشكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع
اشارة

و أمّا الصورة الثالثة: أعني: الشكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع ففيها مقامان:

الأوّل: هل يمكن استفادة حكم هذه الصورة من الأخبار العامّة أو لا؟

الثاني: في ما يستفاد من الأخبار الخاصّة الواردة في حكم هذه الصورة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 536

أمّا [المقام] الأوّل:

فالحقّ عدم العموم في تلك الأخبار لهذه الصورة، وجه ذلك أنّ الأخبار متعرّضة للشكوك التي يكون أمر الركعة المفصولة فيها مردّدا بين كونها تتميما لتمام النقصان على تقدير نقص الصلاة أو نافلة مستقلّة على تقدير تماميّتها.

و حينئذ نقول: إنّ الشاكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع إن أتى بركعتين عن قيام، ثمّ بركعتين عن جلوس فإن كانت الصلاة تامّة غير ناقصة فلا كلام، و إن كانت ناقصة بركعتين فلا كلام أيضا، و أمّا إن كانت ناقصة بركعة فالركعتان عن قيام لا تصلحان لتتميم نقصها مع كونها ناقصة، فلا بدّ من كونهما نافلة، و الأخبار إنّما دلّت على نافليّة الركعة المفصولة التي يصلح على جميع تقادير النقص لتتميم الصلاة في تقدير تماميّتها، لا على نافليّة الركعة المفصولة الصالحة للتتميم على بعض تقادير النقص دون بعض في تقدير عدم الصلاحيّة.

و إن أتى بركعة عن قيام و ركعتين عن جلوس فإن كانت صلاته تامّة أو ناقصة بركعة فلا كلام، و أمّا إن كانت ناقصة بركعتين فالركعة المفصولة عن قيام لا يصلح لتتميم تمام النقصان، فلا بدّ من كونها نافلة في هذا التقدير، و قد عرفت عدم دلالة الأخبار على ذلك إلّا في مورد دوران أمر الركعة بين كونها تتميما لتمام النقص الوارد في الصلاة بجميع تقاديره و نافلة في تقدير عدم النقص، فالنافليّة في بعض تقادير النقص خارجة عن مدلولها.

و أمّا المقام الثاني:

فيدلّ على المشهور من البناء على الأربع ثمّ الإتيان بركعتين عن قيام و ركعتين عن جلوس مرسلة ابن أبي عمير «1» التي هي في حكم المسانيد، و لكن يعارضها صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه السّلام

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الخلل

في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 537

«قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: رجل لا يدري اثنتين صلّى أم ثلاثا أم أربعا؟

فقال عليه السّلام: يصلّي ركعة من قيام، ثمّ يسلّم، ثمّ يصلّي ركعتين و هو جالس» «1».

و يدفع المعارضة أنّه نقل عن بعض نسخ التهذيب أنّ فيها بدل الركعة الركعتين من قيام، فيكون الصحيحة مجملة المراد، لاختلاف نسخها، فلا يعارض تلك المرسلة الصريحة في مرام المشهور، مع أنّه على تقدير صحّة النسخة الأولى يمكن الجمع بينها و بين المرسلة بالتخيير بين الأمرين، و اللّٰه العالم.

[الصورة الرابعة:] الشكّ بين الثنتين و الأربع

و أمّا الصورة الرابعة: أعني الشكّ بين الثنتين و الأربع فقد ورد فيها الأخبار المعتبرة على طبق مرام المشهور من البناء على الأربع بإتيان ركعتين منفصلتين.

نعم ظاهر بعض الأخبار البناء على الأقلّ بقوله عليه السّلام فيه: اركع ركعتين ثمّ سلّم «2»، حيث إنّ الظاهر منه كون هذا التسليم تسليم الصلاة، فيكون الركعتان موصولتين، و قد ورد في الصحيح عن محمّد بن مسلم الأمر بالإعادة أيضا.

و يمكن أن يقال- بعد الغضّ عمّا مرّ من كون البناء على الأقلّ مورد المنع البليغ الوارد في صحيح زرارة المتقدّم في ضمن الفقرات الستّ أو السبع على ما فصّلنا، و عمّا سيجي ء من كون البناء على الأقلّ غير معتمد عليه عند الشارع في الركعات الصلاتيّة على ما يستفاد من الأخبار المستفيضة الحاكمة بكون الركعتين

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 538

الأوليين فرض اللّٰه، و لأجل ذلك ليس فيهما الوهم، فيجب الإعادة كما يأتي بيان ذلك إن شاء اللّٰه

مفصّلا-: إنّ الشارع جعل في حقّ هذا الشاكّ ثلاثة أنحاء من الامتثال:

الأوّل: رفع اليد عمّا بيده و استئناف صلاة أخرى ليكون قد امتثل المأمور به بمصداقه القطعي.

و الثاني: تتميم ما بيده بقاعدة تعبّديّة يأمن المصلّي عن كشف الخلاف لها، و هي البناء على الأكثر و إتيان الركعتين مفصولتين.

و الثالث: أيضا تتميم ما بيده، لكن بقاعدة ظاهريّة لا يستفيد المكلّف منها إلّا ما دام باقيا على الشكّ، و أمّا بعد زوال الشكّ و تبيين الخلاف فيجب عليه الإعادة، و هي البناء على الأقلّ الذي هو مقتضى الاستصحاب، هذا.

و لكن قد عرفت و سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالى عدم كون البناء على الأقلّ مرضيّا عند الشارع، فالأولى حمل ما ظاهره ذلك على ما لا ينافي الأخبار الأول إن أمكن، و إلّا فعلى التقيّة.

بقي في المقام شي ء ينبغي التنبيه عليه و هو أنّه قد يقال: من أين يستفاد ابتداء الركعة أو الركعتين المفصولتين بتكبيرة الافتتاح، و أين موضع استفادته من أخبار الباب العامّة منها أو الخاصّة، و أيضا هل يستفاد من الأخبار العامّة في صورة كون النقصان المحتمل ركعة واحدة تعيين كونها عن قيام أو عن جلوس أو التعميم.

و الجواب أمّا عن السؤال الأوّل فهو أنّ موضع الاستفادة حكم الأخبار بكون هذه الركعة أو الركعتين صلاة مستقلّة نافلة على تقدير عدم نقص صلاة الأصل، و من المعلوم أنّ الصلاة المستقلّة لا يكون بلا افتتاح.

و أمّا عن السؤال الثاني: فهو أنّه يمكن الاصطياد من حال الشارع عدم جعل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 539

الركعة الواحدة صلاة مستقلّة إلّا في الوتر و ركعة الاحتياط في بعض الشكوك التي ورد النصّ فيها من الشارع بكونها عن قيام، فاحتساب الركعة عن

قيام نافلة يحتاج إلى تنصيص الشارع به في خصوص المقام، و إلّا فلا بدّ من صلاة الركعتين عن جلوس اللتين قد علمنا من الشارع أيضا احتسابهما مكان الركعة الواحدة القياميّة.

و يعلم ما ذكرنا من تعليل زيادة الوتيرة على عدد النوافل النهاريّة و الليليّة بكونها لأجل تكميل عدد النوافل إلى عدد الأربع و الثلاثين ليكون مكان كلّ ركعة من الفرض ركعتان من النفل.

و حينئذ فنقول: إنّ الركعة المفصولة المأتيّ بها لجبران النقص المحتمل لا بدّ و أن يكون صالحة للجبر على تقدير النقص و لوقوعها صلاة مستقلّة على تقدير التمام، فلا بدّ من اشتمالها على تكبيرة الإحرام و عدم كونها ركعة واحدة قياميّة، بل إتيان الركعتين عن جلوس مكانها.

لكنّ الذي سهّل الخطب وجود مرسلة جميل في خصوص الشكّ بين الثلاث و الأربع، فإنّه قد نصّ فيها بالتخيير بين الركعة عن قيام و الركعتين عن جلوس «1».

[الصورة الخامسة:] الشكّ بين الأربع و الخمس

و أمّا الصورة الخامسة: أعني الشكّ بين الأربع و الخمس فقد ورد فيها النصّ الخاصّ بالبناء على الأربع ثمّ الإتيان بسجدتي السهو «2»، نعم بعض الأخبار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1 و 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 540

مشتمل على عطف فقرة مجملة على الشكّ المزبور في الحكم بالسجدتين، لكن إجمال المعطوف لا يضرّ بالمعطوف عليه الذي هو المطلوب، مضافا إلى وجود النصّ الخالي عن هذا العطف.

و أمّا النصّ المشتمل عليه فهو صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

إذا لم تدر أربعا صلّيت أو خمسا، أم زدت، أم نقصت فتشهّد و سلّم و اسجد سجدتين بغير ركوع و

لا قراءة يتشهّد فيهما تشهّدا خفيفا «1».

و مجمل الكلام في بيان الجملتين المعطوفتين أعني قوله: أم زدت أم نقصت و إن كان خارجا عمّا نحن بصدده أنّ فيه احتمالات:

الأوّل: أن يكون العطف على فعل الشرط، فيكون الكلام في قوّة قولنا:

إذا زدت أو نقصت فاسجد سجدتين إلخ، فيكون مساوقا لمرسلة سفيان بن السمط:

تسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة يدخل عليك أو نقصان، و هذا الاحتمال في مخالفة الظاهر بمكان، لمنافاته لمقتضى وضع «أم» العاطفة من معادلتها لهمزة الاستفهام أو همزة التسوية.

و الثاني: أن يكون العطف على معمول الشرط، فيكون الكلام في قوّة قولنا:

إذا لم تدر زدت أم نقصت إلخ.

ثمّ على هذا التقدير تارة يحمل الكلام على إرادة العلم الإجمالي بطروّ الخلل على الصلاة من ناحية أحد الأمرين: إمّا زيادة الركعة و إمّا نقيصتها، لكن من المعلوم عدم علاج هذا الشكّ بسجدتي السهو، فلا يصحّ حمل الكلام عليه.

و اخرى: على إرادة الشكّ البدوي، إمّا بجعل كلّ من عنواني الزيادة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 541

و النقيصة متعلّقا للشكّ مستقلّا، فيكون الكلام في قوّة قولنا: إذا لم تدر زدت أم لا، أو نقصت أم لا، و إمّا بجعل المراد من النقص عدم الزيادة، كما لعلّه المتعارف في التعبيرات العرفيّة، فيطلق الزيادة و النقيصة في مقام الزيادة و العدم، فيكون الكلام في قوّة قولنا: إذا لم تدر زدت أم لم تزد.

و لعلّ الأظهر من هذين هو الأخير، و عليه يكون حكم السجدتين جاريا في جميع صور الشكّ في الزيادة، كالأربع و الستّ، و الأربع و السبع و نحوهما ممّا يكون أحد طرفي الشكّ فيه الأربع و الآخر

الزيادة عليه.

كما أنّه على الأوّل منها يجري حكم السجدتين في الثلاث و الأربع و الاثنتين و الأربع و غيرهما ممّا يكون أحد طرفي الشكّ فيه الأربع و الآخر النقيصة منه، فيلزم منه الاكتفاء بالسجدتين في علاج مثل هذه الشكوك و عدم الحاجة إلى ركعات الاحتياط.

فيكون هذا مبعّدا لهذا الاحتمال و مقرّبا للاحتمال الآخر، أعني كون قوله:

أم نقصت بمعنى: أم لم تزد.

لكن قد يعارض ذلك مضمرة الشحّام «قال: سألته عن رجل صلّى العصر ستّ ركعات أو خمس ركعات؟ قال عليه السّلام: إن استيقن أنّه صلّى خمسا أو ستّا فليعد، و إن كان لا يدري أ زاد أم نقص فليكبّر و هو جالس، ثمّ يركع ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب في آخر صلاته، ثمّ يتشهّد» «1» الحديث.

لكن قد يجمع بينهما بتخيير المكلّف في مقام علاج الشكّ المذكور بين الأمرين:

إمّا بسجدتي السهو، و إمّا صلاة الركعتين جلوسا، و ليس المقصود بالركعتين تدارك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 542

النقص حتّى يشكل بعدم تطرّقه في الشكّ في الزيادة، بل المقصود بهما إرغام أنف الشيطان كما هو المقصود بالسجدتين أيضا.

و على كلّ حال فإجمال الفقرة المزبورة لا يضرّ بما نحن بصدده بعد وضوح المراد بالصدر على جميع التقادير.

نعم على تقدير إرادة الاحتمال الأوّل من الاحتمالات المذكورة يسقط الكلام عن الظهور في إيجاب السجدتين بواسطة عطف الزيادة و النقيصة اللتين قد قام الدلالة الخارجيّة على إرادة مطلق الرجحان بالنسبة إليهما، لكن يكفينا من هذه الجهة وجود النصّ الخالي عن عطف الزيادة و النقيصة.

و ليعلم أنّ للشكّ بين الأربع و الخمس صورا عديدة.

إحداها: أن يشكّ هذا الشكّ بعد إكمال السجدتين،

و هذه هي المتيقّن من موارد النصوص.

و الثانية: أن يشكّ في أثناء القيام قبل الركوع، و هذه راجعة إلى الشكّ بين الثلاث و الأربع، كرجوع الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام إلى الشكّ بين الأربع و الخمس، كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى بيانه.

و الثالثة: أن يشكّ بعد الدخول في الركوع أو بعد رفع الرأس منه و قبل السجود، أو في السجدة الأولى، أو بين السجدتين، أو في السجدة الثانية قبل إكمال الذكر الواجب، و الشكّ المذكور في جميع هذه الصور خارج عن مورد النصوص الخاصّة الواردة في من لا يدري أنّه صلّى أربعا أو خمسا، فإنّ هذا العنوان غير صادق إلّا بالنسبة إلى من اتّفق له هذا الشكّ في الركعات الماضية، لا في الأعمّ منها و من الركعة المتلبّس بها، نعم الشاكّ المزبور يصدق عليه أنّه شاكّ في الركعات الماضية بين الثلاث و الأربع، لكن نصوص الشكّ بين الثلاث و الأربع كالنصوص

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 543

العامّة غير شاملة لهذا الفرد، فإنّ اللازم عن البناء على كون الركعة السابقة رابعة هدم هذه الركعة التي تلبّس بها، و اللازم من ذلك بطلان الصلاة بسبب طروّ وصف الزيادة على الركوع أو عليه و على السجدتين، و طروّ وصف الزيادة بعد الوجود و إن كان غير مضرّ في غير الأركان، لكن لا إشكال في إبطاله فيها، و من المعلوم أنّ نصوص البناء على الأكثر غير شاملة لما إذا لزم من البناء المذكور بطلان الصلاة.

هذا حاصل الكلام في الصور الخمس التي ورد فيها النصّ الخاصّ من الشكوك المتعلّقة بالركعتين الأخيرتين.

و أمّا غيرها من الصور فلا يخلو إمّا أن يكون راجعا إلى إحدى تلك الخمس

كالشكّ بين الثلاث و الأربع في جميع الحالات غير حال ما بعد إكمال السجدتين، و الشكّ بين الأربع و الخمس في حال القيام، و الشكّ بين الثلاث و الخمس كذلك، و الشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس كذلك، و الشكّ بين الخمس و الستّ كذلك.

و إمّا أن لا يكون راجعا إلى واحدة منها، كالشكّ بين الأربع و الخمس بعد الركوع، و الشكّ بين الثنتين و الخمس في جميع الأحوال، و الشكّ بين الثلاث و الستّ أو أزيد كذلك، و الشكّ بين الأربع و الستّ أو أزيد كذلك.

ثمّ القسم الأوّل أيضا على قسمين، إمّا أن يكون مقرونا بالعلم بحصول الزيادة السهويّة كالشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، أو باحتمال ذلك، كالشكّ بين الأربع و الخمس في حال القيام، أو لا يكون مقرونا لا بالقطع و لا بالاحتمال المذكورين، كالشكّ بين الثلاث و الأربع حال القيام مثلا.

و القسم الثاني، أعني: ما لا يرجع إلى واحد من الشكوك المنصوصة أيضا على قسمين: إمّا أن يكون الشكّ غير راجع إلى الصور المنصوصة أصلا، كالأمثلة المتقدّمة، و إمّا ان يكون مركّبا من الشكوك المنصوصة، و حيث يكون بهيئته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 544

التركيبيّة غير منصوص لا يشكّ بين الثلاث و الأربع، حيث يكون مركّبا من بسائط منصوصة، و نفسه أيضا منصوص، و هذا كالشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس، و كالشكّ بين الاثنين و الأربع و الخمس.

و مجمل الكلام في المقام أمّا في الشكوك الراجعة إلى المنصوصة بكلا قسميها فهو ما تقدّم من إمكان استفادة هذه الصور من النصوص الخاصّة الواردة في الصور الخمس المتقدّمة، و كذا من النصوص العامّة الدالّة على أنّ الفرق

بين الركعتين الأوليين اللتين هما فرض اللّٰه و الأخيرتين اللتين هما فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله دخول الوهم في الأخيرتين دون الأوليين «1»، بضميمة ما ورد في الأخبار الأخر من قولهم عليهم السّلام:

«ألا أجمع لك السهو في كلمتين؟ متى شككت فابن على الأكثر ثمّ أتمم ما ظننت أنّك نقصت» «2» فإنّ المستفاد من هاتين الطائفتين أنّه متى تعلّق الشكّ بعدد الأخيرتين مع تيقّن الأوليين يبنى على وجود الركعة المحتملة من الأخيرتين، ثمّ يجبر احتمال النقص بركعة الاحتياط من الخارج.

و لا يخفى أنّه حال القيام إذا شكّ أنّ هذا القيام رابع القيامات أو خامسها مثلا فقد شكّ بالنسبة إلى الركعات التامّة من هذه الصلاة بين الثلاث و الأربع، فهو على يقين بوجود الثلاث و على شكّ في وجود الركعة الرابعة، و بمقتضى الأخبار يجب البناء على تحقّق الركعة الرابعة، فيلزم من ذلك هدم هذا القيام الذي شكّ في أنّه رابع القيامات أو خامسها.

و هكذا الكلام في سائر الصور الراجعة إلى الصور المنصوصة، و هذا مراد

______________________________

(1) راجع الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 545

شيخنا المرتضى رحمه اللّٰه حيث تمسّك في حكم هذه الصور بعمومات البناء على الأكثر، لا ما حملنا كلامه عليه سابقا من إرادة البناء على الأكثر في هذا القيام المردّد أمره بين كونه رابعا أو خامسا بأن يبنى على كونه خامسا، فيهدم لأجل ذلك حتّى يرد عليه ما استشكلناه سابقا، فتبصّر.

هذا مجمل الكلام من حيث علاج هذه الشكوك، و أمّا من حيث لزوم الزيادة من هدم الركعة المتلبّس بها في الصور

المحتاجة إلى الهدم فهل يجب سجدة السهو لأجلها بعد ركعة الاحتياط بناء على القول بوجوبهما في مطلق الزيادة و السهويّة أو لا يجب؟

الحقّ هو التفصيل بين ما إذا قطع بتحقّق الزيادة من أوّل وجودها زائدا، كما في الشكّ بين الخمس و الستّ في حال القيام، حيث إنّه يقطع بزيادة هذا القيام من أوّل الوجود، و كذا بزيادة قول: بحول اللّٰه، و التسبيح و الحمد إن تلبّس به أيضا كذلك، فيجب سجدة السهو لأجلها، و بين ما إذا لم يقطع بذلك، كما في الشكّ بين الأربع و الخمس حال القيام، فإنّه كما يحتمل وجود القيام و قول بحول اللّٰه زائدين بأن يكون قياما خامسا، كذلك يحتمل وقوعهما في المحلّ بأن يكون قياما رابعا.

نعم اللازم من حكم الشارع بكون الركعة السابقة على هذا القيام ركعة رابعة تعبّدا لغويّة هذا القيام قهرا، فيكون قد طرأ عليه وصف الزيادة قطعا بسبب هذا الحكم الظاهري، لكن قد تقرّر في محلّه أنّ الزيادة الموجبة لسجود السهو مختصّة بحكم الانصراف بما إذا اتّصف الشي ء من أوّل وجوده بوصف الزيادة، و لا يشمل ما إذا طرأ هذا الوصف بعد الوجوب.

لا يقال: بعد هدم القيام و البناء على كون الركعة السابقة رابعة نقطع بأحد الأمرين: إمّا بنقصان الصلاة بركعة، و إمّا بوجوب سجود السهو، و قد تقرّر في محلّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 546

أنّ مجرّد جريان أصل النافي في أحد طرفي العلم الإجمالي لا يرفع الاشتغال العقلي عن الطرف الآخر، ففي المقام بعد جريان الأصل النافي لنقصان الصلاة المستلزم للبناء على الأكثر لا يرفع الاشتغال العقلي عن وجوب سجود السهو.

لأنّا نقول: ليس حكم الشارع بالبناء على الأكثر حكما ظاهريا، بل هو حكم

واقعي، بمعنى أنّ صلاة الشاكّ بين الثلاث و الأربع و لو كانت في نفس الأمر ثلاثيّة فالركعة الرابعة غير مطلوبة منه واقعا، إلّا مفصولة، بحيث لو تبيّن نقصان الصلاة له بعد ذلك يجزي بما فعل و لا يجب عليه الإعادة، و حينئذ فيكون الشكّ بالنسبة إلى سجود السهو شكّا بدويّا موردا لأصالة البراءة.

هذا حاصل الكلام في الشكوك الراجعة إلى المنصوصة.

و أمّا الغير الراجعة إليها فقد عرفت أنّها على قسمين: قسما يكون مركّبا من بسائط منصوصة، و لكن التركّب منها غير منصوص، كالشكّ بين الاثنتين و الأربع و الخمس، و الشكّ بين الثلاث و الأربع و الخمس، و قسم يكون غير راجع إليها أصلا.

أمّا الأوّل فحاصل الكلام فيه أنّه قد يقال بعلاج الشكّ المذكور من حيث طرفه الأوّل، أعني الشكّ بين الثنتين و الأربع أو الثلاث و الأربع بالبناء على الأربع ثمّ الإتيان بركعتين في الأوّل، و بركعة واحدة في الثاني على ما هو علاج الشكّ بين الثنتين و الأربع منفردا و الشكّ بين الثلاث و الأربع كذلك و علاجه من حيث طرفه الآخر، أعني الشكّ بين الأربع و الخمس بسجود السهو بعد الفراغ من صلاة الاحتياط.

و فيه أنّ من المحتمل كون سجود السهو مشروعا في الشكّ بين الأربع و الخمس لأجل تدارك الخلل الوارد على الصلاة من جهة الزيادة المحتملة، فيكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 547

مربوطا بإجزاء أمر الصلاة، و ليس حاله كسجود السهو للتكلّم ساهيا و غيره من سائر موجبات سجود السهو، حيث إنّه غير مربوط بأجزاء أمر الصلاة، و لهذا لو أخّر أثم بالتأخير و لا يبطل الصلاة، بل و كذا لو تركه رأسا.

و هذا بخلاف الحال في ما نحن فيه،

فإنّه بعد احتمال جعل الشارع إيّاه بدلا ظاهريّا لامتثال أمر الصلاة المحدودة بالأربع بشرط لا لا يجوز الإخلال بفوريّته و اتّصاله بالصلاة، فإنّه يوجب الشكّ في سقوط الأمر بالصلاة، و بالجملة لا يستفاد من نصوص الشكّ بين الأربع و الخمس اغتفار الفصل بين الصلاة و سجود السهو بمقدار صلاة الاحتياط، فمقتضى الاحتياط اللازم في المقام إعادة أصل الصلاة أيضا بعد العمل بموجب الشكّين.

و أمّا الغير الراجعة إلى المنصوصة و لا المركّبة منها كالأمثلة المتقدّمة فملخّص الكلام فيها أنّه لا طريق إلى تصحيحها لا من جهة البناء على الأكثر، لاختصاصه بما إذا كان ملازما لاحتمال النقيصة و مأمونا عن احتمال الزيادة، فلا يشمل ما إذا كان الأمر بالعكس، أو كان الأمر دائرا بين النقيصة و الزيادة.

و لا من جهة البناء على الأقلّ بتخيّل أنّه مقتضى استصحاب عدم الزيادة، كما هو الحال في الشكّ في الأجزاء، كما لو شكّ و هو جالس في أنّه هل سجد سجدة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فإنّه يبني على الواحدة، فيأتي بالأخرى و ينفي الثالثة بالأصل، و ذلك لانسداد باب الاستصحاب في الشكوك المتعلّقة بالركعات.

و الذي يدلّ على ذلك تعليل وجوب الإعادة في الشكّ المتعلّق بالأوليين بعدم الوهم المفسّر بالبناء على الأكثر فيهما، لكونهما من فرض اللّٰه، فإنّه يستفاد منه أنّ كونهما من فرض اللّٰه صار علّة لعدم جريان حكم البناء على الأكثر فيهما، و عدم جريان ذلك صار علّة لوجوب الإعادة، و مقتضى الأخذ بظهور العلّية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 548

في الأخير التعدّي إلى غير موردهما ممّا ليس من فرض اللّٰه أعني الأخيرتين إذا وجد فيه العلّة المذكورة، و هي عدم جريان الحكم بالبناء على الأكثر، فيحكم في

الأخيرتين أيضا في هذه الصورة بوجوب الإعادة أخذا بظاهر التعليل المذكور، و هذا ملازم لانسداد باب الاستصحاب، و إلّا لم يصحّ تفريع وجوب الإعادة على انسداد باب البناء على الأكثر، هذا.

و ربما يستدلّ للصحّة في خصوص ما إذا شكّ في الزيادة دون النقيصة كما في الشكّ بين الأربع و الستّ أو أزيد بإطلاق صحيحة زرارة أو حسنته «قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر زاد أم نقص فليسجد سجدتين و هو جالس، و سمّاهما رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله المرغّمتين» «1».

تقريب الاستدلال هو أنّ الظاهر من الصدر أعني: قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: إذا شكّ أحدكم في صلاته، حصول الشكّ في أصل وقوع الخلل في الصلاة، فلا يشمل صورة العلم بأصل الخلل و الشكّ في كيفيّته.

و على هذا فلا بدّ من حمل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله تفريعا على ما تقدّم: فلم يدر زاد أم نقص، على إرادة الشكّ في وقوع الزيادة و العدم، لا العلم الإجمالي بحصول أحد الأمرين من الزيادة أو النقيصة، فالمراد بالنقص عدم الزيادة، لا النقص عن حدّ المأمور به.

لا يقال: من لم يدر أنّه صلّى ثلاثا أو خمسا غير عالم ببطلان صلاته، لأنّها على تقدير الثلاث قابلة للإتمام.

لأنّا نقول: لا يقال: نقّص صلاته بمجرّد وصوله إلى الركعة الثالثة ما لم يعامل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 549

معها معاملة الرابعة بأن يأتي بالسلام بعدها، و معه لا محالة يكون قاطعا بأصل الخلل، و قد فرضنا خروجه عن ظاهر الصدر،

فمورد الرواية مخصوص بمن لا يدري أنّه صلّى أربعا أو أزيد، و إطلاقه شامل لمن تردّد بين الأربع و الزيادة عن الخمس، هذا.

فروع
1- المراد بالشكّ هو التحيّر

المراد بالشكّ في أخبار المقام هو التحيّر، و لا يطلق التحيّر عرفا إلّا بعد ما لم يمكن رفع الشكّ بسهولة، ألا ترى أنّه لو علّق حكم على الشكّ في وجود زيد في المسجد مثلا فلا يصحّ ترتيب هذا الحكم لمن دخل المسجد شاكّا في وجود زيد مع تغميض عينيه لحفظ شكّه، فإنّه بمجرّد فتح العين إلى الأطراف ينكشف له الحال، فكيف يقال: إنّه متحيّر.

و كذلك الحال في من شكّ أنّه مديون و لكنّه بمجرّد النظر إلى الدفتر يحصل له العلم، فلا يحصل له التمسّك بأصل البراءة النقليّة.

و كذا الحال في الشكّ المأخوذ في أخبار المقام، فإنّ المنصرف منه أيضا هو التحيّر المتوقّف صدقه على استقرار الشكّ بعد مقدار من التروّي، و على هذا فلا يحتاج إلى إقامة دليل بالخصوص على لزوم التروّي.

2- إذا شكّ أحد الشكوك المعتبر فيها إكمال السجدتين و اتّفق له الشكّ في السجدة أو السجدتين من هذه الركعة

التي هو فيها فللمسألة ثلاث صور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 550

الاولى: أن يتّفق له الشكّ الثاني في حال الجلوس قبل التشهّد، و الثانية:

أن يتّفق له في أثناء التشهّد، و الثالثة: أن يتّفق له في حال القيام.

لا إشكال في الصورة الاولى في الحكم ببطلان الصلاة، لأنّه بعد عدم الطريق لإحراز السجدة أو السجدتين من هذه الركعة و المفروض أنّه يحتمل كونها ركعة ثانية داخل في من لم يحرز الأوّلتين و لم يثبتهما، و قد حكمت الأخبار عليه بالإعادة.

كما أنّه لا إشكال في الصورة الأخيرة في الحكم بالصحّة، لأنّه بواسطة إجراء قاعدة الشكّ بعد التجاوز يندرج في من أثبت الأوليين و تيقّنهما، إذ اليقين موضوع في هذا المقام على وجه الطريقيّة.

إنّما الكلام و الإشكال في الصورة المتوسّطة، أعني ما إذا اتّفق له الشكّ الثاني في أثناء التشهّد، فهل يحكم فيها أيضا بالبطلان كالأولى،

أو بالصحّة كالأخيرة؟

قد يقال بالأوّل، نظرا إلى أنّ المقام شبهة مصداقيّة لقاعدة التجاوز، لأنّه على فرض كون ما بيده ركعة ثالثة يكون التشهّد فيها غير مشروع، و المحقّق للتجاوز هو الدخول في الغير المرتّب على المشكوك شرعا، فيبقى المقام داخلا في عنوان من لم يحرز الأوليين، و قد مرّ أنّ الحكم فيه الإعادة.

إلّا أن يقال بأنّ إحراز الأوليين حاصل بضميمة الوجدان إلى التعبّد، فإنّه على فرض كون ما بيده ركعة ثالثة قاطع بحصول الأوليين وجدانا، و على التقدير الآخر محكوم بوجود السجدتين شرعا، لكونه موردا لقاعدة التجاوز.

إلّا أن يدفع ذلك بأنّه كيف يمكن التعبّد شرعا بوجود السجدتين و لو تعليقا على تقدير خاصّ، ثمّ التعبّد ثانيا مرتّبا على الأوّل بالبناء على الثلاث اللازم منه رفع [اليد] عن التشهّد المستلزم للتعبّد شرعا بعدم السجدتين، فيكون في الحقيقة قد رتّب التعبّد شرعا بعدم السجدتين من هذه الركعة بتّا و بلا تعليق على التعبّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 551

شرعا بوجودهما فيها على تقدير خاصّ، و من المعلوم التنافي بين التعبّد بوجود شي ء على بعض التقادير و بين التعبّد بعدم ذلك الشي ء بعينه جزما و بلا تعليق.

نعم لو عمّمنا المحلّ المعتبر انقضاؤه في قاعدة التجاوز للمحلّ العادي أمكن أن يقال بإحراز السجدتين هنا بالقاعدة، لأنّ الدخول في التشهّد و لو كان في الركعة الثالثة اشتباها لا يكون بحسب العادة إلّا بعد السجدتين، إلّا أنّه قد تقرّر في محلّه ورود بعض الإشكالات على التعميم المذكور و إن ساعده الفهم العرفي.

3- الشكّ حال القيام بين الثلاث و الأربع

لو شكّ حال القيام بين الثلاث و الأربع و علم أنّه ترك سجدة أو سجدتين من الركعة التي قام عنها فلا محيص عن البطلان، لأنّه بعد رجوع الشكّ

إلى الثنتين و الثلاث و اندراجه تحت أدلّته إمّا حال القيام و إمّا بعد هدمه على الوجهين المتقدّمين يكون فاقدا لما هو الشرط في صحّة الشكّ المرجوع إليه، و هو إحراز الثنتين.

نعم لو قلنا باندراج الشكّ بين الثلاث و الأربع في أثناء الركعة في عمومات البناء على الأكثر، و قلنا أيضا بشمولها للقيام اللازم الهدم على كلّ تقدير، أو قلنا بأنّ إحراز الثنتين المعتبر بين الشكّ في الثنتين و الثلاث مثلا يحصل بإتمام الركوع أمكن القول بالصحّة، لكن ضعف كلا الوجهين غنيّ عن البيان كما مرّ سابقا.

4- لو تردّد في حاله، أنّه ظنّ أو شكّ

لو تردّد في أنّ الحالة الفعليّة الحاصلة له ظنّ أو شكّ قالوا كان ذلك شكّ،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 552

و فيه إشكال من وجهين:

الأوّل: في تصوّر أصل الموضوع، فإنّ الشكّ في اعتدال الوهم و عدمه ليس إلّا كالشكّ في الجزم بأحد الطرفين و عدمه، و كما لا يمكن للإنسان الترديد في جزم نفسه، كذلك لا يمكن الترديد في اعتدالها، لأنّهما من واد واحد.

نعم يمكن الترديد بالنسبة إلى الحالة الموجودة في خزانة نفسه المحجوبة عليه فعلا، و أمّا الترديد في الحالة الفعليّة غير متصوّر في المقامين.

الثاني: بعد تصوّر الموضوع المذكور أعني الشكّ في الحالة الفعليّة ما وجه الجزم بكونه شكّا، و هل هو إلّا التهافت و التناقض؟ إن أريد أنّه بحكم الشكّ فلا وجه له أيضا بعد إرادة اعتدال الطرفين منه في المقام، فإنّ التمسّك بكلّ من دليلي الظنّ و الشكّ ليس إلّا من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

و إن كان مفروض كلامهم الشكّ الفعلي في الحالة المخزونة. ففيه أنّ الحالة المخزونة لا اعتبار بها، و إنّما أنيط الحكم في الأدلّة على الحالة الفعليّة، و من المعلوم أنّه

إذا لوحظ حاله بالنسبة إلى عدد الركعات يكون وهمه معتدلا فيها.

5- لو علم أنّه حصل له حالة تردّد بين الاثنتين و الثلاث مثلا

في الركعة التي قام عنها و بنى على الثلاث، و لكنّه لا يعلم أنّه حصل له الظنّ بالثلاث فبنى عليه، أو أنّه بقي على الشكّ و كان بناؤه على الثلاث من باب حكم الشكّ فلا يخفى أنّه فعلا شاكّ في أنّه صلّى ثلاثا أو أربعا إذا اتّفق له ذلك بعد تمام الركعة.

فإن قلنا بتوافق حكمي الشكّين فلا كلام، و كذلك إن قلنا بتخالفهما و أنّ المتعيّن في الأوّل ركعة من قيام و في الثاني ركعتان من جلوس و لكن قلنا بعدم إضرار فصل صلاة الاحتياط عن صلاة الأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 553

و أمّا إن قلنا بتخالفهما و إضرار الفصل فلا محيص عن اختيار أحد الطريقين ثمّ إعادة أصل الصلاة.

و لا وجه للجزم بإجراء حكم الشكّ الثاني بعد ما كان المفروض احتمال كون هذا الشكّ هو الشكّ الحادث أوّلا، إذ على هذا التقدير لا شكّ في كونه محكوما بحكم الشكّ الأوّل، لوضوح أنّ كلّ شكّ وقع بين الثنتين و الثلاث يصير بعد ركعة أخرى شكّا بين الثلاث و الأربع، فيلزم محكوميّته بحكم الثاني، و هو خلف.

و السرّ أنّ الشكّ بين الثلاث و الأربع الواقع موضوعا في أدلّته عبارة عن الشكّ الذي كان بهذه الصورة من أوّل حدوثه لا الأعمّ منه و ممّا إذا عرض له هذا العنوان ببقائه.

و حينئذ فنقول في المقام: إنّه و إن كان شاكّا فعلا بين الثلاث و الأربع، لكنّه لا يعلم أنّه شكّ حادث كذلك، أو أنّه شكّ حدث أوّلا بين الثنتين و الثلاث، و صار ببقائه معنونا بالعنوان الآخر.

و إذا اتّفق له ذلك بعد الفراغ من الصلاة فلا

يعلم أنّ شكّه الفعلي بين الثلاث و الأربع شكّ حادث بعد الفراغ و قد أتمّ صلاته بالظنّ حتّى لا يكون لشكّه الفعلي حكم بمقتضى قاعدة الفراغ، أو أنّه شكّ باق من أثناء الصلاة و قد أتمّ صلاته بحكم الشكّ حتّى يكون فعلا محكوما بصلاة الاحتياط.

و لا يخفى أنّ الشكّ في إيجاب صلاة الاحتياط عليه ليس من الشكّ في تكليف مستقلّ برأسه حتّى يكون موردا للبراءة، بل التكليف بصلاة الاحتياط إنّما هو بعنوان البدليّة في مقام الامتثال و تفريغ الذمّة عن عهدة الصلاة الرباعيّة التي اشتغلت الذمّة بها أوّلا، و من المعلوم أنّ الشكّ الواقع في مثل هذا المقام مورد للاشتغال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 554

6- لو شكّ في أنّ شكّه السابق كان موجبا للبطلان أو للبناء

لو شكّ في أنّ شكّه السابق كان موجبا للبطلان أو للبناء، بنى على الثاني.

مثلا لو علم أنّه شكّ بين الثنتين و الثلاث، و بعد ما دخل في فعل آخر أو ركعة أخرى لم يعلم أنّ شكّه حدث قبل إكمال السجدتين أو بعده جرى في حقّه قاعدة الشكّ بعد المحلّ، و مقتضاها الحكم بحدوثه بعد الإكمال.

بيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، و هي أنّه لا إشكال في الحكم بالمضيّ و عدم الاعتناء بالشكّ في شرائط المأمور به بعد انقضاء محلّها بحكم قاعدة التجاوز.

إنّما الكلام و الإشكال في جريان هذه القاعدة في الشكّ في شرائط الأمر و التكليف، كما لو قلنا بعدم صحّة عبادات الصبيّ قبل البلوغ، فوقع الشكّ في صلاة أنّها هل وقعت قبل البلوغ أو بعده، فهل يصحّ التمسّك لصحّتها و الحكم بوقوعها بعد البلوغ بذيل القاعدة أو لا؟

و كذا لو شككنا في صلاة بعد الفراغ منها أنّها هل وقعت بعد دخول الوقت أو قبله، إلى غير ذلك من

الأمثلة.

و لا يبعد دعوى الانصراف إلى القسم الأوّل و خروج الثاني عن مدلول القاعدة بدعوى ظهور قوله عليه السّلام: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» «1» في أنّ

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 554

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 555

الملاك أذكريّة المكلّف حين العمل الذي اشتغلت ذمّته به بالنسبة إلى أجزائه و شرائطه، و أنّه لا يغفل عن إتيان شي ء من هذه الأمور في محالّها، و أين هذا من الحكم بالأذكريّة و عدم الغفلة في مراعاة سائر الأمور الغير المرتبطة بالمأمور به، و إنّما أنيط بها أصل التكليف كالبلوغ و الوقت.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بأنّ المناط مطلق الأذكريّة لا المقيد بحال العمل المأمور به، بمعنى أنّه متى دار الأمر بين سهو الفاعل في فعله الصادر منه أو ذكره يجب البناء على كونه ذاكرا، و من المعلوم أنّ المصلّي لو صلّى قبل الوقت أو قبل البلوغ مع علمه ببطلانها في الحالين فلا محالة يكون ناشئا عن سهوه، و الأصل عدمه.

إذا عرفت ذلك فنرجع إلى ما كنّا بصدده فنقول: إنّ الشاكّ المذكور في مسألتنا يرجع شكّه إلى أمرين:

الأوّل: الشكّ في حدوث الشكّ قبل الإكمال، و هذا بمنزلة الشكّ في طروّ أحد القواطع، و مقتضى الأصل البناء على عدمه.

و الثاني: الشكّ في حدوث الشكّ بعد الإكمال الذي هو شرط لتوجّه التكليف بالبناء على الأكثر، فإن كان هذا التكليف في عرض التكليف بالأربع الموصولة فالشكّ المذكور شكّ في شرط توجّه هذا التكليف، و إن كان تكليفا ثانويّا واقعا في طريق امتثال التكليف الأوّلي بالأربع الموصولة فالشكّ المذكور شكّ

في شرط توجّه هذا التكليف الثانوي.

و ربما يدّعى انصراف دليل القاعدة إلى الشكوك المتعلّقة بما يتعلّق بالتكاليف الأوّلية، و يدفعه ما عرفت أخيرا من ظهور الدليل في أنّ الملاك مطلق الأذكريّة حال الفعل الصادر عن الفاعل المختار و عدم الغفلة عن شي ء من الجهات الراجعة إليه، و يستوي فيه العمل بمقتضى التكاليف الأوّلية أو الثانويّة، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 556

7- لو علم بعد الفراغ أنّه طرأ له الشكّ في الأثناء

لو علم بعد الفراغ أنّه طرأ له الشكّ في الأثناء، لكن لم يدر كيفيّته من رأس، فإن انحصر في الوجوه الصحيحة أتى بموجب الجميع و هو ركعتان من قيام و ركعتان من جلوس و سجود السهو، ثمّ الإعادة، و إن تردّد بين الوجوه الصحيحة و الفاسدة قال في نجاة العباد و في العروة الوثقى: استأنف الصلاة، لأنّه لم يدر كم صلّى، انتهى.

و الفرق بين هذا الفرع و الفرع المتقدّم أعني الشكّ في كون شكّه السابق قبل الإكمال أو بعده غير معلوم، بل معلوم العدم، و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو الحمل على الوجه الصحيح، و من العجيب تعليل الاستئناف بأنّه لم يدر كم صلّى، فإنّه «1» ..

8- الشكّ في الركعات لو نوى القصر في مواضع التخيير
اشارة

لو نوى القصر في أحد مواضع التخيير فشكّ بعد إكمال السجدتين أنّه صلّى ثنتين أو ثلاثا فهل له العدول إلى التمام ثمّ البناء على الثلاث، ثمّ صلاة الاحتياط كما هو وظيفة الشكّ المذكور في الرباعيّة، أو أنّه يحكم ببطلان الصلاة، لكونه شكّا في الثنائيّة؟ و على الأوّل هل يجب العدول بناء على حرمة الإبطال أو لا؟

______________________________

(1) كذا في الأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 557

القصر و الإتمام ماهيّتان مختلفتان أو لا؟

مجمل الكلام أنّه تارة يقال بأنّ القصر و الإتمام ماهيّتان مختلفتان، و اخرى يقال باتّحادهما ماهيّة، فذات العمل قبل تحقّق التسليم في الركعتين الأوليين صالحة لكليهما، فإن تحقّق التسليم عقيب التشهّد الأوّل يعيّن القصر، و إلّا فالإتمام.

فإن قلنا بالأوّل فمقتضى القاعدة عدم جواز العدول من إحدى الماهيّتين إلى الأخرى، و لو ورد دليل في بعض المقامات كما في الحاضرة إلى الفائتة السابقة كان على خلاف القاعدة، فلا يتعدّى عن مورده، و على هذا فلا محيص عن البطلان في مسألتنا، إذ لا دليل بالخصوص على العدول مع قطع النظر عن وقوع الشكّ.

و إن قلنا بالثاني فالأخبار الخاصّة الواردة في الثنائيّة ببطلان الشكّ فيها أو في الرباعيّة بصحّة الشكّ فيها و إن كان لا يشمل شي ء منها للمقام، إذ المتبادر من الثنائيّة و الرباعيّة هي الصلاة المجعولة، كذلك تعيينا، لكن لا مانع من الأخذ بقوله في موثّقة عمّار: أجمع لك السهو كلّه في كلمتين، متى شككت فابن على الأكثر «1» إلخ، فإنّه و إن كان لا يمكن دخول الثنائيّة التعيينيّة في عموم هذا الخبر و لو فرض عدم وجود الأخبار الخاصّة في خصوص الثنائيّة بملاحظة أنّه إذا كان الشكّ فيها بين الواحدة و الاثنتين، فقد أخرجته الأخبار الدالّة على أنّ فرض اللّٰه

غير قابل للوهم و إن كان بعد إكمال الركعتين كالشكّ بين الثنتين و الثلاث، فالبناء على الأكثر غير شامل له، لكونه ظاهرا في الأكثر الصحيح الذي بعد البناء عليه يحتمل نقص

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 558

الصلاة، و لهذا حكم في الرواية بجبره بصلاة الاحتياط، و بعد عدم شمول العموم المذكور يتعيّن البطلان على ما استفيد من الأخبار المفصّلة بين فرض اللّٰه و فرض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، حيث يستفاد منها أنّه متى لم يجر الحكم المجعول للسهو في الصلاة فلا محيص فيها عن الإعادة، و قد فسّر حكم حقيقة السهو في الموثّقة بالبناء على الأكثر، لكن هذا كلّه في الثنائيّة التعيينيّة.

و أمّا في مثل مواضع التخيير فالعموم المذكور لا مانع من الأخذ به.

بيان ذلك أنّا لو فرضنا الأمر التوصّلي من المولى بحصول الخطّ إمّا محدودا بنصف الذرع و إمّا بالذرع التامّ فاشتغل المكلّف بالخطّ و غفل، ثمّ التفت فرأى نفسه متجاوزا عن نصف الخطّ غير بالغ إلى تمامه فلا إشكال في أنّه إذا أتمّ ما بيده إلى تمام الذرع كان وافيا بغرض المولى، لما فرضنا من كونه توصّليّا.

فنقول: أمر الشارع بصلاة القصر أو الإتمام تخييرا في المواطن الأربع بعينه من هذا القبيل، إلّا أنّه اعتبر صدور الفعل على وجه الاختيار الحسن، و لا إشكال في أنّه لو قصد حين الشروع في القصر بمعنى أن يأتي بالتسليم عقيب التشهّد الأوّل، ثمّ غفل و أتى بالركعة الثالثة فإتيانه بهذه الركعة الثالثة لا يكون من قبيل الحركة الغير الاختياريّة مثل حركة المرتعش، و بعد كونه اختياريا ليس المحرّك له إلّا الداعي الإلهي،

فلا محالة يكون إتمامه أربع ركعات وافيا بالغرض الصلاتي، لما فرضنا من عدم النقصان، لا من جهة ذات العمل و لا من جهة قصد القربة، فإذا كان هذا حال القطع بوقوع الثالثة فالشكّ فيها أيضا إذا قرّر له الشارع طريقا إلى الإتمام بالبناء على وجود الركعة المحتملة و ضمّ ركعة أخرى موصولة، ثمّ أخرى مفصولة حاله كذلك، غاية الأمر أنّه مع القطع تتميم لأربع ركعات وجدانا، و في صورة الشكّ تعبّدا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 559

ثمّ الظاهر أنّ العدول بعد ما فرضنا جوازه كما عرفت يكون واجبا عقلا من باب تعيين أحد فردي الواجب التخييري في صورة تعذّر الفرد الآخر، فإنّ إتمام هذه الصلاة ثنائيّة متعذّر، و استئناف صلاة أخرى ثنائيّة أيضا منعنا عنه حرمة الإبطال، فيتعيّن إتمامها رباعيّة.

لا يقال: ليس في المقام إبطال، بل المتحقّق هو البطلان، فليس ترك العدول إلّا رفعا لليد عن العمل الباطل، لا إبطالا للعمل الصحيح.

لأنّا نقول: ما ذكرت مبنيّ على كون الشكّ في الصلاة الثنائيّة من المبطلات، و هو خلاف التحقيق، بل غاية الأمر أنّه شكّ بلا علاج، فالصلاة بعد غير باطلة، و المفروض أنّا لو عدلنا إلى الرباعيّة أمكننا إتمامها بأعمال وظيفة الشكّ، فترك ذلك و رفع اليد عنها ليس إلّا إبطالا للعمل الصحيح، و اللّٰه العالم.

و ممّا ذكرنا من اتّحاد القصر و الإتمام ماهيّة يظهر أنّ أمر العدول في مسألتنا أسهل منه في ما إذا دخل في المغرب مثلا فشكّ بين الاثنتين و الثلاث، فذكر أنّ عليه فائتة رباعيّة، فإنّ العدول من صلاة إلى صلاة أخرى مخالفة معها ماهيّته أمر تعبّدي على خلاف القاعدة.

و يمكن أن يقال بانصراف دليل العدول إلى ما إذا كان إتمام الصلاة

بعنوان المعدول عنه لو لا ملاحظة الترتيب بينه و بين المعدول إليه ممكنا، فلا يشمل الفرض المذكور، لعدم إمكان إتمام الصلاة بعنوان المغرب.

و لو انعكس الأمر بأن دخل في رباعيّة فشكّ بين الاثنتين و الثلاث فذكر أنّ عليه ثلاثيّة، فلا إشكال في عدم شمول دليل العدول هنا، فإنّه إمّا نفرض العدول بعد البناء على الثلاث و لازمة الاكتفاء بالركعة المشكوكة في المغرب، و قد نصّت الأدلّة فيها بالعدم، و إمّا نفرض قبل ذلك فيكون نتيجته الحكم بالبطلان، و من المعلوم أنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 560

دليل العدول إنّما يشرّع العدول لأجل إتمام المعدول إليه، لا للحكم على الصلاة بالبطلان بعده.

و حينئذ فهل الحكم إتمام الصلاة رباعيّة بإعمال وظيفة الشكّ ثمّ الإتيان بالثلاثيّة بعدها، أو أنّه يلزم رفع اليد عنها و استئناف صلاة أخرى بلا نيّة ثمّ الإتيان بالرباعيّة بعدها؟

الحقّ في المسألة التفصيل بين صورة جواز العدول كما في العدول عن الحاضرة إلى الفائتة، فيحكم بإتمام الصلاة رباعيّة، و لا يجوز القطع، و بين صورة وجوب العدول كما في العدول من العشاء الحاضرة إلى المغرب كذلك، أو من العشاء الفائتة إلى المغرب كذلك، فالحكم في هذه الصورة هو الحكم في ما إذا تذكّر بعد تجاوز محلّ العدول، فإن قلنا فيه بصحّة صلاته عشاء نقول به ها هنا، و إن قلنا بالبطلان بفوات الترتيب بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة مع وجود الذكر نقول به ها هنا أيضا.

و العجب من شيخنا المرتضى رحمه اللّٰه، حيث قال في صلاته ما حاصله الفرق بين صورة وقوع الشكّ بين الثنتين و الثلاث، فقوّى فيها البطلان، و بين صورة وقوعه بين الثلاث و الأربع فحكم بإتمامه رباعيّا بالعمل بوظيفة الشكّ.

و أنت

خبير بأنّه إن كان الوجه في ما ذكره في الصورة الثانية هو أنّ مقتضى البناء على الأربع مضيّ محلّ العدول فالفرع الأوّل أيضا مشترك معه في عدم إمكان العدول على حسب ما قرّرنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 561

الفصل الثالث في كيفيّة صلاة الاحتياط و جملة من أحكامها

اشارة

و فيه مسائل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 563

[المسألة] الأولى يعتبر في صلاة الاحتياط أمران: المبادرة و تكبيرة الإحرام
اشارة

يعتبر في صلاة الاحتياط جميع ما يعتبر في سائر الصلوات، لتسميتها في الأخبار صلاة مستقلّة، و لا صلاة بغير افتتاح، فيعتبر فيها تكبيرة الإحرام، كما يعتبر فيها تجديد النيّة و قراءة الفاتحة.

و هل يجب الفور فيها و لا يجوز تخلّل أحد المنافيات بينها و بين صلاة الأصل، نظرا إلى أنّها تتميم للصلاة على فرض النقصان و إن كان أجنبيّا عنها على فرض التمام، فيجب مراعاة كلتا الجهتين فيها أعني جهة الجزئيّة و الاستقلال، فبلحاظ الجهة الأولى يجب المبادرة و لا يجوز الفصل بالمنافي، كما هو شأن الأجزاء، و بلحاظ الثانية يجب تكبيرة الإحرام و تجديد النيّة و قراءة الفاتحة.

التحقيق عدم تماميّة هذا الوجه، إذ بعد فرض عدم كون صلاة الاحتياط ركعة متّصلة حقيقة، بل هي صلاة مستقلّة، غاية الأمر يحتسبها الشارع مكان الركعة المتّصلة على فرض النقصان لا يكون المكلّف حال الفراغ من الصلاة الأصل و عدم الاشتغال بالاحتياط بين الصلاة الواحدة، بل بين الصلاتين، نعم هو بين المأمور به، إذ الصلاتان مأمور بهما بأمر واحد، و فرق بين الكون في أثناء المأمور به و بين الكون في أثناء الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 564

نعم يمكن تنزيل الشارع هذه الحالة المتوسّطة مكان الحالة الصلاتيّة، لكن يحتاج ذلك إلى دليل.

و حينئذ فإن قلنا بإطلاق الأدلّة الواردة في مقام البيان الساكتة عن التقييد بعدم تخلّل مثل الحدث و كذا عن التقييد بالفور فهو، و إلّا بأن قلنا: إنّ المفروض في هذه الأخبار المصلّي الجامع لجميع الشرائط الصلاتيّة الفاقد لجميع موانعها و الخطاب متوجّه إليه بصلاة الاحتياط فلا نظر فيها لغير هذا الموضوع، كما أنّ الملحوظ هو

الفور، فليس التراخي أو الفصل بالمنافي مشمولا للأخبار كما لعلّه الظاهر.

فحينئذ المرجع هو الأصل العملي، و لا يخفى أنّ الشكّ و إن كان راجعا إلى تقييد متعلّق التكليف و إطلاقه و المرجع فيه على حسب المختار في محلّه هو البراءة عقلا و نقلا، إلّا أنّه في غير أمثال ما نحن فيه ممّا كان الاشتغال بالمفهوم المبيّن معلوما و الشكّ واقع في مرحلة امتثاله و إسقاط تكليفه إمّا بواسطة الشكّ في دخالة شي ء في محصّله الشرعي و في دخالة شي ء في ما جعله الشارع بدلا له في حال الشكّ كما في المقام، فإنّ التحقيق عدم جريان البراءة في هذه الصورة لا عقلا و لا نقلا.

أمّا الأوّل فواضح، لأنّ العقاب على المخالفة على فرضها ليس بلا بيان كما هو المفروض من تبيّن المأمور به بحدوده و قيوده، و إنّما الشكّ في مرحلة الإسقاط و الإغماض و العفو.

إذا أخلّ بالمبادرة و أتى بالمنافاة

و أمّا الثاني: أعني حديث الرفع فهو فرع شموله للآثار الوضعيّة أعني الشرطيّة و القيديّة، لكنّه محلّ إشكال، فلا محيص عن الاحتياط بإتيان الاحتياط

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 565

فورا قبل الفصل بالمنافي، و على فرض وقوع السكوت الطويل أو سائر المنافيات فالاحتياط هو الإتيان بالاحتياط مع إعادة أصل الصلاة، للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين.

إلّا أن يقال: إنّ مبنى هذا العلم الإجمالي حرمة الإبطال، و القدر المتيقّن منها ما إذا أمكن تسليم العمل على أنّه مصداق المأمور به، فلا يشمل مثل ما نحن فيه ممّا يكون مشكوك المصداقيّة، فليس الإبطال بمحرّم في هذه الصورة واقعا، لا أنّه محتمل، و حينئذ يتعيّن الإعادة بواسطة الاشتغال بالأمر الأوّلي.

اللّٰهمّ إلّا أن يتمسّك لدفع القيدين المحتملين بذيل الاستصحاب، و تقريبه من وجهين:

الأوّل: استصحاب

التكليف بصلاة الاحتياط الثابت قبل حدوث المنافي أو الفصل الطويل، و المفروض بقاء الموضوع العرفي، فإنّه يقال: الركعتان المخصوصتان كانتا في الساعة السابقة متّصفة بالوجوب و الآن نشكّ في بقائهما على هذه الصفة، و مقتضى الاستصحاب البقاء.

و الثاني: استصحاب بقائهما على صفة التدارك على تقدير الوجود، و هذا و إن كان استصحابا تعليقيّا، لكن قد قرّر في الأصول صحّته حتّى في الموضوع فضلا عن الحكم.

و الحقّ عدم تماميّة الوجه الأوّل و تماميّة الثاني.

أمّا الأوّل: فلمنع بقاء الموضوع عرفا، كيف و موضوع القضيّة السابقة لعلّه كان هو الركعتان المقيّدتان بكونهما قبل المنافي أو متّصلتين بالصلاة، و في القضيّة المشكوكة هو الركعتان المتّصفتان بخلاف ذلك.

و مثل هذه الاختلافات و إن كان لا يضرّ في وحدة الموضوع العرفي، لكن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 566

عدم إضراره مخصوص بمثل الأحكام المتعلّقة بالموضوعات بعد وجودها في الخارج، مثل النجاسة و الطهارة و أمثال ذلك، فإنّ الموضوع بعد وجوده في الخارج كالماء المتغيّر إذا زال عنه الوصف الموجود فيه، فلا يسمّى عند العرف موضوعا مغايرا لما كان في السابق.

و أمّا الأحكام المتعلّقة بالأفعال بلحاظ الوجود مثل الأمر المتعلّق بالصلاة حيث لا يمكن تعلّقه بالصلاة المفروضة الوجود، بل لا بدّ و أن يتعلّق بها قبل الوجود بلحاظه، فليس مثل هذا الاختلاف غير قادح بالوحدة في أمثال ذلك.

و الشاهد مراجعة العرف، حيث إنّهم يفرّقون في المفاهيم الكلّية قبل تلبّسها بالوجود و بين الأشخاص المتلبّسة بالوجود، فيحكمون بتغاير المفهومين المطلق و المقيّد في الأوّل، دون الثاني، كيف و تقسيم الماهيّة إلى المطلق و المقيّد تقسيم عرفي، لا دقّي عقلي.

بيان صحّة الاستصحابات التعليقيّة في الحكم و الموضوع

و أمّا وجه تماميّة الثاني فيبتني على مقدّمتين:

الاولى: بيان صحّة الاستصحابات التعليقيّة، سواء كان

التعليق في الحكم كما في: العنب إذا غلى ينجس، أو في الموضوع، كما في ما لو علم كون الماء بحدّ من الكمّ بحيث لو صبّ عليه منّ لصار كرّا.

و الثانية: بيان أنّ التطبيق و الحكم بانطباق المأتيّ به على المأمور به ليس حكما عقليّا فقط لا تناله يد الجعل، بل ممّا تناله.

وجه الحاجة إلى هذه أنّ المستصحب هنا أنّ الركعتان على تقدير الوجود في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 567

السابق كانتا منطبقتين على المأمور به، و لا يرد عليه الإشكال السابق، فإنّ المشار إليه هو الشخص، لا المفهوم و الكلّي، فإنّ هذا أعني الانطباق من أحكام الشخص لا الكلّي، بل الإيراد عليه من وجهين:

الأوّل: احتياجه إلى التقدير و التعليق، و الثاني: أنّ الانطباق من حكم العقل، و ليس بمجعول للشرع، و لا له أثر مجعول، و الحقّ اندفاع كلا الإيرادين.

أمّا الأوّل: فلما حقّقناه في محلّه من صحّة التعليق و التقدير في أمثال هذه المقامات و إن لم يكن القضيّة التعليقيّة مجعولة للشارع بصورة التعليق، بل كانت من منتزعاتنا.

و أمّا الثاني: فلما حقّقناه أيضا من أنّ التقبّل أيضا حكم قابل للجعل، و حقيقته الإغماض و رفع اليد عن أمره مع عدم إتيان متعلّقه.

المسألة الثانية لو تذكّر النقص بعد البناء على الأكثر و التسليم

فإمّا أن يتذكّر النقص المحتمل أو غيره، و على التقديرين إمّا أن يكون قبل الاحتياط أو بعده، أو بين الاحتياطين، أو في أثناء احتياط واحد، و على الأخيرين إمّا أن يكون ما أتى به مطابقا للمنقوص كمّا و كيفا، أو مخالفا له فيهما، أو في أحدهما.

فإن تذكّر قبل صلاة الاحتياط قالوا: دخل في مسألة من نقص ركعة أو أزيد.

و قد يشكل بأنّ مورد تلك المسألة ما إذا سلّم سهوا، و ما نحن

فيه [ليس] ما وقع فيه السّلام بزعم الفراغ، بل لأجل أمر الشارع، و هو أيضا قد بان عدمه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 568

لأنّه متعلّق بالشاكّ المستمرّ إلى آخر الاحتياط، فهذا التسليم ليس بمشمول لأدلّة السّلام الواقع سهوا في غير المحلّ، و لا لأدلّة المقام، فالحكم بعدم إضراره و عدم مانعيّته عن إلحاق الركعة المنقوصة يحتاج إلى دليل، فيجب علينا العمل بمقتضى العلم الإجمالي من الجمع بين إتيان الركعة المنقوصة ثمّ الإعادة.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بمنع حرمة الإبطال، كما تقدّمت الإشارة إليه، فيكتفى بالإعادة.

لكنّ الحقّ صحّة ما ذكروه من إلحاق المسألة بمسألة من نقص ركعة أو أزيد في غالب الفروض.

توضيح المقام أنّه من المسلّم أنّه لو اعتقد جهلا مركّبا تماميّة الصلاة فسلّم، ثمّ بان الخلاف ليس هذا السّلام بمانع عن إلحاق التتمّة، هذا في الجهل المركّب بالنسبة إلى الاعتقاد الوجداني.

و كذا الحال في الطرق التعبّديّة المجعولة لرعاية الواقعيّات مطلقا أو في حال الشكّ، فإنّ شأن الحكم الطريقي كونه كالعلم في الأعذار و التنجيز مع الإصابة و الصوريّة مع عدمها، فلو شهدت بيّنة بأنّك قد أتممت الركعات فسلّمت ثمّ تبيّن كذبها كان أيضا هذا السّلام غير مانع من الإتمام، و كذا لو اقتضى أصل من الأصول الشرعيّة ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول: المصلّي الذي عرض له في أثناء الصلاة شكّ من الشكوك الصحيحة لا يخلو من أحد الأحوال الثلاثة:

إمّا أن يكون قاطعا ببقاء شكّه إلى آخر العمل بالوظيفة، و إمّا أن يكون قاطعا بزواله في الأثناء قبل الآخر، و إمّا أن يكون شاكّا، و الغالب هو القسم الأوّل.

ففي الأوّل يكون سلامه بزعم أنّه مأمور به بأمر شرعي و قد ظهر كونه جهلا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص:

569

مركّبا، و قد عرفت أنّه غير مانع.

كما أنّه في القسم الثاني يرفع اليد عن هذه الصلاة و يأتي بصلاة مستأنفة.

و في القسم الثالث حيث إنّ البقاء مطابق للأصل العقلائي، لغلبة عدم الانقلاب نظير أصالة السلامة من السهو و النسيان، فالسلام المبني على هذا الأصل أيضا غير مانع كما عرفت.

نعم لو فرض انقلاب الأصل في حقّه لغلبة انقلاب شكّه في الأثناء فربما يقال بجريان استصحاب البقاء في حقّه، لكنّ الظاهر عدم جريانه، إذ الأثر ليس مرتّبا على وجود الشكّ في الأزمنة المتأخّرة، بل على وجوده بوصف الاتّصال.

و بعبارة أخرى: العناوين الواقعة موضوعا للعمل التدريجي ظاهرة في وجود الاتّصالي الدائم بدوام ذلك العمل، فالاستصحاب لا يثبت وصف الاتّصال، و إنّما يثبت أصل الوجود.

هذا كلّه في ما لو تذكّر النقص قبل الاحتياط.

و لو تذكّر بعده فإن كان مطابقا للمنقوص فالنصوص مصرّحة بالإجزاء في هذا الفرض، من غير فرق بين المخالفة في التكليف و عدمها، و من غير فرق بين ما لو كان للاحتياط المطابق للمنقوص المقدّم من الاحتياطين في صورة الاحتياج إلى تعدّد الاحتياط و غيره، و كذا من غير فرق بناء على عدم إضرار تخلّل المنافي بين صلاة الأصل و الاحتياط بين تخلّله و عدمه، و شبهة الفرق يشبه أن يكون اجتهادا في مقابل النصّ، أو رفعا لليد عن المبنى.

و إن كان مخالفا له، إمّا بأن كان النقص أزيد من الاحتياط، كما لو تذكّر في الشكّ بين الثلاث و الأربع بعد الإتيان بركعة الاحتياط نقصان صلاته ركعتين، و إمّا بأن كان بالعكس، كما لو تذكّر في الشكّ بين الاثنتين و الأربع بعد الإتيان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 570

بركعتي الاحتياط نقصان صلاته ركعة، فلا إشكال

في أنّ دليل الجبر غير شامل لهذا الفرض.

كما أنّ دليل الوقوع نافلة أيضا غير شامل له، لأنّ الموضوع هو الشاكّ بين الثلاث و الأربع الذي كان محرزا للثلاث، و ظاهره كون الإحراز جزء للموضوع على وجه الطريقيّة، بحيث يكون للمتعلّق أيضا مدخليّة، فإذا تبيّن أنّه ما صلّى ثلاثا، بل اثنتين فقد انكشف كونه خارجا عن موضوع الحكم.

و هكذا الكلام في من شكّ أنّه صلّى ثنتين أو أربعا و قد أحرز الثنتين، فإنّه إذا علم أنّه صلّى ثلاثا تبيّن أنّ إحرازه كان على خلاف الواقع، لأنّه علم إجمالا إمّا بالاثنتين أو بالأربع و تبيّن الثلاث، فيقع الكلام في مانعيّة هذا المقدار الذي وقع منه من الأفعال و الأقوال عن إلحاق التتمّة و عدمها.

و لعلّ الأظهر عدم المانعيّة، فإنّ حاله حال من سلّم بزعم الفراغ، ثمّ اشتغل بقراءة سورة البقرة بعنوان التعقيب فتذكّر أنّه سلّم على الثالثة مثلا.

و من هنا يظهر الحال في ما لو تبيّن النقص في أثناء الاحتياط أو بين الاحتياطين، و كان الذي جاء به منهما غير مطابق للمنقوص.

و أمّا هذا الفرض مع كون ما جاء به مطابقا فيمكن تقوية كفايته و جبره للمنقوص بوجهين:

الأوّل: دعوى القطع بعدم دخالة الاحتياط الثاني لجابريّة الاحتياط الأوّل، بل كلّ منهما جابر مستقلّ على تقدير أحد من طرفي الشكّ، هذا مع بقاء الشكّ إلى آخر الوظيفة.

و أمّا إذا انقطع بعد الاحتياط الأوّل فهو و إن كان خارجا عن مفاد اللفظ، لكن يمكن فهمه بتنقيح المناط، فإنّ الإنسان يقطع بأنّ حفظ الشكّ إلى زمان الاحتياط الثاني يكون لأجل وقوع الاحتياط الثاني جائزا على تقدير الحاجة إليه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 571

و إلّا فليس لهذا الشكّ المتأخّر نفع بالنسبة

إلى الاحتياط المتقدّم.

الوجه الثاني: دعوى إطلاق اللفظ، إذ ليس في اللفظ إلّا أنّ من شكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع يفعل كذا و كذا، و ليس فيه تعرّض لبقاء الشكّ و زواله، و إنّما الحكم بالتقييد بالاستمرار هو العقل، لاستحالة التكليف بالعمل التدريجي بأن يصدر عن العنوان الغير المستمرّ إلى مقدار ذلك العمل، و القرينة العقليّة تتقدّر بقدر الضرورة و الحاجة، و الذي يحتاج إلى رفع [اليد] عن إطلاقه في ما نحن فيه إنّما هو بالنسبة إلى كلّ من الاحتياطين بمقدار نفسه، و أمّا بمقدار صاحبه فمقتضى الأخذ بالإطلاق عدم مدخليّته في الحكم بالإجزاء، هذا، و اللّٰه العالم.

المسألة الثالثة لو شكّ في عدد ركعات صلاة الاحتياط
اشارة

فظاهر الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم على ما حكي عن الحدائق الاتّفاق على عدم الاعتناء بالشكّ و البناء على المصحّح، فيبني على الأكثر ما لم يستلزم الزيادة، و إلّا فعلى الأقلّ.

و الأصل فيه ما عن الشيخ في الصحيح «ليس على الإمام سهو، و لا على من خلف الإمام سهو، و لا على السهو سهو، و لا على الإعادة إعادة» «1».

و في حديث آخر رواه الصدوق و الكليني رحمهما اللّٰه «قال عليه السّلام: ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه باتّفاق منهم، و ليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام، و لا سهو في سهو» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 24 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 572

بيان محتملات قوله عليه السّلام: لا سهو في السهو

و توضيح معنى الرواية الشريفة أنّ قولهم عليهم السّلام: لا سهو على السهو، أو لا سهو في سهو، يحتمل معاني، إذ السهو في كلّ من الموضعين يحتمل أن يراد به ما هو المتعارف منه في المحاورات، أعني النسيان، و يحتمل أن يراد به الشكّ، و يحتمل أن يراد به الأعمّ الشامل لكليهما، و يحتمل أن يراد بكلّ منهما واحد من هذه الثلاث، و بالأخير غيره، فيرتقي الاحتمالات إلى تسعة يحصل من ضرب الثلاث في مثلها.

ثمّ المراد بالسهو الأوّل نفي أثره، لا نفيه بحقيقته، لعدم انتفائه كذلك، كما أنّ المراد بالثاني ما يوجبه السهو من ركعة الاحتياط أو سجدتي السهو، و القدر المتيقّن الذي يمكن استفادته من الرواية الشريفة نفي حكم الشكّ في أعداد الركعات في صلاة الاحتياط، و حكم الشكّ هو البناء على الأكثر، فالرواية

صريحة في نفي الحكم المذكور عن الشكّ المزبور.

و بعد ارتفاع ذلك بنصّ الخبر يدور الأمر بين البناء على الأقلّ، كما هو مقتضى أصالة عدم الإتيان بالمشكوك، بناء على أنّ المتيقّن من سقوط هذا الأصل كما استفيد من التفريع الواقع في الأخبار نفي السهو في الأوليين على ما تقدّم توضيحه إنّما هو في الفرائض الأصليّة، لا مثل صلاة الاحتياط التي هي واجبة بالعارض.

و بين الحكم بالبطلان، نظرا إلى عدم جريان الأصل المزبور في حدّ ذاته في باب الركعات، لكونه بالنسبة إلى إثبات الحدّ مثبتا.

و الدليل على مطلوبيّة الحدّ ما نراه من الشارع من جعل الاحتياطين في الشكّ بين الثنتين و الثلاث و الأربع، و لو لا ملاحظة حفظ الحدّ عن الزيادة و النقصان لكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 573

المناسب الاكتفاء بالركعتين، لاندفاع احتمال الزيادة بالأصل، فإيجاب كلتيهما دليل على أنّ المطلوب في الصلاة هو الأربع بحدّها سليمة عن النقيصة و الزيادة، بحيث يكون الحدّ قيدا للمطلوب، فلا يكفي إحراز أصل الذات من دون إحراز القيد، و أصالة العدم إنّما ينفع في ما إذا كان المطلوب نفس الذوات مع مانعيّة الخامسة، و أمّا إذا كان المطلوب هي الأربع المحدودة المأخوذة بشرط لا عن الزيادة فلا يمكن إحرازه بالأصل المزبور كما هو واضح.

و ربما يوجّه الصحّة على طبق ما ذكره المشهور بالمقايسة على ما ورد في كثير الشكّ من قولهم عليهم السّلام: لا شكّ لكثير الشكّ، فإنّ المراد به بقرينة وروده مورد المنّة هو البناء على الطرف الصحيح.

و فيه أنّه قد ورد أنّه «ليس في المغرب سهو، و لا في الفجر سهو، و لا في الركعتين الأوليين من كلّ صلاة سهو» «1».

و من المعلوم أنّ المراد

نفي العلاج الملازم مع البطلان، فيعلم من ذلك أنّ العبارة بنفسها لا تدلّ على شي ء من البطلان و الصحّة، و إنّما يستفاد كلّ من الأمرين في المقامات بحسب القرينة الخارجيّة.

و على هذا فيمكن أن يقال: لو لا خوف المخالفة للإجماع بأنّ القرينة المقاميّة في ما نحن فيه تدلّ على إرادة نفي العلاج رأسا، فإنّ صلاة الاحتياط إنّما شرّع ليقع جبرا أو تتميما لنقص الصلاة على تقديره، و ما كان شأنه الجبر يناسبه أن لا يقبل الجبر، و أيضا فالمقصود من تشريع صلاة الاحتياط على ما يستفاد من الأخبار هو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 13، و الباب 1 من هذه الأبواب، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 574

إحراز الحدّ للصلاة الأصليّة بطريق القطع و هذا يناسب مع عدم العلاج في نفسه لمخالفته مع المقصود من حصول القطع، و على كلّ حال فالاحتياط بإتيان ركعة الاحتياط المذكور كما يقوله المشهور، ثمّ بإعادة نفسها، ثمّ بإعادة صلاة الأصل طريق النجاة.

المسألة الرابعة لو شكّ في إتيان صلاة الاحتياط بعد العلم بوجوبها

لو شكّ في إتيان صلاة الاحتياط بعد العلم بوجوبها فإن قلنا باستفادة الفور من الأدلّة كان من الشكّ بعد تجاوز المحلّ إذا كان شكّه بعد مضيّ زمان ينافي الفور، هذا إن قلنا باستفادة الفور وضعا، و إن قلنا باستفادة الإطلاق فإن قلنا باعتبار المحلّ المعتاد نوعا في قاعدة الشكّ كان أيضا كما تقدّم محكوما بالإتيان في الصورة المزبورة، و إن قلنا بعدم الاعتبار فلا بدّ من الإتيان إذا كان في الوقت، هذا إن قلنا باستفادة أحد الأمرين من التقييد بالفور أو الإطلاق.

و إن قلنا بالقدر المتيقّن فلا بدّ من الإتيان بالاحتياط، و لا حاجة إلى إعادة أصل الصلاة، إذ

لا يخلو الحال من أمرين: إمّا يكون الفور قيدا فهو مورد القاعدة، و إمّا لا يكون فمحكوم بالإتيان، و اللّٰه العالم.

المسألة الخامسة لو شكّ بعد الفراغ بين الثلاث و الأربع مثلا،

و شكّ أنّ شكّه هذا حادث بعد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 575

الفراغ، أو أنّه باق من أثناء الصلاة حتّى يجب عليه صلاة الاحتياط، كان شبهة مصداقيّة لكلّ من الدليلين، و لا يمكن إحراز موضوع القاعدة بأصالة عدم حدوث الشكّ في الصلاة، لكونه مثبتا من هذه الجهة، نعم هو ملازم مع عدم وجوب صلاة الاحتياط في الواقع، فلا محيص في مقام الفراغ اليقيني عن التكليف عن الإتيان بصلاة الاحتياط، لحصول الجزم معه بالفراغ على كلّ تقدير.

المسألة السادسة إذا نسي صلاة الاحتياط و شرع في صلاة أخرى

إذا نسي صلاة الاحتياط و شرع في صلاة أخرى فلا يخلو إمّا تكون تلك الصلاة مرتّبة على الصلاة التي شكّ فيها كالعصر إذا شكّ في العصر، و إمّا لا يكون كذلك، سواء كانت فريضة أم نافلة.

فإن كانت مرتّبة فلا دليل على العدول، لأنّ القدر المتيقّن من دليله العدول إلى نفس الظهر مثلا، لا صلاة احتياطه، بل الوجه حينئذ أن يقال: أمّا العصر فلا وجه لإتمامه بعد اشتراطه بالترتيب، و قد فرض انتفاؤه و إن كان قد سقط بالنسبة إلى أجزائه الماضية، لكن لا دليل على السقوط بالنسبة إلى المستقبلة.

و بعد ذلك فاللازم الشروع في صلاة الاحتياط بناء على ما هو الحقّ من عدم لزوم خلل من ناحية ما أتى به من إجزاء العصر، لعدم اندراجه في شي ء من العناوين المبطلة، و هل يجوز بعد الفراغ من الاحتياط البناء على ما مضى من العصر و إتمامه من ذلك المكان، أو يجب استئناف العصر؟ يبتني على الوجهين في الفرض اللاحق.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 576

و إن كانت غير مرتّبة كقضاء العشاء مثلا إذا شكّ في الظهر، فإن اتّفق الفصل المنافي للفور و قلنا بقيديّته تبيّن بطلان الظهر و تعيّن

إتمام العشاء.

و إن لم يتّفق ذلك فإن قلنا بأنّه لا منافاة لشي ء من الصلاتين بالنسبة إلى الأخرى عاد إلى صلاة الاحتياط، و بعدها إلى صلاة العشاء، فيبني على ما مضى و يتمّه من ذلك المحلّ، و إن قلنا بالمنافاة فقد تحقّقت المزاحمة بين وجوب الإتمام الثابت في واحدة من الصلاتين بحسب الذات معه في الأخرى، و حيث لا ترجيح تعيّن التخيير.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 577

الفصل الرابع في حكم الأجزاء المنسيّة

اشارة

و أعلم أنّها على أقسام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 579

فقسم منها يجب تداركه و لكن لا قضاء له لو فات محلّ تداركه.

و قسم منها يجب تداركه و له القضاء عند فوت محلّ التدارك.

و قسم منها لا تدارك له و لا قضاء، بل و لا سجود سهو.

و قسم منها يوجب بطلان الصلاة مع فوت محلّ تداركه.

أمّا القسم الواجب التدارك الذي ليس له القضاء

فهو مثل الحمد إذا تذكّره و هو قبل الركوع، و هل يجب إعادة السورة التي قدّمها أو لا؟ الظاهر نعم، و إن كان لو استمرّ نسيانه إلى ما بعد الركوع لا يجب عليه سجدة السهو إلّا لنقيصة الحمد لا لها و لنقيصة السورة أيضا.

و قد يشكل ذلك بأنّ الترتيب إمّا معتبر في الصلاة في ظرف الأجزاء فاللازم عدم إعادة السورة لو تذكّر قبل الركوع، لأنّ محلّ الترتيب و هو السورة التي هو الجزء قد فات، و لا يمكن إعادته ثانيا، لأنّ صرف الوجود لا يقبل التكرار، أو معتبر في الأجزاء فالإعادة حينئذ على طبق القاعدة، لأنّه لم يأت حينئذ بما هو الجزء، لأنّه المقيّد بالترتيب، و ما أتى به خال عنه، و لكنّ اللازم الإتيان بسجدتي السهو، لنقيصة السورة أيضا مع استمرار سهوه إلى ما بعد الركوع كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 580

و أمّا احتمال كون الترتيب قيدا للجزء في حال عدم استيعاب السهو إلى ما بعد الدخول في الركن، و معه كان الجزء هو الذات المجرّدة عن القيد، فمدفوع بأنّه و إن كان ممكنا، لكنّه خلاف مقتضى الأدلّة، إذ ليس لنا إلّا دليل اعتبار السورة و اعتبار الترتيب و اغتفار سهو غير الخمسة المستثناة و لزوم سجدتي السهو لكلّ زيادة و نقيصة، و من

المعلوم أنّ قضيّة الجمع ليس إلّا أحد الأوّلين.

و الذي اختياره شيخنا الأستاذ دام علاه أنّ المقام أشبه شي ء بباب مقدّمة الواجب من حيث اعتبار قيد الإيصال و عدمه، حيث إنّه يترتّب على كلّ واحد من اعتباري التقييد بوجوهه و الإطلاق، الإشكال الغير القابل للذبّ كما بيّن في محلّه.

و الحلّ في المقامين أنّ الترتيب هنا و الاتّصال هناك موجود يواقعهما في عالم اللحاظ، و ليسا بقيد في المأمور به، يعني أنّ الآمر جعل الأمر في لحاظ رؤيته المقدّمات موصولة، و الأجزاء مترتّبة، و في هذا اللحاظ القيد حاصل، و لا حاجة إلى التقييد، فلهذا علّق الأمر بنفس الذوات، ففي اللبّ الأمر متقيّد، و لكن عنوان التقييد غير ملحوظ.

و نظيره جار في تقييد الطبيعة المعروضة للكلّية بالتجريد و في تقييد المأمور به بكونه بداعي الأمر و في تقييد الموضوع له بالوحدة كما اختاره المحقّق القمّي قدّس سرّه.

و على هذا فيرتفع الإشكال عن المقام، أمّا وجوب الإعادة مع التذكّر قبل الركوع فلأجل أنّ المفروض أنّه لم يأت بالأجزاء بالهيئة التي وقعت بتلك الهيئة في لحاظ الآمر مأمورا بها.

و أمّا بعد الدخول في الركوع فلا يمكن الإتيان بالحمد، للزوم زيادة الركن، فيدخل تحت عموم اغتفار المنسيّ، و لا شكّ أن وقوع السورة على خلاف الترتيب كان مسبّبا عن جزئيّة الحمد قبله، فإذا سقط الحمد عن الجزئيّة قبله كان السورة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 581

واقعة في المحلّ.

فإن قلت: السهو بالنسبة إلى كلّ من الحمد و وصف السورة بالترتيب في عرض واحد فلا وجه لإيراد دليل الاغتفار على الأوّل أوّلا حتّى ينتج النتيجة المذكورة، بل اللازم ملاحظته بالنسبة إليهما في عرض واحد.

قلت: كما عرفت وقوع السورة على خلاف الترتيب

أو على وفقه مسبّب عن جزئيّة الحمد قبله و عدمها، فالدليل النافي للجزئيّة حاكم على الدليل الحاكم على السورة الواقعة على خلاف الترتيب، كما في كلّ عامّ له فردان سببيّ و مسبّبي.

و أمّا القسم الذي لا تدارك له و لا قضاء و لا سجود سهو،

فمنه الجهر و الإخفات في القراءة في الأوليين إذا وقع أحدهما مكان الآخر سهوا، فإنّ الحقّ أنّه متى تذكّر و لو كان قبل الركوع لا يجب التدارك، بل و لو كان في أثناء الآية أو الكلمة لا يجب إعادتها، بل يجب مراعاة ما هو الواجب بالنسبة إلى ما بقي من الآية أو الكلمة.

و بطلان محلّ التدارك فيهما بمجرّد المضيّ عن محلّهما مبنيّ على استفادة كونهما قيدين للصلاة في ظرف القراءة، و إلّا فلو فرض كونهما وصفين للقراءة المأخوذة جزءا للصلاة فالواجب تداركهما بتكرار القراءة ما دام لم يدخل في الركوع.

و الذي يدلّ على الوجه الأوّل أمران:

أحدهما: قول السائل في الرواية الواردة في المقام: رجل أجهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه «1»، و لا يخفى ظهور التعبير في كونهما معتبرين في حدّ أنفسهما في الصلاة، لا أنّهما مطلوبان مقدّمة لإحراز

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 582

الخصوصيّة المعتبرة في القراءة.

و الثاني: قوله عليه السّلام في تلك الرواية: «أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته، و إن كان ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فقد تمّت صلاته و لا شي ء عليه» «1».

و قد بيّنا سابقا وجه الاستظهار فراجع في مبحث الجهر و الإخفات من بحث القراءة، كما أنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: و لا شي ء عليه حيث إنّ الظاهر كونه في مقام بيان

تمام الوظيفة للرجل المفروض نفي وجوب سجود السهو.

و منه: الطمأنينة في الركوع، و بطلان المحلّ فيه أيضا مبنيّ على أخذ الطمأنينة قيدا للصلاة، لا للركوع، فإنّه على الأوّل فالركوع الصلاتي قد تمّ و أتى، و الطمأنينة واجب آخر فات محلّ تداركه، و على الثاني كان من نقيصة الركوع، فالواجب الإتيان به.

و محصّل الكلام في القيود المعتبرة شرعا في الركوع أنّه لا بدّ أن يلاحظ هل يكون لذلك القيد مدخل في تحقّق مادّة الركوع عرفا، غاية الأمر أنّ الشارع تصرّف فيه ببيان حدّه و مقداره، كما أنّ البعد في الجملة معتبر في تحقّق صدق السفر عرفا، و الشارع عيّن حدّه في ثمانية فراسخ، و هكذا مفهوم الكرّ.

و في المقام أيضا الانحناء في الجملة معتبر في مفهوم الركوع عرفا، و الشارع عيّنه في مقدار وصول اليد إلى الركبة، أو لا يكون له مدخل في صدقه عرفا أصلا، و إنّما هو معتبر في المطلوب كالطمأنينة، فالمنسيّ إن كان من القسم الأوّل فلا إشكال في أنّه من نقيصة الركوع الذي حكم بعدم اغتفارها و لو سهوا، و إن كان من القسم الثاني فلا بدّ من ملاحظة أنّه هل اعتبر قيدا للصلاة في هذا الطرف و المحلّ، فنقيصته

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 583

مغتفرة، لأنّه من غير الخمسة، أو أنّه أخذ قيدا للركوع، أعني أنّ الموضوع للوجوب الغيري هو الركوع الخاصّ.

فحينئذ ربما يمكن أن يقال بأنّ الظاهر من قوله عليه السّلام: إلّا من الركوع إلخ هو الركوع المعتبر شرعا، و لو كان نقصه بنقص قيده مع حصول ذاته فاللازم عدم اغتفار سهو هذا القيد، لكونه من نقص

الركوع.

و الذي يدلّ على عدم كون الطمأنينة قيدا للركوع حتّى في حال السهو حتّى يكون سهوه غير مغتفر أحد أمور ثلاثة:

الأوّل: إطلاق دليل الركوع بخلاف دليل الصلاة، فإنّه غير وارد في مقام البيان، و أمّا دليل الركوع فالأدلّة الواردة في تحديده خالية عن ذكر الطمأنينة، كما في الموثّقتين الواردتين في نسيان القنوت، حيث عيّن في إحداهما ميزان عدم الرجوع في الوصول إلى الركوع، و في الأخرى في وصول اليد إلى الركبة، فإنّهما إذا انضمّا يفيدان شرح الركوع و أنّه عبارة عن وصول اليد إلى الركبة من دون اعتبار شي ء آخر فيه.

و الثاني: لو فرض أنّ دليل الصلاة أيضا له إطلاق فالمتعيّن أيضا الأخذ بإطلاق دليل الركوع، لأنّ تقييد دليل الصلاة متيقّن على كلّ تقدير.

و الثالث: الأخذ بالبراءة بناء على ما هو الحقّ من البراءة في الدوران بين التقييد و الإطلاق و إمكان تخصيص الناسي بالخطاب، فإنّا نشكّ أنّ قيد الطمأنينة بحسب دليله الأوّلي مع قطع النظر عن ورود دليل لا تعاد هل له إطلاق شامل لحالتي الذكر و السهو، سواء كان قيدا للركوع أم للصلاة، أو لا إطلاق له، فمقتضى الأصل هو عدم الإطلاق و الاختصاص بحال الذكر.

لا يقال: لا مجرى للبراءة لو فرض كونه قيدا للركوع بعد ورود قوله عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 2، ص: 584

إلّا من الركوع إلخ، يعني: تعاد الصلاة من خلل الركوع و لو كان بإخلال قيده.

لأنّا نقول: حديث لا تعاد ناظر إلى الأجزاء و الشرائط التي لأدلّتها إطلاق لحال السهو، فكأنّه قيل: الأجزاء و الشرائط التي ثبت جزئيّتها و شرطيّتها من خارج هذا الدليل مطلقا يعفى عن إعادة الصلاة بخللها سهوا في غير الخمسة، و لا يعفى في

الخمسة، فلا نظر للحديث بالنسبة إلى موارد عدم إطلاق دليل الجزء و الشرط، بل المرجع في أمثاله البراءة على ما هو الحقّ، فتنبّه.

و أمّا القسم الذي يتدارك مع بقاء المحلّ و يقضى مع انقضائه

فهو أمران:

السجدة الواحدة و التشهّد.

ساعت 5- 12 شب جمعه 30- 5- 1377 ه ش از استنساخ كتاب صلاة مرحوم آية اللّٰه العظمى اراكى قدّس سرّه فراغت حاصل شد و الحمد للّٰه رب العالمين- مرتضى واعظى اراكى

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.